آفاق بناء مجتمع عربي- اسلامي مقاوم

calendar icon 24 تشرين الثاني 2000 الكاتب:ابو العلا ماصي

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الثالثة)


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى صحبه ومن والاه. أيها السادة الكرام أُحييكم بتحية الاسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وأبدأ بالشكر للسيدة الفاضلة رباب الصدر ومركز الإمام الصدر للابحاث والدراسات على تشريفي بهذه الدعوة الكريمة للمساهمة في هذا المؤتمر، الذي تجمعنا فيه الذكرى العطرة للامام السيد موسى الصدر. وأود أن أوجه من خلال هذا المنبر تحية إجلال وإكبار لسماحة الامام السيد موسى الصدر صاحب هذه الذكرى العطرة، وهذا التاريخ الناصع البياض وهذه التجربة الثرية، التي أثرت في لبنان وفي المنطقة العربية بل وفي العالم الاسلامي.

الحقيقة انني حينما كتبت ورقتي التي ستوزع على حضراتكم كتبتها في الموضوع الذي طلب إليّ أن أتحدث فيه وهو آفاق بناء عربي اسلامي مقاوم، ولكنني أجد قبل أن أدخل في هذا الموضوع أن أربط بين هذا الأمر وبين صاحب هذه الذكرى العطرة سماحة الإمام السيد موسى الصدر. وأريد، بعد أن عايشت وقائع المؤتمر وجلساته وأبحاثه لمدة يومين، أن أنظر إلى هذا الامام الجليل بوجهة نظر مسلم سني مصري. رأيت في هذا الإمام الجليل انه جمع بين صفات يندر أن تتكرر في هذا العصر· فقد جمع بين فهمه للواقع بعمق وبين فهمه وإدراكه لمقاصد الشريعة والاسلام. وجمع بينهما في موقف مركّب، كما قلت، لم أره كثيراً. فانا اعتز  بانتمائي للحركة الاسلامية منذ أكثر من 25 عاماً، وحضرت مؤتمرات وملتقيات، وجُبت معظم البلدان العربية والإسلامية وفي اوروبا واميركا، وسمعت معظم العلماء في هذه الفترة، ولكن قلّ ما نجد عالماً وإماماً ومجتهداً يجمع بين هاتين الصفتين مثلما جمع إمامنا الجليل سماحة السيد موسى الصدر.

الامر الثاني الذي لفت نظري في شخصية الإمام موسى الصدر هو ارتباطه بالناس جميعاً وبالكادحين والمحرومين خصوصاً، فهذا الارتباط والقرب هو دائماً من سمة الصالحين، إنهم ينحازون للفقراء والمستضعفين والمساكين.

ولعل أيضاً الميزة الثالثة التي وجدتها في سماحة الإمام، هي إدراكه المبكر لخطورة المشروع الصهيوني في فلسطين والتحذير منه وتوجيه بوصلة اللبنانيين والعرب والمسلمين الى هذا العدو الكبير، وترتيب الأولويات في مواجهة العدو الصهيوني الذي يشكل الخطر الأعظم على هذه الأمة جمعاء.

وجدت أيضاً في سماحة الإمام جمعه بسلاسةٍ وتنوّع بين ما هو وطني كلبنان، وما هو قومي في العروبة، وما هو اسلامي في الاسلام، فتكاملت هذه الدوائر بعضها مع بعض، ولا تعارض أي منها انتماء آخر، فهذا الجمع في شخص، وفي فكر، وفي ممارسات سماحة الإمام نموذج أيضاً يقتدى به.

وجدت أيضاً في سماحته العمل الحقيقي والصادق على الوحدة، الوحدة الوطنية في لبنان بكل طوائفه ومذاهبه، والوحدة العربية والاسلامية. وقدم نموذج الوحدة الوطنية في بلد تتعدد فيه الديانات والمذاهب وتتنوع، بسماحة وبصدق، عبّرت عنه جلسة افتتاح اليوم والجلسات السابقة والتاريخ المشرق الذي شارك فيه الجميع، وكان الإمام محوراً لجمع هؤلاء جميعاً. لاحظت أيضاً إدراك سماحته أهمية المقاومة كسلاح دائم، وبناء المجتمع المقاوم مبكراً، وهو قد غاب أكثر من 22 عاماً وهذا الكلام وهذا الفكر سبق هذه الفترة، أي كان دائماً سابقاً للعصر، وقد أسس فعلاً لفكر المقاومة والمجتمع المقاوم في لبنان وفي الأمة العربية. أراه أيضاً كالقليلين من الناس الذين يبنون الرجال والنساء ويبنون الامم، فهو لم يكن واعظاً، كالوُعَّاظ فقط، ولم يكن داعية كالدعاة، ولكن كان مربياً وبنَّاءً ربى نماذج في المقاومة، وللعلم والاصلاح والعمل الاجتماعي والسياسي والثقافي، ووزع الادوار على كل المؤسسات وأنشأ حركة المحرومين وحركة أمل.

لعلي وجدت في سماحة الإمام تشابهاً مع الامام الشهيد حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين في عمق تفكيره ووحدة الأمة لديه ومقاومة الاحتلال والمشروع الصهيوني. وجدت أنهما أيضاً قد تعرّضا للمخاطر، لإدراك الاعداء خطورة مثل هذا النموذج، الذي يحرك الأمة بهذا القدر الذي رأيناه. ورأيت أيضاً مقولاته الحركية تتحول إلى واقع يدركه الناس ويطبقونه وينفذونه، مما يؤكد هذه الشخصية الفذة، شخصية الإمام، التي هي شخصية إجماع وطني قلّما تجدها في إمام وداعية وإصلاحي. ولهذا كان سماحته مشروعاً في حينه، واستمر مشروعاً حتى اليوم، وظلت أفكاره وستظل، بإذن الله، تضع آفاقاً للمستقبل. فلهذا المستقبل الذي نتحدث في آفاقه اليوم ارتباط وثيق بفكر ودور وعلم سماحة الامام موسى الصدر. والحقيقة ان المجتمع المقاوم هو حالة، كما رأيناها وكما سمعنا أمثلة لها وتفضل بها الاستاذ ماجد النموذج الفلسطيني. وعشنا وتابعنا جميعاً النموذج اللبناني الرائع. إنها حالة مقاومة، المقاومة هي حالة الوقوف في وجه الاعتداء أياً  كان مصدره، والمقاومة كفعل انساني لا يمكن تصوره في مواجهة العدوان إلا في مجتمع مقاوم، وتشكل المقاومة جزءاً من ثقافته.

وبناء المجتمع المقاوم ضرورة أساسية للمجتمعات التي تتعرض للأخطار، وأظن أن مجتمعنا العربي كله يتعرض لأخطار محدقة تحيط به من كل صوب. فالمعتدون منذ القدم يسعون لاحتوائنا وللسيطرة على بلادنا، وما المشروع الصهيوني إلا رأس حربة لهذا المشروع الاستعماري الغربي منذ القدم ولذلك هؤلاء المخططون يسعون دائماً إلى استنبات التبعية في أرضنا لتسقط حواجز الممانعة. ولهذا فنحن نحتاج إلى المقاومة والمجتمع المقاوم حتى ولو وضعت الحرب أوزارها، فالمجتمع المقاوم هو الذي يحمي الارض المحررة، وهو الذي يصنع المقاتلين رجالاً ونساء وهو مصدر القيم حتى تتحول المقاومة الى موقف نفسي.

"لا تستسلم أبداً، إن الدين في صفك، يضع السلاح في يدك، ويضع الأمل في قلبك، ويضع الإصرار في إرادتك، ويكلفك أن تستميت دون حقك" الشيخ محمد الغزالي

المقاومة هي الوقوف في وجه الاعتداء، سواء كان مصدره قوة أجنبية غازية أو قوة داخلية مستبدة (1)، ويقصد بها كل أشكال العدوان، مادية كانت أو معنوية. والمقاومة كفعل إنساني في مواجهة العدوان لا يمكن تصورها إلا في مجتمع تشكل المقاومة جزءاً من ثقافته. وبناء مجتمع مقاوم ضرورة لأمة تتعرض منذ مراحل متوالية. تعددت أشكال العدوان لتتجاوز جبهات القتال إلى أعماق المجتمع، فأصبحنا نتداول: التبشير(بمعانيه المتعددة) والغزو، بشقيه الثقافي والعسكري، والاستشراق، ... وغيرها من المفردات التي صارت جزءاً من قاموس التوصيف والتحليل العربي على المستويات: السياسية والثقافية والاجتماعية على السواء. وهو ما يعبّر عن أشكال مختلفة من مساعي الاختراق والاجتياح وصولا إلى الاجتثاث.

وفي سبيل تحقيق هذا المخطط يسعى المعتدون إلى استنبات التبعية في أرضنا لتسقط حواجز الممانعة. ورغم أن البعض يربط بين المقاومة كمفهوم اجتماعي وبين توقف صوت المدافع على جبهات القتال، فإن الحاجة إلى مجتمع مقاوم ضرورة، حتى في حالة استمرار الصراع المسلح، فهذا المجتمع المقاوم مصنع المقاتلين، رجالا ونساءً، ومصدر القيم، التي هي شرط موضوعي لتحوّل المقاومة إلى موقف نفسي راسخ، ثم الى عمل مستمر متواصل، لا أن تكون مجرد رد فعل وقتي.

رصد الواقع

ولكي يمكننا تحديد ملامح بناء المجتمع المقاوم يجب علينا أولاً رصد الواقع الذي تعيش فيه الأمة الآن حتى نعرف موضع أقدامنا، ونقاط القوة للبناء عليها، ونقاط الضعف لمواجهتها.

نقاط الضعف:

من أهم نقاط الضعف التي أصابت الأمة، ويستفيد منها اعداؤنا، ويجب ان نعالجها في انفسنا:

1- تفكك الأمة وبزوغ النزاعات الثنائية بين الدول بعضها البعض (النزاع الإيراني - العراقي، النزاع العراقي - الكويتي السعودي، الخلاف السوري - العراقي، الخلاف الجزائري - المغربي ··· الخ).

والخلافات الطائفية والمذهبية والسياسية، وهو ما أضعف قوى الأمة وأنهكها وأعطى الفرصة لأعدائها لتوظيف هذا الخلاف واستثماره.

2- تراجع المنظومة القيمية الإسلامية في المجتمع نتيجة ضغط المشروع الغربي الأميركي الاستهلاكي في القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية والأنماط الاستهلاكية، ونتيجة الصدام بين الحركات الإسلامية، وأنظمة الحكم العربية، وهو ما أضعف هذه الحركات وعرّضها للملاحقات الأمنية، وتسبّب في تراجع دورها في كثير من الأماكن في تغذية ظاهرة التدين، وانتشار منظومة القيم الإسلامية، وهذا التراجع ملحوظ في الإعلام والفن والزي والثقافة والنمط الاستهلاكي والعلاقات الاجتماعية وتأثر الترابط الأسري وغيرها من الظواهر.

3- ازدياد الفجوة التقنية (التكنولوجية) بين العالم العربي والاسلامي من ناحية والعالم الغربي، الأمر الذي جعل ترتيب الأمة العربية والإسلامية يأتي في موقع متأخر في عالم الصناعة والتقنيات الحديثة بأنواعها وهو ما أثّر بدوره في الوضع الاقتصادي لهذه البلدان، وفي النمو والتقدم والرفاهية لمواطنيها، مما يصب بشكل كبير في إضعاف الأمة وجعلها أقل تأثيراً في العالم وفي الوضع العالمي والعلاقات الدولية.

4- من جماع ما تقدم، أصبح ميزان القوى في كل النواحي مختلاً بين الأمة العربية والإسلامية وأعدائها، وبخاصة في مجال القوة العسكرية أو التسليح، وخاصة أمام  المشروع الصهيوني في الأراضي المحتلة، فهو يتمتع بدعم واضح من الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم أوروبا الغربية ليظل المشروع الغربي مهيمناً ومسيطراً على بلادنا، والمشروع الصهيوني هو رأس الحربة  للمشروع الغربي الاستعماري الحديث.

نقاط القوة:

وكما أن هناك نقاط ضعف في هذه الأمة فهناك أيضاً نقاط قوة يمكن البناء عليها والانطلاق منها؛ من أهمها:

1- إن وجدان هذه الأمة يختزن قيم التدين والإيمان بالله، والقيم الإسلامية تملأ هذا الوجدان، وهو رصيد يجب استنفاره في الشعوب واستثماره ليتحول إلى وقود للتغيير والمقاومة والبناء.

2- من هذه النقاط الهامة أيضاً ظاهرة الصحوة الإسلامية المنتشرة في أماكن كثيرة في العالم العربي والإسلامي، والتي أحيت مظاهر التدين، خاصة في أوساط الشباب منذ السبعينات حتى الآن، وجعلت مظـاهر التدين وسلوكياته في المجتمع تنمو، وعبّأت الجماهير لصالح الإسلام كمشروع حضاري يجب أن يقود الأمة، بل غذت قوى الاستضعاف في مواجهة قوى الاستكبار والطغيان، وأنتجت كل الحركات المجاهدة والمقاومة (سواء في لبنان - فلسطين - أفغانستان - البوسنة - الشيشان، وغيرها) وان شاب هذه الصحوة بعض الشوائب التي تحتاج الى ترشيد وتوجيه، وبخاصة في توجيه قوتها لأعداء الأمة المحتلين لأرضها، وليس أبنائها.

3- حالة المقاومة السياسية والثقافية والفكرية المنتشرة في العالم العربي سواء لمشروع التطبيع للكيان الصهيوني أو للمشروع الغربي الاستعماري الأميركي الداعم للكيان الصهيوني أو للمشروع الغربي، وانتشرت في النخب السياسية والفكرية والثقافية والفنية والإعلامية.

4- رد الفعل الغاضب من الجماهير العربية والإسلامية، والنخب كذلك، على انتهاك المقدسات الإسلامية، وهي غضبة تكررت كلما تعرض الحرم القدسي الشريف لانتهاك الصهاينة، حدث ذلك عند حريق المسجد الأقصى، وعند العدوان على الحرم الإبراهيمي، وعند تدنيس المجرم شارون الحرم القدسي الشريف، الذي فجر انتفاضة الأقصى الحاليّة.

المجتمع المقاوم

هو مجتمع يستحضر أفراده درجة عالية من الإحساس بالاستهداف، ويسعى لمواجهة الاستهداف من خلال مستويات عدة:

أولها: حماية قيم المجتمع بسياج يمنع "الآخر" من تدجينها أو إفراغها من محتواها، وبخاصة في ظل تعاظم قدرة أجهزة الإعلام على التأثير في الناس وتغيير ميولهم (وأحيانا اقتناعاتهم)، وهو تأثير يستمد خطورته في المقام الأول من طابع "التلقين" الذي تتسم به علاقة الإنسان بهذه الأجهزة، وغياب المصادر الأخرى التي يمكن أن تحدث نوعاً من التوازن في رؤية الإنسان. وإذا كانت أجهزة الإعلام هي أكثر خطراً، فإنها في النهاية جزء من منظمة أشمل تعمل متساندة لإعادة صياغة الإنسان.

ثانيها: تفعيل ثقة الإنسان بالله تعالى كطرف أساسي في معادلة الصراع، فكل من يتعدى عليه يصدر في رد فعله عن تقديره لموازين القوى الواقعية، وهذا التقدير الواقعي يمكن أن يجعل الاستسلام أقرب الخيارات إلى نفسه، حيث يلجأ إليه ليحمي وجوده البيولوجي، مسقطاً من الحساب اعتبارات أخرى قيمية هي جزء من تصور للكون تشكل الحياة جزءاً منه. وقد يمنّي نفسه حينئذ بأنها: "خطوة إلى الخلف من أجل عشر  إلى الأمام". أما المقاوم فيأبى إلا أن يقول كما  قال المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يواجه قريشا، دون قوة أو ركن يستند إليه، بعد تأييد الله اذ قال:

سيهزم الجمع ويولون الدبر(2)، وهي بشارة لم يكن ليركن إليها، مؤمنا بأنها متحققة حتما، وهو بمقاييس موازين القوى المادية الطرف الأضعف لولا ثقته بالله تعالى.

ثالثها: الانطلاق من قيمة الثقة بالله سبحانه وتعالى إلى الفعل المقاوم، ولكل معركة سلاحها الملائم تفرضه عوامل متعددة مركبة، كحجم العدو، ونقاط ضعفه، وطبيعة ميدان النزال، والأسلحة المتاحة، وغير ذلك من العوامل، والفعل المقاوم قادر على تحقيق التوازن النفسي للإنسان المقاوم ليواجه من يتعدى عليه بقلب راسخ وقدم ثابتة.

عربي - إسلامي:

هاتان الكلمتان لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، بينهما من الوشائج والصلات ما جعلها أقرب إلى المترافدين اللذين يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر. فالإسلام، كما قال الإمام الشهيد حسن البنا، "عروبة بعد العروبة"، ولا عروبة إلا بالإسلام منظومة قيمية وتراثاً ثقافياً  لكل عربي، مسلما كان أو مسيحيا. وخصوصية العروبة والإسلام تجعل المجتمع المقاوم الذي نستشرف آفاق بنائه مجتمع الشهادة، فالمسلم لا يعرف في جهاده إلا النصر أو الشهادة، أما الفرار من الزحف فهو كبيرة من أكبر الكبائر، فهو لا يغادر ميدان القتال إلا: {متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة}(3)، قد جاء الإسلام دعوة لكل مظلوم ليقاوم ما وسعه الجهد، وهو ما عبّر عنه الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - بعبارة بليغة إذ يقول:

"إن رؤساء الأديان المبعوثين من لدن الله، كانوا ينشدون المساواة الحقه بين البشر، فإذا لم يستطيعوا أن يهبطوا بمنازل السادة، فلن يعجزوا عن الارتفاع بمستوى العبيد: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض}(4) وليس عمل الدين بين الناس أن يصبر المظلوم على ما نزل به من ضيم، فهذه جريمة. بل يقول الإسلام للرجل المغصوب من ماله أو المنكوب في عرضه: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد"· لا تستسلم أبداً، إن الدين في صفك، يضع السلاح في يدك، ويضع الأمل في قلبك، ويضع الإصرار في إرادتك، ويكلفك أن تستميت دون حقك"(5) وبناء مجتمع مقاوم يحتاج إلى شروط موضوعية في مقدمتها "عقيدة مقاومة"، وليس من المبالغة وصف الإسلام بأنه شعلة مقاومة للظلم بأنواعه كافة. وهو يؤسس، بمفاهيمه العقائدية، وشرائعه، وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، حالة من الممانعة النفسية التي تجعل احتمال الخضوع للظلم، أو فتح الأبواب لخيل الأعداء، أو أفكارهم ضرباً من المروق من الدين. والتاريخ في هذا السياق حافز، فكل مسلم يقرأ تاريخه مستشعراً أنه ند للآخر يصبح مؤهلاً للإقدام على فعل المقاومة، بثبات المؤمن، وثقة القادر - بإذن الله - على تحقيق النصر، أو الاستشهاد دونه.

المقاومة كاكتشاف للكون:

في مراحل صعودها التي بدأت منذ حوالي خمسة قرون، حاولت الحضارة الغربية تصنيف البشر إلى نوعين: سوبرمان كل الحقوق، هو إنسان نيتشه، وآخر "دون الإنسان" مستباح، عليه أن يتكيف ويذعن. وبين ثنائية السوبرمان والكائن المتكيف المحروم من إنسانيته، ضاعت فكرة العدالة، التي هي نقطة ارتكاز في رؤية الإسلام للعلاقة بين البشر - كل البشر - فالمسلم مأمور بأن يعدل حتى مع الأعداء:

{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين الله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}(6). وفعل المقاومة يقدم الإنسان صورة مختلفة للإنسان والكون، فكل مفردة حول الإنسان، مهما كانت بساطتها، تتحول إلى سلاح فعال، إذا وقف الإنسان على أرضية المقاومة وانحاز إليها، وقد ضربت الانتفاضة الفلسطينية المجيدة أروع الأمثلة في ذلك: فمثلا كان الأطفال الفلسطينيون يكتشفون للمرة الأولى أن ثمرة البطيخ بألونها الأخضر والأحمر والأسود، هي ألوان العلم الفلسطيني، وأن التلويح بجزء من ثمرة البطيخ يساوي في أثره النفسي على العدو التلويح بالعلم الفلسطيني، فاستخدموها لإعلان رفضهم الاحتلال، والحجر الصغير الذي يألف كل منا رؤيته كثيراً في مدننا وقرانا، تحول إلى قذيفه قادرة على تبديد أمن الجندي المدجج بالتقنية من قدميه إلى رأسه. وكذلك الأمر بالنسبة الى مفردات كثيرة شهدتها تجارب عديدة سابقة في تاريخ الشعوب، وعلى هذا النهج يمكن أن تتغير صورة العالم الذي يبدو ساكناً محايداً، فيتحول إلى ترسانة أسلحة تؤثر فعلياً في موازين القوى وهي أسلحة ليس بإمكان عدو أن يصادرها أو يلغي أثرها مهما بلغت قوته، والمقاومة على هذا النحو تعيد بناء الجسور بين الإنسان وبيئته التي يسعى المعتدي لاقتلاعه منها وتغريبه عنها.

ثقافة المقاومة

الثقافة نتاج مركب من المفاهيم والميول وأنماط السلوك، وثقافة كل مجتمع ينبغي أن تتضمن ما يساعد على المقاومة في آن واحد، حيث يتطلب كل موقف استجابة معينة، غير أن حالة الاستهداف التي تواجهها الأمة منذ قرون مضت، وهي الحالة التي ازدادت حدّة خلال العقود الخمسة الماضية فرضت الاهتمام بمفهوم ثقافة المقاومة. وإزاء التهديد تختلف ردود الأفعال من أمة لأخرى كما تختلف في تاريخ الأمة الواحدة من مرحلة لأخرى. لكن ما أهم ملامح ثقافة المقاومة؟

أهم ملامح ثقافة المقاومة الحفاظ على الثوابت (الفكرية والوطنية على السواء)، فهذه الثوابت تعبير عن اقتناعات ينبغي أن تظل ثابتة في حالتي النصر والهزيمة، فقبول الهزيمة أخطر كثيرا من التعرض لمحنتها، وإحلال مفهوم النزاع محل الصراع يعني العدول عن المقاومة إلى التكيف، وليس ثمة سبيل لجمع أمة على ثوابت، أيّ ثوابت، إلا باستحضار أكبر قدر من الروح الجماعية، فشيوع الروح الفردية في المجتمعات بما تعنيه من نزوع استهلاكي وأنانية تقضي على إحساس الإنسان بوجود مشتركات تنبغي التضحية من أجلها، إذ يصبح العالم كله موضوعاً للتفاوض يمكن التنازل عن أي شيء فيه إذا كان المقابل يبدو مجزياً.

وحتى تتجذر ثقافة المقاومة، وتنجح في إزاحة ثقافة الاستسلام، ينبغي أن تتسم بقدر كبير من الواقعية، وإن كان ذكر الكلمة أصبح يقتضي الوقوف عندها بعد أن لوثها الاستخدام البراجماتي. فكل واقع مهما بلغت سطوته يحمل في داخله عوامل تغييره. والمؤمن القوي ذو البصيرة النافذة هو الذي يستطيع أن يدرك هذه العوامل وكيفية استغلالها، بالطريقة التي تجعل منها منطلقاً للتغيير إلى واقع آخر، يرتبط بالمثل الإيمانية المنشودة، واستيعاب إمكانية التغيير يحتاج وعياً قوياً يستطيع به صاحبه التفرقة بين عوامل التغيير وبين أماني السراب والأوهام (7)، وهذا الوعي لا تصنعه إلا ثقافة المقاومة. وفعل المقاومة يفجر طاقات في الفرد والمجتمع فتعبر عن نفسها أدباً وفناً وفكراً مغايراً. وهذا الإبداع المغاير يساعد على إعادة صياغة الإنسان، وصورة المجتمع المقاوم. ولا يفوتنا في هذا السياق أن ننوه بأمرين:

أولهما: إن الرسول صلى الله عليه وسلم في جهاده كان يولي عناية شديدة للحالة المعنوية للصحابة رضوان الله عليهم وهم من هم: ثباتاً وإيماناً وفضلا، كما كان يحرص على تشجيع الشعراء، وبخاصة حسان بن ثابت على رمي الأعداء بشِعره كما يرميهم المحاربون بنبالهم، وفي إشارة واضحة إلى أهمية الثقافة المجاهدة كجزء من فعل الجهاد.

ثانيهما: إن درس الصراع العربي - الصهيوني يعلمنا أن سبيل الاستسلام لا تمهده جماهير الأمة، فهم دائما يأملون في نصر الله. ورغم أن هذه الجماهير كانت دائما تحمل العبء الأكبر في كل جولة من جولات الصراع، فإن تمهيد الاستسلام تكفّل به مثقفون دعوا إلى الواقعية والتكيف، وغيرها من مفردات ثقافة الاستسلام، بحيث أصبح الهدف غامضاً، وأصبح بالإمكان المساومة على الثوابت. لذا، فإن ثقافة المقاومة - بمعناها الواسع - ضرورة لنشأة المجتمع المقاوم. وكلما كانت هذه الثقافة ذات جذور عقائدية، وكلما كانت قادرة على التواصل مع العالم المحيط تواصلاً إيجابياً، كانت أكثر تأثيراً في الفرد والجماعة على السواء.

الخلاصة:

إن آفاق بناء مجتمع عربي إسلامي مقاوم تتطلب ما يلي:

1- زيادة الارتباط بالله والثقة فيه، وزيادة جرعة الإيمان في كل تكوينات المجتمع، وهذا دور وسائل الإعلام ومراكز الوعظ والمساجد والهيئات التعليمية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية ... الخ.

2- دعم الأسرة كمكون اجتماعي قوي ولبنة أولى في بناء المجتمع المقاوم، تلك الأسرة المتراحمة المتماسكة المتكافلة التي تتمثل فيها كل مقومات المجتمع المقاوم.

3- التحصين بالقيم الإسلامية والوازع الأخلاقي في مواجهة صور التحلل المنشورة في الفضائيات وشبكة المعلومات الدولية (internet) وتقدم البدائل في كل هذه الوسائل.

4-  تنمية الاقتصاد الوطني والعربي والاسلامي وتكامله وبناؤه على أساس الاعتماد على الذات، وعلى الموارد المحلية والوطنية والعربية والإسلامية، كداعم أساسي لكل أشكال المقاومة.

5- تطوير البحث العلمي في كل الاتجاهات بهدف تضييق الفجوة التقنية بيننا وبين الأمم المتقدمة.

6- إشراك الجماهير في اتخاذ القرار وفي  انتخاب من يمثلهم، ومحاسبتهم وعزلهم عند الضرورة، كقوة أساسية لبناء مجتمع يقاوم الظلم والفساد والمحسوبية والعدوان بكل أشكاله.

7- استمرار تربية النشأ والأطفال والرجال والنساء على حب الله ورسوله والجنة والاستشهاد، لأن الأمة التي تترك الجهاد يُسلَط عليها الذل والاستعباد.

وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هوامش

(1) - النموذج الانتفاضي: السمات والآفاق - تقديم: د. محجوب عمر، تأليف عبد المجيد إبراهيم - دار البيادر - مصر - ط1 - 1990 - ص 44.

(2) -  سورة القمر - آية 45

(3) -  سورة الأنفال - آية 16

(4) -  سورة القصص - آية 5

(5) -  من مقدمة الطبعة الثانية من كتاب "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" للشيخ: محمد الغزالي- نقلا عن: مقدمات الغزالي أو مفاتيح الدعوة - فكرة وإعداد د.طه إبراهيم شعبان - دار الأنصار - مصر – د. ت.  ص 57 – 8.

(6) -  سورة المائدة - آية 8.

(7) - كن قوياً بالإيمان: منهج إسلامي في بناء الشخصية القوية - محمد إبراهيم  مبروك - دار التوزيع والنشر الإسلامية - مصر - ط1 - 1993، ص 261، 262.

source