ولنا الفجر

calendar icon 23 تشرين الثاني 2000 الكاتب:مار نصرالله بطرس صفير

مثله المطران رولان أبو جودة


مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الافتتاح)




حضرة ممثل فخامة رئيس الجمهورية،

حضرة ممثل دولة رئيس مجلس النواب،

حضرة ممثل دولة رئيس مجلس الوزراء،

أصحاب السماحة والمعالي والسعادة،

حضرة ممثل قائد الجيش،

حضرة السيدة رباب الصدر، صاحبة هذه الدعوة،

ايها الاخوة والأخوات الاعزاء،

مقدمة

1- "لقد طلع الفجر، فليرفع المؤذن أذانه ولتدقّ الأجراس إعلاناً لصلاة الصبح، وليستعدّ المواطنون جميعاً للصلاة"، ذلك كان نداء سماحة الإمام السيد موسى الصدر، عبر جريدة النهار، في السابع والعشرين من شهر أيار سنة الف وتسعمائة وخمس وسبعين، يوم "هناك، في عيتا الشعب [...] شموع ثلاث اضيئت بدماء ثلاثة شبان في عمر الورود [...] انتقلوا من أحضان الامهات إلى مواجهة الموت المحتوم، على رغم كل الأعراف. هناك هذه الشموع مع رفاق لها كالنجوم احترقت فأضاءت الليل، وطلع الفجر".

2- وبالأمس القريب، بل اليوم أيضاً، في عملية تحرير الجنوب وفي أعقابها، كم من شموع كالنجوم، "احترقت فأضاءت الليل وطلع الفجر"، والإمام لا ينفك يردد، من حيث هو، "لقد طلع الفجر، فليرفع المؤذن أذانه ولتدق الأجراس إعلانا لصلاة الصبح وليستعد المواطنون جميعاً للصلاة"!

3- وها نحن، مصغين إلى أذان المؤذن، كما إلى دقات الأجراس، جئناكم بتكليف من صاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، الكلي الطوبى، الذي أوفدنا لنمثله في حفل افتتاح هذا المؤتمر، ونلقي كلمة باسمه.

4- فتشرفنا بهذا التكليف وقبلنا المهمة بكل طيبة خاطر، واستعددنا للصلاة، صلاة نرفعها معكم، أيها الحضور الكرام، ومع جميع المواطنين، وهي، كما وصفها مطلق النداء "صلاة الندامة، صلاة الابتهال، صلاة العودة إلى بناء الوطن وتضميد جروحه، صلاة الرحمة والمحبة".

5- وهي صلاة يشاركنا في رفعها معكم غبطة أبينا السيد البطريرك الذي أطلعنا على كتاب الدعوة الذي وجهته إليه، مشكورة، السيدة رباب الصدر وقالت في ختامه: "وفاءً منا للإمام المغيّب مبدع ثقافة المقاومة، ولننعم بصفاء الروح؛ تُشرفنا دعوة نيافتكم للمشاركة في الجلسة الافتتاحية لمؤتمرنا السنوي الخامس بعنوان "المقاومة والمجتمع المقاوم"، قراءات في مسيرة الإمام الصدر".

ثقافة المقاومة

6- فبصفاء من الروح نلاحظ "أن المفهوم الصحيح للثقافة هو"، عند الإمام الصدر، "مفهوم سياسي حضاري" (راجع إعلانه باسم الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان، في 11/5/1977، ثالثاً، 5).

أ- وإذا ما قال يوماً مقولته المعروفة "السلاح زينة الرجال"، وإذا ما جاهر بأنه يقاتل "لأجل المقاومة الفلسطينية ضد الشر المطلق، إسرائيل" فإنه أضاف بعد ذلك: "لقد رفضنا وسنرفض بقوة، حمل السلاح، في سبيل التعديات أو المنافسات أو الانفعالات الطائفية، وحتى من أجل الرد على الاستفزازات الفردية أو الجماعية" (راجع صوت المحرومين في 28/7/1976).

ب - بل انه أوضح، بالإضافة إلى ذلك، "أن معركتنا مع اسرائيل معركة حضارية طويلة الأمد متعددة الجهات، وطنية، قومية، دينية" (راجع مؤتمره الصحفي في 19/11/1969).

7- واذا به يرتقي بهذه المقاومة إلى أسمى مراتبها بحيث يرى "أن المآسي في حياة الشعوب الراقية بواتق انصهار وتجدّد وتألق" (راجع إعلانه المذكور أعلاه في 11/5/1977، ملاحظات عامة، 4).

أ - فمن جهة، إن "بناء شعب يفهم المواطنية في أرقى مستوياتها، يحس بوجوب دفع ضريبة الدم، ويشعر بواجب الفداء، وذلك بإقرار قانون الخدمة الإلزامية" (راجع مذكرة إلى الحكومة اللبنانية، باسم المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، في 24/9/1969، 1).

ب - ولكن، من جهة أخرى، "بقاء الأوطان وخلودها أيضاً ليس أنشودة ولا حلماً، ولا التزامات وطنية أو دولية، بل هو الوحدة الحقيقية في الاتجاه، في المبدأ المتكون من الآلام والمنافع، وفي المنتهى المتجسد بالآمال والطموح، والشعب يبقى لا كأفراد وأنفار (فما أكثر الأمم الغابرة)، بل يبقى كاتجاه ورسالة" (راجع مؤتمره الصحفي في 19/11/1969، 7).

المجتمع المقاوم

8- يبنى المجتمع المقاوم على أسس هذه المقاومة الحقيقية، رغم وجود الطوائف المختلفة في لبنان، بل بسبب هذا الوجود عينه، علينا أن "نقوّي [هذا] الاتجاه الوطني الواحد بالمشاركة الحقيقية التي هي الميثاق الحقيقي وهي المواطنية الصادقة والوحدة الحقيقية" (المرجع عينه).

9- هذا يستدعي الاستعداد الدفاعي والسياسي والإعلامي والاقتصادي والاستعداد النفسي أيضا" (المرجع عينه، 2).

أ - ومن صميم الاستعداد لهذه المعركة المحتومة إضعاف الخصم أيضاً بأي صورة في أي حقل، وكلنا يعرف أن من أفضل وسائل تحقيق هذه الغاية وجود المقاومة الفلسطينية ونموها. وهذا يعني أن دعمنا للمقاومة ومشاركتنا في تصعيدها وحرصنا على سلامتها، هذه المساعي هي جزء من استعدادنا لمجابهة العدو، ولذلك فهي تنطلق من نفس المبدأ الذي ينطلق منه السعي للمحافظة على الوطن والدفاع عنه ولا تتناقض معه إطلاقا" (المرجع عينه، 3).

ب - كما  إن منطقة الجنوب " تشكل نقطة ضعف كبيرة في الجبهة [...] ولا يمكنها وحدها القيام بأعباء الدفاع ولا تحضير معركة من معاركه، ولكنها لا تزال جزءاً مخلصاً ومؤثراً في مصير هذا البلد وهذه الأمة" (المرجع عينه، 5،6).

10- من هنا ضرورة مشاركة جميع اللبنانيين، بل العرب أجمع، في تحسين أوضاع الجنوب دفاعياً واقتصادياً ونفسياً وجعله مستعداً للصمود ولخلق السد الأول في وجه العدو، إن المشاركة هذه ليست وظيفة دينية قومية وطنية فحسب، بل إنها حاجة الدفاع عن النفس لكل مواطن ولكل عربي، بل لكل مؤمن في الشرق" (المرجع عينه، 7). وعليه فيجب:

أ - المساهمة في رفع معنويات أبناء الجنوب.

ب - إعطاء منطقتهم الأفضلية في موازنة الدولة.

ج - وانجاز المشاريع، وبناء المدارس وسواها من المؤسسات.(المرجع عينه، 7).

د - بذل جميع الامكانات التي من شأنها أن ترفع المستوى الاجتماعي لأبناء الجنوب (راجع مذكرة إلى الحكومة اللبنانية، في 24/9/1969، 3): من تنمية الثقافة الدينية إلى تعزيز التعليم المهني، والزراعي منه بصورة خاصة، وسواها من أمور (راجع إعلانه في 11/5/1977 المذكور أعلاه، ثالثاً، 5،6).

مساهمة الإمام الصدر في إنماء الجنوب

11- ولقد أسهم سماحته مساهمة شخصية في تحقيق بعض الجوانب من هذه التوجيهات، بما تيسر له "ففي مؤتمر صحفي عقده في 19/11/1969، دعا:

أ -  إلى تأسيس لجان "شعبية لنصرة الجنوب، ولإنمائه  ولصموده"، وأعلن تكوين هذه اللجنة عن المجلس، مقترحاً عليها المتابعة المشتركة لهذه اللجان.

ب - ثم في بيان له للبنانيين عامة عمّم أن رؤساء الدين في الجنوب من جميع الطوائف تنادوا فكانت "هيئة نصرة الجنوب" التي أولته شرف التكلم باسمها من على منبر صحافة لبنان".

ج - كما أنه من جهة أخرى تعاون والمسؤولين عن "كاريتاس لبنان الجنوبي" التي تأسست في العام 1973، قبل أن تتوسع، في العام 1975، لتصبح "كاريتاس- لبنان".

الإمام الصدر لكل لبنان وللمسيحيين

12- وكان كل ذلك منطلقاً ليعمل الإمام السيد في سبيل كل لبنان، وليس في سبيل جنوبه وحسب.

فما إن اندلعت الحرب اللبنانية في 13 نيسان 1975 حتى بدأ اتصالاته بمختلف الفرقاء وبالسلطات اللبنانية والعربية، وقام بزيارة البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش في 18 نيسان 1975، وهو الذي سبق له أن تعاون معه يوم كان مطراناً لأبرشية صيدا، فتبادلا نتيجة مساعي كل منهما ليوحّدا العمل من أجل وضع حد للحوادث المؤسفة، واتفقا على دعوة رؤساء الطوائف في لبنان إلى اجتماع قريب لدرس الوضع العام، توصلا إلى صيغة تكفل توطيد الأمن وإحلال الطمأنينة، وتحول دون تجدد النزاعات المسلحة التي تؤدي إلى سقوط الضحايا البريئة، مهدّدة بخراب البلاد.

من جهة أخرى، كان له مواقف ومبادرات شخصية، وهنالك بادرة وصلتني بعد أن أعددت هذه الكلمة وهي انه في مدينة صور كان يوم توافق، على ما يظهر، بين بعض المسلمين على أن لا يتبضعوا من أحد الحوانيت التي تخص المسيحيين، فكان من الإمام أن بلّغ صاحب حانوت معيّن أنه في ساعة محددة سيحضر شخصياً للتبضع من ذلك الحانوت، تدليلاً على وحدة جميع ابناء هذا الوطن.

13- من جهة أخرى، فإن مواقف الإمام المعلم، وتعاليمه، وشخصيته، ومبادراته جعلت المسيحيين يسارعون إلى دعوته:

أ - فعدد كبير منهم دعوه إلى مؤسساتهم ورعاياهم وأماكن عبادتهم، حيث كان يلتقي غالباً بالسلطات الروحية المسيحية.

ب - ولربما كانت السابقة الأولى من بين تلك اللقاءات افتتاحه محاضرات الصوم الكبير، في 20 شباط 1975، في كاتدرائية مار لويس اللاتينية، للآباء الكبوشيين، في بيروت، بمحاضرة عنوانها "القوى التي تسحق والقوى التي تفرق" وقد دارت حول الإنسان وعرض فيها للحرية والأنانية والطائفية والعنصرية، ولفت النظر  إلى أن التفكير الخاطىء هو كالتنفيذ غير المناسب، وهما خطيئتان وخيانتان ...

ج - واللافت في ذلك اللقاء ليس الاعجاب من قبل الحاضرين فحسب! بل التأمل الطويل أيضاً والصمت الخاشع اللذان تميز بهما اللقاء، فكان لقاء صلاة. ومما قيل في مناسبة تقديمه للجمهور: "لقاؤنا في هذه الامسية سيتيح لنا التعرف إلى وجه سماحة الإمام الصدر الحقيقي، رجل الدين الذي يعايش المحرومين والجياع والمضطهدين. ومن أولى منه ليحرضنا على ثورة هي من نوع خاص ترمي إلى إثارتنا على ذاتنا وأنانيتنا" (راجع جريدة النهار، في 20/2/1975).

14- فيا أيتها السيدة المصون، رباب الصدر، ويا أيها الداعون الكرام، "وفاء منا للإمام المغيّب، مبدع ثقافة المقاومة، ولننعم أيضاً بصفاء الروح" كما جاء في كلمته، لا بد من أن نشكر الله عز وجل على النداءات الأصيلة السماوية التي يمكننا أن نلتقي في الاستماع اليها حين نقترب من الينابيع الواحدة.

أ - فالشهيد يولد من جديد ساعة استشهاده، فيطلع له ولنا الفجر.

ب - فيرتفع أذان المؤذن وتدق الأجراس إعلاناً لصلاة الصبح.

ج - والشهيد الشهيد ليس هو فقط من يقضي في أثناء مقاومة مسلّحة، في دفاع مشروع عن النفس، بل هو أيضاً من يبذل نفسه عن أحبائه في حياة عطاء، لا ينقطع، ثائراً على ذاته وأنانيته، وهو من يموت في مقاومة أخلاقية أدبية وروحية، ومن يعرف أن يتسلّح أخلاقياً وروحياً.

د - ويبقى أن الاستشهاد هو الفداء الحقيقي، وذروة العطاء، ومن أسمى أشكال تتويج الحياة على هذه الأرض للانتقال إلى الحياة الأخرى.

هـ - والقضايا التي تستحق الدفاع عنها والموت في سبيلها هي القضايا العادلة المحقة التي، عاجلاً أو آجلا، ستتحقق، لأن الحق يعلو، كما يقال، ولا يُعلى عليه. والله تعالى هو الحق بالذات.

و - ومن بين تلك القضايا، قضايا تتعلق بمجموعة من البشر أو بأفراد أو بالإنسان، وبخاصة الإنسان المقهور، والمظلوم، والمعذب، والمستضعف. "فما آمن بالله واليوم الآخر، من بات شبعاناً وجاره جائع". كما  أن مقياس التمييز بين الصالحين والطالحين، كما جاء في الانجيل، في الدينونة الأخيرة هو المحبّة الحقيقية تجاه الفقراء والجياع والمحبوسين والمشردين والمرضى، وسواهم من المعوزين (راجع متّى 25، 31-46).

ح - فكرامة الإنسان ليست منّة من الإنسان على سواه، بل هي نابعة عن طبيعة الإنسان وهي تستدعي أن يعود كل شيء إلى ترقّيه وتألقه...

ط - فصقل شخصية الإنسان صقلاً متكاملاً، وتنمية شرائح المجتمع، ومناطق الوطن، تنمية متوازنة، هما واجب إنساني ووطني، كما هما من عناصر خلق الإنسان المقاوم والمجتمع المقاوم.

اما ما جاء بخصوص العلاقات اللبنانية السورية التي لم نذكرها لأننا اعتبارناها خارج الموضوع المطروح علينا، كنا لا نود أن ندخل في جدال، أكتفي أن أقول بأننا إذا ما عالجناها معاً من دون تشنج، برويّة، بانفتاح حوار حقيقي، لا بد أن نتفق عليها، بمباركة الرئيس الجديد والواعد الدكتور بشار الاسد، الذي يعرف هو ما ينبغي أن يكون من علاقات محقة أخوية نود أن نبنيها ما بين البلدين الشقيقين لصالحهما وتقوية كل منهما بالبلد الآخر.

خاتمة

15 - ألا اهدنا، ربنا، الصراط المستقيم، وامنحنا النية الخالصة، والضمير الحي، والروح الصافي. هبنا العزيمة القوية، والقلب الشجاع، والإيمان الراسخ والرجاء الوطيد، والمحبة المضطرمة، فنقاوم ذواتنا ونبني مجتمعاً مقاوماً ونحسن المقاومة. آمين!

source