الإنسان في فكر الإمام الصدر

calendar icon 01 تشرين الأول 1998 الكاتب:حسين صالح حمادة

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الثانية)

باسمه تعالى وبه نستعين وبعد

تحية التوقير والعرفان إلى المؤتمر العلمي الإنساني الوفي، وأهل المؤتمر العلماء الأوفياء.

سيدنا الغائب الحاضر كلمته الصدق، حكمه العدل، قلبه الإيمان، موقفه المبدأ والقضية، والحق، علاقته بالآخرين الأخوة والانفتاح عليه والاعتراف بهم لا الإلغاء، قوله وفعله في الميزان الحق على سواء، إنسانه وعقيدته لله وبالله، وللناس كل الناس، يده غصن زيتون وراية سلام، عقله في قلبه ليكون المحبة، وقلبه في عقله ليكون الكشف والإبداع.

إن إمامنا لا يختصر، وحديثنا اختصار، وهل يختصر الإنسان الذي عن وحي النبوة صدر وعن المدارس الإمامية الأغنى تخرج؟

خطاه أسرع من الزمن، وآثاره أوسع من عمره. فالزمن لعبة يديه وفكره، وليس هو لعبة الزمن.

ثقافته أخذت من كل فن طرقا، لكن وكأنه من الكل على اختصاص. ذهنه مشرق بلفطنة وذاكرته كأنها قاموس محيط. ثقافته الموسوعية تتوزع على الدين، الفلسفة، الاجتماع، الحقوق، السياسة، العلوم، التاريخ، اللغات.

لإمامنا عمق التفكير، ودقة التعبير، لسانه في قلبه ليعمل فكره، وقلبه في لسانه ليظهر الطهر والإيمان كفلق الصبح.

رؤاه أجنحة سماء في أرض، وأرض في سماء.

إيمان بالإنسان ينتهي إلى الانفتاح ومنه إلى الحوار الذي يتسع إلى كل الناس.

موقفه الدائم قولة أميره، أمير الكل.

لا يعرف الحق بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله.

لم نكن نعرف ليله من نهاره، ولا نهاره من ليله في نشاطه الموصول إن عمليا وإن نظرياً.

اللافت إن إمامنا قد تجاوز عمره في فكره الذي اغتنى فأغنى، وفي عمله المجاهد لله والناس، فإذا به المدرسة المعلمة على تبكير، وإذا به على شاكلة ابن عمه الشهيد محمد باقر الصدر أشبه بالفيلسوف.

كلمتنا على استحياء لأنها قاصرة مقصرة.

كلمتنا في يومه الديني والعلمي والإنساني ذات شعب ثلاث:

-        الله الخالق

-        الكون القائم على النظام والحق والعدل

-   الإنسان في حقه وواجبه في بنائه الجسدي والروحي والعقلي، في خلافته على الأرض، في مسؤوليته وحريته وكرامته، في علاقته بالكون وأبناء جنسه، في مصيره الأخروي المرتبط بواقعه الدنيوي.

الله الخالق: من البداهة ان يكون إيمان إمامنا هو من الأوليات فطرة وعقلاً "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" [الروم/30] "أفلا تعقلون".

"فالدين بصورة عامة موجزة" فطرة الله التي فطر الناس عليها "الدين تعبير صحيح عن هذه الفطرة، وإبراز لها إبرازاً غير متأثر بالعوامل المختلفة الخارجة عن طبيعة الإنسان (1) يولد الولد على الفطرة ... حديث شريف.

إن الدين في العقيدة الإسلامية هو الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي له الأسماء الحسنى، والأمثال العليا "لم يلد ولم يولد" (2).

"فالله ليس كمثله شيء، له الصفات الكمالية كلها، يتعالى عن كل نقص وحاجة، فهو الصمد، هو المجرد من الانتساب الخاص إلى كل شيء، أو إلى كل فرد، أو إلى كل ظاهرة، فالعلم بأجمعه والبشر بجميع أفرادهم والأحداث كلها أمامه سواء، هو الخالق، والمستمر في خلقه، ولا وجود ولا بقاء للموجودات دون إرادته، ودون تصرفه، وهو عالم الغيب والشهادة، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء" "يحيط بكل شيء علماً". (3)

"يعطي الإسلام مفهوماً عن خالق الكون، فهو اله واحد عالم غني عن العالمين، ليس بينه وبين أي شيء أو شخص أو فئة أو وضع صلة، ولا انتساب ولا يزيد ولا ينقص. ويوجه هذا المفهوم الإنسان إلى الشعور الفطري ليسمع صوت ضميره الذي ينادي بالإيمان، ثم يطلب منه ان يتدبر في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وفي الآفاق والأنفس لكي يتبين له الحق تبيناً عقلياً حتى يعيش إيمانه بقلبه وعقله.

الكون مخلوق قائم على النظام والحق والعدل.

ولطالما الله خالق بالمطلق، فكل ما سواه مخلوق له لأنه كمال بقدرته، ومشيئته، وعلمه، وحقيقته.

"ويعكس مفهوم الخالق في ذهن المسلم مفهوماً عن الكون يعطيه الإسلام أيضاً" فالكون مخلوق واحد مشبع بالروح والجمال والكمال، منظم متزن، سائر نحو أسمى الأهداف، قائم على أساس الحق والعدل، متناسق، متجاوب في أجزائه بعضها مع بعض، ومع الخالق.

"ألم تر أن الله يسجد له من في السموات، ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس" "وأن من شيء إلا يسبح بحمده" ان منعكس الكمال الإلهي على الكون كله، وعلى الإنسان بالذات، فيرى الكون والإنسان في أحسن صورة، وأكمل تقويم، وأدق تنظيم، إن هذا الكمال الإلهي يحرر الإنسان من أي قيد عقلي، أو عملي، أو عاطفي أو اجتماعي، فيجعل منه عبد الله، الحر المطلق في جميع شؤون الحياة، لا سقف أمامه مانع (4).

فالأديان في مفهوم إمامنا الإسلامي واحد "كل الناس أمة واحدة" ويدينون بدين واحد، وإله واحد، وإن اختلفت الطرق والأساليب، لأن لكل إنسان أسلوبه "الأسلوب هو الرجل" ولكل عصر حاجاته وظروفه وأذواقه، ومن هنا فإمامنا يقول بوحدة الديانات والرسالات لأنها على جملتها تؤمن بالإله الواحد وبالرسالات وباليوم الآخر.

إذن فالمؤمنون اخوة بمفهوم الإيمان، والناس اخوة بالمفهوم الإنساني. معتمد إمامنا انفتاح فكره، وعمق تفكيره، وشمولية فهمه الإنساني، وقولة أميره المعلم.

الناس صنفان: أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق.

"يجب على الإنسان أن يؤمن بأن الكون مبني على الحق، وأقيم على العدل، ليعيش الإنسان على الحق والعدل "فالسماء رفعها ووضع الميزان، أن لا تطغوا في الميزان". والميزان ما هو إلا التقدير والنظام والعدل. هذا ليربط بين السلوك الفردي والجماعي وبين الرؤية الكونية عن السماء "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق".

الإنسان:

الإنسان في الفكر الديني والإصلاحي والفلسفي والاجتماعي والأخلاقي والعملي لإمامنا هو المحور في حديثنا هذا، وغير حديثنا هذا.

الإنسان في هذا الفكر الغني السخي له بالله علاقة المخلوقية والاعتراف والإيمان والطاعة والعبادة، له مع الكون علاقة الخلافة والكشف والتطوير، وله من الإنسان قضية واجب الإنسان، وحق الإنسان على الإنسان وله علاقة واجب الإنسان نحو الكون ونحو نفسه ونحو الآخرين.

قضية الإيمان والطاعة:

وحين يعيش الإنسان، في فكر إمامنا، جو العبودية لله في قيامه وركوعه وسجوده، فإنه ينفتح على مسؤولياته في الحياة على كل ما أمر الله به ونهى عنه.

الإيمان في ميزان إمامنا هو نور القلب في العقل، ونور العقل في القلب. إنه صلاة الخلاص، أغنية النصر، نشيد الوصول، محطة الحق، آية التماسك في بناء الإنسان. عنوان التزاوج في عناصره ومقوماته، صعود به مع العلى لينقلب شيئاً من الله.

بالإيمان ينقلب الإنسان إنسان الخاطرة والحركة، والكلمة، والعمل، والحس موصولاً بعالم القدسية، ليعيش حساسية الميزان، وسهر المراقبة لنفسه وللآخرين بأسباب الوصلة التي تنقر على كل أوتار بنائه.

الإيمان في نظرية إمامنا هو كما يقول الرسول (ص):

"أن تعبد الله وكأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

إمامنا في تفكيره الإسلامي يرى بأن الإنسان الواعي الذي يشعر بموجده، أو يشعر بالوجود المطلق الكمال، هو أرفع من الكائن الواعي الذي لا يعي إلا ذاته، أو ما حوى من المحسوسات، إنه اكثر اطمئنانا واستقراراً، وأقوى إرادة، وأبعد رؤى.

فالإيمان عنده اطمئنان "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" [الرعد/28].

لقد كان يذهب إلى أنه ليس للشهوة ما يقهرها ويذللها ويهذبها، ولا للأهواء ما يمنعها ويزجرها إلا الاعتقاد بأن لهذا العالم خالقاً غامراً بغمرات القلوب، ومطويات النفوس، سامي القدرة واسع الحول، والقدرة، والطول، مع الاعتقاد بأنه قدر الخير والشر جزاءاً يوفاه مستحقه في حياة بعد هذه الحياة التي نعيشها.

فالإنسان المؤمن، في النظرية الإسلامية لإمامنا ينفق ساعاته في تهذيب نفسه، ويطهرها من الرذائل، ولا يقصر في تقويم أخلاقه، وينزع إلى كسب المال من الوجوه المشروعة، متنكباً طريق الخيانة، ورسائل الكذب والحيلة، معرضاً عن أبواب الرشوة، مترفعاً عن الملق، والخداع، ثم ينفق ما كسبه في الوجه الذي يليق، وعلى الطريقة المأمونة، وبالقدر المطلوب. لا يأتي فيه باطلاً، ولا يغفل حقاً.

وبذلك سيربط إمامنا الإيمان بالعمل والمعاملة، لأن الدين المعاملة كما في الحديث الشريف فالإيمان في قاموس إمامنا يدعو المرء إلى الاتصاف بالصفات القويمة، والخلال المحمودة، والأفعال الكريمة، إذ يحث على ترقية النفس بالعلم والجد، والسعي، والمثابرة، وقوة العزيمة، والاعتدال، والإخلاص في العمل، والصدق في القول، والاتحاد على الخير، والتعاون على البر والتقوى، واحترام النفس والمحافظة عليها وصيانتها، والثقة بها، والوفاء بالعهد، والحلم، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصل بالحق، والعفو عند المقدرة، والرضا بقدر الله، والمحبة، والمواساة، والصبر على المكاره، والرحمة، والرفق، مع التوكل على الله، والشجاعة، والعمل للدنيا والآخرة، وتأمين حقوق الآخرين بأمانة من غير مغالاة، وحسن المعاملة.

إمامنا يقول في هذا الشأن:

"إن الايمان يعرف عند الهزات والمصائب والمتاعب، وعند الغضب، وعند النصر، ونحن في لبنان كلنا مؤمنون، كل منا يؤمن بطريقته، وكل منا يعبد الله على طريقته.

والقضية في الإسلام كما هو الإنسان بالفطرة، لا بما هو خارج عن مناخها، وكما هو مهيأ له جزءاً وكلاً ليتماسك هذا الإنسان في بنائه، ويؤدي دوره في الكون والحياة.

إن الفطرة المرادة هي قاسم مشترك في حدود الإنسانية.

فالإنسانية على فطرته متحرر من اثقال العبودية، عبودية السلطان والمال والهوى، عبودية النفاق والدجل، عبودية الشهوة واللامبالاة، والضياع، عبودية الألم واللذة في آن. معتمد الإسلام في النشاط الفكري لإمامنا فطرة سليمة في الإيمان، والإيمان في الميزان الإسلامي لإمامنا هو:

أس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب والمكاره، وأنه عمدة الرضا، ومصدر السعادة والاطمئنان، وكنز القناعة، ونور الأمل، وسكن الروح إذا أوحشتها الحياة، وعزاء القلب، إذا نزل الموت، أو قربت أيامه، والعروة الوثقى بين الانسانية ومثلها الكريمة.

ليس المال الموفور، ولا الولد البار، ليس الجاه الباذخ، وليس الوجود الإنساني الشاهد سبيلاً للاطمئنان والسعادة والإشراق.

إن إنسان الإيمان ليستعين على مجهول الغد بقدر الله، بعد أن يؤدي دوره وواجبه في ساحة الحياة. فإن أصابه من الغد خير كان له المتاع، وإن لم يصبه من غده شيء كان ما عند الله خيراً وأبقى. الايمان يسمو بالذوق، ويشف بالتمييز، فتغدو الذات عينا له على الذات، والضمير مراقباً للضمير، إنها لوجدانية غنية المعطيات، صافية اللون، كيفما ينقلب انسانها لا يكون إلا واحداً، لأن شخصيته طبع وموقف، والمراقبة الذاتية تضمن الانضباط لا المراقبة الخارجية.

لكم كان إمامنا ناجحاً حين رأى بأن الإيمان ليس معزولاً عن الحياة والبناء إنما كما في الحديث الشريف "اعتقاد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان" إنه لا يعيش حبيساً مرهوناً يقول (ص):

من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان".

فالإيمان يربط بين السماء والأرض، يصل المخلوق بخالقه، فيتصف بالإلهي والقداسة والقوة، ويرضى بذلك جميع مشاعر الإنسان.

"إن الإيمان في الميزان الإسلامي لإمامنا ليس حائلاً دون استخدام العقل السليم في انطلاقه، ولا مانعاً إياه من تفكيره الموضوعي في الكون، ومجتمعاته وأفراده لقانون العلية ومشيئة الله  التي وسعت كل شيء تأبى أن تسقط عمل الأسباب في مسبباتها، وأن تمنع العلل في إيجاد معلولاتها يقول (ص):

أبى الله ألا أن يجري الأمور إلا بأسبابها، وقال تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [الرعد/11] "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا" [الروم/ 41].

إن إمامنا يأخذ بمذهب السببية الطبيعية التي قال وأكدها القرآن والرسل والأئمة والفلاسفة وأهل الفكر أمثال ابن رشد العربي وأنكرها الغزالي وأمثاله الذي قالوا بالسببية الإلهية المطلق (الله خالق كل شيء).

فالإيمان لا يقبله الله موروثاً ولا يرضى به تقليدياً بل يأمر بتحكيم التفكر والتدبر في العقيدة "وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وانا على أثارهم مقتدون" (الزخرف 23) (5).

فالإسلام له الأركان الثلاثة: العقائد، الأعمال، الأخلاق هذه الأركان تعمل على صنع شخصية المسلم، إنها تهيئ لكل مسلم قاعدة فكرية تعتبر الأساس والركيزة لإيمانه وعباداته وحقوقه وواجباته الاخلاقية (6).

فالإيمان ليس فعل القلب وحده ولا فعل التسليم، ولكنه فعل العقل، فالعلم يدعو للإيمان ويقويه. كلما كان النشاط الفكري فاعلاً وكاشفاً كان الإيمان أكثر عمقاً ووضوحاً وإيجابية.

"إذا كان الإيمان ببعده السماوي يحفظ للإنسان الأمل الدائم عندما تسقط الأسباب ويزيل عنه القلق وينسق بينه وبين نوعه من جهة، وبينه وبين الموجودات كلها من جهة أخرى، إذا كان الإيمان بهذا البعد يعطي الإنسان هذا الجلال والجمال، فإن الإيمان ببعده الآخر يسعى لصيانة الإنسان، وحفظه، ويفرض المحافظة عليه ويؤكد عدم وجود الإيمان دون الالتزام بخدمة الإنسان.

"والمعروف أن عنصر الإيمان بالغيب يصنع دوراً مهماً في حياة الإنسان، ويجعل للدين مكانه المميز تجاه العلم والفلسفة والحقوق والأخلاق ..." كما يذهب إمامنا إلى أنه اليوم في القرن العشرين يشعر الإنسان أكثر من أي وقت مضى بحاجاته إلى ان يؤمن بالغيب دون منتوجات العصر المتطورة المتزلزلة كي يطمئن قلبه، وتستقر أعصابه وترضى رغباته اللامحدودة، ويقل القلق الذي يشعر هو بازدياده يوماً بعد يوم.

ولكن الغيب الذي يحتاج إليه الإنسان هو الغيب الذي لا تشوبه خرافات وأساطير، ولا يخلق مشكلات ومتاعب، ولا يمنع سير الإنسان نحو الكمال.

نريد الغيب الذي يرسم للعالم صورة واقعية مليئة بالخير والحياة والجمال، قائمة على أساس الحق والجمال (7).

متي يعرف الإيمان؟

مما تقدم من الفهم الإسلام الدقيق العميق لإمامنا يتبين لنا أن الإيمان إنما يعرف عند الهزات وعند المصائب وعند المتاعب، وعند الغضب وعند النصر.

فالمؤمن كالجبل الراسخ لأن الإيمان ليس فكرة في النفوس، وحالة في القلوب والعقول، بل إن الإيمان ارتباط متين بالله رب العالمين، وصلة قوية تمنع الإنسان من الاهتزاز والضعف ومن الانجراف والسلوك العفوي اللامسؤول.

الإيمان ليس مجرد كلمة تقال، ولا صلاة تصلى، ولا صياماً ولا مظهراً بل الإيمان الحقيقي هو وقفة الإنسان في ساعات الحرج، في ساعات المصالح المتضاربة، في ساعات المحن والكوارث.

فالإنسان المؤمن يتخطى المنافع، ويتجاوز المحن، ويتعالى على الأحداث الصغيرة وإذا لم يكن من المؤمنين الذين هم كالجبال الراسخة، فلا ندري مصيرنا، ولا مستقبلنا "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا الله وإنا إليه راجعون" ويقول:

تعالى في ساعة النصر " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً" ويقول سيدنا المسيح عليه السلام: "لا يجتمع حب الله مع كره الإنسان" فيدوي صوته في الضمائر، ويرتفع صوت آخر لنبي الرحمة: "وما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره جائع".

كل سعي لإقامة الحق، وكل جهد لنصرة المظلوم هو جهد في سبيله تعالى، وصلاة في محرابه، وهو الكفيل بالنصر بعد أداء الواجب.

لقد ورد في الأثر الثابت عن الهدف: "أنا، أي الله، عند المنكسرة قلوبهم، أنا كنت عند المريض عندما عدته، وعند الفقير عندما عدته، وعند المحتاج عندما سعيت لقضاء حاجته".

يقول سيدنا عن الحضارة الحديثه والإيمان:

"إن ابعاد الإيمان الذي يجعل الربط بين الله والإنسان في حضور دائم، ابعاد الإيمان عن كونه قاعدة للحضارة الحديثة جعلها معرضة لهذا الاختلال، وعندما نستعرض تاريخ هذه الحضارة، نشعر بأن الإنسان فيها، في كل فترة وأخرى، بدأ ينمو في اتجاه في حساب على حساب الاتجاهات الأخرى. فالسياسة والإدارة والسوق والعمران لأنها لم تكن مبنية على القاعدة الإيمانية، بدأت تنمو بصورة غير منسقة، فتحولت إلى الاستعمار، وإلى الحروب، وإلى التفتيش عن الاسواق الجديدة، وإلى فترة السلام المسلح، وأصبحت حياة الأنسان كلها متأرجحة بين الحروب الساخنة والباردة، وبين فترة تضميد الجراح والسلام المسلح (8).

"إن معنى الإيمان بالله، الله اللامتناهي، هذا هو التحرك الدائم، اذن الإنسان المؤمن والملتزم عليه أن يتحرك (9). إن ربط الحركة بالرؤية الكونية هي عبارة عن الإيمان بالله (10) أساس العقيدة الإسلامية هو ذلك الإيمان بالله الواحد الأحد، والذي لم يلد ولم يولد.

هذا الإيمان يحرر الإنسان وينزهه من الخضوع للموجودات أيا كانت تلك الموجودات، ومنها الفرد المماثل له، وإن علا به المقام.

وهذا الإيمان يوجه الإنسان ويشده نحو الهدف الذي لا نهاية له في سموه، ويرسم لطموحه خطاً طويلاً بدايته المهد، ونهايته اللحد، وما بعد الموت في الأعمال المستمرة بآثارها بعد الموت. رائعة هي التفاته سيدنا التي تقول بأن الموت لا يوقف تحرك الإنسان نحو الكمال بل الكمال مستمر مع ولد صالح وكتاب علم، وصدقة جارية".

وهذا الايمان يجعل الكمال الإنساني المستمر بعيداً عن الاصطدام والتنازع مع الآخرين، حيث اللانهائية واللامادية تتحكم بجوهر نشاطاته وعطائه.

وعميق وجديد قول سيدنا بأن معنى لم يلد ولم يولد يبعد العنصر الذاتي والانتسابات المتنوعة عن ميدان مكاسب الإنسان، حيث أن الناس سواسية كأسنان المشط، بل إن الإنسان من الذين حصلت يداه، وأن ليس له إلا ما سعى (11).

كما أن الإيمان بالله له تلك الايجابيات اللامحدودة، فالإيمان باليوم الآخر له الآثار المتنوعة في الشؤون الإنسانية منها:

- كل إنسان عظيماً كان أم حقيراً مسؤول عن أعمال وأقواله، وجملة نشاطاته، سرها وعلنها.

- أليست هذه المسؤولية تكريماً وتشريفاً لإنسانها؟

- الإيمان باليوم الآخر يبعث على الاطمئنان النفسي، لأن جهده المخلص، وإن كان مخطئاً له أجره "المجتهد إذا أصاب له أجران، وإذا أخطأ له أجر واحد".

ويلتقي إمامنا مع المفكر الإسلامي الجزائري المبدع مالك بن نبي، بأن الإنسان المادي يتوقف يائساً مضطرباً، مغلق الطريق وحائراً لأن نظره لا يتجاوز الكون، بينما المؤمن يحل مشكلته لأنه يتجاوز الكون إلى ما وراء الكون، إلى الله، إلى العالم اللانهائي.

ألا يساعد الإيمان بالمعاد على سهولة التغيير والتطوير نحو الأفضل سواء كان ذلك على الصعيد الفردي أم الجماعي؟

وحسب الإيمان باليوم الآخر من إيجابيات في السلوك هو التوبة القائمة على التطهير والاطمئنان والقضاء على عوامل اليأس، والخوف، والشعور بالإحباط.

إن الإيمان ينعكس على الأفعال، والأفعال تصون الإيمان بشكل متفاعل، فإذا انصرفنا عن الإفعال فالإيمان يضعف، وقد يموت في نفس الإنسان.

لكي يبقى الإيمان على قوته وفاعليته تدخلت الأديان في تنظيم صلات الإنسان مع الله، والإنسان مع أخيه الإنسان، ومع الكون ذلك الذي نسميه بالعبادات والمعاملات والأحكام.

إذن، لكي يبقى الإيمان على صفائه وفاعليته يجب الاهتمام بآثار الدين في العمل الخارجي، يعني ان نهتم بكيفية حياة الإنسان على وجه الأرض ... إذن: فالعبادات تكرس صفة الإيمان بالله، وتقوي هذه الصفة، والأفعال الخارجية تقوي الإيمان بالإنسان (12).

إن الإيمان بالنبوة من أركان الدين لأن لها "مقام الرسالة الإلهية، مقام التكلم مع الله، مقام الاصطفاء، مقام المحبة مع الله، مقام كلمة الله، مقامات هي أشرف شيء لمخلوق على الإطلاق" (13).

"لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم. [آل عمران/3].

فالنبي عبد من عباد الله له ما لهم، يتبع في القول والفعل ومعاشرة الناس بما يوحى إليه، لا ينحرف ولا ينطق عن الهوى، ولا يساير ولا يجامل رغائب الناس ...

يعيش ويهرم ويموت، ويحشر ويحاسب يوم القيامة، وبذلك يغدو قدوة صالحة للناس ...

وقد ورد في القرآن الكريم نقد لهم وتشجيع وتأييد، وتهديد، ونصيحة وعتاب على بعض التصرفات. والنبي رغم ذلك يتمتع بعناية الله، ووحيه، وتسديده، وبذلك يصبح قوله وعمله سيرة وأسوة حسنة للأمة .. والصفة المميزة للنبي، في نظرية الإسلام، كونه عبد لله، ورسولاً في نفس الوقت.

للرسالة مقام إنساني كبير لا ينزع صفات البشر عن حاملها، وهو مع ذلك له مقام الاتصال بالله، ونقل تعاليمه، بكل أمانة، ودون خطأ وتحريف (14).

الإنسان خليفة الله في الأرض:

ويذهب البحث الواعي مع إمامنا إلى أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض وأنه عالم بالأسماء كلها، مسجود له من جميع ملائكة الله : "واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها".

ما هو مفهوم الخليفة؟

إنه يقوم مقام من استخلفه في التصرف والعلم والحرية، إن هذه الخلافة تعكس استقلال الإنسان وحريته في التصرف على الأرض، وبما استخلف فيه.

يظهر من الآية إن إمكانيات واسعة، تمكنه من معرفة جملة الموجودات، والقوى المتفاعلة في دائرة خلافته، وما اوسع دائرة هذه الخلافة!

إن سجود الملائكة وهم صفوة الموجودات، ونخبتهم، إنما هو تأكيد لخضوع مختلف الكائنات للإنسان واطاعتها له.

هذا كله هو أقصى حدود التكرم للإنسان (15).

إن الإنسان إذ امتلكته حاجات جسده، وانجرت مع عواطفه دون تردد، فلسوف يكون متأثراً بالعالم، لا مؤثراً فيه، ولا يتمكن أن يكون قائداً للكون، ولا خليفة لله في الأرض، إذ يصبح منقاداً ذائباً فيها (16).

يقول إمامنا: هذا الإنسان، هذا العطاء الإلهي، هذا المخلوق الذي خلق على صورة خالقه في الصفات، خليفة الله في الأرض، الإنسان هذا، هو هدف الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه، والمحرك للتاريخ، الإنسان هذا، يعادل ويساوي مجموعة طاقاته، لا كما اتفقت عليه الفلسفة، الفيزياء في قرننا هذا من إمكانية تحول المادة، كل مادة إلى طاقة، بل لما تؤكده الأديان والتجارب العلمية "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" وأن الأعمال تخلده، وأن الإنسان عدا إشعاعاته في مختلف الآفاق لا يساوي شيئاً لك فبقدر ما نصون طاقات الإنسان وننميها، بقدر ما نكرمه ونخلده (17).

الإنسان المخلوق المسؤول:

وتوقف إمامنا عند الإنسان بكل شؤونه، بكل واجباته وحقوقه، بكل حاجاته ورغائبه، بفضائله ورذائله، بواقعه الفردي والجماعي، في الدنيا، ومصيره في الآخرة.

فالإنسان كان كل هم إمامنا:

وحين كان يتحول إمامنا إلى الله كان لينتهي إلى الإنسان في علاقاته بالله، ومنبعه، وبالآخرين، ومع الكون تفاعلاً وتسخيراً، وإرادة، وتدبيراً وتطويراً.

فالإنسان المخلوق المسؤول هو صفوة خلق الله، بل صفوة جميع الصفات التي ذكرها القرآن عن الإنسان، أما خاصة التكليف، أو عامة في معارض الحمد والذم من طباعة وفعاله.

هذا كله يعني إن الإنسان أهل للكمال والنقص، بما فطر عليه من استعداد لكل منهما، فهو أهل للخير والشر لأنه أهل للتكليف.

والإنسان في نظرية إمامنا القرآنية أو الإسلامية مسؤول عن عمله فرداً وجماعة لا يؤخذ واحد بوزر واحد، ولا أمة بوزر أمة.

"كل امرئ بما كسب رهين" [الطور/ 21].

"فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"

هذه المسؤولية قائمة على أركان ثلاثة: تبليغ – علم – عمل

"وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" [الاسراء/ 15].

أما العلم فأولى آيات الكتاب كانت الأمر بالقراءة، وتنويها بعلم الله، وعلم الإنسان.

"إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم" [العلق/ 1-4].

أليست أول فاتحة في خلق الإنسان، كانت فاتحة المعلم الذي تعلمه آدم، وامتاز به عن سائر المخلوقات؟

"وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم. [البقرة/31و 32].

أما العمل فهو مشروط في القرآن بالتكليف الذي تتسع له طاقة المكلف، وبالسعي الذي يسعاه لربه ولنفسه:

"لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" [البقرة/ 286].

"وان ليس للإنسان إلا ما سعى" [النجم/ 39].

ورسل البلاغ هم اول المكلفين بالعلم والعمل، أنهم جميعاً امة واحدة، هي الأمة الإنسانية، والههم جميعاً إله واحد هو رب العالمين.

"يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون" [المؤمنون/51 و52].

فالإنسان بكمال استعداده للخير والتكليف، واستعداده للشر كانت له في القرآن نصوص الأمر والنهي والعظة والتذكير، والثواب والعقاب.

وهنا يكون الإنسان أكرم الخلائق، حتى الملائكة بهذا الاستعداد المتفرد بين خلائق الأرض والسماء من ذي حياة، أو من غير ذي حياة.

"وقد كرمنا بني آدم ... وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً [الأسراء/ 70].

"ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" [التين/40].

"سخر لكم في الأرض" [الحج/65].

فالإنسان في فكر إمامنا المسلم لا يسأل عما يجهل، ولكنه يسأل عما يعلم وعما وسعه أن يعلم وما من شيء في عالم الغيب، أو عالم الشهادة هو محجوب كله عن علم الإنسان، فما وسعه من علم فهو المحاسب عليه، والمسؤول عنه.

وخدمة الإنسان هي الطريقة التي فضلها الله وجعلها هدفاً لحياتنا، ورسالة لها، خدمة الإنسان لا خدمة شخص.

الإنسان مكلف:

لا ينسى إمامنا أن الإنسان المسؤول مكلف بمهمات ليس له أن يتجاوزها، ولا أن يقصر في أدائها.

لا يكلف الإنسان إلا بمقدار طاقته. من مسه طائف من الجنون، من لم يبلغ الرشد، المريض والعاجز هؤلاء جميعاً ليسوا بمكلفين.

من هنا إن مكان الإنسان في فهم إمامنا للقرآن خاصة، والإسلام عامة هو أشرف مكان في ميزان العقيدة والفكر، وفي ميزان الخليفة الذي توزن به طبائع الكائن بين عامة الكائنات، إنه الإنسان المكلف.

بهذا يكون الإنسان هو الكائن الأصوب في التعريف من قول القائلين:

الكائن الناطق، والأشرف في التقدير.

أنه الأصوب في التعريف، والأشرف في التقدير من الملك الهابط، ومن الحيوان الصاعد. المكلف في فكر إمامنا من أهم خصوصياته العقل:

والعقل وازع يعقل صاحبه عما يأباه له التكليف.

هو فهم وفكر يتقلبان في وجوه الأشياء وفي بواطن الأمور.

هو رشيد يميز بين الهداية والضلال

هو روية وتفكير

هو بصيرة تنفذ وراء الأبصار

هو ذكرى تأخذ من الماضي للحاضر

وتجمع العبرة مما كان لما سيكون، وتحفظ وتعيد وتعي وتبدئ وتعيد

والعقل بكل هذه المعاني موصول بكل حجة من حجج التكليف، وكل أمر بمعروف وكل نهي عن محظور.

"أفلا يعقلون"؟

"أفلا يتفكرون"؟

"أفلا يبصرون"؟

أفلا يتدبرون"؟

"أليس منكم رجل رشيد"؟

"أفلا تتذكرون"؟

إن هذا العقل بكل أعماله التي يناط بها التكليف حجة على المكلفين فيما يعنيهم من أمر الأرض والسماء ومن أمر أنفسهم ومن أمر خالقهم، وخالق الأرض والسماء لأنهم:

"يتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً"

وقد التفت إمامنا إلى أن المعجزة لا تجدي من تكابر العقل، ويأبى الإصغاء إلى بينات الإقناع:

"ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون. [الحجر/14 و15].

وهل النبؤات عامة، ونبوة محمد خاصة بالتبليغ والإقناع إلا بواسطة العقل؟

وعن العقل في الإسلام يذهب أيضاً إمامنا إنه ليس هناك من مشكلة بين العقل والإسلام لذلك استطاع الإسلام أن يضع الكثير من عناصر الحضارة، لأنه أعطى الإنسان حرية العقل بعد أن كان العقل التأملي هو الذي يفرض نفسه على الواقع، وبذلك تزاوج العقل النظري والعقل التجريبي في حركة المعرفة في الإسلام.

يقول إمامنا بهذا الحقل

"إن الرباني الثابت لا يمنع من انطلاق الفكر، واجتهاد الرأي، اذ أنه واسع لا يضيق ذرعاً بالسير في ملكوت السماوات، وفي سبر أغوار الأرض.

أقدم لكم مثلاً في حقل التشريع، فالفقهاء والمجتهدون يسعون لأن يسندوا كل اجتهاد، وكل نظرية جديدة إلى الأصول الثابتة، الأزلية، العامة. فالفقيه لا يشرع، ولا يعمل بالظن بل يفتي، بالعلم، ويعمل بالعلم (18).

فالإسلام يحترم العلوم، ويعتبرها طريقاً لوصول الإنسان إلى الهدف من خلقه، وإلى كماله الأصيل، وإلى مقام خلافه الله في الأرض، ومعرفة الله، فالسير في هذا الخط واجب مقدس والحق يقال: إنه لا ذنب للعلم إلا كشف الحقيقة، فالإيمان العميق يؤكد الحركة العلمية وينشطها (19).

إن الإنسان عند إمامنا المسلم، مكلف بالعمل الصالح، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مكلف بالتفكير السليم، والبحث عن الحقيقة، مكلف لا بالإيمان التسليمي بل بالإيمان الصادر عن بصيرة وعقل واقتناع. مكلف بعدم الاعتداء، والايذاء، مكلف بالنية الحسنة، وإن كان لا يعاقب عليها إذا لم تخرج إلى دائرة التنفيذ.

إن عمل الإنسان في تعاليم الإسلام أعطيت له جوانب بالغة من الاهتمام والتكريم كما فهمها إمامنا.

ففي حقل السعادة والشقاء الحقيقيين الشخصيين يجعل السبيل الوحيد إليهما العمل فقط "كل نفس بما كسبت رهينة" [سورة المؤثر/38].

وقد بلغ النبي محمد أقصى الجدية لهذا المبدأ حينما قال:

"يا فاطمة اعملي لنفسك، فإني لا اغني عنك من الله شيئاً".

فالإنسان هو الذي يخلق المجتمعات، وعمله هو الذي يرسم الخطط، ويحدد المسؤوليات، ويسبب المشاكل والصعوبات.

" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [الرعد/ 11].

وحديث شريف يقول: "كيفما تكونوا يول عليكم".

فعمل الإنسان هو القوة الوحيدة لتكوين التاريخ ولتحريكه وتطويره دون سواه. إن الإنسان بعمله عن معرفة، أو عن جهل، أو عن إهمال وتقصير يختار طريقاً، ويكون الأمر كما اختار هو لمجتمعه.

وتطور التاريخ ليس إلا تفاعلاً بين الإنسان والكون، يحاول حسب رغبته وحاجته، أن يطلع على العالم الذي يعيش فيه فيقرأ منه سطراً، فتؤثر هذه القراءة على حياته، وترفع وعيه، وتطور معيشته، وتغير بيئته. فالبطل الوحيد على مسرح التاريخ هو الإنسان، يكونه، ويحركه، ويطوره، فعمل الإنسان هو صانع هذه الأحداث كلها، فهل تجدون فوق هذا المقام تكريماً وتعزيزاً.

في أبواب المعاملات، في الفقه الإسلام نصل إلى نتائج مهمة تثبت أن العمل هو العنصر الأول بين عناصر الإنتاج الثلاثة:

العمل – الآلة – رأس المال

ويعتبر الإسلام أن العمل هو صيانة للعقيدة، بعد أن كان من آثار العقيدة فالمسؤولية عن العمل صغيرة وكبيرة، تؤكد عظمة الإنسان في عمله.

"فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" [الزلزلة/ 7 و8].

وهذه المسؤولية هي ضمانة كبرى لصيانة أعمال الإنسان، والمحافظة عليها، وعدم هدرها بالباطل، وعدم انحرافها عن الخط الإيجابي المفيد (20).

ويرى إمامنا في هذه المناسبة أن الاعتماد على مبدأ الحلال والحرام الذي يقوم به الدين، إنما هو لأجل المحافظة على عدم ذوبان الإنسان وضياعه في العالم المادي المحيط به. فالإنسان المنجرف مع عواطفه فسوف يكون متأثراً بالعالم لا مؤثراً فيه، ولا يتمكن أن يكون قائداً للكون، ولا خليفة لله في الأرض، إذ يصبح منقاداً، ذائباً، فيها.

وأن رعاية الحلال والحرام تحتفظ باستقلال الإنسان، والنظافة هي من الإيمان، بل هي ركن من كرامة الإنسان.

بهذا يمكن القول بأن إمامنا يرى في العمل الإسلامي تحقيق السعادة والاطمئنان، وإثباتاً لحضور الشخصية، وصيانة لحقوق الإنسان، وتأميناً لكرامته وخلافته في الأرض، وتأثيراً فاعلاً في الكون، وفي علاقات أفراد المجتمع بعضهم مع بعض، وفي التطوير للكون عامة، ولمجتمع الإنسان خاصة.

الإنسان مكلف حر:

إن الحرية هي المناخ الملائم لنمو طاقات الانسان، وبروز مواهبه عند توافر الفرص.

هذه الحرية التي كانت تتعرض دائماً للاعتداء، وكانت تغتصب من قبل الآخرين بحجج متنوعة هي أم الطاقات.

ويذهب بإمامنا فكره بأنه من البداهة أن يكون التكليف يقتضي الطاعة والحرية "وجعل الله للإنسان بين الموجودات كل ميزة كبيرة تمكنه أن يتخلق بأخلاق الله، ولهذا خلقه حراً يتمكن من العلم والمعرفة .. ثم يعلن القرآن كما يفهم إمامنا – بأن ما في الأرض وما حولها خلق للإنسان ومسخر له.

"خلق لكم ما في الأرض جميعاً" [البقرة/ 29].

"وسخر لكم الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره، وان في ذلك لآيات لقوم يذكرون" [النحل/ 12].

ويعتقد اعتقاداً راسخاً إمامنا بأن شعور الملائكة باستقلال البشر في التصرف على الأرض، ومعرفتهم أن هذا الاستقلال لا يتم إلا إذا كان البشر يمكلون الإحساس بالشرور، ويتمكن منهم هذا الشعور، هذا الاستقلال هو الذي يجعل الملائكة يقولون بأن الإنسان سوف يفسد في الأرض، ويسفك الدماء ورغم ذلك نرى أن هذا الخطر لا يقلل من مقام الإنسان وكرامته، بل يبرره كشرط أساسي لاستقلال الإنسان وحريته في التصرف (21).

أو لم يكن إبليس حراً في رفضه للسجود لآدم، واستكباره عليه، وجدله مع الله، ليكون جزاؤه الطرد من ملكوت الله، وجزاؤه العذاب المقيم يوم البعث؟

إن الإنسان بطبيعته قادر على فعل الخير والشر، ومكلف بالطاعة، وأن شاء أطاع، وأن شاء عصى وبذلك كان الإنسان المطيع، والإنسان المعاني في طاعته أسمى مقاماً من الملائكة، وقادر أن يحيط علماً أكثر من الملائكة.

ولعل من أهم النواحي في فكر إمامنا المسلم هو التأكيد على أن الإنسان مخير بين الخير والشر، لا مسير، لقد أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة لا آلة مسيرة، ولا شبه آلة لقد أراد خلق موجود يتصرف حسب إرادته ويمارس حريته، حيث أن حرية التصرف لا تتم إلا مع وجود نزعتي الخير والشر في الإنسان.

"خلق الله الإنسان ثم علمه الأسماء، وجعله مستعداً لمعرفة حقائق الكون، والقوى الكونية، متمكناً من الإحاطة بها عن طريق معرفتها، ثم أمر الملائكة بالسجود لآدم فخضعوا وسجدوا له بأمر الله، وخضوعهم للإنسان يستلزم مطاوعة القوى الكونية التي هي بيد الملائكة له فأصبح آدم سيد الكون، خليفة الله في الأرض، وامتنع إبليس عن السجود، وطرد، وبدأ بإغواء البشر، وأصبحوا من الدعاة إلى طريق الشر، يساندون النزعة الشريرة في الإنسان، فالكون ميدان للسير في الخط المستقيم، وللانحراف والضلال والإنسان أمام مفترق الطريقين يسمع صوت الله بلسان عقله، وبلسان ضميره، وبلسان الأنبياء، وبالطرق الأخرى للهداية، ويسمع صوت الشيطان بلسان نفسه الأمارة بالسوء، وبلسات عناصر السوء والفساد من البشر، يستمع الإنسان في حياته إلى النداءين فيجيب بملء إرادته لنداء الخير، أو لنداء الشر (22).

فالإنسان بهذا حر، إن شاء عصى وإن شاء أطاع، وله على ذلك الثواب أو العقاب وتبعاً لموقفه.

لكن العقل لا يتصور إرادة الإنسان مطلقة من جميع القيود، لأن إرادة إنسان واحد تنطلق بغير قيد هي قيد لكل إنسان سواء.

وكيف يأتي هذا الإنسان الواحد بإرادته المطلقة منفرداً بها بين أمثاله المقيدين؟ فإذا كان فرداً حراً بالمطلق، فكل الناس عبيد مقيدون، هذا هو الذي يأخذ به إمامنا.

فالحرية عنده مسؤولة، وهذه المسؤولة مقيدة عن الله بالأوامر والنواهي الإلهية وبالقوانين الوضعية بين البشر.

فإذا وجدت الحرية للمخلوقات العاقلة، أو وجدت لها الإرادة فلنرجع إلى العقل، وحكم العقل يقضي بأن الحرية ليست سواء في كل إنسان لأنها إذا امتنع فيها خلاف القوة لم يمتنع فيها خلاف الزمن، والعمر، ولا خلاف المكان والجسد، لا خلاف الصغر والكبر، ولا خلاف الحركة والسكون، فإذا وجد المخلوق حراً بالمطلق، وذا إرادة مطلقة، فلا وجود له إلا بهذا الاختلاف في حكم العقل، كما كان حكم النصوص.

فالإنسان مكلف حر، لكن ضمن الأوامر والنواهي، وضمن القوانين التشريعية، والإنسان لا يعرف تكليفاً غير التكليف الذي بسطته النصوص كما يقول إمامنا.

إذن فلا معنى للتكليف أصلاً أن لم تكن فيه طاعة وحرية، ولا معنى للحرية من وراء إرادة الخالق، وإرادة المخلوق.

ونعود إلى العمل الإنساني الذي يعمل على التغيير والتطوير والتجديد.

فالإيمان يصدق بالعمل سواء مع الله والكون، وسواء مع الإنسان، فالعمل يصون العقيدة ويطبقها، فكما العمل هو نتيجة الإيمان، ومن آثاره، فالعقيدة تخرج إلى دائرة الحياة بالعمل. "فالإيمان يتطلب الحركة الدائمة" (23) الإيمان يتابع العمل ... ويستمر في تحركه حتى اللحظة الأخيرة.

هذه الحركة هي اهتمام برسالة الإيمان وحاجة الكون والإنسان بذاته، فرداً وجماعة، وفي العمل لا يجوز له الهروب من المجتمع الفاسد، بل يجب المواجهة والإصلاح بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والعمل .. من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه هو أضعف الإيمان (24) والوسيلة في العمل هي جزء من الهدف، وإن الوسيلة الحق هي الهدف الحق (25).

فالعبادات محدودة بحدود الطاعة، والعمل قد يتخذ طابع القيادة، والعمل في الإسلام، عند إمامنا – أخلاقي، والأخلاق ركن القيم الإنسانية وسبل الوصول إليها وصيانتها.

فالأساس هو الإنسان بعمله لا الآلة ولا المال، والعمل الإسلامي كما يصون العقيدة وينميها فإنه يحفظ إنسانه والآخرين، كيف؟

فالإسلام عند إمامنا يحترم حياة الإنسان "من أحياها فقد أحيا الناس جميعاً ومن قتلها متعمداً كأنه قتل الناس جميعاً وجزاؤه جهنم".

فلا انتحار في الإسلام "ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيماً" [النساء/ 31].

الحرية وعدم إلغاء الآخرين، والمعاصرة (الحداثة الإنسان المكلف حر لأنه مسؤول، لكن هذه الحرية ليست مطلقة لأنها أيضاً مسؤولة.

لله أوامره ونواهيه وهذه قيود وللآخرين حضور، ولهم حقوق، كل حسب استعداده وطاقته.

فالإنسان لا يلغي الآخر أيا كان موقفه الديني والسياسي والاجتماعي، فالإسلام لله يعطيك كل الانفتاح في كل حركة من الرسالات فالله تعالى عندما أرسل الرسالات لم يرسلها من أجل أن نقولب الإنسان ونجمده، ولكنه أرسلها لتفتح له آفاقاً أرحب، بحيث يتجاوز الكون فيها إلى الله، وإلى آفاق الغيب، وإلى الإنسان.

ومن هنا رأى إمامنا أن الحوار في الإسلام لا يزال يسبق كل مناهج الحوار في العالم، لأن مناهج الحوار تدخل الذاتية في الحوار أما المنهج الإسلامي فقد أبعد كل شيء للذات في الحوار، وبقي الحوار موضوعياً يفرض نفسه، وأراد لك أن تبحث عن مواطن اللقاء قبل أن تبدأ الحوار.

لا يجوز إلغاء الآخر لأن لهذا الآخر حضوره، وإن كان مخطئاً، فليس إلا الحوار الموضوعي المقنع.

إمامنا رأى بأن اللبنانيين إخوة، بل كل البشر إخوة بالمفهوم الإنساني إنه يأخذ بقول أميره: الناس صنفان، أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق.

لماذا الخلاف طالما الأديان واحدة، والفطرة واحدة، والإنسانية واحدة، وإن كان لكل طريقته، ألم يكن الناس أمة واحدة كما في التعبير القرآني؟

فالله واحد لدى جميع الأديان.

"مفهوم الله عند المسيحيين والمسلمين هو الأول والآخر، العليم، الباطن، الظاهر، المجير، له الأسماء الحسنى، أكبر من أن يوصف، قريب قريب (إذا سألك عبادي عني فاني قريب) [البقرة/ 186].

هذا المفهوم الكمالي مفهوم التفكر إنه قضية تربية، قضية مثل، هو العالم كله، هو الاكتساب من صفات الله، فالعبادة تزيد عندنا صفات من صفات الله، هو عليم تزداد علماً، رحيم تزداد رحمة قوي تزداد قوة، أي هو كلما اكتسبنا كلما اقتربنا منه تعالى (26).

فالقرآن يؤكد وحدة الأديان:

"ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا امة مسلمة لك [البقرة/ 128] هذا على لسان ابراهيم وإسماعيل، وأما ما ورد عن نوح فالقرآن يؤكد:

شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [الشورى/ 13].

وتستمر تلك السلسلة على ألسنة الأنبياء مروراً بموسى وعيسى، وحواره مع حوارييه، ووقوفهم إلى جانبه، واسلامهم لله على لسان خاتم الأنبياء، الذي جاء ليتمم رسالة ربه، ويشرحها شرحاً وافياً، ويفصلها تفصيلاً يتناسب مع كل العصور التي ستلي رسالته الشريفة.

"الذين يتبعون الرسول الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم الأعراف (157).

إذن فالأديان واحد، إلهها واحد، مصدرها واحد، ولكن بعض التفسيرات والتعديلات، والسلوك المعني جعلها تظهر وكأنها اديان مختلفة متباعدة (27).

ويلتقي مع التفكير الصدري المسلم، ما انتهى إليه لقاء التراث الابراهيمي، والحوار الإسلامي المسيحي، "الإيمان الإبراهيمي هو إرث يشترك فيه جميع الموحدين، إنه إيمان التوحيد الخالص، وهو أنه يجعل الرباط الروحي بين هؤلاء وبين النبي إبراهيم واحداً، هذا الرباط هو أن الإيمان بين أبناء ابراهيم النسبيين والروحيين لا يتضمن تفضل فريق على فريق، ولا يعطي لأي شعب، أو جماعة دينية الحق في التمييز ضد الآخرين، او الاستئثار دونهم بما لا شرعية لهم فيه طبقاً للشرائع السماوية، والقوانين الدولية، والمواثيق المعترف بها عبر المستوى الحقوقي الدولي (28).

انطلاقاً من كون الله واحداً، والأديان واحدة، والإنسان واحداً، أيا كان لونه وعرقه، ودينه، فقط انطلق إمامنا مسرعاً إلى الحوار الموضوعي والخارجي عن دائرة الذاتية في لبنان، وخارج لبنان، سواء كان هذا الحوار دينياً أم سياسياً، أم اجتماعياً، أم تربوياً، أم اقتصادياً، وسواء كان هذا الحوار مع الشيعة، أم مع السنة، أم مع المسيحيين.

فإذا بلبنان كله بعض جولاته، لا مدينه، لا قرية، لا مؤسسة، إلا وقد عرف منبرها بل سعى إليه هذا المنبر، أو منتداها، أو مجالسها.

لقد حاول لا ليلغي، بل للتداول والتفاهم، وإزالة الغشاوات المصطنعة، وقد كان شعاره الدائم:

"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا" [آل عمران/ 64] بل "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن اكرمكم عند الله اتقاكم" [الحجرات/ 13].

لقد كان من حواره المذهبي العملي مع المغفور له سماحة الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية والعلامة الشيخ صبحي الصالح وغبطة البطريرك خريش وسيادة المطران جورج خضر والأب يواكيم مبارك والمطران غريغوار حداد وغيرهم، حيث دعا سماحته إلى تعميق وحدة المسلمين عن طريق توحيد الفقه، وطريق المساعي المشتركة لتحقيق الأهداف الشرعية والاجتماعية، والوطنية، إلى جانب الحوار مع شيوخ الإخوان الموحدين (29).

وكان حواره مع أهل الكتاب على مستوى جملة مذاهبهم ابتداء من الندوة اللبنانية الفاعلة برائع الانفتاح، وتحولاً إلى الأديرة والكنائس والمؤسسات التي منها:

دير المخلص – الكبوشية – جامعة القديس يوسف – مدرسة القديس يوسف عينطورة – كلية الطب الجامعة اليسوعية والأميركية وغيرها.

في كل هذه المؤسسات كان محور حديثه وحواره أن "الطائفية سياسة وليست دينا (30)" وأن رسالة الدين واحدة، في سلسلة واحدة متصلة الحلقات، والهدف لا يتحقق إلا بتحرير الإنسان من عبادة الذات، ومن التأثر بنزعات الشرور من عبادة ما حوله، ومن حوله، إن التحرر من عبادة الذات يكلف جهداً كبيراً، وقد عبر عنه بالجهاد الأكبر.

ندما يصل الأمر إلى التحرر من الطغاة يصطدم بمصالح الطغاة، وتحتدم المعركة، وهنا نجد أن جهاز الأنبياء والأئمة والأوصياء في مساحة واحدة (31).

كان الصدر يجد في الحوار أسلوباً راقياً في العلاقات ما بين جملة معتقدات، وان تباينت، وأديان وان اختلفت، وأفكار وان تنوعت، كان يرى أن الهدف من الحوار ليس استجلاب طرف محاور إلى معتقدات الآخر، ولا عملية إلغاء، لكل ثوابته، ولكن هذه الثوابت لا تتعارض بالمطلق، بل بينهما ملتقيات يمكن أن تنتهي بالناس إلى التفاهم والتوحيد بواسطة الحوار الموضوعي لا الذاتي.

من هنا كان يقول: تعالوا لنجعل من الدين إنسانية، ومن الإنسانية دينا، أنا لست ضد اليسار ولكنني ضد الإلحاد، لأن اليسار إذا وصفناه بقوى التغيير فإنني أعتبر نفسي أحد أركانه فالإيمان ليس تجريدياً، بل يحدد معالم شخصية الإنسان وسلوكه مرحلياً واستراتيجياً.

ويقول منفتحاً: إن تعدد الطوائف إذا كان يشكل عازلاً، أو ضعفاً، أو خطراً، فإن تعدد الطوائف إذ ادى في النهاية إلى تبادل المعارف والتجارب والحضارات، ومن ذلك ينتهي إلى قوة الوطن ان الخطر ليس في تعدد الطوائف بل تحول تعدد الطوائف إلى السلبية (32). والطائفية ليست مبدأ مشكوراً في الأديان لأن الاديان لا تدعو إلى السلبية (33) ويقول "رأسمال لبنان انسانه، تعالوا نلتقي قبل أن تسد العقول الواعية، والقلوب المفتوحة، قبل أن تنسحب الأيادي الممدودة (34).

"إن التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها (35) وأن السلام لقاء محتوم بين المسلمين والمسيحيين لأن ديانتهما في الوسائل والغايات السلام. فإذا سقطت تجربة لبنان أظلمت الحضارة الإنسانية". الحق ينتصر وإن كان رجاله قلة فقراء حديث شريف.

لقد كان إمامنا منفتحاً غاية الانفتاح على الصعيد الديني والوطني انطلاقاً من الإنسان كإنسان وحسب الديانات في فهمه من ملتقيات، أنها تؤمن بالإله الواحد، وهذا هو الجوهر في الموقف المشترك بينها جميعاً إذن فلماذا التعنت والتقوقع والانفصام والشقاق بين أبناء هذه الديانات، ولماذا لا يكون الحوار بين أهلها على كلمة سواء.

لقد كان الإنسان خليفة الله في الأرض، منطلق نشاطه العملي والفكري والحواري، وكان هذا النشاط أوسع من دائرة طائفته، أوسع من دائرة لبنانه، فأسرع وكأنه طائر ليبلغ ويحاور كلا حسب حاجته وطاقته.

أليس هو الذي حاور في الندوة اللبنانية المدرسة في الحوار؟

أليس هو الذي حاضر في المؤسسات ووعظ وبلغ في الكنائس والأديرة والمساجد، في القرية والمدينة؟

أليس هو الذي سعت إليه المنابر والمدارس وسعى إليها إن في ليله وإن في نهاره ليرشد ويعظ؟

لقد كان فكره عملياً لحاجة اللبنانيين إلى العمل، فكانت مهنية جبل عامل المتطورة، وكانت مدرسة التمريض وتفاقم الانحراف فكانت الحوزة العلمية.

إن نشاطه الإنساني العامر والغامر كان اللافت، وكان المعطي بغير حساب، وكانت ساعاته كلها موصولة بهذا النشاط.

المجتمع الإنساني والقيم والتطور:

الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ويستحيل على البشر ان يعيشوا منفردين لأن بعضهم يكمل البعض الآخر في قضاء الحاجة إلى وسائل العيش، وإلى الدفاع عن النفس، وتحقيق كمال الاطمئنان والسعادة، فالإسلام عند إمامنا هو الانضمام والانخراط في سلك جميع من في السموات والأرض والاتحاد معهم في المبدأ أو السير والمرجع أزلياً وأبدياً، وذلك للتكامل.

فالمجتمع كالجسد الواحد في النظرية الإسلامية، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر "حديث شريف".

لم يهمل إمامنا الجماعة الإنسانية، فالمجتمع يقوم على العمل والتفاوت بين الأفراد، ويتماسك بفضل حاجة الإنسان النفسية إلى تكوين جماعات مترابطة، متطلعة إلى الأعلى، كما رأى في المجتمع يجني ثماره في تلك الحضارة المادية والثقافية، كما أن هذا المجتمع يخضع دائماً، ومن جديد للفساد الداخلي المحتوم تاركاً المجال مفتوحاً لدم جديد في المجتمع مع المحافظة على آثار الإنجازات السابقة.

"والإنسان موجود واحد بجسمه وروحه وحدة متكاملة متفاعلة، وفي الأنظمة الإجتماعية والمالية والمدنية والأخلاقية تجد محاولات واضحة لجعلها على قاعدة واحدة تقرب بين الأفراد حتى تجعل من كل واحد بعضاً من الكل، لا فرداً من الكل، على حد التعبير المنطقي. وقد عبر القرآن عن الأموال والتعهدات والقوى المادية والمعنوية للأفراد أنها "لكم" فأضافها إلى المجموع تكريساً لهذه التربية، وتأكيداً لهذه القاعدة (36).

فالإسلام قال بأن أعمال الإنسان المادية تبدأ بغاياتها، وتنتهي بنتائجها روحانية، بل يمكن للمؤمن من أن يجعل كل حياته سجوداً لله، وصدر الدين الشيرازي يذهب إلى جعل الروح ذات حدوث جسماني وبقاء روحاني.

وبالنسبة إلى الإنسان فالإسلام يعترف بجميع جوانب وجوده ورغباته ثم يحاول تنظيم صلاته بغيره وتنسيق نشاطاته وتعديل رغباته، لكي يلعب دوره الكوني، أي دور خلافة الله في الأرض، فيعيش بجميع جوانب وجوده أفضل عيش وأطيبه وأكثره تمتعاً بالكون.

وفي هذا الخط خط إداء الواجب، كل عمل من الإنسان عبادة، وكل حركة منه مقدسة، والعكس بالعكس.

هكذا نرى أن الإسلام في تفسير إمامنا يعطي صفة الروحية لجميع أعمال الإنسان الصادرة عن باعث سليم، ويصبغ جميع الموجودات بصبغة القداسة (37).

إذن، لا ضعف في روحانية الإسلام، كما يدعيه البعض من غربيين وشرقيين، ولئن اهتم الإسلام    بالنشاط العملي الدنيوي، فإنه لا يقبله إلا روحانياً وعبادة.

إن ما خلقه الله من الزينة والطيبات هو لمتعة الإنسان، واللوم على من حرمها، لكنها قد تنقلب إفساداً. فالمطلب الإسلامي، أنه كلما ازدادت الأموال، وتنامى الجاه، كان على الإنسان ازدياد الإيمان، وإرسال الشكر والعرفان والتقوى.

"ليس الزهد ألا تملك شيئاً بل الزهد ألا يملكك شيء كما يقول أميرنا علي (ع) (38). واهتم الإسلام، كما يذهب إليه إمامنا، بشؤون المجتمع، وعلاقة الأفراد بالدولة وبالآخرين، والأحوال الشخصية والتنظيمات الإدارية والدولية.

ويتساءل سيدنا قائلاً: وهل بالإمكان وضع نظام ديني يتمتع بالقداسة والثبات للمجتمع وشؤونه المتطورة في كل عصر حتى أصبحت كل يوم هي في شأن؟

وينطلق جواب إمامنا من نظرية صدرالدين الشيرازي في مسألة الحركة الجوهرية للمادة التي من شأنها أن تقوم بتحويل المادة إلى طاقة، والطاقة إلى مادة أو تحويل الطاقة إلى حركة والحركة إلى طاقة، وهذا كله من شأنه التغيير والتحويل والتجديد بصورة مستمرة، وعدم فناء المادة كما في قانون افوكادرو.

صدرالدين الشيرازي الذي هو قمة القمم في الفلسفة الإسلامية، وخلاصة الأقدمين، وملهم وقدوة اللاحقين، أنه يتفوق في نهجه الفكري على كثير من المناهج الفكرية الحديثه، لقد اثبت هذا الفيلسوف بطرقه البرهانية الحركة الجوهرية، وأنها مصدر الحركات الكمية، والكيفية، والوضعية والأينية، فالوجود المادي يتحرك بجوهره، وبتمام ذاته، فهو حركة ومتحرك خلافاً لله المحرك الأول الذي لا يتحرك، وبهذا وغيره اعترف المستشرق "كوربان" بأن الفلسفة الشرقية هي التي تتمكن من إنقاذ فلسفة أوروبا من هذا التدهور والتمزق، وأن أوروبا فقيرة جداً إلى التزود بالحكمة الخالدة التي تبعث من الشرق (39).

هل الإنسان يمكنه أن يعزل روحه عن تأثيرات جسده أو يمنع جسمه من التفاعل مع روحه؟ ولقد عرفنا إن الإنسان في كل جوانبه: في حاجاته، في وعيه، في تفكيره، وعلاقاته، هو كائن اجتماعي، يتفاعل مع مجتمعه، ولا يستطيع أن يعيش منفرداً، ولا يمكنه عزل إيمانه وأخلاقه وأعماله الشخصية عن تفاعلات مجتمعه.

كيف يؤمن إنسان وسائل عيشه وبقائه من مأكل وملبس ومسكن ومشرب، بل كيف يمكنه أن يحقق أقصى كمال سعادته واطمئنانه؟ كيف يتصور الإنسان بمختلف شؤون بدون التعاون الذي هو يد بيد، وقلب مع قلب، وفكر مع فكر، وحجر مع حجر في اهرام مآتيه، في أيامه ولياليه؟

إن الإسلام في تقرير إمامنا يؤكد على وجوب المجتمع الصالح المتآلف مع الإيمان والأخلاق، والمتناسب مع القيم الصالحة، ألم يقل لنا رسولنا الكريم:

ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره جائع.

ألم يقل أيضا: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق؟

ألم يهاجم القرآن من لم يتساو عمله الاجتماعي مع إيمانه، وتعاليم دينه "أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين"؟

سؤال يطرحه سماحته بدقة، ويجيب عليه كما هو معهود عنه بدقة واستيعاب ووعي فائق، وحل موافق أو مناسب، وكأن هذا الحل المقومات منطقية بديهية ونتائج لهذه المقدمات بديهية.

ما هو هذا الجواب الصدري الإسلامي المبين، أو ما هو هذا الحل الذي يدفع الشبهات التي اختلقها غربيون وشرقيون إما بدافع التعصب المقيت وإما بعامل الجهالة أو بعامل القشرية في الفهم؟

الجواب يتوزع على جوانب ثلاثة:

أولا: "أن التطور في الحياة، وفي التاريخ البشري معناه تفاعل الإنسان مع الكون، فالإنسان في كل يوم تزداد تجاربه، وتتقدم علومه، فيكتشف أشياء جديدة من الكون، ثم يمارس معرفته الجديدة، ووعيه الجديد، فيستفيد من القوى الكونية المكتشفة، ويطور بذلك حياته الشخصية والاجتماعية، وينتقل إلى فصل جديد من فصول التاريخ البشري الطويل، فالتطور هو قراءة الإنسان سطراً جديداً من كتاب الكون، وطي صفحة جديدة من هذا الكتاب وبممارسة معرفته الجديدة والتغيرات الناتجة عنه.

فالإنسان والكون عنصران كانا في مسرح الحياة من أول الخلق ما زاد فيهما شيء، ولا نقص منهما شيء، بل تبدأ كل صفحة جديدة من الحياة بكشف جديد للإنسان عن الكون، ومتفاعل بينهما

ثانياً: الدين حسب التوجه الإسلامي شريعة وضعها خالق الكون والإنسان، وخالق الكون يحيط علماً بجميع جوانب وجود هذا الكون، ظواهره وبواطنه، كما أنه يعرف جميع جوانب وجود الإنسان ورغباته وحاجاته، لذلك وضع قوانين لكي يتمتع الإنسان بالكون فيحيا حياة طيبة كاملة.

ثالثاً: الله خالق للكون والإنسان يعرف الكون والإنسان، لذلك وضع نصوصاً وتوجيهات ليعيش الإنسان حياة طيبة ذات هدف كبير (40).

النص موضوع الثبات في الفقه الإسلامي والاجتهاد مسلماً بقواعده العقلية، يعوض عن قانون التحول ان لم يكنه، ولكن لا يشكل الثبات جموداً يعيق التطور، كان الاجتهاد وكانت مهمته تليين النص وتطويعه للحياة وعده في الرقي الحضاري لا الغاءه، أو الانحراف عنه، لأن الغاء النص والانحراف عنه يفضيان إلى نسخ القواعد الثابتة وابتداع شريعة جديدة غريبة عنها لا تستند إلى فلسفتنا ولا تخرج من خصائصنا وعرفنا وبهذا يتضح أن اثارة هذه المشكلة في متجه الوعي الحديث تعتبر خطوة أمامية تستحث الطبقة المختصة من العلماء المسلمين على الانبعاث عن هذا الأصل بروح الاسلام السمح إلى تحديد موقفنا من جملة القضايا الجديدة على نحو يثبت شخصيتنا الإسلامية الخاصة بين التيارات الحديثة الغازية.

والمعروف أن كلام الله يختلف عن كلام البشر، لأن فهم كلام البشر محدود بمستوى معرفة القائل، ومعرفة الله لا حد لها، فإنه يتبين معنى جديداً لكلامه كان الإمعان في التعمق فيه، فكلام الله من هذه الناحية كالحقائق الكونية يكتشف الإنسان منه في كل مرحلة شيئاً جديداً، وكما تظهر كل يوم صفحة جديدة من حقيقة الإنسان بمعرفته الجديدة (41).

إذن: الإنسان، الدين، الكون عوامل ثلاثة يواكب كل منها الآخر باكتشاف مراحل وحقائق جديدة.

لذلك يمكن الاحتفاظ بصفة القداسة للأنظمة الدينية الثابتة، والعائدة للإنسان والمجتمع مع إفساح المجال لتطويرها والتعاليم المتطورة تحتفظ  بإلهيتها، وقوتها، وقيادتها، قيادة متطورة مستقاة من القواعد الثابتة الدينية (42).

وان الاختلاف في الآراء والاجتهادات يخدم التطور ويسهل الاجتهاد، وبالتالي يوفر الاقتباس المناسب لحاجات العصر في الإسلام، الرسول (ص) يقول: "اختلاف أمتي رحمة"

في الإسلام بذور التطور تجعل الأحكام منسجمة مع حاجات الإنسان في كل زمان ومكان (43) على هذا المفهوم يبين الإسلام قواعد لتنظيم صلة الفرد بالفرد، وبالمجتمع، وبالكون، ويرشد إلى كيفية معاملة الإنسان لأخيه الإنسان، ويبعث في نفس المؤمن أملاً بالمستقبل، وحسن ظن الآخرين، وإيماناً بنجاح دعوة الحق، وانتصار العدالة التي تؤيدها قوى الكون، وتناصرها ضمائر بني الإنسان.

ويعطي الإسلام مفهوماً عن المجتمع ينبثق من واقع الإنسان الذي هو مبدأ المجتمع والغاية منه، أنه مجتمع إنساني لا فردي ولا جماعي، مجتمع موحد، متماسك، لا منقسم، متصارع، ملون حسب انفعالات الأفراد والجماعات بالمؤثرات المختلفة من طبيعية وسياسية، أخلاقية ومعرفية، واقتصادية واجتماعية.

فالنص الإسلامي ثابت بنصه وليس ثابتاً بمفهومه، لأن مفهومه يساير الزمان والمكان والحاجات، ومن هنا كان الاجتهاد، إنه يلائم الأمكنة والأزمنة، ويتمشى مع كل الظروف، وهذا هو الذي يسمح بالاجتهاد.

تتكون كل ديانة من وحي وتفسير لذلك الوحي، والوحي الثابت لا يتغير لأنه يمثل التعبير الفعلي للإرادة الإلهية، ويتضمن الحقائق الخالدة أما التفسير فهو ما يثيره الوحي من رد فعل في العقل الإنساني، ونظراً لأن هذا العقل داخل في الزمان فهو يعتد به. فالوحي يبقى على مر القرون، دون أن يخضع لأي تغيير في حين أن التغيير والاجتهاد يتعرضان على مر العصور لضغوط القوى الداخلية والخارجية، تلك الضغوط التي تعطي الجماعة شخصيتها في كل فترة من فترات التاريخ.

فالإنسان يتأثر بالعامل الاقتصادي كما يقول ماركس أو الماديون، لكن العامل الاقتصادي لا يشمل جميع المؤثرات، لذلك لا نرى إنساناً في طبقة اقتصادية واحدة كإنسان آخر، فهو يختلف معه في التفكير حيث نجد مثلاً في أبناء الثورة السوفياتية تفاوتاً كبيراً سواء في قادة الثورة الذين سبقوا الثورة أم اثناء الثورة حيث وجدنا خلافات عقائدية أدت إلى التصفيات والقتل والسجن والإبعاد.

فالإنسان في حاجاته وكفاءاته وضمن المجتمع الذي يحتضنه يجب أن يكون منسجماً مع مجتمعه، فكلما نمت حاجة من حاجاته على حساب الأخرى أصبحت وبالاً.

وكلما نما الفرد ونمت جماعة، أو نمت حاجات على حساب فرد آخر وجماعة أخرى أصبحت وبالاً ومصيبة.

فالأوطان رصيدها الأول والأخير هو انسانها العامل، المفكر الحر.

لذلك لنلتق على صعيد الإنسان، كل إنسان، لكي نحفظ أمانة التاريخ، أمانة الله (44).

سؤال نطرحه على ضوء الفكر الصدري.

هل الإنسان المسلم يصلح أن يكون إنسان القرن العشرين.

إن القرآن أو الإنسان لا يلقى الإنسان غريباً منقطعاً في القرن العشرين، بل كل عصر له إنسانه الذي يتلاءم معه، ويتفاعل.

فالجواب الصدري الإنساني والإسلامي الذي تردد فيه إن الإسلام يضع الإنسان في موضعه الذي يطلبه، لأن عصر العلاقات العالمية لا يتطلب مواطناً أصلح من الإنسان الذي يؤمن بالأسرة الإنسانية، أو يستنكر أباطيل العصبية، ومفاخر العنصرية، ليعترف بفضل واحد متفق عليه في كل أرض، وبين كل عشيرة آدمية، وهو فضل الإحسان في العمل، واجتناب الإساءة، وليس لهذا العصر حق على بيئة وأصبح من هذا الشعور بالمسوؤلية، والنهوض بأمانة التكليف، والاحتكام إلى العقل في كل ما يسعه العقل، ثم اطمئنان الضمير إلى الخير فيما خفي عليه من شؤون الغيب المجهول، ولا بد في كل عصر حديث أو قديم من غيب مجهول.

فالإسلام في المفهوم المطلق يعطي القرن العشرين انسانه الذي ليس من إنسان أصح وأصبح لزمانه منه. فإذا آمن بالإنسان بالله، وبالنبوة فليس أسلم لعصر الوحدة الإنسانية من الإيمان برب واحد للعاملين وبنبوة بعد الإيمان بهذا الإله لتسلمه إلى عقله الكاشف، وضميره الحي، وتسأله عن اصلاح نفسه، وإصلاح دنياه بما يدعوه إليه قوام الروح والجسد وطيب الحياة في الدنيا والاخرة.

فالقرآن خاصة، والإسلام عامة يفسح للعقل الإنساني كل طريق من طرق البحث، والتأمل، لا تصده عن طريق قط يترقب منه معرفة نافعة توافق المعارف الشائعة أو تناقضها، فما من طريق يسلكه الباحث الصادق هو طريق مغلق أمامه بحكم من أحكام القرآن.

ألم يقل القرآن: "وقد خلقكم أطوراً" [سورة نوح/14]. والأطوار هذه تشمل الخلق الجسدي، والفهم العقلي.

ليس من الواجب على المؤمن بالقرآن أن يلتمس فيه تأييداً لأصحاب النظريات والفروض في كل عصر يظهرون فيه، نقول لا، لأنها قد تثبت كلها أو بعضها، وقد يطرأ عليها النقص، أو التعديل بين جيل وجيل، فالإسلام حسبه أن يملي للعقل في عمله، ولا يصده عن سبيله، فهذا هو المطلوب بين العقيدة والبحث، وبين الإيمان والتفكير.

إن إمامنا يرى أن القرآن العشرين لم يضع الإنسان في مواضع أكرم له وأصدق في وضعه في موضعه عند أهل القران بين خلائق الأرض والسماء، إنه المخلوق المميز الذي يهتدي بالعقل فيما علم وبالإيمان فيما خفي عليه.

فالإسلام حرية ولكن بضوابط، على الإنسان في المفهوم الإسلامي أن يتحسس معنى ربه خالقاً، وفي معنى حركية الخلق، فالإنسان يملك عقلاً، وبالعقل يعرف الله، ونحمل في دخائلنا قانون الحركية، وقانون النمو فالإيمان هو من خلال العقل، وليس الإيمان فوق العقل، فالعقل يتحرك في كياننا، ويحركنا للنمو في المعرفة، ويطوف بنا آفاقاً واسعة، فالإنسان خليفة الله في الأرض، إذن هو حر، فالإيمان بالله والتسليم له يعطينا كل انفتاح في حركة الرسالات التي لم يبعثها الله لتجميد الإنسان، وإنما لتفتح له افاقاً أرحب، بحيث يتجاوز بها الكون فيها إلى الله، وإلى آفاق المجهول والغيب فالعقل كما يقول ابن رشد رسول من الداخل والرسول عقل من الخارج، أو العقل شرع من الداخل والشرع عقل من الخارج، فالعقل هو المركز، والله عندما يخاطبك إنما يخاطب عقلك:

"وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" [الملك/10].

إذن لا مشكلة بين الإسلام والعقل، فالإسلام يؤمن بالعقل وبالعلم، لذلك أراد الإسلام من الإنسان أن يفكر ويبحث ويتجول في كل المواقع من أجل أن يدرس أسرار الكون، وحركة نظامه، لذلك ليس صحيحاً أن العلم شيء والدين شيء آخر، فالدين يقول بأنه كلما عقلت العلم أكثر كلما فهمت الكون أكثر، وبهذا تعرف الله أكثر، فالدين لا يمر بطريق الجهل بل بطريق العقل والعلم.

لماذا ظهرت المعاصرة (الحداثة)؟

آخذاً بالعقل بعد ان تجمد نشاطه، ومن أجل أن تعطي الإنسان معنى الاعتراف بالآخرة والتعايش معه، لذلك لا مشكلة بين الإسلام والمعاصرة أو الحداثة في هذه الشؤون.

فالقرآن نصوص ثابته، ولكنها لا تلغي الاجتهادات المفسرة للنص حسب العصر، وحسب الحاجة، والمناسب والتطور، والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب، فالأول له أجر والثاني له أجران فليس صحيحاً أن الثبوت في النص يلغي الاجتهاد، فالله يحاسب الإنسان على أساس عقله، من هذا الجانب لا خلاف بين المعاصرة (الحداثة) والإسلام.

هذا كله يؤدي إلى أن الحوار مفتوح بابه أمام العقلين ليتحاورا بكل انفتاح وإقبال "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" المهم أن نطلب مواطن اللقاء مع الآخر في الحوار قبل مواطن الخلاف، ومن هنا أكد إمامنا التعايش مع كل الديانات.

فالديانات في الوسط الإسلامي لم تتعرض للإلغاء، ولا إلى التشويه أو الاعتداء، وإن كان هنا بعض الفوارق، ويذهب إمامنا إلى القول في هذا الشأن:

ألم يكن هنا بين المسملين بعض الفوارق، مما يؤكد أن الإسلام يعترف بالآخر، بل يأمرك أن تحول أعداءك إلى اصدقاء؟ الناس صنفان أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق.

وبهذا الحوار العقلي الموضوعي والمعطاء، لم تكن الحضارة الإسلامية بإنجازاتها محلية ذاتية، تسعى لخدمة أبنائها فحسب بل كانت دائماً حضارة معطاءة للآخرين، متطلعة للتأثير الفاعل في تاريخ المعرفة والحضارة الإنسانيين.

وبهذا الحوار أيضاً يكون الاحتفاظ بكرامة وحق الإنسان، ودفعه إلى العطاء الإنساني الذي لا يعكر صفاءه تعصب أو جهل، أو فساد.

لقد حملت الدعوة الإسلامية منطقاً حوارياً، والحوار في ذاته اعتراف ضمني بالثنائية من ناحية وبالأرضية المشتركة في لغة الحوار من ناحية أخرى، والا لألتقى منطق الحوار نفسه فالإسلام رسالة تستجلي معاني التوحيد وتخاطب العقل والفكر، وتنادي بوحدة الدين: دين ابراهيم الخليل.

خلاصة واستنتاج:

إمامنا الصدر هو الإنسان الإنسان، إذن فلا عجب أن يكون محور نشاطه العملي والفكري الإنسان الذي هو خليفة الله في الأرض، وهو "ذروة الخلق، وقمة الصنع، إذ أن للإنسان بين الموجودات كلها ميزة كبيرة، تمكنه لأن يتخلق بأخلاق الله، ولهذا خلق حراً، يتمكن من العلم والمعرفة وأتيحت له قوة العمل التي هي القوة الوحيدة لتكوين التاريخ وتطويره دون سواه، فلا دخل للعوامل الخارجة عن مسعى الإنسان في تكوين المجتمعات، وتحديد معالمها كائناً ما كان، بل الإنسان بعمله عن معرفة أو عن جهل أو عن إهمال، يختار طريقاً، ويفضل خطاً، ويكون الأمر كما اختار هو لمجتمعه".

فالشعب يعني وجود وحدة فكر ورسالة تقوم على عاتق الناس، وتصهر المختلفات في بوتقة واحدة، فتكون أمراً واحداً هو مفهوم الشعب في آرائه.

لقد أحاط إمامنا بالإسلام علماً وفهماً وانطلق بوعيه وراء ظاهر النصوص ليفهمها ثابتة تصلح للاجتهاد المساير للعصور والحاجات.

إمامنا هو فيلسوف أو يكاد وعلى تبكير وحسبه أن يعي الإسلام متحركاً، والإنسان سيداً، والكون بنظامه الأدق، رغم أنه لم يقل كل كلمته، بل نطق بحرف واحد منها.

وحديثنا عن إمامنا في فكره مع الإنسان وغيره قد اغتنى بما لديه من كنوز في التفاتاته.

- الله في مدرسته الإسلامية واحد أحد خالق حكيم يقول للشيء كن فيكون، ويحيط بكل شيء علماً.

- الكون مخلوق لله، وهو نتاج الحكمة الإلهية، المطلقة، والإرادة المطلقة، والعناية المطلقة ليكون النظام بقوانينه الصائبة والتي لا خلف لها.

- الانسان خليفة الله في أرضه، فهو يقوم مقام الله في إدارة الكون، ومعرفة أسرار الكون بأسباب الإيمان الذي هو عقل يمكنه بالتدرج والنمو من الإحاطة بأسرار هذا الكون، لقد سجد له الملائكة لأن الله علمه الأسماء كلها، فكان سيد المخلوقات بعقله وعلمه، بنزعتي الخير والشر، وان كانت المخلوقات ملائكة وكلها من عالم الخير. إن الإنسان بعقله وعلمه يدبر شؤون الكون، ويطوره، لأن الله هيأه مقتدراً على معرفة أسرار هذا الكون، وإدارة شؤونه، وإلا فكيف هو الخليفة لله المحيط بكل شيء علماً لا يعرف هذا الكون بكل شؤونه.

- الإنسان في ميزان إمامنا عليه واجب وله حق، والواجب قبل الحق، أي الواجب أولاً والحق ثانياً وشرف الإنسان وكرامته هما في واجبه وحقه.

واجبه مع الله إيمان وطاعة ان في العبادات وان في العمل. واجبه أنه مكلف ومسؤول بأسباب العقل الذي يميزه.

واجبه مع نفسه صلاح وتطهير وتحرير، واجبه مع الآخرين ارتباطاً بالله عبادة وبنفسه وبالآخرين أخلاقاً لا كذب بل صدق، لا خيانة بل أمانة، لا ظلم بل عدل، لا تجهيل بل تعليم، لا سرقة أو اغتصاب بل عطاء، لا غش، لا نميمة، لا قتل إلا بالحق، لا غيبة، لا فتنة، لا فساد ولا فساد بل الصلاح والإصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحترام الآخرين، وحفظ كرامتهم لأن الإنسان شريف الموقع، كريم الخلق، واجبه استغلال طاقته وعدم الاستهتار بالوقت، والأخذ بأسباب النظام هو قوانين الكون، واجبه ألا يلغي الاخر وأن يعيش على وحدة الأديان، ووحدة الناس، وأن يفهم الأديان بأنها عقل يصنع الإيمان.

أما حق الإنسان فأنه الحرية التي هي محور شخصيته وكرامته في العبادة "فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر" ومع نفسه فلا يحملها مالا طاقة لها به، ولا يملكه هواه لأن من ملك هواه ان حراً كما تعبير أمير إمامنا وأميرنا، يتصرف بما يشاء وكيف يشاء لكن بمسؤولية، وشعورنا بالتكليف، إنه مسؤول تجاه الله، تجاه نفسه، تجاه الاخرين، ومن حقه حفظ حياته وكرامته.

وبعد: لا نهاية لحديثنا مع فكر إمامنا الإنساني وإنسان إمامنا، وكيف ينتهي وإمامنا بعبقريته ذات النسخة المفردة، بل والبحر الذي يعب عبابه، وتصطخب أمواجه، هو مع نفسه ومع الله، ومع الإنسان في نفسه وفي الآخرين، في ليله ونهاره، في قلبه النير، وعقله الكاشف الفاتح، حضور إمامنا وإن غيب شاخص بإشراق وخافق في يومنا وغدنا، لأنه المعلم والموقف، والمبدأ، والقضية والمبادئ ليست إلا بأهلها.

سيدي فلأنت الوعد الآمل، والعهد الموثوق والواثق، وأنك النور على النور في عملك وفكرك، وإنك الأرض في السماء والسماء في الأرض لتكون الإنسان الأكمل والأمثل كلمتك الحكمة كانت عملك الأقوم ولا فصل. وفي البدء كانت الكلمة والكلمة هي الله. عرفناك كما الحقيقة، كما عرفناك برداً وسلاماً وانفراجاً وحياة في نيران الحروب، وأزمة الاختناق، وستبقى في انسانك، وإنسان تعاليمك كما الشمس في ضحاها، والبحر في فيضه، والسلام في روحانيته، ولو كثر أمثالك لما كانت الحرب اللبنانية القذرة، ولما انتشر الفساد والإفساد في العالم "وجاء من اقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين".

وعوداً على بدء: الشكران البالغ نرسل، والتوقير الجليل نبلغ للمؤتمر وأهله الأوفياء للعلم وأهله وخاصة السيدة رباب التي هي امتداد لإمامنا في النشاط الإنساني، والحس الإنساني، والسلام عليكم.

1- محاضرة الإسلام وكرامة الإنسان منبر ومحراب – اعداد حسين شرف الدين – ص109

2- محاضرة رعاية الإسلام للقيم الإنسانية، مجلة أمل، العدد 13 ص5.

3- محاضرة الإسلام – منبر ومحراب، ص93

4- من محاضرة الإسلام م.س

5- مجلة أمل، كتاب الإمام موسى الصدر قضية 417.

6- نفس المصدر 414.

7- منبر ومحراب ص 25

8- ابجدية الحوار – اعداد حسين شرف الدين ص   مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات –بيروت 1997.

9- الكون مبني على الحق والعدل شريط عدد 83.

10– نفس المصدر السابق.

11- راجع رعاية الإسلام للقيم والمعاني الإنساني – أمل ورسالة العدد 13 ص2.

12- المصدر السابق ص 12

13- محاضرة الإسلام وكرامة – م.س

14- محاضرة الإسلام – م.س.

15- الإسلام وكرامة الإنسان، م.س

16- نفس المصدر ص 93.

17- محاضرة الكبوشية، م.س.

18- كتاب الإمام موسى الصدر قضية ص 418.

19- المصدر نفسه 428.

20- الإسلام وكرامة الإنسان، م.س.

21- الإسلام وكرامة الإنسان، م.س.

22- الأصالة – الروحية – التظور، منبر محراب إعداد السيد حسين شرف الدين، محاضرة في القاهرة ص16.

23- شريط عدد 3.

24- الكون مبني على الحق والعدل شريط 83.

25- حديث بعنوان رعاية الإسلام للقيم الإنسانية العدد 13.

26- مجلة أمل 14 نيسان 1979.

27- مجلة أمل 14 نيسان 1979.

28- لقاء التراث الإبراهيمي والحوار الإسلامي المسيحي الذي عقده ما بين 9 و12 تموز الحالي في كلية اللاهوت للشرق الأدنى في بيروت بدعوة من مجلس كنائس الشرق الأوسط والفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي.

29- كتاب الإمام الصدر قضية ص27.

30- حديث صحفي لسماحته في القاهرة آذار 1970 صحيفة الأنوار 7/3/1970

31- التشيع ايديولوجية القادة وسلوكهم، مجلة أمل، كتاب موسى الصدر، قضية ص53.

32- كتاب موسى الصدر قضية ص 433.

33- من حديث لسماحته مع وفد من نقابة المحررين النهار 18/1/1977.

34- النهار 30/3/1975 من بيان سماحته في اجتماع الهيئة العامة للمجلس الشيعي.

35- مقال افتتاحي لسماحته في مجلة صوت المحرومين 23/9/1976.

36- منبر ومحراب محاضرة الأصالة – الروحية – التطور – في المركز العام للشباب المسلمين القاهرة 19/4/1970.

37- منبر ومحراب محاضرة الأصالة – الروحية – التطور – في المركز العام للشباب المسلمين القاهرة 19/4/1970.

38- نفس المصدر

39- راجع الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي، ومحاضرة الإسلام ثقافة القرن العشرين لسماحته ص431 كتاب الإمام موسى الصدر قضية، صحيفة الحياة 25/11/1969.

40- منبر ومحراب محاضرة الأصالة – الروحية – التطور – في المركز العام للشباب المسلمين القاهرة 19/4/1970.

41- منبر ومحراب محاضرة الأصالة – الروحية – التطور

42- منبر ومحراب محاضرة الأصالة – الروحية – التطور، ص29.

43- حديث صحفي في الجزائر، مجلة المجاهد الجزائرية 12/8/1973، كتاب الإمام موسى الصدر ص86.

44- محاضرة الكبوشية 1975.

source