ثقافة المقاومة: الأخلاق السياسية وبناء القدرات

calendar icon 24 تشرين الثاني 2000 الكاتب:عدنان الأمين

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الثانية)


تحمل المسؤولية العامة:

شهدت معاركنا العربية ضد إسرائيل خلال السنوات الخمسين الماضية قدراً من الادعاء أرخى بظلاله، ليس على نتائج المعارك فحسب، بل على روح القضايا نفسها، التي كانت سبباً لها، وعلى جملة البناء البشري في المنطقة.

أما حول روح القضايا فيكفي مقارنة الوهج الذي كان لقيم وشعارات مثل الوحدة العربية بما هي عليه اليوم. ألا يمكن القول إن هذا الشعار، مثلاً، اصبح غير قابل للتصديق، بل اصبح مرعباً لمن يترجمونه على أنه استتباع دولة لأخرى وظلمها؟ وكيف تم إعلاء آمال الأمة ثم إجهاضها تباعاً، وهل يعزى ذلك إلى الإمبريالية والاستعمار وإسرائيل فقط؟ كيف نحارب عدواً ثم ندّعي أن العدو لم يسمح لنا بهزيمته؟ كيف يرفع امرؤ شارة النصر بإصبعيه إثر هزيمة، ثم يكرر ذلك إثر هزائم متتالية؟

أما حول بناء البشر، فإن النفاق عندما يصاحب الادعاء يعطل العقل. فمع تكرار القوالب الجاهزة يصبح الكلام من طبيعة خشبية، وتنخفض الحساسية العامة تجاه الكلام المختلف، ويكف الكلام عن القيام بوظيفته التعبيرية عن الاتجاهات والأفكار والرأي العام، وتصبح الصحيفة كأنها هي نفسها، ولو تغير الزمن فيزيائياً. ومع رسوخه يصبح النفاق قالباً عقلياً ينتشر ويتوالد في الإدارة والإعلام والحياة العامة، وتصبح تربية الناشئة في المدارس طافحة بالنماذج الجامدة وصور اهل السلطة، وقائمة على الإملاء والتفريغ اللفظي بعيداً عن الذكاء العقلي أو الوجداني، والنظام التعليمي نفسه مرسوماً في سكك وكأن المتعلمين ركّاب قطار لا يتميز الواحد عن الآخر إلا من حيث المحطة التي ينزل فيها. وتصبح الإدارة نفسها قائمة على الأمر والائتمار. وفي مثل هذه الوضعية العامة يصبح التفكير نفسه كاذباً لأن التفكير يتم بالكلام الصامت، وهذا الكلام يتكون من الخطاب الواحد الذي يجب ان يقال تبعاً لما تتوقعه العيون والآذان المبثوثة. ومع الزمن تنسدّ مسامّ التفكير السليم وتتوقف خلايا التفكير المبدع عن العمل. وإذا بالغنا في وجود هذه النزعة في مجتمعٍ ما، يمكن التخيل ان المثقفين يصبحون اقرب إلى مكبرات الصوت، والعامة ذات قابلية عالية للتلاعب بعقولها وإلى جرّها في كل مرة إلى شعار كاذب جديد.

في مثل هذه الحالة يحصل الخواء في المجتمع، وتضعف القاعدة الاجتماعية والسياسية للحكم، فيضطر هذا الحكم إلى الذهاب قدماً في استعمال القلم الذي "يكتب بحبرين" (السيدة رباب الصدر)، وفي اللجوء إلى أساليب السيف الظاهرة والمستترة. وعندما يكون الكلام الآخر ممنوعاً ينغلق هذا الكلام على نفسه ويتغذى من العواطف والمراجع الماضية ومن الأجوبة الجاهزة التي لا تجد مجالاً للمقارعة في المساحة الاجتماعية، ويختبئ تحت الأرض ليولّد نزعات العنف ضد المجتمع والدولة على السواء، وإذا ما جرى استدخاله في المجتمع لاحقاً انكشف من جديد عمق التنافر الاجتماعي.

إن تردّي الأخلاق السياسية في العمل العام ليس ثمنه خسائر الماضي فحسب، بل ثمنه خسائر المستقبل، لأنه المولد للتخلف والحاضن له.

ليس لبنان بمعزل عن هذه النزعة المنتشرة في الدول التي تدّعي السير في التنمية، ومنها الدول العربية. وكيف يكون بمنأى عنها وهو في صلب القضايا العربية الكبرى التي كانت أحيانا مطية لمثل تلك الأخلاق السياسية؟ وكيف يكون بمنأى وهو نفسه يعاني انقسامات حول قضاياه الخاصة الكبرى؟ وهل كان للحرب ان تتمادى لولا وقود كاف منها؟

كانت الفصائل والقوى تتفق على وقف النار فينهار، وتتفق على بنود فتتداعى، وتتفق على وثيقة فتذهب أدراج الرياح، وتشرع حواراً ولا تنهيه، وتنهي حواراً لكي تبدأه من جديد. والدمار يستمر على الجميع. ثم جاء اتفاق الطائف، وأنهى الحرب، وبدأ خطاب الوحدة الوطنية يملأ الشاشات البصرية – السمعية. ولكن الدراسات تبين ان اتجاهات الناس هي بخلاف ذلك، اكثر ازدواجية من أي وقت مضى، وان الهوية الطائفية المضمرة أعمق من أي وقت مضى.

إن النزعات التي سادت فينا وحولنا تسمح لنا باستخراج بعض قوالب القول الشائعة، على النحو التالي:

- أن يكون الحامل (اللفظ) غير المحمول (المعنى)، أي ان الأقوال تقوم على التباس في معاني الكلمات.

- ان يكون الكلام المعلن غير الكلام المستتر، أي القول غير الاعتقاد (السيد طلال الحسيني).

- أن يتغير الكلام بتغير المخاطب، إن من حيث  صدقيته أو من حيث مضمونه. فالكلام مع أبناء الطائفة غير الكلام مع الطائفة الأخرى. والكلام يتغير تبعاً لأهواء الجمهور من أجل استرضاء جميع الأطراف وبناء هندسة وهمية متعددة الأبعاد للاستمرار في الوجاهة أو السلطة: فهذا وزير يبجل الفرنكوفونية هنا، والانكلوفونية في مكان ثان، والعروبة في مكان ثالث، والإسلام في مكان رابع، والمسيحية في مكان خامس، من دون ان يرمش له جفن ومن دون ان يكون قوله هنا ماساً بقوله هناك.

- ان يكون الكلام سقيماً، خشبياً، لا يأبه بالتغيرات ولا بالمعطيات ولا بالوقائع الاجتماعية ولا بالكلام الآخر (بديل فقير عن القالب السابق)، أو ملفقاً يصطنع جمع المتناقضات (بديل مُتَذاكٍ عن القالب السابق).

الخلاصة الأولى من هذه "الدروس" السريعة أن المتكلم في ثقافة النفاق ليس هو هو ولا كلامه هو هو. والخلاصة الثانية أننا أمام قضية أخلاقية في السياسة العامة.

ليس الصدق المطلق هو عكس النفاق في السياسة· فالسياسة التي هي فن تدبير الشأن العام تعتمد المناورة لكي تصل إلى أهدافها. وفي المناورة قدر من الخداع، تجاه الطرف الآخر وليس تجاه الناس أهل القضية. عكس النفاق في السياسة، تحمّل المسؤولية، أي الصدق في الأهداف الأصلية والعمل على تحقيقها بالأساليب المتاحة، ومنها المناورة، والاعتراف بالوقائع والمصارحة بالنتائج والقابلية للمساءلة، والاستعداد للتنحي أو التغيير عند التقصير.

لقد تكلم الإمام موسى الصدر مراراً وتكراراً في خطبه ومقابلاته ومحاضراته عن تحديد المسؤولية وتحملها، وعن الثقة والكرامة والعزة والحق، والعلاقة بين الكذب والتخلف والعلاقة بين الكذب والنفاق وهدر الطاقات. وقال: "قولوا لا تعني فعل القول وإنما التزموا". وقال: "أكذوبة الليطاني تدغدغ سمعنا، كله كذب في كذب"، وغير ذلك. ذلك أن قضية الأخلاق السياسية بدت له واحدة من القضايا الأساسية التي تعني الدولة والقيادات والمثقفين وعموم الناس.

وإذا أخذنا خطابه في أبعاده المختلفة، المستترة والظاهرة سواء بسواء، نجد خطاً واحداً يجمعها: من حق قيادات الطوائف ان تعبر عن هواجس أبنائها، ومن حقها ان تطالب برفع الحرمان والظلم والاعتداء والتمييز عنها، لكن من حق الطوائف الأخرى على هذه القيادات، طالما دخلت في حوار فيما بينها، وطالما ادّعت انها قابلة بهذا البلد وطناً واحداً للجميع، ان تبث هواجس الوطن في طوائفها وتحارب نزعات التعصب بين أبنائها. والعكس غير صحيح فالتعصب لا يحارب لدى الطوائف الاخرى والادعاء عليها، بل هذا ما يولده ويزيده. والحرية ليست استئثار القيادات بجماعاتها واستتباع أبنائها والفتك بهم. الحوار ليس حواراً بين القيادات فقط، بل هو حوار داخل الجماعات نفسها أيضا، والحرية أيضا. وهذا يفترض الاعتراف بالآخر وبالوقائع البشرية والسياسية، المحلية والوطنية والإقليمية·

يضج خطاب الإمام الصدر بدعوة أبناء الطائفة الشيعية إلى الدفاع عن حقوقها، وإلى الانضمام إلى حركة المحرومين، والى مقاومة إسرائيل، ولكنه يضج أيضا بالدعوة إلى التجنيد الإجباري والى تقوية سواعد الدولة، وبالدعوة والى تكافؤ الفرص وإلى محاربة التمييز بين الطوائف وتصنيف الناس، والتعصب والتفاوت في الوطن الواحد وطغيان فئة على أخرى. وهي مفاهيم موجهة إلى الجميع شيعية وغير شيعية، مثلما أن حركة المحرومين كانت حركة للجميع. وهو يصعد بالمفاهيم عن قصد نحو أقصى العمومية اللبنانية مساهماً في تعزيز نواة الثقافة السياسية المسؤولة: الحوار، التعاون، تنسيق الجهود، مشاركة جميع اللبنانيين، المواطنية، العدالة، الديمقراطية، الاعتراف بالثقافات المتعددة والتيارات الفكرية، وعدم الكذب.

إن نموذج الثقافة السياسية المسؤولة الذي مارسه ودعا إليه الإمام الصدر لم يكن مقتصراً عليه. فقد استقبلت خطابه منابر الطائفة كما استقبلته بحرارة منابر الطوائف الأخرى ومنابر الحوار بين الجماعات والثقافات والتيارات· لكن يبدو ان المساحة التي كانت تعمل فيها هذه الثقافة السياسية كانت بدورها في حرب مع المساحات الأخرى. لذا كان الإمام يعبر عن ألمه الشديد من عدم تطابق كلام الآخرين مع أفعالهم، ومن استمرار الحرب والتعصب. كأن الظروف هي نفسها: تلك التي أخفته وتلك التي اغتيل فيها آخرون أو ابعدوا أو صمتوا أو همشوا. وربما كانوا جميعاً حجر عثرة في طريق المستفيدين من الحرب اللبنانية.

لكن الأفكار القوية والقيم الإنسانية والممارسات المسؤولة تعتمل وتستمر. وقد احتاج الامر ردحاً من الزمن لكي تثمر ثقافة المسؤولية العامة بناء مقاومة لإسرائيل لا تقع في التصنيف المعهود للميليشيات. وهذه المقاومة هي التي قدر لها ان تؤتي ثماراً في تحرير لبنان من الاحتلال· وهذا ليس لأن لديها سلاحاً أقوى من المقاومات الأخرى، ولا لأن لديها مالاً اكثر، ولا نيّات اقل طموحاً، ولا شعارات أعنف، ولا قوة إعلامية اكبر· بل لأنها تأسست على أخلاق سياسية، مسؤولة، ما جعل القاصي والداني اليوم يعبر عن ثقته بها وبما تقوله· الكلام مع المقاومة اللبنانية اصبح بعد طول تشوش هو هو، والمتكلم هو هو. هي مقاومة تنطلق من عقيدة دينية وتمارسها، ومن ايمان بالقضية وتمارسه، ومن معتقدات شيعية وتمارسها، وتحترم في الوقت نفسه المعطى اللبناني بما فيه من تنوع وسقوف، وتحترم المعطى السوري والإيراني والعربي والدولي وما فيها من عوامل متضافرة إيجابية، وتحول كل ذلك إلى مسؤولية تجاه نفسها وتجاه الجميع في الوصول إلى هدف التحرير.

ولو عاد الإمام الصدر اليوم لوجد أيضا ان خطابه حول اداء الدولة في موضوع المقاومة احتاج ردحا من الزمن لكي تثمر ثقافة المسؤولية العامة تجسيداً له. في ذلك الوقت كان ينتقد الميوعة و "اللامبالاة" و"عدم شعور المقاومة بالحماية" و "عدم الثقة" و"عدم التعاون وتنسيق الجهود وتحديد المسؤوليات"· اليوم العلاقة بين الدولة والمقاومة واضحة. فالكلام هو هو في العلن والكواليس، وفي كل المحافل وأمام جميع الأطراف، وفي التنشئة والإعلام: حق لبنان في المقاومة وتحرير البلاد مقدس، ودور الدولة في دعم المقاومة متفق عليه·

على ان ممارسة المسؤولية العامة لا تعني فقط، في لبنان أو في أي بلد آخر، تحمل المسؤولية في مقاومة الاحتلال على الحدود· فنحن مع التحرير المنجز اليوم إزاء وضع نشأ مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1978 واستتباعاته لجهة تطبيق القرار 425 ثم إن المقاومة ليست على الحدود فقط، ويجب ان لا تمنع الشجرة رؤية مجمل الغابة، أقصد التحدي الإسرائيلي كدولة حديثة قوية، وما أضافت العولمة إلى هذا التحدي من عناصر· كما ان انتصار المقاومة لم يتم عن طريق تحمل المسؤولية فقط والالتزام، بل تم ايضاً على طريق حسن الإدارة والتنظيم وامتلاك المعرفة.

إن مأزق بناء الدولة اللبنانية، كجارة لدولة إسرائيل، في عداء أم في سلام معها، ما زال قائماً بكليته. وقضية تحول قوة المقاومة اللبنانية بعد التحرير إلى قوة لبناء الدولة هي قضية قائمة. وفي العالم العربي ما زال مأزق بناء الدولة العصرية المتماسكة والديناميكية قائماً، تلك التي درجت على تغليب مواجهة الضغوط الإسرائيلية على برامجها وتأجيل عملية البناء الداخلي تباعاً. مشكلة لبنان مثل مشكلة الدول العربية تتعلق بالمشاركة في العصر. ويخيل إلينا ان الأمور متصلة ما بين مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومقاومة التهميش العالمي، ولو كانت في طرف منها رفضاً ومدافعة، وفي طرف آخر إقبالا ومشاركة. قبل عشر إلى عشرين سنة كان الإمام الصدر لا يترك مناسبة الا ويدعو إلى استخدام العقل، قائلاً ان تفكير ساعة خير من عبادة سنوات، والى التخطيط والاعتماد على الكفاءات وتنميتها ووضع الدراسات والإحصاءات وإنجاز المشاريع. كانت المقاومة عنده دائما مقاومتين، واحدة على الحدود واخرى في قلب الدولة وعقلها. وها هي الامور تتمحور مجدداً حول الدولة.

إن الابعاد التي يمكنني التحدث عنها في موضوع بناء الدولة اللبنانية الحديثة أربعة: ادارة شؤون البلاد، وتكوين الرصيد البشري، وتكوين الرأسمال الاجتماعي، وتكوين الطاقة العلمية.

لقد أطلق اتفاق الطائف عام 1989 عدداً من الاصلاحات السياسية والادارية التي طُبق بعضها. لكن رئيس الجهورية، وفي خطاب القسم بعد عشر سنوات على اتفاق الطائف، وعد بدولة القانون والمؤسسات، التي لم تكن قد قامت بعد.

وها نحن اليوم في العام 2000 ننتظر الاصلاح الاداري واستقلال القضاء، واللامركزية الادارية، وقانون انتخاب يسمح بالتمثيل الحقيقي للبنانيين، ومجلساً اقتصادياً اجتماعياً فعالاً، ومنهجاً في التشريع واتخاذ القرارات يقوم على المعلومات والخطط والبرامج وعلى سعة الرؤية وعلى المصالح العامة للناس، وادارة لا شخصية ولا طائفية، منظمة عقلانياً، وتمارس مهامها تبعاً لأهداف ووظائف معروفة، وتخضع للرقابة والمساءلة، من أعلى مراتبها إلى ادناها، وغير ذلك الكثير. والاهم من ذلك ان اللبنانيين يعرفون هذا لكنهم يطالبون به، ولا ندري من يطالب من؟ وكيف يكون حسن ادارة شؤون البلاد مطالب يصرح بها أحدنا أو بعضنا ويشارك بملء ارادته، كل في موقعه، في دوران الآلة القائمة منذ غداة الحرب؟

حالنا في ذلك كحال اللقاءات والمؤتمرات والندوات والأطروحات في العالم العربي. ثمة قالب واحد مدهش يجمع الكثير من هذه المناسبات: يضع المتكلمون خلفهم ظروف عملهم المعاشة في مؤسساتهم وإداراتهم، ويندفعون نحو مساحة من الكلام المصطنع وينتهون إلى مطالب وتوصيات موجهة إلى لا أحد، ثم يعودون إلى ديارهم ليتابعوا عملهم حيث تركوه.

لقد قيض للبنان تاريخ طويل في التعليم، وبالتالي تكوين الرصيد البشري المتعلم، ولم تمنع الحرب استمرار تراكم هذا الرصيد. لكن ذلك حصل على قاعدة التفاوت في فرص الحصول على التعليم وعلى قاعدة التراجع العام للنوعية.

كان الإمام الصدر منذ الستينات يدعو بلا كلل إلى نشر المدارس وتحسين أبنيتها واعطاء ذلك الاولوية، وقام بجهود حثيثة مباشرة من اجل وضع حد للتكافؤ، ودعا إلى مكافحة الأمية. فالتعليم ونشره بين اللبنانيين هو ثروة البلاد الحقيقية وقوتها وفي هذا يقول الإمام: رأسمال لبنان كفايته البشرية، وثروة لبنان في الإنسان، والإنسان هو رصيد لبنان الأول والأخير.

اليوم يمكن القول إن لبنان هو في طليعة الدول العربية في إلحاق الأطفال واليافعين والشباب بالمدارس والجامعات· واصبحت حظوظ الإناث موازية لحظوظ الذكور في المراحل التعليمية كافة· ثمة 97.8% من الأطفال في التعليم الابتدائي، و1،95% من اليافعين في المدارس المتوسطة، و82% من الشباب في المدارس الثانوية. ولا تثريب في ان ذلك تم بفضل التعليم الخاص أولاً. فالرصيد التعليمي البشري هو رصيد وطني، بغض النظر عن نوع المدرسة.

لكن تراجع حصة التعليم الرسمي من 40% في منتصف السبعينات إلى 36% في نهاية التسعينيات، ترافق مع انتقال الحرمان في فرص التعليم من الجنوب إلى الشمال وبقائه في جزء من البقاع (خاصة منطقة بعلبك - الهرمل). كما ترافق مع زيادة التفاوت في النوعية بين مجمل القطاع الحكومي وجزء من المؤسسات التعلمية الخاصة التي اصبحت مع الزمن تشكل جزراً للإتقان. وهذا يعني ان تراجع حصة التعليم الرسمي ليست مسألة للنزاع على الحصص، في ما للقطاع الحكومي وما لغيره، بل يعني تحول الموضوع من قضية نشر التعليم إلى السؤال عن نوعية التعليم، أي ماذا تعلم هذه المدرسة؟ وكيف تعلم؟ وهنا ينكشف الشكل الجديد الذي اتخذه عدم التكافؤ في التعليم. وبالتالي لم يعد الاحتفال بإقامة مدرسة موضوعاً للفخر، مثلما لم يعد توزيع الدفاتر والاقلام موضوعاً للتبجح. المحك اليوم هو: ما التجهيزات المتوفرة في المدرسة الرسمية؟ وهل فيها أجهزة حاسوب؟ وكيف يعين المديرون؟ وكيف ينقل المعلمون؟ ولماذا؟ وهل تراقب المدارس الخاصة؟ والى أي حد تتخذ المدارس الرسمية مطية لممارسة النفوذ وتصريف المصالح الخاصة؟ وأيهما اكثر مسؤولية، الدفاع عن تكافؤ الفرص أو عن الحصص؟ عن مصلحة القائمين على التعليم ام عن مصلحة الطلبة المتعلمين؟

وما يقال عن المدارس الرسمية العامة يقال عن المدارس المهنية والتقنية، ويقال عن الجامعة اللبنانية، فهي جميعاً نص اتفاق الطائف على اصلاحها وتعزيزها وتطويرها. وهي جميعاً ما زالت من دون اصلاح. وقد ظلت الجامعة اللبنانية تتوسع منذ عام 1977، مع التفريع، وتتمدد في المناطق والاحياء والابنية، من دون ان تزيد مواردها ومن دون ان تعدل انظمتها وطريقة ادارة شؤونها بما يتناسب مع متطلبات أنها تستقبل 60% من طلاب لبنان، ثروة هذا البلد، وبما يتناسب مع تحديات المنافسة مع الجامعات الخاصة المرموقة، ومع المكاسب العالمية وحاجات البلاد للكفايات في الكثير من الاختصاصات.

خلاصة القول، إن التقدم في الرصيد البشري التعليمي الكمي ترافق مع تراجع وتفاوت في مستوى كفايات البشر، ومع تراجع التعليم الرسمي بكل مراحله وأنواعه. والوعود التي أطلقتها المناهج الجديدة أفادت بالدرجة الاولى المؤسسات الكبرى في التعليم الخاص. وكل ذلك مرتبط بوضعية إدارة شؤون البلاد.

لم يترك الإمام الصدر جانباً من جوانب العيش الكريم إلا وكان له فيه صرخة ودعوى: مكافحة التشرد، مكافحة الفقر ورعاية الأيتام، توفير مياه الري والشرب، الرعاية الصحية، رفع مستوى حياة الكادحين، توفير الطرق، وتوفير الموارد والشروط اللازمة للعمل في الزراعة والصناعة والتجارة والمهن الحرة ... وغيرها، مما يقع في باب "نوعية الحياة". لقد بذلت جهود ولا شك لتوفير هذه المستلزمات، مباشرة من قبل الأهالي والمقاومة، أو عن طريق الدولة والمعونات والمجالس والهيئات، لكن الدراسات حول الفقر وأحوال المعيشة تبين أن حوالي ثلث الأسر اللبنانية تنتمي إلى درجة الإشباع المتدنية، أي دون الوسط، وان الانخفاض في الإشباع من التعليم يرتبط بانخفاض الإشباع من المسكن والمياه والصرف الصحي والدخل. بل يمكن القول إن تدني نوعية الحياة زاد انتشاراً مع الضائقة الاقتصادية التي تعرفها البلاد منذ اكثر من سنة.

من جهة أخرى، ما زالت البلاد تعيش حالة الانقسام العميق الذي عبّرت عنه الحرب وحاربه الإمام الصدر، والذي زادته الحرب حدة لاحقاً، ولم ينفع فيه تكرار القول عن الوحدة الوطنية. بدا ذلك من الدراسات التي أجريت في نهاية التسعينات، لكن الانتخابات النيابية الأخيرة كانت معبرة بهذا الخصوص. وقد طرحت وثيقة التوجهات الاستراتيجية التي وضعتها وزارة التربية والتعليم العالي هذه القضية مؤخراً، ولاحظت كيف ان نواة التنشئة الوطنية لا تتمتع بالشروط الكافية لكي تترسّخ لدى الناشئة، وان هناك تداخلاً خطيراً بين التنوع الثقافي والمراتب السياسية يجسد ما سماه الإمام الصدر يوماً تصنيف الناس، وأن هناك شبه انعدام لفرص التفاعل بين الطلاب الذين ينتمون إلى بيئات ثقافية مختلفة، ما يعيق تكوين آفاق جديدة لدى الشباب، وتبنّي آراء واتجاهات تتجاوز أحضان انتماءاتهم الأولية، وان هناك ضعفاً في الحراك الاجتماعي، الأفقي والعامودي ... الخ. وهذه كلها شروط معيقة للاندماج الاجتماعي.

ومن نافل القول إن بناء الدولة، بالمعنى الواسع للكلمة، ومقاومة العدوان الإسرائيلي ومقاومة التهميش العالمي، أهداف لا تتسق مع بقاء التفاوت والحرمان الاجتماعي من جهة، ومع بقاء عناصر التفكك الاجتماعي من جهة ثانية. بل إن الرصيد التعليمي للسكان يصبح عرضة للتهديد عبر الهجرة أو الامتثال أو الانزواء أو الجمود، إذا لم يتحصن بتحسين نوعية الحياة، وبالاندماج الاجتماعي، أي بإطار من التماسك الاجتماعي الداخلي الذي يحميه ويستثمره لصالح كل فرد على حدة والمجتمع بكليته على السواء.

آخر المعطيات تفيد ان وزارتي التربية والاقتصاد أطلقتا مشروعاً لربط 24 ثانوية رسمية بشبكة الإنترنت (حزيران 2000). هذا جيد· وتقول أيضا إن هناك 340 حاسوباً في المدارس الرسمية· وهذا جيد أيضا· لكن عدد المدارس الثانوية الرسمية يبلغ 180 مدرسة، ومجموع المدارس الرسمية يبلغ 1343. أي ان المسافة ما زالت بعيدة أمام نشر الثقافة التكنولوجية. أما آخر المعلومات عن إسرائيل فتفيد ان الحواسيب موجودة في جميع المدارس من الروضات حتى الجامعات. وتقول أيضا إن هناك حاسوباً واحداً لكل أسرتين فيها. في المقابل ثمة حاسوب واحد لكل عشر أسر في لبنان، ولكل 25 أسرة في مصر، ولكل 100 أسرة في سوريا. قد يبدو لبنان قريباً من منافسة إسرائيل بسبب عدد الحواسيب وعدد المشتركين في الانترنيت. لكن هناك أمرين يخففان من قوة هذه الفرضية: ان الامارت العربية المتحدة هي البلد العربي الأعلى حيازة على الحواسيب والمشتركين في الانترنت، وان كلفة الإنترنت في لبنان مرتفعة بسبب اعتماده على شبكة الاتصالات الهاتفية، ما يجعل فاتورته عالية· وان الاستعمال الغالب لهذه التكنولوجيا فيه هي للتسلية والطباعة اكثر ما هي للعمل والدراسة. والمثال الساطع هو الإدارة اللبنانية عموماً والإدارة التربوية خصوصاً التي ما تزال معظم طواقمها تعمل بالأنظمة الورقية. والمثال ايضا من الجامعة اللبنانية التي تخبرنا الصحف عن تزويدنا كلياتها بالحواسيب، ويخبرنا الطلاب أنهم لا يرون الحواسيب إلا في حصة الحاسوب، إذا ما وجدت.

هذا من حيث الثقافة التكنولوجية العامة، اما من حيث النخب الجامعية عموماً والتكنولوجية تحديداً، فالمعطيات متفاوتة، تفصح مرة أخرى عن وعود جدية وقيود جدية ايضاً.

يبلغ عدد الطلاب الجامعيين في لبنان 3283 طالب لكل مائة ألف نسمة، وهذا أعلى رقم في الدول العربية. لكن قسماً مهما من هؤلاء مقيمون في السنة الأولى جامعية، خاصة في كلية الحقوق  (73%) والعلوم (68%)· كما ان قسماً مهماً منهم عبارة عن طلاب غير لبنانيين مسجلين في الجامعة العربية. مما يخفض العدد دون الثلاثة آلاف لكل مئة ألف نسمة، علماً ان العدد هو 3600 في إسرائيل و 3800 في فرنسا و 4000 في كوريا و5500 في الولايات المتحدة الأميركية، و 5600 في كندا.

وبينما يشكّل الطلبة المتخرجون في الاختصاصات العلمية والتكنولوجية 2،24% من مجموع المتخرجين في مؤسسات التعليم العالي في لبنان، فإن النسبة تصل إلى 7،50% في ألمانيا و 4،44% في كوريا و 5،31% في الولايات المتحدة·

أما عدد العلماء والمهندسين في إسرائيل فيصل إلى 135 لكل عشرة آلاف من السكان مقابل 85 في الولايات المتحدة· وقد طورت إسرائيل منذ الخمسينيات مؤسسات تعليمية ومراكز بحوث علمية تعتبر الأعلى جودة في الشرق الأوسط، مثل المعهد الإسرائيلي للتكنولوجيا في حيفا، ومعهد وايزمان، والجامعة العبرية في القدس، وجامعات حيفا وبئر السبع وتل أبيب، ورامات - غان، ودخلت ميدان الأبحاث النووية منذ الستينيات (جريدة النهار 15/10/1991). وتعتبر الصناعات الإسرائيلية العالية التقانة اليوم واحدة من الصناعات الخمس في العالم· وكان في أساس العوامل الداخلية لهذا التقدم تطوير مهارات الثقافة العلمية عند الناشئة، وتوجيه الجامعات نحو النشاط العلمي وتخصيص الموارد المالية العالية للبحوث العلمية والعناية بالبنية التحتية العلمية ولاسيما خطوط الهاتف وخطوط الاتصال الإلكتروني.

ليس ضروريا ان يطرح لبنان على نفسه مهمة مقارعة اسرائيل في الصناعة التكنولوجية، وكل ما يتعلق بتخصيص الموارد المالية الضخمة، لكن باستطاعته ان ينمي طاقاته إلى الحد الاقصى المتاح، ويحسن استثمارها أحسن استثمار في مشروع طموح لبناء القدرات الإدارية والتنظيمية والمعرفية -العلمية· فالعلم -كما يقول الإمام - هو درة التاج وبيت القصيد. ولا بناء من دون معرفة.

صحيح أن لدينا عدداً كبيراً من الطلاب الجامعيين، لكن يجدر السؤال عن قدرة الخريجين على المنافسة، ولا سيما في الاختصاصات الإنسانية. وصحيح أن لدينا كليات هندسة مرموقة، ولدينا كليات تكنولوجية علمية، لكنّ أخبار الصحف تفيدنا ان اكبر القضايا المطروحة هي عدم وجود مختبرات، ومشكلات تعاقد الأساتذة وتفرغهم ودخولهم في الملاك ومشاكل بناء ... أي مجموعة من القضايا التي تعتبر بدائية في مساهمة التعليم العالي في بناء القدرات.

يروي عالم يهودي اميركي الجنسية زار اسرائيل بدعوة رسمية من حكومتها عرفاناً منها على ما قدّمه لإسرائيل يوماً ما، أنه عندما وصلوا به إلى الحدود مع لبنان قالوا له هذه هي الحدود: الارض الخضراء لنا والارض الجرداء للبنان.

ويروي أيّ جنوبي في الخمسين من عمره أن تنقّله في الجنوب، منذ طفولته، كان إما مقيداً بالحواجز والسؤال عن الهوية أو معرضا لخطر الاعتداءات الإسرائيلية.

والمشهد في الجنوب اليوم لا يخفى على أحد: منطقة تعرضت للإهمال والتدمير النظاميين، وللهجرة القسرية طوال نصف قرن، نحو ضواحي بيروت وبلاد الاغتراب. ولا يخفف من هول الواقعة أن مشاريع كثيرة نفذت خلال العقدين الأخيرين، فالطرقات شبه صالحة، والمياه والكهرباء شبه مؤمّنة، والمدارس الحكومية غير مكتملة بما فيها ذات الأبنية الحديثة، وبيوت، بل أحيانا قصور، شبه فارغة. وهذه المنطقة تعاني فوق ذلك أزمتين بالغتي الأهمية: أزمة فراغها من الشباب، الطاقة الحيوية للعمل والحياة الاجتماعية والسياسية، وازمة جروح بالغة تركها انقسامها بين قرى وقوى سياسية وجماعات تصارعت طوال السنوات الثلاثين الاخيرة.

هذه المنطقة التي كان قدرها أن تدفع اثماناً باهظة لمجاورتها ومقاومتها لإسرائيل في ظل تهجير الفلسطينيين إلى لبنان وفي ظل عداء اسرائيل للبنان كدولة وكنموذج حضاري، هذه المنطقة تستحق ان يعترف بما عانته، وتستحق ان تكون نموذج الوجه الآخر للمقاومة: ان تكون هذه المرة السد الحضاري امام التعجرف الإسرائيلي.

لقد علمتنا المقاومة اللبنانية أن ثقافة المسؤولية عميقة الجذور في هذا البلد رغم كل شيء، وانه يمكن مقارعة اسرائيل بالقدرات المنظمة والعارفة. والآن، وعند النظر الى المستقبل، يمكن الاندفاع إلى الأمام بنواة الالتزام والقدرات، نحو عملية تنمية شاملة لهذه المنطقة. ولكن هذا الاندفاع يتطلب ان يكون للدولة الدور الأول· ويتطلب في الوقت نفسه التحوط من سلبيات عرفتها هيكليات ومشاريع ومجالس وهيئات سابقة، أدت أحيانا إلى إفساد المشروع، وأحياناً اخرى إلى غياب الدولة والمصالح العامة· وما طرح حول الجنوب ما زال حتى الان ضبابياً ومفتتاً، ويحتمل مصائر مشاريع سابقة، ومتواضعاً، وملتبساً يخلط بين المساعدة بمعنى الطوارىء، وبناء القدرة العامة في الجنوب ضمن خطة واضحة المعالم.

لذلك كله نطرح على الجميع عناوين مشروع طموح لتنمية الجنوب على النحو التالي:

أ - عنوانه: مشروع العرفان والعمران، ولا ضرورة لشرح هذا العنوان.

ب - أهدافه متعددة ومتكاملة وبعيدة المدى: سكانية، اقتصادية، (زراعية، صناعية، خدماتية، يد عاملة)، اجتماعية وثقافية وتربوية.

ج - مراحله خمس كبرى تمتد على 15 سنة: مرحلة للهيكلية والتشريع، مرحلة للمسوحات والدراسات، مرحلة للتصاميم والبرامج والمشروعات النوعية، مرحلة للتنفيذ، ومرحلة للمتابعة والتصويب.

د - هيكلية متعددة الطبقات والدوائر، بصورة تؤمنّ إشرافاً ديناميكياً، وتنفيذاً فنياً مطابقاً للمواصفات العالمية، ومشاركة فعّالة من قبل جميع القوى الحكومية وغير الحكومية والمنظمات الدولية والجهات الممولة، في الإشراف والتنفيذ والرقابة· وبصورة تكون قوة المشروع من الانضباط في آلياته ومن الموارد المالية التي توضع فيه، ومن تنوعه في شتى القطاعات والحقول وتكاملها، ومن زخم المشاركة الأهلية فيه، من ملاكين ومسؤولي مؤسسات وأهالي وبلديات ومخاتير وفعاليات اقتصادية ومهنية، وممن كان يخاطبهم الإمام الصدر: الشعب، اللجان الشعبية، اللبنانيون، أبناء الجنوب، الطلاب، العمال، المثقفون، أصحاب المهن الحرة، المسيحيون، المسلمون، الأحزاب، النقابات، الاختصاصيون، أصحاب الكفاءات.

هـ - تصميم متعدد الزوايا: زاوية الخطة العامة أو التوجيهية، وزاوية المشاريع والبرامج الكبرى، ولاسيما المتعلقة بالبنى التحتية، وزاوية المشروعات الاستثمارية والتطويرية والحملات والنشاطات التي يقوم بها الناس بأنفسهم.

ليس هذا مشروع مارشال ولا مشروع سوليدير ولا مشروع أليسار، إنه مشروع "للعرفان والعمران في الجنوب"، وكل الدروس يمكن ان تستخرج من المشاريع الأخرى، قبولاً أو نفياً. وهو ليس بديلاً عن اللجان التي شكلت هنا وهناك في جميع المستويات والوزارات· انه مشروع جامع لكل الطاقات وجاذب لكل ذوي الإرادة، للبذل فيه.

هذا مجرد اقتراح. ولكي يكون، لا بد من تحمّل المسؤولية واستخدام المعرفة وحسن التدبير.

source