رؤية الإمام الصدر لمخاطر المشروع الصهيوني

calendar icon 23 تشرين الثاني 2000 الكاتب:ميشال إده

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الأولى)

أيها الحفل الكريم،

تشكل مسيرة الإمام السيد موسى الصدر مصدر إيحاء واستلهام متجدد، يعيننا، معرفياً ونقدياً، على مقاربة أفضل لمسائل حاضرنا، مثلما يمنحنا في الوقت نفسه المزيد من القدرة على الإعداد للمستقبل.

وهذا هو، كما تعلمون، شأن التراث الذي يخلفه الرواد، والإمام السيد رائد، رائد في تجربته الإيمانية، الفكرية، النضالية، الخلاقة.

فلبنان الذي حرر هذا العام، بمقاومته البطلة، الأرض المحتلة من الجنوب والبقاع الغربي، والذي كتب، ببسالة هذه المقاومة وسواعد مقاتليها وأرواح شهدائها الخالدين، الانتصار العربي المبين على إسرائيل، ومرّغ بوحل الهزيمة أسطورة "جيشها الذي لا يقهر". إن لبنان اليوم يقرأ في هذه الانجازات التاريخية ريادة الإمام السيد في انتباهه ومبادرته الباكرة إلى ضرورة المقاومة، وفي الدعوة إليها وإذكاء لهيبها فرضاً ايمانياً ووطنياً وقومياً. وذلك منذ الستينات، منذ انتقال الكيان الصهيوني إلى التعبير المسلح بالاعتداءات المسلحة، عن مطامعه وعن مخططاته ضد لبنان، وشن الحروب عليه.

كلنا يتذكر بُعد ندائه الكفاحي المتبصر البعيد الأفق بشأن صمود الجنوب عام 1969، داعياً إلى تكوين المقاومة:

" (...) دربوا الجنوبيين على السلاح وسلّحوهم (...) بهذا تكونون قد كونتم نواة للمقاومة الوطنية لليوم العصيب".

فمثلما كان متأكدا من حلول ذلك اليوم العصيب على لبنان وجنوبه، كان حاسم اليقين بشأن اعتبار المقاومة خيارا لا غنى عنه ولا بديل منه لجبه ذلك اليوم العصيب، فانغمر، مُذذاك، بالسعي إلى تظهير بواكيرها.

رؤية الإمام السيد الثاقبة التمعت، منذ تلك البدايات السابقة بسنوات وسنوات على العدوان الإسرائيلي المباشر على لبنان، إسهاماً ناضجاً بإطلاق المقاومة، روحاً وفعلاً، مقاومة لبنانية بمقاتليها وأبطالها اللبنانيين، دفاعاً عن لبنان، ولدرء الاعتداءات الإسرائيلية عنه، ناهيك عن مهمة تحريره من الاحتلال الإسرائيلي اللاحق في آذار 1978.

فالمقاومة الفلسطينية لا يسعها، ولا ينبغي لها أصلاً، أن تكون بديلاً من المقاومة اللبنانية في رؤية الإمام البعيدة الأفق، لماذا؟

لأنه أدرك، في وقت قلّ فيه، بل ندر، المدركون، بأنّ المشروع الصهيوني يطول بأطماعه ومخاطره المعجلة - وليس المؤجلة - لبنان أيضاً، ولبنان بصورة مباشرة.

وها هو يخاطب اللبنانيين في 1970: "وطنكم في خطر عظيم داهم أيها اللبنانيون... إنه من الأهداف الأولية للصهيونية العالمية، وهو داخل في أطماعها العاجلة".

فلبنان، إذن، في نظر الإمام آنذاك، مستهدف بذاته من قبل اسرائيل، وليس فقط بسبب  دعم أبنائه للقضية الفلسطينية وللحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق.

بهذا النضج التأسيسي العميق، بهذه الرؤية التنبؤية، بهذا السعي الفذ المبكر إلى تجذير وتعميم الوعي بحقيقة الخطر الصهيوني على لبنان أيضاً، وبالقدر ذاته، كما هو على فلسطين، وعلى سوريا أيضاً، وبالقدر ذاته على سائر بلدان العرب.

بهذه الريادة - الظاهرة يلتقي الإمام السيد موسى الصدر مع الريادة - الظاهرة الأخرى المتمثلة بالمفكر اللبناني ميشال شيحا الذي نهض، منذ الأربعينات الأولى، ثم فور الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني، يقف مقالاته وكتاباته اليومية التأسيسية الطابع على حقائق المشروع، منبهاً إلى أخطاره المحدقة بلبنان وبسوريا وبسائر الدول العربية الشقيقة الأخرى.

هكذا وجد الإمام الصدر نفسه أمام ضرورة حيوية قصوى تقتضي منه الإسهام - من موقعه - بتسفيه "اتهام لبنان وبنيه وكأن المشكلة، مشكلة فلسطينية لا تعنيهم، وأن العدو الصهيوني ليس عدوهم".

وإذا به ينبري، في 19/11/1969، أي منذ 31 سنة بالتحديد، مظهراً، موضحاً، مسهباً، مفصلاً، بالقول الحرفي:

"إن اسرائيل بوجودها، وبما لها من أهداف، تشكل خطراً علينا محدقاً، على جنوبنا وشمالنا، على أرضنا وشعبنا، على قيمنا وحضارتنا، على اقتصادنا وسياستنا، إنها تشكل الخطر الآن ( وهذا الكلام يعود للعام 1969) وفي المستقبل، وفي المنطقة، وفي أبعاد لبنان التاريخية والجغرافية والبشربة (...) ومجاورة هذا الخطر الدائم الداهم تقتضي الاستعداد الدفاعي والسياسي والإعلامي والاقتصادي والاستعداد النفسي أيضاً، وبدون هذه الاستعدادات نعيش حالة الاستسلام أو تجاهل الخطر .."

لماذا اعتبر الإمام الصدر إسرائيل خطراً وجودياً دائماً على لبنان؟ لأنه أدرك التناقض الجذري بين طبيعة الكيان اللبناني المنفتح القائم على التعدد الديني والتنوع الثقافي، وبين طبيعة الكيان الصهيوني المنغلق القائم على العنصرية والأحادية الدينية والعرقية والإثنية.

وها هو يعلن في بون عاصمة ألمانيا الاتحادية في 10/8/1970، ومن مكتب الجامعة العربية هناك أن "كيان لبنان لا يروق لإسرائيل.. فوجود لبنان كدولة تشمل مذاهب مختلفة وعناصر متنوعة تعيش بنظام ديموقراطي مسالم لا يروق لدولة تقوم على أساس عنصري  ومذهبي".

في هذه المحاضرة ذاتها ببون، أكد الإمام الصدر حرفياً أن لبنان "ضرورة حضارية لخلق الحوار بين أعضاء الجسد الإنساني الكبير وهو يعد ضرورة دينية يرفع عن الأديان تهمة التعصب وتقسيم البشرية وتجزئتها، وضرورة ثقافية يسهل عليه أن يكون لساناً وسمعاً للاستماع والمخاطبة بين الشرق والغرب وبين القارات".

لكأنني بالإمام، هنا يستشرف، وقبل 27 سنة، جوهر ما رمى اليه قداسة الحبر الأعظم عندما ذهب في قوله المشهور، أثناء زيارته التاريخية للبنان، إلى اعتبار لبنان أكثر من مجرد دولة، إلى اعتبار "لبنان رسالة".

فهذه الرسالة التي هي مسوغ وجود لبنان بمعنى أساسي من المعاني، هي ما تستهدفه اسرائيل، وتسعى للقضاء عليه، فضلاً عن أطماعها المباشرة في الأرض والمياه.

وفي 21/10/1976، وبهذا المعنى، خاطب الإمام الصدر العرب جميعاً في النداء الذي وجهه إثر انتهاء قمة الرياض، وقبل انعقاد مؤتمر القاهرة قائلاً لهم:

"... وما المأساة اللبنانية الدامية إلا فصل من فصول مؤمرات إسرائيل ضد لبنان وشعبه ... ذلك لأن لبنان، بتاريخه الرسالي وبوجوده المتميز وبنشاطه الحضاري، كان شوكة في عينها".

وفي 17/1/1978، أي قبل أقل من شهرين على اجتياح اسرائيل للجنوب والبقاع الغربي في 14 آذار 1978، وبالمعنى ذاته، جدد القول مؤكداً في حديث صحفي:

"الهدف الأول من المؤامرة الإسرائيلية كان ضرب صيغة التعايش اللبناني وإثبات صحة النظرية الصهيونية من استحالة التعايش بين الأديان في الشرق الاوسط".

وكم بدا الإمام الصدر هنا راسخاً كالطود، عميق الإيمان، بجوهر الصيغة المجتمعية اللبنانية، فهبّ يحذّر من مغبة الوقوع في رد الانهيار الداخلي في لبنان إلى وجود الطوائف المتعددة فيه، بما يعنيه ذلك بصورة مباشرة من تبرئة إسرائيل ومخططاتها وأطماعها في إشعال الحرب في لبنان، والتمويه على ضلوعها المباشر وتدخلها السافر في إدامتها، وفي احتلالها لبنان وتدميره.

هنا كذلك، تتجلى مرة أخرى، ريادة الإمام الصدر النادرة المثال، خفّاقة راسخة إلى جانب ريادة ميشال شيحا النادرة الأخرى، وفي نظرتهما الأصيلة التاريخية الواحدة للطوائف في لبنان.

فيقول الإمام محاضراً، محللاً، في شباط 1977: "إن الطوائف في لبنان نوافذ حضارية لا حواجز مجتمعية"، مستطرداً إلى التأكيد حرفياً بأن "تعددية لبنان متكاملة وليست تعددية متناقضة".

من هذه الزاوية التاريخية المستشرفة، رأى الإمام استحالة لدى اسرائيل أن تتغاضى طوعاً أو أن تسكت طوعاً عن بقاء لبنان وطناً موحداً، مستمراً، دائماً على أساس صيغته بالعيش المشترك، ما دامت متمسكة بعنصريتها وأحاديتها الدينية والعرقية.

على أساس هذه الرؤية المشددة على طابع لبنان الحضاري، الفاضح بذاته حقيقة الكيان الصهيوني، يتوصل الإمام الصدر، في إبراز مخاطر المشروع الصهيوني، إلى لفت انتباه اللبنانيين إلى السمة النموذجية الفريدة، والإنسانية بامتياز، القائمة في جوهر صيغتهم المجتمعية، فيخاطبهم بالقول في 20/12/1976:

"فليسمح لنا اللبنانيون بأن نقول إن التعايش ليس ملكاً للبنانيين لكنه أمانة في يد اللبنانيين ومسؤوليتهم، وواجبهم وليس حقهم فقط"· فلا يحق لهم، تالياً، التفريط فيها، إذ ليست هذه الصيغة ملكية خاصة بقدر ما هي تجربة ملهمة للإنسانية، ولا سيما في عالم تتآكل العديد من بلدانه النزاعات والتناحرات والصراعات الدموية المدمرة ضمن البلد الواحد بين المجموعات المكونة له والمتنوعة الانتماءات الدينية والإثنية والثقافية.

هكذا حدد الإمام السيد، بدوره، فرادة التجربة والصيغة اللبنانية، إنها على هذه الدرجة النوعية من الفرادة، لأنها على هذه الدرجة السامية من كونها مثالاً للإنسانية وملكاً لها.

وهكذا، فإن نظرة الإمام الصدر إلى مخاطر المشروع الصهيوني، قبل اندلاع حرب السنتين في العامين 1975 و1976 وخلالها  وبعدها، لم تكن من زاوية فلسطينية وحسب، بل كانت أكثر شمولية وعمقاً. ولذلك فهي لم تضحِّ بفلسطين ولا بلبنان. ورفضت، وقاتلت، الخطأ المميت والوهم القتاّل بتصوير مهمة قتال اسرائيل واعتداءاتها على لبنان وعلى الجنوب، ثم احتلالها له، أمراً فلسطينياً أو أمراً سورياً فحسب، لا علاقة للبنان به.

فتراه يعلن في 20/1/1975 أي قبل أشهر ثلاثة فقط من اندلاع الحرب الشريرة التي أشعلتها اسرائيل في لبنان، أن "واجب كل مواطن ان يقاتل، واجبنا ان نكوِّن مقاومة لبنانية قبل أن نشرَّد من أراضينا... على كل شاب أن يتدرب ويحمل السلاح لتأسيس مقاومة لبنانية تلقن العدو درساً· فلنقف على أرجلنا ونتسلح، ونشكل مقاومة لبنانية. فأول رصاصة تنطلق من بنادقنا ستغير المعادلات الداخلية والخارجية"·

وفي 31/3/1978، أي بعد أسبوعين فقط على بدء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب في 14 اذار 1978، نرى هذا الإمام السيد يقف حاسم الإعلان بـ "أن مسؤولية تحرير الأراضي ومسؤولية إزالة العدو وإرهاقه إذا لم يخرج من الجنوب هي مسؤوليتنا وحدنا .. ولا نريد من المقاومة الفلسطينية أيضاً أن تساهم في معالجة هذا الأمر. نحن سنتكفل بذلك وسنتحدى العالم بذلك". (جريدة النهار اللبنانية 31/3/1978).

إن الإنجاز التاريخي بتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، الذي تم على يد المقاومة البطلة اللبنانية، بشهدائها البررة وبمقاتليها البواسل، وبنضجها السياسي اللبناني الكفاحي المثالي، وعلى قاعدة صمود أهلينا بالجنوب ووحدتنا اللبنانية الداخلية، وبدعم مطلق من سوريا، إن هذا الإنجاز لا يؤكد فقط أهمية الطابع اللبناني الحاسم لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولصنع هذا النصر المبين، بل دقّ، في الوقت نفسه، المسمار الأساس في نعش المشروع الصهيوني المدمر على مستوى المنطقة بأسرها.

لبنانية المقاومة التي أصرّ عليها الإمام الصدر إنما كانت، من جهة أخرى، تعبيراً استشرافياً آخر عن بعد نظر هذا الإمام القائد أيضاً، وعن سعيه للمحافظة على المقاومة الفلسطينية نفسها. فوقف في كانون الثاني 1970، ينبهها باكراً باكراً، إلى مخاطر أن تستدرج المقاومة الفلسطينية في الأمور السياسية اللبنانية المحلية، وتُصور وكأنها لاتبالي بسلامة لبنان، وتعرض أبناءه للأخطار".

إن المحافظة على هذه القضية تمر عبر المحافظة على لبنان قبل أي شيء آخر.

ولهذا خاطب الإمام اللبنانيين والفلسطينيين والعرب أجمعين قائلاً في 21/12/1975:

"الأساس بقاء الوطن. الأساس وحدة لبنان، ولا تنخدعوا بالشعارات. إن اسرائيل شر مطلق، خطر على العرب، مسلمين ومسيحيين".

وماذا كانت، آنذاك، تلك الشعارات التي طالب الإمام الجميع بألا ينخدعوا بها؟

من أبرز تلك الشعارات، ومن أخطرها، كان شعار الانخداع باعتبار المقاومة الفلسطينيية "حركة هدفها الأنظمة العربية وأولها لبنان"، على حد قول الإمام السيد.

فنهض، بكل يقينه القاطع إلى إبداء رفضه القاطع إقحام تلك المقاومة في المسائل والمشاكل الداخلية اللبنانية. وكم كان لبنانياً حقاً وفلسطينياً حقاً في آن، وفي وقفته التاريخية الأبعاد، تلك التي وقفها بكل جرأة وحكمة وتبصر رافضاً الشعار المدمر الداعي إلى تفجير لبنان، وغيره من الدول العربية، طريقاً إلى استعادة فلسطين!!

فتلك الحرب المدمرة التي أشعلتها اسرائيل، وانزلق إليها، وخُدع بها بعض من اللبنانيين والفلسطينيين، جعلت الإمام الصدر يرى إليها، وكما أسماها، "أزمة مصير في لبنان وذات تأثير مصيري على المنطقة، وبخاصة على القضية الفلسطينية وعلى الشقيقة سوريا"، على حد تحديده· وهو لذلك، كان لا يمكن إلا أن يقدر كبير التقدير دور الرئيس الراحل حافظ الأسد، وسوريا، في التمسك بالمحافظة على الدولة اللبنانية وبشرعيتها، ومؤسساتها، ووحدة شعبها، وتماسك كيانها. كان لا يمكنه إلا أن يقدر كبير التقدير تدخّل سوريا الحاسم في التصدي لمؤامرة اسرائيل بتفكيك لبنان وشعبه وإزالته من الوجود وطناً وكياناً، ودولة، وعيشاً مشتركاً. كان لا يمكنه إلا أن يقدر كبير التقدير الدور السوري المنحاز إلى لبنان أولاً وأخيراً والمتمسك بلبنان أولاً واخيراً، وذلك حفاظاً في الآن الواحد معاً على لبنان وعلى الشعب الفلسطيني وقضيته ومقاومته نفسها، وعلى سوريا التي كانت تشكل، ولا  تزال، موقع التصدي الأول للمشروع الصهيوني العنصري العدواني التوسعي، وموقع الصمود الأول بوجه كل محاولات اسرائيل للنيل من صمود سوريا، ولإخضاعها وفرض الاستسلام عليها، وإسقاطها في لبنان، ومن خلال إسقاط لبنان نفسه أيضا.

كي ندرك الأبعاد والمدلولات الكاملة لإصرار الإمام الصدر على لبنانية المقاومة، أسمح لنفسي، أن أذكر، هنا بجنوح بعض من الفصائل الفسطينية في لبنان إلى الوقوع في شرك المخطط الإسرائيلي عام 1976، والذي غرر بالبعض منهم للأسف الشديد - ودفعهم إلى الانخراط في الاقتتال الداخلي بين اللبنانيين، بعدما أقامت إسرائيل ما أسمته في حينه "الجدار الطيب" بتوقفها عن قتال الفلسطينيين في الجنوب. وكانت غاية اسرائيل آنذاك تمرير مشروع التوطين الصهيوني الصرف وفرضه على لبنان، بما يعنيه ذلك من تفكيك نهائي لهذا الوطن وكيانه، وإجهاز نهائي على رسالته وصيغته بالعيش المشترك، وتصفية نهائية للقضية الفلسطينية نفسها في آن.

إن الموقف التاريخي الذي اتخذه الرئيس الراحل حافظ الأسد في 20 تموز 1976 هو الذي أجهض هذا المشروع في حينه، وحافظَ، في الوقت الواحد على القضية الفلسطينية، بل وعلى الثورة الفلسطينية نفسها، وعلى لبنان معاً.

وفي تلك المرحلة، رفض الإمام الصدر ما أسماه "كافة أسباب الاستدراج والفتنة والاستفزاز والاستعداء ... البعيد عن مصلحة الثورة الفلسطينية وعن مصلحة سوريا".

فالخطر المميت، الخطر القتاّل أدركه الإمام الصدر قائماً في المشروع الصهيوني لجعل لبنان، أو قسم منه، وطناً بديلاً عن فلسطين.

لقد ادرك ذلك باكراً، وأعلن ذلك منبهاً محذراً في 7/1/1978، أي قبل اجتياح اسرائيل بشهرين فقط قائلا، قارئاً، متنبئاً، بالحرف في حديث صحفي:

"فالذي يقبل بالوطن البديل فقد خان قضيته، تنازل عن وطنه وأرضه. نحن وكل مخلص للقضية الفلسطينية، وقبل كل شيء إخلاصنا لوطننا، يتطلب رفض التوطين".

وأضاف: "إني أكرر ما يقول الرئيس سركيس: فالتوطين في رأيي مؤامرة مدمرة على الفلسطينيين أنفسهم لأنه يعني الوطن البديل وإنهاء وجودهم كشعب .."

وبالفعل، فإن ما أسهم إلى حد بعيد بإبقاء القضية الفلسطينية حية من حيث الأساس، إنما هو عدم اندماج اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ضمن المجتمع اللبناني، الأمر الذي حفظ لهم شخصيتهم الوطنية الفلسطينية، ولم يذوبّ الهوية الفلسطينية أو يبددها· وهو عكس ما راح يحصل بالنسبة لسائر اللاجئين الفلسطينيين، سواء في الأردن أو مصر، أو العراق، أو في بلدان الخليج، أو في خارج العالم العربي ... إذ انتهى أمر اندماج هؤلاء، بالبيئات التي عاشوا فيها إلى نوع من الذوبان، وتراجع الشعور بالانتماء الوطني الفلسطيني، وإلى تراجع فذوبان حضور القضية الفلسطينية وتوهجها لديهم.

رؤية الإمام الصدر لمخاطر المشروع الصهيوني لم تكن فعل تحليل نظري مجرد، ولا مواقف فكرية تحليلية وحسب، بل إن صوابيتها وفعاليتها عائدتان بالدرجة الأولى إلى انخراطه الملموس، وبالممارسة العملية، في معركة التصدي لهذا المشروع.

إن زاوية الرؤية اللبنانية التي منها أطل أساساً الإمام الصدر على قراءة طبيعة المشروع الصهيوني ومخاطره، هي هي الزاوية اللبنانية نفسها، التي سمحت لاحقاً وعلى امتداد تجربة لبنان الكفاحية، بإسقاط حلقة من هذا المشروع من أخطر حلقاته. عنيت احتلالها للبنان، بل لقد اثبتت هذه التجربة الكفاحية اللبنانية، المستندة إلى وحدة شعبنا وتماسك الجبهة الداخلية، والمدعومة بلا حدود من قبل سوريا، القدرة على خلخلة مناعة ذلك المشروع المطلقة المزعومة، ونقلت فعلاً أزمة المصير لتعتمل داخل الكيان الصهيوني ذاته. فالتناقضات المعتملة الآن، والمتفجرة أكثر فأكثر داخل هذا الكيان، وتحول المقاومة الفلسطينية اليوم في انتفاضة الأقصى داخل الأراضي المحتلة إلى حرب تحرر وطني، إنما يُردّان، في واحد أساسي من عواملهما، وبصورة أكيدة، إلى دور المقاومة البطلة في لبنان، وصنع ذلك الانتصار التاريخي الذي انتهى إلى دحر الجيش الإسرائيلي، والذي بدأت تداعياته، داخل إسرائيل، تأخذ أكثر فأكثر طابع أزمة وجودية حادة.

أما سلاحنا الأمضى إلى ذلك فهو ما نادى به الإمام مرة، بل مراراً ودائماً، ألا وهو التضامن العربي قائلاً:

"السلاح الفعال الوحيد بيد إسرائيل هو الخلاف في صفوف العرب ... والسلاح الفعال الوحيد بيد العرب هو التضامن والتنسيق العربي".

وتعلمون جيداً، أيها السادة، أن التضامن العربي، بالنسبة إلى لبنان، يبدأ من التضامن مع سوريا وذلك على طريق العودة إلى تحقيق التضامن العربي الشامل، الحقيقي فعلاً وليس ذلك الشكلي الذي ظهر في قمتي القاهرة والدوحة الأخيرتين.

أيها السادة،

سيرة الإمام الصدر، ولا سيما رؤيته للمشروع الصهيوني، والذي تشكل مقاومته لهذا المشروع جزءاً عضوياً لا يتجزأ من هذه الرؤية، ليست على الإطلاق تفصيلاً ولا تجربة عابرة، في سياق عقد أو عقدين أو ثلاثة هي من أخطر الفترات في عمر لبنان.

إنها لسيرة، وإنها لرؤية منهجية بالدرجة الأولى، فيها من العمق والانفتاح والجدلية مع حركة الواقع، ما يجعلها على الدوام مرجعية صالحة ليس لفهم الذي جرى وحسب، بل لاستشراف الذي سيأتي، ولحسن إعداد الذات لمواجهته. ولذلك فنحن ننكبّ على قراءة هذه السيرة بكيفية قراءة المتغير الآتي، قل بتحسين معرفتنا بطرح الأسئلة، بصورة أدق، وفي مناخات الحوار الصحي الضروري السليم. والإمام السيد كان رائداً أيضاً في تنبّهه، وفي تنبيهه إلى حاجة الجميع القصوى إلى ثقافة الحوار.

إن لبنان سوف يظل، في هذا الصدد، "واحة نموذجية" على حد تعبير الإمام الصدر.

وشكراً لكم.

source