الحوار اختيار توبة

calendar icon 23 تشرين الثاني 2000 الكاتب:يوحنا حداد

يمثله سيادة المطران الياس الهبر

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الافتتاح)


(المطران يوحنا حداد هو القاصد الرسولي حالياً لدى الطائفة الكاثوليكية، وقد تعذرت مشاركة البطريرك مكسيموس الخامس حكيم  لأسباب صحية)

صاحب المعالي ممثل رئيس مجلس النواب،

سعادة المحافظ ممثل دولة رئيس مجلس الوزراء،

حضرة راعية المؤتمر السيدة رباب الصدر شرف الدين،

أصحاب السماحة والمعالي والسعادة والسيادة والمناضلين، إخوتي وأخواتي،

{قُلْ يأهْلَ الكِتب تَعاَلوا إلى كَلِمةٍ سَواءٍ بيْننَا وبَيْنَكم} [ آل عمران،الآية 64]. يطيب لي، إخواني، أن أنطلق من هذه الدعوة القرآنية الجدية إلى الحوار بمفهومه الشامل لأقف معكم اليوم على أبرز النواحي التي تؤسس له إذا ما ارتبط الأمر بالديانتين السماويتين المسيحية والإسلامية، من غير أن نغض الطرف لحظة عن تَجَذُّرِ هذه المسيرة التوافقية في الوطن الذي إليه تنتمي، لبنان.

الحوار، يا إخوة، وفق المدلولات الكلامية التي تشتمل عليها اللفظة، هو نوع من الأخذ والرد المنزه عن التشنج أو التجريح. وبيننا، هو جدال {بالتي هي أحسن} [النحل، الآية 125]، مع ما يتضمنه هذا الأسلوب من عرض سمح لموقف المتحاورين. ومقاصد القرآن في التفضيل بيّنة، ترمي إلى كون الحوار حديث مودة لا حديث بغضاء وتكفير، أو ضرباً من ضروب التبشير القهري، إذ نعلم أن {لا إكراه في الدين} [البقرة، الآية 256] ليس من حصيف عقل ينكر ما للكلام الآدمي من أهمية، على صعيد الحوار بين الديانتين، لا غنى عنها البتة. ومن هنا كان اللون الأول من الحوار، وهو الحوار الكلامي أو العقائدي. نحن نجاهر أن " في البدء كان الكلمة... فيه كانت الحياة والحياة هذه كانت نور الناس .." [يوحنا:1و4] ويثبت في الإسلام كما في المسيحية أمر كون الإنسان الأول قد خلق بكلام الله، وأن الكلام الذي ينطق به المرء ما هو إلا هبة من العلي الذي {... علم آدم الآسماء كلها} [البقرة،الآية 31].

في التراث الديني الذي للشعوب كافة ينظر إلى الكلام كما إلى ملكة تتأصل في صميم جوهر الإنسان من جهة، كونه مخلوقاً مدعواً إلى التكامل عبر نوعين أساسين من التواصل: الاتصال بالله من ناحية (وهذه هي الصلاة في كنهها)، واتصال الله بنا من الناحية الأخرى (وهذا هو الوحي باختلاف أشكاله). وأساس القول ثابتة أن الله في ذاته يبقى متعذر الإدراك، والمعرفة نسبية في أزمنة التوتر والانتظار هذه. الآدميون لا يعرفون الله إلا في واقع تجليّه عبر الكلام البشري. أنا أعرف أنظومات فلسفية شتى، بنيت بأسرها على مقولة التواصل بين الأشخاص والجماعات عبر اللغة والتعابير الكلامية وإشكاليات شرحها وتفسيرها وتأويلها. وما النبي أو الحكيم أو القديس إلا من وضع لبني قومه معلماً ومفسراً ومرشداً ووسيطاً لنقل الإرادة الإلهية إلى إخوته بواسطة الكلمة الحسنة بعد أن كان يجسدها في نفسه مع كل ما تحمل من أهداف سامية. ونحن - المسيحيون- يكثر الحديث في قاموسنا عن هذه "الكلمة الحسنة" التي تشق حيّز الأصل اليوناني لها "إفلوفيا" لتصبح في مماراساتنا الطقسية فعلاً وحركةَ بركةٍ تشمل، من بين ما تشمل، الإنسان وانجازاته وحركاته وسيرته بكاملها.

الحوار في رأيي له مثل هذه الكلمات الحسنة ينطق بها مناصروه. إنه يقودنا رويداً رويداً إلى صوت "النبي الباطن" الذي فينا. الحوار الأسمى هو حوار الضمائر. ونلقى خلال قراءتنا لسير تطور الوعي الديني عند الشعوب، أن في معظم الأجواء الصوفية لا بد أن تتم قفزة نوعية من التحلق حول الكلمة لسماعها إلى التماس المشابهة في تأملها. وتحضرني هنا المقولة المسيحية الكثيفة الإيحاء "إذا كان الكلام هو لغة هذا الدهر، فالصمت لغة الدهر الآتي"، حيث استشعر استبدالا للسان بالعين وللحديث بالرؤيا. الحوار بصورته غير المشوبة يتطلب درجة مماثلة من التجرد والصفاء لأنه، واسمحوا لي أن أتكلم مسيحياً، من المقدسات. إلا أن مثل هذا النوع من التعبير اقتصر على قلة من العارفين الذين كشف لهم سر المحبة العميق فصاروا إلى لغة القلب، وما أصعبها. أما نحن فسبيلنا إلى حوار البشر، وهو فيه من الصعاب، أيضاً، ما فيه.

لقد عشنا، والحق يقال، أجيالاً من الخوف والشك وعقدة الاضطهاد وهاجس الأقلّوية جعلت محاولات التقارب، هنا وثبة خجولة ما لم نقل مخفقة. الأمر عائد بلا ريب إلى إرث الألم التاريخي الذي يختزنه كل "محاور"، وأظن أن لكل جهة كربلاءها ولكل فريق من الحوافز والانقباضات ما يكفيه. بيد أناّ رفعنا راية الحوار وأردنا أن نتلاقى. وما هذه القفزات في التخاطب التي نشهدها في أيامنا إلا دليل صارخ على أن اطلاع أحدنا على الآخر بات أكثر شمولاً وأعظم عمقاً من الماضي، وأقرب إلى النزعة العملية المشتركة منه إلى المناظرات القديمة الجوفاء، والتحديات الرمادية البلهاء. ولعل الأمر عائد إلى هذا الهدوء الذي بلغته النفوس في توقها إلى الوحدة، من بعد ما ذاقت من شدة التنافر ورهبة العزلة. ففي الحقيقة يزين لي أن الذاكرة السيئة تشفيها ذاكرة الصالحات، والحاجة اليوم هي إلى مخاطبة متحررة من التاريخ، فيها الكثير من غفرانه. إن الكلمة الطيبة في الأرض العربية اليوم هي أملنا الأكبر في التواصل، وأفضل جسر يمكن أن يؤدي بنا إلى لقاء الآخر في عالمه الخاص.

أجل، نتطلع اليوم إلى الحوار الإسلامي - المسيحي وقد أضحى على مشارف من الفهم والقبول، ما كان بالإمكان تصوّر التوصل إليها في القديم، أو بلوغ ما آلت إليه الجهود والمحاولات. لقد بتنا على مسافة من الذاكرة التاريخية القائمة على تخطئة الآخر فقط لكونه لا يؤمن بما أومن، أو لا يصلي كما  أنا أصلي. هذا مع العلم بأنه قد تتعثر الخطى من حقبة الى حقبة في هياج النزعات الانكفائية، في هذا البلد او ذاك. إلا أن المجاورة الزمانية والمكانية تحمل في المقابل فرصة حقيقية تميط اللثام عن الواقع الجميل الذي للصعوبة. وبهذا المعنى لا يني الحوار ينتظر إسهاماً فريداً من أولئك المسيحيين الذين تعايشوا في دار الإسلام، ومن المسلمين الذين نشأوا على التوجه المسيحي الأصيل، على الرغم من أن نشأة كهذه أو تعايشاً كهذا ما خلا يوماً من احتكاك وما خلا من تصادم نفوذ، ولكنه في الوقت نفسه آلف بين الفريقين فتفاعلا. أنا، في السنة الخمسين لخدمتي الكهنوتية التي قضيت معظمها في مناطق يتعايش فيها الفريقان، وفي السنة الثالثة عشرة على انتخابي متروبوليتا في أبرشية صور، مدينة الحوار والأخوّة، لا أعرف مسيحياً ما دخل الإسلام خطابه اليومي، أو لا يحنّ في دار غربته إلى التوقيع الإسلامي للزمن وقد اعتاد عليه منذ نعومة أظفاره في الرقعة الضيقة نسبياً التي جعلنا الله فيها لنتوادّ ولنتحابّ.

عمليا، ما الذي تقوم به الكنيسة لتفعيل الحوار الإسلامي - المسيحي وتوطيده؟ على الصعيد العالمي للكنيسة الكاثوليكية، غني عن التبيان ما كان للمجمع الفاتيكاني الثاني من فضل في تصحيح النظرة إلى باقي الأديان والطوائف، إذ أجمع الآباء على مبدأ شمولية الخلاص من منطلق أن لا أحد يمتلك الحقيقة امتلاكا، لأن الحقيقة، بصفتها حقيقة، هي التي تمتلكنا. هذه المبادئ وغيرها تسهر على تطبيقها في مسيرة الحوار بين المسيحية الكاثوليكية وباقي الديانات "أمانة السر لغير المسيحيين" (التي أصبحت تدعى منذ العام 1988" المجلس البابوي للحوار بين الأديان") و"المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية". وكلتا المؤسستين تتخذان من الفاتيكان حالياً مقراً رئيساً لها، ومن السفارات والبعثات البابوية الواسعة الانتشار وسيلة للمتابعة. هذا فضلاً عن جهود "مجلس الكنائس العالمي" الراعي والمنظم للعديد من المؤتمرات واللقاءات الداعية إلى التفاهم والحوار. أما على الصعيد المحلي، فلدينا "مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك" المؤسس في العام 1991، الذي يولي موضوع الحوار الإسلامي - المسيحي جل اهتمامه من خلال الدعم الكبير والتشجيع المستمر لجميع المساعي، عبر العدد الوافر من الرسائل المتعلقة بهذا الشأن. هذا المجلس عينه أنشأ في السنة الخامسة لتأسيسه "مركز الأبحاث في الحوار المسيحي - الإسلامي" التابع لجمعية المرسلين البولسيين، ومركزه في حريصا، وله الكثير من المساعي التي تلامس حد الانجازات المأثورة. وهناك العديد من المعاهد التربوية التي تتعهد الموضوع بكل جدية ومسؤولية مثل "معهد الدراسات الإسلامية المسيحية" التابع لجامعة القديس يوسف ببيروت، وغيره، فضلاً عن إيلائنا موضوع الاطلاع الثقافي على الديانة الإسلامية حيزاً كبيراً من الاهتمام في التنشئة اللاهوتية لطالبي شرف الرتبة الكهنوتية في جامعاتنا، هنا كما في الخارج. وأنا آتي على ذكر هذه المرافق الروحية لجماعتي الكنسية، التي ألمس في سياق أعمالها نهجاً حوارياً أستعرضه معكم من باب الاطلاع والمشاركة لا من باب المزايدة أو الادعاء. إن حوار كنيستي يمتاز في أنه غير مرتهن للقوة، وفي أنها أسهمت إسهاماً فريداً كبيراً في نهضة الشعوب العربية معتبرة الإسلام جزءاً من تراثها القومي، غير مكتفية بتذوق حضارته، بل شاعرة أنها منها فعلا. إن انخراط المسيحيين في القضية العربية، بالصدق والزخم اللذين عرفنا، عاد بالخير على العرب جميعاً.

هذا النوع من الانتماء المتبادل اتفق على تسميته، في لبنان وانحاء شتى، عيشاً مشتركاً. وفي حديثنا عن العيش المشترك نشير إلى هذه الحالة الاجتماعية من الوحدة القائمة أو التي هي في طريق القيام أو في وجوبه. على أن هذا المشروع المشترك لا يعدو كونه تطلعاً جماعياً إلى مستقبل ائتلافي، كما ذكرنا، يجمع الطرفين بالشركة لا بالوحدة وذلك لاختلاف التحديات والمقاربات لدى كل منهما. والرؤية الخاصة أو الفلسفة الخاصة لائتلاف كهذا تكون بالوضعية النقدية التي إذا ما تبناها الفرقاء، تشكل منبعثاً لمسيرة من الفهم، ومن التواضع للفهم، الذي يسمح بالتعامل على أساس تخطي الصورة التي عندنا عن الآخرين إلى أن نلتقي بهم مثل أشخاص حقيقيين مغروسين في المحيط عينه، ولهم الحق في وفرة الحياة مثلنا تماماً. وتأتي آنئذٍ المكونات الحضارية كتجانس الثقافة والعرق واللغة والعادات مثل داعم لهذه النظرة الخاصة وتجسيد لها موضوعي. ولا أظن أن في لبنان الذي استسغناه في الدستور وطناً نهائياً لنا وكياناً موحَّداً وموحِّداً لجميع أبنائه، والذي كرسنا مبدأ عروبته في الطائف أي عروبتنا، ما يشكل إشكالية قومية بين المسلمين والمسيحيين أو حتى ما يشبه الإشكالية. وإنما الشرخ الاجتماعي أرهب كثيراً، مما ألبس قناع الطائفية وهو منها براء.

ولعل أبرز ما يطالعنا في الحديث عن التعايش الإسلامي - المسيحي في هذه الجهة من المتوسط التي تسمى "لبنان" هو الشعور بالوحدة الوطنية التي تؤسس عند المسلمين كما عند المسيحيين حس الانتماء إلى هذا الوطن الذي يقدس الحريات العامة وعلى رأسها الحرية الدينية (لكونه من البلدان المساهمة في صياغة الشرعة العالمية لحقوق الإنسان المعلنة من قبل هيئة الأمم المتحدة في 10/12/1948). كان المغفور له الأستاذ المفكر شارل مالك يقول: "إني أرى التواجد الإسلامي المسيحي في لبنان من أهم الأدوار العالمية التي يمكن أن يلعبها هذا البلد، وهو دور لم يلعبه غيره في التاريخ ولا يلعبه غيره الآن" (المسرة 58/1972عدد 579 ص715 و716). ما لا يجب أن نتحاور فيه أو عليه هو كون هذا البلد أرض المواطنية لنا جميعاً. إن أرض المواطنية هي أرض الطمأنينة إذ لا يبقى أحد فيها في حمى أحد لشعوره بأن كل حماية هي، حتى المعنوية منها أو السيكولوجية، ممكن أن تكون منّة من المخلوق. وعلى كل حال، لا إخالني واقعا على نقيض ما يثبت أن الحوار، بحكم التجربة، يقوم بالأساس على مبدأ الثبات في الحركة التصاعدية الثنائية التي تتخذ من المجتمع المشترك أرضاً واسعة لها ولا تجعله غنيمة يقترع عليها ويقارع. التربية على المقاومة هي في الأصل، أيها الإخوة، تربية على الحوار وعلى احترام التعددية الدينية والسياسية. إنها التربية المدنية التي حررتها الآمال والسواعد من أَسر التنشئة المذهبية والعصبية. المجتمع المقاوم هو المجتمع الذي تساوت عند أبنائه الكرامة بالوطنية، وارتبط في أذهانهم وقلوبهم الاستقلال بالحرية. لذا، اعتبر في كل صقع وفي كل مشرب، المقاومون أبطالاً لأنهم آلوا على أنفسهم إلا الشهادة بالدم ذوداً عن إخوتهم في المواطنية وإيماناً منهم بسيادة الأوطان التي تصونها رجالاتها.

وهنا يُفتح المجال لنا لنتبين ليس على قليل من الوضوح والشفافية مدى العلاقة بين الحوار الإسلامي - المسيحي على المستوى العقائدي وبين التعايش الإسلامي المسيحي، وهما في نظري مختلفان اختلافا ملحوظاً. فليس الأول أساساً للثاني أو ضمانة فكرية له. وما الثاني بمحصلة عن الأول أو بتطبيق نهائي له. علينا أن نعترف بأنهما نوعان من الحوار بمعناه الواسع متباينان، وأن الثاني سبق الأول إن في التاريخ أو الفعالية· فمن اللغط بمكان أن ينظر اليوم إلى الحوار الإسلامي - المسيحي الكلامي وإلى ضرورته كشرط للوحدة الوطنية أو للتوافق السياسي في لبنان، كما يرى البعض. إن سر البقاء للمجتمع التعددي الذي نؤلف، هو السلم الأهلي القائم على أنه خير بحد ذاته، والذي لا يشترط فيه تقارب في العقيدة· أجل نحن نجتمع عقائدياً على الكثير من النقاط ومشاريع العمل (كوحدانية الله ومفهوم النبوة) ونتجند لنحافظ على سلامة البيئة، ونقضي على التفرقة العنصرية، رافضين الظلم والقهر والاضطهاد، محاربين الإلحاد والانحلال الخلقي وتفكك الأسرة وانحراف الأحداث، مقدسين مبدأ الحق والعدل والرحمة وكرامة الإنسان، ومجبولين على شغف مقاومة الاحتلال ومجابهة الشر الذي ينبسط في عالمنا ويحدق بمجتمعنا. غير أن ما يجمع بين المسلمين والمسيحيين على مستوى العقيدة ينبغي أن لا يؤخذ مثل ضامن للوحدة الأهلية. فالقربى العقائدية من شأنها أن تباعد أكثر من التباين في المعتقد. والحوار العقائدي قائم بحد ذاته ولا يحتاج إلا إلى استراتيجية كشف وإعلان للقواسم المشتركة، وهذا الجهد، ما لم يسخر في سبيل مزيد من المعرفة المتبادلة والاحترام المتبادل والمحبة المتبادلة بغية توجيه المشروع الأخلاقي الذي يخدم بدوره، كما يرى اللاهوتي الألماني هانس كونغ Hans Kung، مشروع السلام العالمي، أي إنه إذا لم يتحول الوطن بأسره ساحة حوار، يبقى الأخير رهن الشعارات العقيمة وجلسات التملق والزيف والمجاملة.

دافعنا في لبنان إلى العيش المشترك هو حرية صرفه ورغبة مشتركة آلت على نفسها توثيق عرى المودة والألفة والثقة، لدرء خطر بعضه من تشرذم مصالح داخلية، وغيره من سياسات تهضم فيها حقوق الشعوب دونما رقيب. ليست التعددية الدينية بالنسبة إليّ سنة من سنن الله في خلقه لا تبديل لها ولا تحويل فحسب، بل هي تتخطى حدودنا الضيقة لتتفجر سيلاً جارفاً يحمل من أشكال الحياة وأنماطها منازل كثيرة هيأها الخالق لسكنى أحبائه، رحمة منه دونما استحقاق منا. ونحن معشر المسيحيين إذ نرى في الديانات جميعها قبساً من نور الحقيقة الإلهية، نلتقي مع كل من مر في المسكونة يصنع خيراً، يشيع سلاماً ويكشف عن سر الله الذي لا يسبر غوره.

إن أخوة المسيحي للمسلم إن لم تُبنَ على الإيمان الواحد فهي، إلى جانب كونها وطنية وقومية وفي الأصل إنسانية، ترتكز على كوننا قبل كل شيء وبدون مفاضلة أو تمييز "عيال الله"، على ما ورد في الحديث الشريف، ندين له ونعبده، كل بمقتضى إيمانه. هذا الانفتاح الأحادي على الخالق لا يلبث أن ينعكس على نوعية علاقاتنا مع الآخر، أياً كان، نظرة وثابة لا تحسرها مرآة نرجسيتنا العمياء. وبالتالي، يضحي اقترابنا الواحد من الآخر تجلياً لمعرفة شادتها الحقيقة لا التشويه، وزينتها المحبة لا محاباة الوجوه. وفي الواقع ما الحقيقة والمحبة في العلاقات سوى صنوين لا يفترقان، يقوداننا لنستقبل بدهشة المعجب ما بيننا من مشترك، وما أكثره، لنجنيه كرحيق ثمين أنتجه الله في فقر بشريتنا الواهية ولنرفع عالياً أيضاً ما بيننا من مختلف كأريج متنوع الرائحة يضوع هوياتنا الفريدة. آنذاك، وباستعداد مثيل، نستطيع أن نتفاهم حول ما اتفقنا فيه وأن يعذر بعضنا بعضاً  في ما اختلفنا عليه.

أيها الإخوة،

إن كل كلام عن الحوار هو في الواقع حوار. الحوارُ الحوارُ هو نوع من الاتصال والتبادل الوجودي بين فريقين على قدر كاف من المسؤولية والوعي. لذا فهو حقاً مغامرة. وهذه المغامرة تتبنى منطق الجمع والتوفيق من غير تنازل أو مصانعة. أن أكون محاوراً من الدرجة الأولى يعني أن أكون إنساناً رسولياً يؤمن أن الآخر هو بالنسبة إليه وإلى الجماعة التي إليها ينتمي موضوع حب وشريك خيرات الله. الحوار الفكري يعني الدخول بلباقة إلى أنظومة الآخر العقائدية مع قابلية تفسير ومحاولة فهم هذا الإيمان المغاير، وربطه بطريقة التعبير عنه. وهذا الدخول  إلى أنظومة الآخر العقائدية لا ينطوي على إمكانية تحطيمها أو حتى تشويهها، لأن القرار المنهجي كان الحوار. والمستشرق الأوروبي داعية الحوار الكبير لويس ماسينيون Louis Massignon ينطلق في العام 1908 من الضيافة الإبراهيمية ليبرز هذه الفضيلة الأدبية في الحوار بين الاديان. بتعبيره يفترض على كل ديانة أن لا تقتنص الأخرى أو تذيبها، بل عليها أن تستقبلها عندها، أن تجعل لها مكاناً في صلب دعوتها اليومية، وهذه الضيافة إنما تعزز وتطبق بالحوار.

نقلاً عن الفيلسوف اليوناني المعاصر نيكوس كزانتزاكي، في رائعته "فرنسيس الأسيزي: الفقير إلى الله"، يستعرض صديقٌ للقديس مشاهد رسمتها في خلجاته يد الخالق فيستذكر بالرمز والمقاربة مواعد لقاءاته به على هذه الأرض فيورد: "مرة أخرى، في الشتاء المنصرم وعلى مرتفع شاهق، صادفت على بساط الثلج الأبيض آثاراً لأقدام مرت من هناك. وفيما عبر بي راعٍ بادرته: "تعالَ وانظر، إنها آثار أقدام الله!" وطفق الراعي يسخر بي ويقول: "ما أفلحت يا صاح، ما أفلحت! هذه آثار أقدام ذئب مر من هنا منذ قليل". ويعقب الصديق ويقول: "لم يكن باستطاعتي محاججته. فماذا أقول لراع مشبع بصور الخراف والذئاب؟". أجل إخوتي، نحن في زمن تشابهت عند المساكين فيه آثار الله مع آثار الذئاب. إني، من على هذا المنبر، أتطلع إلى الدور الألمعي الذي للأديان على مشارف الألفية الثالثة، وهذا الدور عينه يبرز ما للحوار بين الأديان من رسالة توحيد الرؤى ورص الصفوف، ليس من منطلق الدفاع عن الحقيقة أو حمايتها، إذ إن الحقيقة هي من تدافع عن نفسها وهي التي تحمي طالبيها بخلوص نية وعزم ووداعة. إن رهان المتحاورين في هذه الأوقات يتلخص بكيفية تبليغ رسالة الله في بيئة يشوبها الكلام الملتوي ويسوسها.

أنا في رأيي: الحوار اختيار توبة بالدرجة الأولى، وما أجمل توبة الجماعات. هو اختيار صلاةٍ يجمع الآخر إلى الله، أو بالحري يجمعني إلى الآخر أمام الله الذي يحبنا ويقبلنا على ما نحن عليه. هكذا يصبح حوارنا الذي ربينا عليه طريق هداية إلى الله يحيلنا أصدقاء درب في العمل والكلام والأمل والألم إلى الموت. فهلاّ أوصلنا الحوار الإسلامي - المسيحي بعد تاريخٍ من العمل المضني  والمحاولات الصادقة والرجاء الكبير إلى التماس كلمة السواء فيمد بيننا، حياة أخوية تضمن للجميع الكرامة باعتدال وتتجسد في هذا المكان وفي هذه الأوقات بعيداً عن الاحكام التعميمية المسبقة وروح الاستعلاء والسجال. هذا ما أتوخاه بنعمة الله الحق الذي له يليق التسبيح والإكرام على الدوام.

عشتم وعاش لبنان موئل حوارٍ وبلد تعايشٍ، تشيده الإرادات الطيبة، وتخصبه نعم الجواد الكريم.

source