الإمام الصدر وتأسيس المقاومة

calendar icon 23 تشرين الثاني 2000 الكاتب:عاطف عون

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الأولى)


بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين،

الأخ صاحب المعالي رئيس الجلسة،

أيها الإخوة والأخوات،

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.

وبعد أن استمعنا طيلة هذا اليوم إلى جهابذة الفكر، ما عساي وأنا الفقير الذي أُلملم كلماتي، ان يكون لها صدى وقد تعبتم، لذا أدعو الله: {اللهم اشرح لي صدري واحلل عقدة من لساني يفقهوا  قولي} [طه، الآية 25] .

فلدى التعليق والمداخله على بحث من سبقني في هذا العنوان: الإمام موسى الصدر وتأسيس المقاومة الأخ سيادة النائب الحاج محمد فنيش، وهو إنسان نهج المقاومة وأحد غرسات الإمام الصدر في مشتل العزة والكرامة، لا يسعني إلا أن أنّوه بموضوعية البحث ومطابقة الشواهد مع مجريات الأحداث التي أثّر فيها فكر الإمام الصدر وساعد في نضوج ثمارها. وتأتي مداخلتي هذه إذن "كمن ينقل التمر إلى هجر، "لذلك يكون كلامي عطفاً على ما جاء، أو إضافة عطر من خابية الإمام الصدر نفسها، أو انعكاس بعض النور من تلك الكوَّة.

وأمام فرادة صنف الإمام موسى الصدر كانت هذه المقارنة الآتية:

أيام تعود

في السنين الصعبة للدعوة الإسلامية على يدي المصطفى (ص) كان هناك دروس تعلم، ويتعلم منها الناس ويتذكر البشر هجرة النبي الأمي اليتيم صاحب رأس مال الأمانة والصدق يواجه به دولتي كسرى وقيصر بالاضافة لأمية الأعراب وأوضاعهم آنذاك.

وحين لحق به أهل مكة ومشركوها يهاجمونه في المدينة كان الاستعداد بحفر الخندق حول المدينة لعله يحمي المسلمين الأوائل من اندفاع خيول المشركين المكيين، في تلك اللحظات المرة من الدفاع عن الاسلام والمسلمين، وحين ضرب أول معول في حفر الخندق وتطاير الشرر من احتكاك حديد المعول بالحجر، كانت كلمة رسول الله إلى الأصحاب: "كأني أرى عروش كسرى وقيصر تتحطَّم". لقد استخفّ البعض من الأصحاب من تلك الكلمة وصدقها البعض الآخر، ولكنها أثمرت ضمن عبادة الجهد والصبر والمصابرة، انتصار الاسلام والمسلمين على كسرى وقيصر وعلى قلاع خيبر فيما بعد، بل وفتحت مكة وتلاشى جلادوها وجلاوزتها أمام إعطاء الأمان من رسول الله الفاتح الذي كان بالأمس وأصحابه طريداً معذباً ومهدور الدم.

رجل يسعى

وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى اسمه موسى الصدر، قال أيضاً: يا قومي اتبعوا المرسلين، وترجمها ثوابت سياسية وفكرية وعسكرية جهادية انبلج منها فجر وأذان، وخاض الناس مع الإمام الصدر مخاض التغيير. وكان لا بد أولاً من الانتصار على الأوهام الذاتية لجماعة موسى الصدر الأقربين الشيعة المقسمين داخل الوطن لبنان والمتهمين بالتبعية لشاه إيران في الخارج. وكان الرد الطبيعي للساعي الإمام تعريفاً للتشيع على "أنه حركة لا مؤسسة ورفض للحاكم الظالم المنحرف ولو كان شيعياً".

تلك المقولة روت عطاشى كربلاء فأشرقت شمس الآمال من ثاقب فكر الإمام الصدر يعيد للناس ثقتهم بربهم ودينهم ووطنهم وأنفسهم ولغتهم وقدراتهم ووحدتهم وعروبتهم ومقاومتهم.

وكان لا بد من رعاية البذرة حتى لا تموت في مناخ وبيئة هو لها بالأصل ولكن يمكن أن تحرم من العيش فيه لأسباب ردات الفعل والشنآن المفتعل· تلك بذرة المقاومة التي كان على الإمام الصدر أن يجعلها مشروعاً تربويا ً قبل أن تكون بندقية وعبوة لدى المجاهدين، ومن ورائهم وطن يفتخر ويتبنى المقاومة. ولذلك أصبح الإمام موسى الصدر أستاذ المقاومة وباعث سنتها "من سَنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سَنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".

فالمقاومة في نظر الإمام فطرة كونية تنشأ في كل المخلوقات الحية للدفاع عن ذاتها لأن العدو لا يرحم، ولأن ردع العدو يؤمّن التوازن بين الحفاظ على الحقوق وغرائز الطمع.

الملهَمْ الملْهِم وحال الوطن لبنان آنذاك ، شعارٌ يمزق الحجم

"لا أحد يستطيع أن يُحدِّد لي دوري، دوري محدد من الله"(من أقوال الإمام الصدر)

إن السنن العظيمة تستمر وتعيش بحسب جدارتها في اختيار الأناسين لها نهجاً فتفرض ذاتها على غيرها طريقاً للخلاص، بينما السنن السيئة تهبط بالآخذين بها. فلا تنحصر التربية بالأطفال والصغار، بل إن الشعوب والمجتمعات يمكن أن يكون لها تربيتها بتراكمات المآثر والقيم أو الانحطاط والتخلف.

من هذا المنطلق كان على الداعية الإمام أن يَبُث عزيمة المقاومة في عضد اللبنانيين والعرب في وجه إسرائيل الباغية المحتلة الغاصبة المهددة للكيان. "إن إسرائيل بوجودها وبما لها من أهداف تشكل خطراً علينا محدقاً على جنوبنا وشمالنا، على أرضنا وشعبنا، على قيمنا وحضارتنا، على اقتصادنا وسياستنا. إنها تشكل الخطر الآن وفي المستقبل وفي المنطقة وفي أبعاد لبنان التاريخية والجغرافية والبشرية· هذه المبادىء لا تحتاج إلى إثبات إلا لمن يجهل حقيقة إسرائيل أو يتجاهلها" (من مؤتمر صحفي 19-11-1969).

من هنا كانت ثوابت الإمام الصدر هي البوصلة التي يتوجه إليها الأحرار في الوطن وفي المنطقة، وإن اختلف البعض مع الإمام في طروحاته، فإنه سرعان ما يعود لذات الطرح، لأن ثوابت الإمام السياسية والفكرية هي بمثابة بديهيات وحقائق لا تقوم بدونها الأوطان.

فالعيش المشترك مثلاً، ووحدة لبنان وعروبته، والعدالة والمساواة، والعلاقة المميزة مع سوريا، ومقاومة إسرائيل ونصرة الجنوب، كانت هموماً يجب إزالة أدران الطائفية من أمامها ليرى الجميع بعيون ليس فيها رماد.

فالعيش المشترك أيها الإخوة بالنسبة للبنان وقدسية الإيمان به يجعل وحدة لبنان في وجه أعدائه حقيقة ساطعة، بل ومصدر قوة ومناعة حتى يبدو شعار العيش المشترك برهاناً لنجاة السفينة الوطنية. التي، كما يشير الحديث الشريف، إن حُرق ظهرها أو خرقت بطنها فالجميع إلى الغرق. وما هيئة نصرة الجنوب وتجنيد القادة الروحيين من كل الطوائف فيها إلا ثمرة هذه القناعة.

ولم يكن مطلب إزالة الحرمان والامتيازات والفوارق بين اللبنانيين إلا لتأكيد ثابت الولاء للوطن بدل أن يكون الولاء للطائفة أولاً ثم للدين ثم للوطن، أو ربما يكون للممولين بالمال، وما أكثرهم، خاصة في حالة الحرب اللبنانية، أو ربما يكون للممولين بالمال لزراعة الفتن. فمعلوم أن حقل الحرمان تنبت فيه شتى أنواع الأشواك التي تدمي الوطن.

لذلك لا بد من جعل فطرة المقاومة عند اللبنانيين بوابة خلاص ونقطة ارتكاز وطني واتفاقاً وطنياً مقدمةً لجعل المقاومة تراثاً وطنياً يعيد أمجاد أبطال وشهداء الاستقلال. فالأمم الغنية القوية تواجه أعداءها بتراثها قبل أن تواجه أعداءها بسلاحها. هذه الحكمة تجعل الجميع مسؤولاً عن الدفاع عن الجنوب، وتجعل المدافع عن شتلة التبغ في الجنوب دفاعاً عن التفاحة في جبال لبنان. ومن أقواله: "الجنوب أمانة يجب أن يُحفظ بأمر من الله والوطن".  "ولا نقبل أن يبتسم لبنان ويبقى جنوبه متألماً".

ولا يخفى سر قوة هذا الطرح الوطني الداعم للمقاومة من قبل الدولة في جيشها وقواها جميعها حتى لا تشكل المقاومة، بحكم السلاح الذي يقع بيدها، فراغاً أمنياً، فيعود إلى إعفاء أو عزل للسلطة الوطنية الشرعية عن واجباتها· ومعلوم أن ابتلاء المقاومة بقميص الأمن ليس أقل خطورة عليها وعلى الوطن من قميص يوسف على اخوته وأبيه.

بهذه الثوابت، وذلك النهج، حدد الإمام موسى الصدر مفهوم الوطن ومفهوم أن ينشأ من جسم الوطن مقاومة هي بمثابة الحامل للواجب الكِفائي الوطني والديني· "إن الحاجة إلى الأوطان ليست ترفاً فكرياً أو رغبة في اتساع رقعة المسكن أو اتفاقية مكتوبة تربط بين المناطق المتعددة، بل هي حقيقة التطور والنمو التدريجي في المنافع والأخطار والمصالح والأضرار، وهي أيضاً المشاركة الحقة في الآلام والآمال". (من مؤتمر صحفي 19/11/1969)

وليس الصمود في وجه الاعتداءات الإسرائيلية مجرد شعارات من على المنابر أو قنوات التلفزة والإذاعة ولكن لا بد من رفدها بعوامل الدعم المادي المختلف الأشكال ليتجذر الإنسان الجنوبي خاصة في قريته، ونقلل من عوامل التهجير الى حزام البؤس البيروتي. فمن أقواله "نحن نريد الجنوب صخرة تتحطم عليها أحلام إسرائيل، وتكون نواة تحرير فلسطين، وطليعة المحاربين ضد إسرائيل". (من كلام الإمام الصدر في ذكرى المولد النبوي الشريف صيدا 15-4-1974)

الف قنبلة من كلام لا تساوي قنبلة من حديد

لم يكن الإمام ليتفرج على الخطر الإسرائيلي الصهيوني الذي يهدد الأمة جمعاء في استقلالها واقتصادها وتراثها، ولم يكن الإمام الصدر ليقف مكتوف اليدين نحو الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان براً وبحراً وجواً، ويكفي أن نقول إن قوة لبنان في ضعفه "والحامي الله". فكان لا بد من مواجهة الخطر بالإعداد له والوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية، التي كانت آنذاك الوحيدة عملياً، حيث كانت تلك المقاومة نتيجة نكبة الشعب الفلسطيني بطرده من أرضه منذ سنة 1948و 1967، ودونما رادع لإسرائيل وهي تدير ظهرها لكل المواثيق والقرارات الدولية. ولا يخفى على أحد فهم الامام الصدر لعنصرية الاسرائيلين الذين يزعمون بإله لهم وحدهم، وحقهم المطلق في وراثة بيوت لم يبنوها، وكروم زيتون لم يزرعوها وآبار ماء لم يحفروها. ولذلك يأتي موقف الإمام الصدر الداعم للقضية الفلسطينية ومقاومتها بفهم عميق، ان القضية الفلسطينية لا تعني الشعب الفلسطيني وحده، وهذا ما جاء في ميثاق حركة أمل"وفلسطين الأرض المقدسة، التي تعرضت، ولم تزل، لجميع أنواع الظلم، هي في قلب حركتنا وعقلها، وان السعي لتحريرها أولى واجباتها، وان الوقوف إلى جانب شعبها وصيانة مقاومته والتلاحم معها شرف الحركة وإيمانها. سيّما وأن الصهيونية تشكل الخطر الفعلي والمستقبلي على لبنان وعلى القيم التي نؤمن بها وعلى الإنسانية جمعاء وأنها ترى في لبنان بتعايش الطوائف فيه تحديا ًدائماً لها ومنافساً قويا ًلكيانها". (من ميثاق حركة أمل المحرومين الذي وضعه الإمام موسى الصدر).

مقاومة خطر التوطين بالمقاومة

إن خطر التوطين الذي، إن تم، سيكون على حساب لبنان وغيره من الأقطار العربية، ومن رصيد الحق الوجودي الوطني الفلسطيني على حساب الآخرين، ولا يمكن دفع هذا الخطر إلا بقوة المقاومة التي تعيد الحق إلى أصحابه، وتعيد الشعب الفلسطيني من الشتات  إلى ترابه الوطني.

مقاومة إسرائيل من المنظور الفقهي

"فإسرائيل هي الشر المطلق، والتعامل معها حرام". تلك هي الفتوى الشعار الذي جند النفوس لخوض تجربة التنظيم فينشىء الإمام أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) "ليكون المحرومون في أرضهم سنداً للمحرومين من أرضهم" (من كلام الإمام الصدر).

التدريب النفسي الجسدي

وكانت رحلة كسر الحاجز النفسي بين حركة أمل وقوى إسرائيل وعملائها في الجنوب إلى جانب حماية لبنان من التقسيم. فقبل تغييب الإمام من قبل معمر القذافي، كانت معارك شلعبون والطيبة ومارون الراس ورب ثلاثين. وبرزت وحدة التنظيم الأملي الصدري بتلاحم أبناء البقاع مع إخوانهم في الجنوب لتتحقق أنشودة أولى على مستوى جسم في لبنان: "بقاعي من الجنوب، وجنوبي من البقاع". واستمر النهج الصدري سُنة حسنة دبت في جسم الأمة حماساً وقوة قبل اجتياح 1982، واستمر النهج الصدري سنة حسنة دبت في جسم الأمة حماساً وقوة بعده، حتى برزت مقاومة الإمام موسى الصدر تتصدر مع كل المقاومين الشرفاء شرف المقاومة لترحل إسرائيل من بيروت، ولتصبح كل الطرقات اللبنانية طرقات موت للجنود الإسرائيليين في قبورهم الحديدية، إلى جانب عملاء إسرائيل. ولم تنفع تلك القوة الإسرائلية المادية وتفوّقها المادي على قبضة الإيمان الخالية من أي سلاح إلا سلاح الإيمان بالله والله أكبر.

وهذا ما سَرّع بالانسحاب الإسرائيلي إلى ما سمى بالشريط الحدودي، الذي التقت فيه المدرسة الخمينية إلى جانب المدرسة الصدرية والعقول المتشابهة تنتج انتاجاً  مشابهاً لإنجاز التحرير شبه الكامل في 25 أيار 2000 على أيدي المقاومين الشرفاء، وليصبح هذا اليوم عيداً وطنياً تثبت فيه إرادة المقاومة أنها كفيلة بالتحرير. تلك الإرادة التي موَّنها فكر موسى الصدر "ليسوا أقوى من أمريكا ولسنا أضعف من فيتنام".

"وقاتلوهم بأيديكم وأسنانكم وسلاحكم مهما كان وضيعاً".

تلك السُّنة الصدرية التي مكنت المجاهدين من فتح أبواب الجنة في جهادهم مرتين، مرة في جنان الخلد للشهداء والجرحى والمجاهدين المقاومين على مختلف صعد المقاومة، ومرة في جنان النصر الذي تحقق ليصبح سُنَةً يعانق فيها شمال فلسطين في انتفاضتهِ المباركة جنوب لبنان، ولو اقتضى من الإخوة في فلسطين تقليد الصدريين والخمينيين في لبس القلوب على الدروع بدل لبس الدروع على القلوب، والقبض على الجمر، وإعارة الجماجم لله، واختصار الأعمار فداءً للقدس وللحق الفلسطيني السليب.

العصر الصدري يقاتل العصر الإسرائيلي

كان بعض الاعلام العربي يضخم قوة إسرائيل حتى يخفي ضعفه، كانوا يهولون لقوة الطائرة الإسرائلية، وقتل إسرائيل القيادات في بيروت وتونس، وتحرير الرهائن من"عنتيبي" بالإضافة الى الدبابة الإسرائيلية في حروب عربية. كل ذلك أوقع النفسية العربية في وهم، كأن اليهود لا يألمون كما نألم. فكان مهمازُ وإلهام الإمام الصدر يمثّل صدق صوت الإيمان بالله واستعارة كلمات عليٍ الأكبر "(ع) ما همنا أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا"، ليشكل تحريراً للنفس المؤمنة أولاً بربها وقيمها وحقوقها وبحتمية النصر على عدوها. إن حجر سجيل فلسطين اليوم يهزأ بالقوة الإسرائيلية، وبالموت الذي يخوفون به الشعب لسرقة القدس والكرامات والحقوق والتراب الوطني.

إن تجربة الإمام موسى الصدر، ومدرسة الإمام الصدر، ونهج الإمام الصدر، جعلنا نواجه التغيير في ذواتنا أولاً على قاعدة شرعية إيمانية تطلب النصر من عند الله والذي كتب على نفسه {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد،الآية 7] و{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما  بأنفسهم} [الرعد، الآية 11].

وأمل بنصر الله، وعودة الإمام القائد، والسلام عليكم ورحمة الله.

source