غيبوه لانتصاره للمحرومين

calendar icon 01 تشرين الأول 1998 الكاتب:سليم الحص

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الثانية)

إن الحديث عن الإمام موسى الصدر يطول. فمن أين نبدأ.

ليس من الصعب أن يقرن المرء بين إسم الإمام الصدر وقضية حقوق الإنسان لمجرد أنه كان رجل دين وتقى وإيمان عرف بعمق إلتزامه تعاليم الإسلام وسلوكه طريق الدعوة لتطبيق تلك التعاليم على كل صعيد وفي كل مجال. فهو كان بطبيعة الحال يدعو لحرية الفرد كما للعدالة والمساواة بين أفراد المجتمع.

ففي الدعوة إلى العدالة والمساواة كان يذكّر بحديث النبي العربي الكريم إذ قال: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. والناس سواسية كأسنان المشط".

وقال الإمام الصدر في حق الفرد في حياة كريمة: "الخطوة الأولى في طريق تربية الإنسان ورفع مستواه في جميع حقول التكامل، هي في جعله يشعر بكرامته ويهتم بشؤونه". وقال: "إن الإنسان في رأي الإسلام خليفة الله على الأرض"، مستشهداً بقوله تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..." ويؤكّد الإمام أن مفهوم الخليفة يقوم على استقلال البشر وحريتهم في التصرّف على الأرض.

وقال في حرية الرأي والعقيدة أنهما "ثمرة تفكير الإنسان ونتيجة الجانب الأشرف من وجوده. ويستشهد بقوله تعالى: "لا إكراه في الدين".

وقال الإمام: "الحرية، وهي المناخ الملائم لنموّ طاقات الإنسان وبروز مواهبه عند توافر الفُرص... هي أم الطاقات".

وعن لبنان قال: "لبنان بلدنا، والبلد الذي يُعتبر إنسانه رصيده الأول والأخير، إنسانه الذي كتب مجد لبنان بجهده وبهجرته وبتفكيره وبمبادراته، إنساننا هذا هو الذي يجب أن يحفظ في هذا البلد". ويقول: "فإذا كان لغير هذا البلد، بعد الإنسان، ثروة، فثروتنا في لبنان بعد الإنسان، إنساننا أيضاً، لذلك يتّجه جهدنا نحو صيانته".

وقد ترجم الإمام دعوته حضاً على الخير والإحسان وتأكيداً على فريضة الزكاة ودعماً لتعميم التدريس المجاني والخدمات الصحية والإستشفائية بين الفقراء من بني قومه. ويستشهد هنا بحديث للنبي العربي الكريم قال فيه: "وما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع".

وكان ملاذاً لكل محتاج وكل ملهوف وكل منكوب وكل مظلوم. فلا غرابة أن يغدو قائداً فذّاً لحركة المطالبة بأنصاف المناطق المحرومة في بلاده، ومنها الجنوب والبقاع وعكار. فكان حرباً على الحرمان في شتى ألوانه أينما حلّ هذا الحرمان.

وكانت العاصمة بيروت في زمانه محاطة بما سُمّي بحزام البؤس، وهو شريط طوق العاصمة شمالاً وجنوباً وشرقاً بأحياء مكتظّة بالفقراء والنازحين، تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة إذا كانت تفتقد أبسط شروط النظافة والصحة العامة والبيئة السليمة وتزدحم منازلها بالأطفال الذين لا تتاح لهم فرص كافية للتعلم، وكان كثير منهم تستوعبهم الصناعات التي كانت تنشأ في الجوار للإفادة من اليد العاملة الرخيصة التي تعجّ بها تلك المناطق.

وما أن انفجرت الأزمة الوطنية الكبرى في العام 1975، بما رافقها من أعمال العنف الأعمى، حتى تعرّضت هذه المناطق لأفظع موجات القتل والتدمير والتهجير، حتى قيل أن حزام البؤس، الذي كان وجوده لا يروق للمترفين، كان من الأهداف المباشرة لتلك الحرب الغاشمة. وهكذا، بدلاً من القيام بمبادرات ترمي إلى مكافحة البؤس الذي كان يطوّق العاصمة مشوّهاً ألقها ورونقها، بالوسائل والأساليب التنموية الحضارية، أجهزت قوى الحرب على الحزام ففكّكته بأدهى ما يكون العنف والبطش. أرادوا أن يقضوا على حزام البؤس فضربوا الحزام وعمّقوا البؤس.

الإمام موسى الصدر عايش حالة البؤس تلك بضميره ووجدانه وعقله، عايشها بكل جوارحه، فكان يشارك الناس في تلك المناطق همومهم وشجونهم ومعاناتهم وآلامهم وأتراحهم، وكان هو صوتهم المدوي في وجه المسؤولين وفي وجه رموز الحرب الهمجية.

من يدري، لعل إنتصار الإمام الصدر للمحرومين في لبنان في وجه طغاة تلك المرحلة القاسية قد يفسّر سبب تغييبه وهو في أوج عطائه ونشاطه وحيويته وشعبيته. ولئن تماهي إسم الإمام الصدر مع قضية المحرومين في أحلك الظروف التي مرّ بها لبنان في تاريخه الحديث، ففي ذلك شهادة له بأنه كان بحق رافع راية حقوق الإنسان في وطنه فكراً وشعوراً وممارسة.

ومنذ تغييب الإمام موسى الصدر إزدادت المشكلة الإجتماعية في البلاد تفاقماً: البطالة إزدادت إستشراء، والهوّة بين المناطق إزدادت عمقاً· والطبقة الوسطى أخذت تتقلّص، والقوة الشرائية للمداخيل تتآكل ويتهاوى معها المستوى المعيشي لذوي الدخل المحدود. إن الفوارق الإجتماعية الكبيرة التي كانت تفصل بين طبقات الشعب اللبناني قبل إنفجار الأزمة الوطنية الكبرى كانت نتاجاً طبيعياً لليبرالية شبه المطلقة، لا بل المتوحّشة، التي كانت تطبع سياسة الدولة الإقتصادية آنذاك، والتي لم تكن قد خالطتها بعد التوجهات الإنمائية التي كان يجب أن تخفف من غلوائها. وقد أنشىء مجلس الإنماء والإعمار في عام 1977 لتصحيح ذلك الخلل. ولكن الدولة لم تعتمد حتى الآن خطّة إنمائية شاملة متكاملة كما كان يُفترض أن تفعل لتعميم فيء التنمية على جميع المناطق وشرائح المجتمع.

ويخشى الآن بعد بزوغ مدّ العولمة الذي يجتاح العالم وينساق لبنان إليه أن يزداد الجنوح العام إلى الأخذ أكثر فأكثر بمبدأ الليبرالية المتفلّتة على حساب التنمية المتكاملة والمتوازنة فتزداد معها الفوارق الإجتماعية على نحو ينأى بالمجتمع اللبناني أكثر فأكثر عن مفهوم العدالة الإجتماعية، وبالتالي عن حقوق الإنسان· سيكون لبنان أكثر ما يكون حاجة إلى قيادات تؤمن بحقوق الإنسان وتناضل من أجل صون العدالة الإجتماعية وتعزيزها كما فعل الإمام موسى الصدر. وأسلم ما يتطلع إليه اللبنانيون على هذا الصعيد أن تأتي هذه القيادات نتاجاً لتفعيل التجربة الديمقراطية وتطويرها قاعدة لتنظيم الحياة العامة في البلاد وتنمية طاقات المجتمع وآفاقه. فالديمقراطية هي أيضاً. كما الحرية، من حقوق الإنسان، وليس كالديمقراطية ضمان للإستقرار وإنتظام عملية التطوّر في المجتمع.

source