الإمام الصدر وحق الحياة على الإنسان

calendar icon 01 تشرين الأول 1998 الكاتب:حسين شرف الدين

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الثانية)

باسمه تعالى

إبتداء أشكر مركز الإمام الصدر للابحاث والدراسات لدعوتي للمساهمة في مؤتمره الثالث، وأشكر أيضاً لكوني في جلسة يرأسها دولة الرئيس سليم الحص، وهو الذي يقتدي برصانة السلوك والتخلق السياسي مما يميزه بنمطية في الاداء ترتفع به إلى مستوى الفرادة في المجلس النيابي اللبناني.

ولكم سلام الله سادتي اصحاب السماحة والسيادة والسعادة والاساتذة والسيدات والآنسات. آملاً ان يليق حديثي مع كريم الحضور ونبيل الاستماع.

عنوان المؤتمر قد يوحي بأن جميع أبحاثه ومداخلاته تدور حول حقوق المواطنية الاجتماعية والسياسية والحرية والفردية والجماعية، ومسؤولية المجتمع والدولة والمجتمع الدولي والمؤسسات الدولية القانونية والانسانية والسياسية، وغيرها من الموضوعات التي لا انتهاء لتوصيفها وتفاصيلها أو للمستجدات عليها والمستحدثات.

حق الإنسان في الحياة لا تنتهي تفاصيله، فمع كل مستجد في الحياة تبرز تفاصيل أخرى لأنها ترتبط بالوجود الآني للإنسان حيث ينظر إلى الضمانات المعيشية، وحقوق الافراد في مجتمعاتهم، وفي تعامل مجتمعاتهم مع المجتمعات الدولية الآخرى.

وقد تنحصر الابحاث في الحقوق منذ الوجود المادي للإنسان في الحياة، وقد يتعداه إلى اعتبار الوجود منذ انعقاد النطفة، وهنا تختلف الآراء فيمن هو صاحب القرار في استمرار عدة العمل أو انهائها، اذ يرى البعض الحق للحامل بهذه الصفة، ويرى آخر حقاً مشتركاً بين الامومة والابوة لمشاركتها في آلية الايجاد.

وفي هذه النقطة مثلاً نجد عديداً من التفاصيل التي لا تستقر عند حد معين، اذ تضيف المستجدات تفاصيل أخرى دون البت بما سبق فكيف بنا إذا تعاملنا مع كل ما يكتنف حياتنا اجتماعياً وسياسياً وإقتصادياً، فردياً، وإجماعياً، محلياً وإقليمياً ودولياً، بما يوقعنا في مهاوي اتخاذ القرار ممن هو ليس بذي حق.

عندما نتحدث عن حق الإنسان فرداً أو جماعة، يسرع إلى الذهن أمر من اثنين: أما ان يكون هذا الإنسان قد بلغ رشداً لحق لم يكن بمستوى ان يعيه، أو يكون دون قدرة بلوغ الحق أمام قدرة السالب له. وفي أي من الامرين يبرز التساؤل عن تاريخية الاقرار بالحق، إذا كان تاريخه يرتبط بإعلان شرعته، فإذا كان هذا تاريخه فما هي الشرعة التي كانت تنظم حقوق الإنسان قبلاً، والشرعة التي يكثر الحديث عنها الآن ذات نصف قرن من الزمن فقط، وكثر الحديث حولها منذ عقد أو أكثر قليلاً.

ثم هل الحق طبيعي أم وضعي؟ وهل هو حق نفسه أم حيثية المنادي به؟ فإذا كان مرتبطاً بالمنادي به وقد طرحه في الامم المتحدة الاقوياء الذين لا يهضم لهم حق، فهل هم أوصياء على حقوق البشر؟ فإن كان كذلك لماذا نرى في مكان من العالم سلباً لحق الإنسان له تبريراته عند الاقوياء، وسلباً تجيش لرده قدرات وتحشد لصده قوى؟ ثم لماذا نرى في نفس بلدان الاقوياء هضماً لحق الجماعات فيها وتنعماً لجماعات أخرى؟

أما إذا كان الحق حقاً في نفسه فيعني أنه كان منذ أقيم الكون، وان له مفهومه الذي لا يختلف فيه اثنان وهو معيار للسلوك البشري والقواعد المعرفية، والاسس التي تبنى عليه العلاقات، فإذا أدى فرد أو مجتمع حق جهة مقابلة، فحق على تلك الجهة أن تؤدي ما يقابل ذلك الاداء، وكأن في الأمر تلازماً وواجباً، فما هو حق لطرف فهو حق ملزم على آخر.

وفي قوله تعالى "وإذا اردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" [الاسراء/16] أو (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) [الروم/47]. وفي الحديث ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معاذ في حق الله وحق الناس (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا)، وكل هذا يفيد أن ما يحق على طرف هو حق للطرف المقابل، إن كانت العلاقة بين الإنسان والله أو كانت بين أبناء البشرية بعضهم مع البعض الآخر، وإن أثير في وقت ما حق من الحقوق، فلا يعني أنه لم يكن، ولا يعني أن تاريخيته تبدأ من لحظة الاثارة، ولا من لحظة الوعي والاحساس به، بل هو قائم منذ ان كانت الخليقة، والحاجة إلى ممارسة جانب معين منه تأخر لزومها، فتأخر التبادل فيها أو التلازم، وهذا التأخر أحدث عرفاً يثبت ما هو قائم على ما هو عليه، واعتبار الخروج عنه تجاوزاً للحقوق وثورة، وما زال الصراع حتى الآن يخضع لهذا المنطق، فمطالبة الرقيق بحريتهم مثلاً يعد ثورة، ومطالبة العمال بإنصافهم ثورة، ومطالبة المرأة بحقوقها ثورة، إلى ما هنالك من أوضاع اجتماعية انحرفت عن مدارها يوماً، فاتخذها من جاء الانحراف إلى صالحه حقاً من حقوقه، وتبنى القوانين الوضعية على هذا، واذا اقتضى الأمر تعديلاً باسم تحديث القوانين، جاء التحديث وكأنه إلباس الانحراف ثوباً أكثر أناقة وتناسباً مع العصر، فلا يخرج التحديث عن عصرنة الانحراف أو تحديث ما رسمه الاقوياء لأنفسهم، بينما للحق وجهه الثابت يميز أو يوصف أو يجزأ، فليس هنالك نصف حق ونصف من شيء آخر، ولذا كان للحق أن يوفى بكامله أو لا يوفى بكليته، ولا سبيل غير هذا، فحيثما يكون الحق يتحرك باتجاهه الاداء.

نخلص من هذا العرض وإن طال، ان القوانين الوضعية، وإن نال منها الإنسان بعض الحقوق فتبقى مرتهنة في تنفيذها للسلطان، وإلى الثغرات المتعمدة في صياغة القانون، بينما القانون الطبيعي وإن استطاع السلطان تأويله ولكنه لا يستطيع اللعب في مفهومه التاريخي، فالقانون الوضعي يتغير ويختلف بتغير المجتمعات وتطورها، والعصور ومستجداتها، اما القانون الطبيعي فيتميز بالثبات لأن قاعدته نظام الكون، حيث نجد كل شيء من أشيائه، وكل ظاهرة من ظواهره يحتل المكان المناسب له وللنظام القائم عليه ككل، فالعدل مثلاً، على مستوى الكون هو إنزال كل شيء منزلته الطبيعية فانعكس هذا المفهوم الاجتماعي البشري بإنزال الناس منازلهم، وهذا لا يعني أن فهم أو تفسير الثابت لا يتغير تبعاً للمستحدثات الفكرية والعلمية والعملية التي توسع آفاق حركة القوانين باتجاه الجديد لإدارته وإنمائه وتوليد جديد منه.

هذا ما وقفت عليه في قراءاتي للإمام الصدر، وعدل من توجهي في الكتابة عن الحقوق عند الإمام الصدر، فبدلاً من ان يكون حق الإنسان في الحياة، تحول إلى حق الحياة على الإنسان، ومنه نصل إلى حقوق الإنسان، التي تترتب له على قدر ما يؤدي للحياة مما عليه من تطوير وتشكيل وإعادة صياغة.

قد نحتاج في البدء إلى تحديد مفهوم (الحياة) لنقترب من المداليل التي يرمي اليها الإمام الصدر.

(الحياة) كما هي الكثير من العبارات ترمز إلى المكون الأول لها والموجد لأسبابها لتؤدي إلى غايات تردف سواها وصولاً للتكامل بين كل هذه المفردات، وبهذا فالحياة هي الإرادة الالهية فهو (الذي خلق الموت والحياة) [الملك/2] والغاية (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) ولكل خلق غاية، فمنها ما هو للضياء ومنها القمر للنور وتقدير المنازل لمعرفة عدد السنين والحساب ومنها ما هو للفيء والظلال، ومنها أكنان ووقاية من الحر ووقاية من البأس، ومنها للدفء والمنافع والسرح والسبح والراحة والحمل وبلوغ ما لا يبلغ الا بشق الانفس، والقيام بالانبات والزروع والثمرات، وتسخير كل المخلوقات من ليل ونهار وقمر ونجوم، وغيرها من أمور يقضي الانسان بها حاجته أو يستخدمها لأغراضه، وعند كل فاصل يلفت إلى ما يقتضي من تعلم وتفكر، وتعقل وتذكر وشكر، وهداية واهتداء، مروراً بإبراز ما عمر وما يعمر، ويعيد سبحانه كل عملية التسخير لأوامره، ويضمن ذكر ما يستفيد منه الإنسان بالتساؤل: أإله مع الله؟

هذا عرض سريع للإسباب المختلفة لخلق الإنسان والأشياء فلو رصفناها إلى بعضها البعض لاتضحت أمور من أن تسخير الاشياء للإنسان غايته:

1-  الاعمار والتطور عن طريق إعمال العقل.

2- تنبيه الإنسان بأن التسخير هو بأمر الله والاعمار والتطور بهداية الله إلى الوسائل التي هي العقل، فلا يعتز بنتائج ما وصل إليه وانما هي مما هدى الله.

3- ان تبقى كل عملية الاعمار والتطوير محصورة ضمن خط منهجي واحد هو خط الاله الواحد (وما كان معه من إله اذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض) [المؤمنون/92].

تابعت الإمام الصدر في قراءاته المختلفة للإسلام الإلهي، واذا انا أمام الثابت في كل شيء، هذا الثابت الذي اجتاز كل وضعي، أو كل متزلزل حسب تعبيره عن الامور التي لا تضمن لنفسها دواماً لمنتجاتها في العلوم والآداب والفنون والفلسفة، والتي لا تخضع لقاعدة ثابتة.

ومن الثابت يتسلسل بالعلاقات مع الكون بما فيه الإنسان وما يفترض عليه هذا الإنسان في الحياة الدنيا، ونزوع له لما فيها من مغريات وتحسب لديه لرجعة إلى حيث كان الايجاد.

إنا لله وإنا إليه راجعون، هي العبارة التي يلخص بها القرآن الكريم حركة الإنسان عند الإمام الصدر، اذ يقول: (نحن في رجوع مستمر إلى الله، أي الكمال المطلق) (1) وهذا الرجوع يهيب بالإنسان ان يقضي العمر في حركة وسعي دائمين وذلك لأن: (الحركة تغيير مستمر، واتجاهها نحو الكمال اللانهائي الذي هو الله، يستدعي سيرها نحو الإفضل، اذ الحياة في مفهومها الديني رفض الوقوف والجمود والتراجع) (2).

رجوع الإنسان إلى الله لا بد أن يكون له مقتضيات تحتم الرجوع وتحدد حالته، وهل هو عند الموت فقط؟ فيكون هنا الرجوع للحساب لا غير، وليس للإنسان ارادة فيه، بل الارادة في ان يكون الرجوع مستمراً، ليصدق عليه معنى الحركة والسعي وغائية التغيير للكمال، لان في كل رجعة حساب للذات، حيث ينتج الرجوع وعياً لخلل أو تصويباً لمسار، يبنى عليه المقتضي إلى ان يكون الرجوع الآخر، وهذه رجعات إرادية حرة، تأخذ بالإنسان إلى دروب الاستقامة.

الرجوع الارادي الحر الذي يعود فيه الإنسان بين الحين والآخر لينصب الميزان بينه وبين ذاته، تستفيد فيها من العناصر الرسالية التي بنيت عليها أطوار الرسالات الالهية الثلاثة، حسب مفهوم الإمام الصدر الذي يرى ان (الرسالات الالهية ذات اطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الإنساني، تليها رسالة الانبياء، وأخيراً رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشاكل التي يعانيها الإنسان والتي هي تحركات لدفع الإنسان إلى الخير والكمال).

وقوف الإنسان أمام نفسه بين فترة وأخرى، لا تضمن نزاهتها، فلا بد من حكم من خارج الذات، أو معايير تلتزم الذات بالعمل حسب قواعدها بدقة، على ان تتناسب مع كون الرجعة إرادية وحرة، وليس أقوى التزاماً من الايمان، ومعايير مما وضعها الله سبحانه، ولا ينفصلان.

وربما استطعنا أن نرسم – إلى حد ما – الإطار الذي حدده الإمام الصدر للعلاقات المختلفة بين الله والكون والإنسان وسائر المخلوقات بما يعطي للحياة معنى غير ما نعيشه، وما عاشوه سابقاً، ولن يختلف عيشه في ما بعد.

اولاً: يحدد الإمام الصدر شخصية الإنسان الإلهي، من خلال ما رسمه الإسلام (فالإسلام في اركانه الثلاثة: العقائد – الاعمال – الاخلاق – يجعل للمسلم قاعدة فكرية تركز له مفهومات معينة تعد أساساً لإيمانه وعباداته وحقوقه وواجباته ومثله الاخلاقية) (3).

من الاركان الثلاثة رسم الإمام الصدر المدار البشري في العلاقات، ومستهل العلاقة فهم الجانب الذي ستبنى معه العلاقة، وبإيجاز يقدم لنا (الله)، فهو: واحد احد عالم عادل له الإسماء الحسنى والامثال العليا، أزلي أبدي، غني عن العالمين، ليس بينه وبين شيء أو شخص أو فئة أو وضع صلة ولا انتساب، لا يزيد ولا ينقص) (3).

هذه هي بعض صفات الله، ومن اراد ان تكون له علاقة معه ان يتقدم إليه وقد شكل في ذاته ما يقرب من هذه الصفات، ولا يشكلها إلا من آمن بها، وعرف حقها (إذ يوجه هذا المفهوم الإنسان إلى الشعور الفطري ليسمع صوت ضميره الذي ينادي بالإيمان، ثم يطلب منه ان يتدبر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وفي الآفاق والانفس لكي يتبين له الحق تبيناً عقلياً حتى يعيش ايمانه بعقله وقلبه (3). يتدبر أمر الآفاق وتقلب الافلاك وتعاقب الازمنة وأبعاد الخضوع إلى الواحد الاحد. وأنها إخلاص في عبودية الله، وتحرر من كل ما سواه، فهي تقرب اليه وشعور بالقوة المستمدة منه، إنها اتصال به وصحبة له وإكتساب صفاته) (3) فخرج من ربقة التواصل مع عداه متحرراً من آلهة الأرض ومنها الهوى وعبادة الذات، والعشائرية والعائلية والجاه والمال والمجد والزعماء والطغاة والظلمة، بالاضافة إلى الاصنام والظواهر الطبيعية وأرباب الانواع، (فلا إله إلا الله كسر لإطار المحدودية وتحرير مطلق للإنسان، يعني لا إلهية الإنسان حقيقة حددها له معبود اللامحدود واللانهائي) (4).

التحرر من آلهة الارض والالتزام بأبعاد (لا إله إلا الله) هو ثورة في نظر الإمام الصدر من آثارها – إلى جانب ما سبق – تعتمد (على الإنسان، تريد الإنسان، الانسان الشريف، الإنسان الكبير، الإنسان الذي يحترم ما يقول، ويحترم ما يسمع، ويحترم ما يحرك، ويحترم ما يشاهد، يحترم كل شيء.

أما الإنسان الذي لا يحترم نفسه، يعتبر نفسه موجوداً كظاهرة من الظواهر الكونية كمية مهملة من الموجودات) (5).

إلى هنا، وما زالت الحياة تعطي الإنسان مفاهيم للحياة وبعلاقاته معها، لتريه في ما بعد، مفاهيم لجوانب أخرى منها، فماذا تعطيه عن الكون، أو يعطيه خالق الحياة والكون، (فالكون مخلوق واحد مشبع  بالروح والجمال، منظم متزن، سائر نحو اسمى الاهداف، قائم على اساس الحق والعدل، متناسق، متجاوب في اجزائه بعضها مع بعض ومع الخالق) (6).

ويهيب بالإنسان النداء الإلهي، فنصغي إلى الإمام الصدر وهو يستعيده ويرى فيه رأيه (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) [الحج/18] فيعلق الإمام الصدر بالقول (وفهم الكون بهذا الشكل له تأثير كبير في معنويات الإنسان وسيره وجهاده، وفي شعوره نحو آلية الكون له في اداء رسالته في الحياة).

من هذا نفهم ان الحياة ما ادرجت الإنسان في ما ادرجت فيه بقية المخلوقات، يسبح كما تسبح المخلوقات الاخرى، ليس له إلا أن يعطي، بوتيرة مقتضيات العطاء، كالنحلة، كالوردة، كالشمس، كأي شيء تختزن فيه قدرة ما مثل سائر المخلوقات، وربما باستثناء الموت والحياة، باعتبارها فواصل لمدى حيوي لعطاء المخلوقات.

فالموت والحياة بكونهما مخلوقات إلهية ومدى حيوي تحتضن حركة المخلوقات الأخرى فتحفظها الحياة في خيرها وشرها، لتعهد فيها للموت فيفنى الجسد والذكر، أو يفنى الجسد ويخلد الذكر.

التكون الذهني للإنسان الإلهي لا تضعه في هذا الموضع التنقيذي للامور، أو الاداء الروتيني، (فثقافتنا هذه تربط بين السماء والأرض، وتصل المخلوق – فرداً أو جماعة بخالقه، فتتصف بالربانية والقداسة والقوة) (7)

وهذا الربط لا يقف عند حركة تواصل بين نقطتين متباعدتين: (الكون من الشرق إلى الغرب ومن الأرض إلى السماء، بجميع افلاكه ومن الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل مترابط بعضه ببعض) (8).

(وهكذا كل شيء في العالم لا يمكن ان يتصور مستقلاً في وجوده عن وجود ما في الكون، بل الارتباط وثيق دائم لأن الكون اجزاء واقسام وأصناف ولكنه يشكل كياناً واحداً) (9).

وباعتبار أن (الإنسان هذا الجزء الممتاز من الكون فهو مخلوق على صورة الخالق في اسمائه وصفاته، خير بالذات، مفطور على الدين الحنيف، يتمكن بحسب خلقه أن يسير في خطه المرسوم له، وان يسير لكي يكون مخيراً في سلوكه نحو الكمال لا مسيراً ليس له الا التسبيح) (جعل خليفة الله في الأرض واعطيت له مفاتيح الكون، وعلم الاسباب والاسماء وسجدت له الملائكة، وسخرت له القوى الكونية كلها، والطريق الوحيد، إلى المقام المنشود – مقام خلافة الله في الأرض تبديل القوة بالفعل، واكتساب العلم بالكون وقواه واكتشاف قوانينه) (10).

ما زلنا إلى الآن نعيش الاجواء الزاهرة في المفاهيم حول الله سبحانه وحول الكون والانسان، وموقع الإنسان من الله ومن الكون، وهو الموقع الذي يدير شؤون الكون خليفة لله سبحانه وليس كدور الملائكة المدبرات امراً، والادارة عن طريق (قواعد لتنظيم صلة الفرد بالفرد، وبالمجتمع وبالكون، ويرشد إلى كيفية معاملة الإنسان لأخيه الإنسان، ويبعث في نفس المؤمن أملاً بالمستقبل وحسن ظن بالآخرين، وإيماناً بنجاح دعوة الحق، وبانتصار العدالة التي تؤيدها قوى الكون وتتأثر ضمائر بها بني الإنسان) (11).

إذا كانت هذه صلات الفرد بالفرد، فما هو المجتمع؟ (انه مجتمع انساني لا فردي ولا جماعي، مجتمع موحد متماسك لا منقسم متصارع ملون حسب انفعالات الافراد والجماعات بالمؤثرات الكونية التي تحيط به، واحد في كثرته شأن الكون كله، وشأن الإنسان نفسه، متعاون متسابق إلى رضوان الله (11).

يوقفنا الإمام الصدر، في هذه الفترة على مصطلح جديد للمجتمع، وهو المجتمع الإنساني لا الفردي ولا الجماعي، ومن مجمل محاضراته نستطيع ان نفهم انه يعني المجتمع الذي تقوم فيه السلطة على ما هنالك من مشاعر إنسانية وتعاطف وتواد وتواصل، يحل فيه الوئام والحوار والتفاهم محل المنازعات بين القطاعات الشعبية إن كانت سلطة الفرد أو سلطة المجتمع وفي كليهما عزل لقطاعات هامة من قوى الشعب العامل مما ينعكس خسارة كبرى على صعيد الانتاج القومي العام في مختلف الحقول، يريده مجتمعاً فيه السلطة متناسبة في توجهاتها مع سلامة الفطرة البشرية التي تقودها مشاعر الاخوة البشرية دون عصا السلطان.

ملامح المجتمع الإنساني نجد بعضها في ثنايا كلماته، التي ندرجها باعتبارها ملامح مبعثرة دون حصر أو تحديد أولويات، فالإنسان في نظر الإمام الصدر يحتاج إلى أخيه الإنسان حيثما كان، فالكل يحتاج إلى الكل، فإذا احتاج فرد ما أو جماعة أمراً من الأمور فهو (يستعين بأهله في جميع مرافق الحياة، ولكن هذا لا يعني ان هؤلاء أصلاء في العطاء، بل كلهم أمناء على الكفاءات، والاصيل هو الله وحده الذي أعطى وأمن، فالإنسان يستعين بأخيه فيما استخلف عليه لا أقل ولا أكثر، فالقوة والمال والعلم والمهنة والكفاءة ليست لك، وإنما أمانة عندك، فإذا أخذ الإنسان شيئاً فمن فضل الله سبحانه، ولذلك لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لأن الله هو الأصل في العون والعطاء ويجب أن يكون هو الغاية في الاستعانة والحركة (12).

الرجوع إلى الله في كل أمر يقوم به الإنسان، يبعده عن الانانية والغرور، اذ لا يعتبر نفسه الفائز أو المنتصر، كما يبعده عن الحسرة والقنوط إذا فشل أو عثر، إذ (أن من أسس التعاليم الناظمة حياة الإنسان ما نراه في الآيات المباركات في سورة النجم (أن ليس للإنسان إلا ما سعى، وان سعيه سوف يرى) آياته سبحانه تؤكد ان حياة الإنسان هي من مستوى سعيه وعطائه كماً وكيفاً) (13).

الاصل في التوجيه الالهي هو السعي لانه دليل إرادة الإنسان على تحقيق أمر، وهو صورة إمكاناته ونواياه.

أما النتيجة سلباً أو ايجاباً فهو رهن عوامل خارج قدرات الإنسان التي تعجز عن جذبها لصالحه.

يركز الإمام الصدر على ضبط الإنسان لنفسه أمام نشوة الفوز أو وجع الفشل باعتبار (ان أكثر ما يهذب الذات هي القيم التي تقهر الفرد طوعاً من أجل تربية الأنا وتوجيهها في الجماعة والمجتمع) (14).

تربية الأنا عند الإمام الصدر ليست قهراً صوفياً للنفس، بل لرؤية (ان العمل التنظيمي عمل جماعي لا عمل فردي، وفيه تذوب الأنا الذاتية في الأنا الجماعية) (15).

ويتطلع الإمام الصدر من خلال تربية الأنا (ان يصبح جميع الافراد بمنزلة جسم واحد كبير منتشر في كل مكان، وان تتوزع المسؤوليات على العناصر كما هي موزعة على أعضاء الجسم الواحد).

ولا يقف الإمام الصدر في توزيع المسؤوليات على مجرد التوزيع، بل يؤكد على الكفاءة في تحمل المسؤولية عند التوزيع، وكل لما يسر له، ولذلك يتابع بالقول (فالعين مثلاً لم تستلم مهمة الابصار بناء على التعيين أو الانتخاب أو التكليف بل لأنه لا يمكن لأي عضو آخر ان يقوم بما تقوم به العين، وهكذا) (16).

تربية الأنا تتضاءل أمام طموحات الإنسان وتطلعه إلى التقدم والسمو، وهو الوسيلة للتخلص من الأنا، فكلما أمعن سيراً نحو الارتقاء تحرر من الأنا، وبهذا يخاطب كل فرد منا بقوله: (كلما حاولت ان ترتفع وتسمو وتتقدم تتمكن بأي شكل ان تترك شيئاً من الانانية) (17).

ليست الانانية وحدها عامل تقهقر، إنها مظهر من شر أساسي، والشر له مظاهر مختلفة، وقديماً كان مذ كان الصراع بين من يطمحون إلى السمو ومن يستسلمون للمنحدرات.

النظرة إلى الخير والشر عند الإمام الصدر لا تخرج عن نظرته المتفتحة الزاهرة لما في الحياة، فنحن حين نقرأه يتحدث عن الخير والشر، أو فهمه لما أتى به القرآن الكريم، لا نرى وقعاً شديداً كما اعتدنا ان نستمع إلى ما يقال عن الشر، وأفضل ان اقتصر على قوله دون عملية تفسير أو شرح، وأكتفي بالقول بأن الشر هو الطرف المقابل الطبيعي للخير وكأن الغرض من وجودهما هو الصراع بين متناقضين بل لصراحة وضوح بينهما لبيان إرادة الإنسان وحريته أو فقدانه لهما.

يقول الإمام الصدر: ( ... أراد الله ان يجعل في الأرض خليفة لا آلة مسيرة ولا شبه آلة، بل أراد خلق موجود يتصرف حسب إرادته ويمارس حريته، حيث أن حرية التصرف لا تتم الا مع وجود نزعتي الخير والشر في الإنسان، وإلا مع وجود طريقي الخير والشر في الأرض، خلق الله الإنسان بهذه الخصائص ثم علمه الاسماء وجعله مستعداً لمعرفة حقائق الكون والقوى الكونية متمكناً من الاحاطة بها عن طريق معرفتها) (وجود الخير والشر في الاحساس ووجود الخير والشر في الحياة يخلقان الصراع الدائم في نفس الإنسان قبل الصراع في الخارج وبالتالي فإن هذا الصراع هو الدافع المتجدد نحو الكمال).

ويقول: (فالكون ميدان للسير في الخط المستقيم كما هو للانحراف والضلال، والانسان أمام المفترق، يسمع صوت الله بلسان عقله وبلسان ضميره وبلسان أنبياء الله وبالطرق الاخرى للهداية، وصوت الشيطان بلسان نفسه الأمارة بالسوء وبلسان عناصر السوء والفساد من البشر وغيره، يستمع في حياته إلى الندائين فيجيب بملء إرادته لنداء الخير والشر، وهكذا نرى أن الشيطان في مفهومه الإسلامي يقوم بدور بارز في تعميق الخير الإنساني "ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حي عن بينة) [الانفال/42] (18).

ميدان السير هذا عمل الأنبياء والربانيون والعلماء والمصلحون على دمج الإنسان فيه بدوائر ثلاث لتنظيم العلاقات بين الإنسان والوجود، والدوائر هي:

1- الغيبية، وهي الإيمان المطلق بالحق المطلق والتوجه إليه في كل سعي ونشاط وعمل تحريراً للنفس من أن تتوجه بإيمانها إلى موجودات لا ثبات لوجودها.

2- الكونية: وهي الموجودات ضمن ما ينطوي عليه تحديد السماوات السبع والأراضين السبع،وهذه لا حدود معلومة لها, كما لا حدود للمدى الذي سيتوصل فيه الانسان لاكتشاف ما فيه, ما دام هذا الانسان, بكل ما تقدمت لديه وسائل الكشف لا يزال أمام مجاهيل هذا الكون.

3- العالمية: وهي الدائرة التي يمتلك الانسان قدرات التحرك والتفاعل خلالها وبالخصوص في دائرته الحيوية وفيها مدى تحرك الفرد بقدراته الذاتية ومحيطه المستوعب لهذه القدرات.

ومن هذه الوائر الثلاث نلحظ أن الجماعة البشرية تمتلك المعرفة وقدرات التحرك في الدائرة الثالثة، لأن منها تتفرع دوائر محلية تجد فيها كل مجموعة بشرية دائرتها الحيوية بما هنالك من طبائع مختلفة للمجموعات البشرية تمنح خصوصية تساهم في التطور العام للدائرة العالمية إذا كانت التفاعل تكاملياً بينها ومبنياً على مجتمع إنساني لا فردي ولا جماعي كما يطرح الإمام الصدر.

هذه الدوائر، بوجود وسائل العلاقة في ما بينها من جانب، وما بينها وبين الإنسان من جانب آخر، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بالسجود والتسبيح، وهي قوانين طبيعية، يضمن انتظامها المدبرات أمراً، وهي من القدرات التي علينا الايمان بها إيماننا بالله، لأنها الرسول المقيم في هذا الكون لحفظ نظامه العام.

أما الإنسان، فلم يدخل في تكوينه هذه الطواعية المطلقة التي نظمت في سلكها الملائكة، ففي ايجاده كان العلم والاختيار، ولذلك كان سجوده وتسبيحه مدركاً ....... سجود الأشياء الأخرى، ثم انسجامه معها في الأغراض الدائرة في مدار الكون مع ادراك دوره ان عليه ان يكتشف سرها ليثري به النتاج الكوني، فتنوع الجماعة البشرية قدرات عملها وقنوات أغراض التطوير.

ننهي هذا الجانب النظري من الحديث عن حق الحياة على الإنسان عند الإمام الصدر بقوله: (فخلق الإنسان من جنس الأرض على يد الله، والنفخ فيه من روح الله صورة واضحة عن الجوانب الوجودية الشاملة في الإنسان، والتي تمتد من الأرض إلى السماء، وهذا تعبير قوي أيضاً للكرامة التي يتمتع بها الإنسان) (19).

وبعد هذا التجوال، كيف يرى الإمام الصدر المجتمع والتطور، وحركة الحياة، فالمجتمع بنظره (يعني الفرد زائداً الاعمال المتبادلة) (20)

وربما نفاجأ ان يذكر الفرد وليس الجماعة، فالإمام الصدر لا يعتبر الكثرة العددية تشكل مجتمعاً إذا لم يكن هنالك تعامل،  ومن الطبيعي ان الفرد لا يتعامل مع نفسه، بل يتعامل مع آخرين، بهذا يكون التبادل في المصالح والمنافع المشتركة، هي التي تكون مجتمعاً.

(ان الإنسان في تكوينه، في حياته، في حاجاته، في وعيه، في تفكيره، وفي جميع جوانب حياته، الإنسان في جميع ذلك موجود إجتماعي يتفاعل مع مجتمعه الذي يعيش فيه، فهل يمكنه ان يعزل إيمانه وأخلاقه وأعماله، من تفاعلات مجتمعه؟) (21) (المجتمع القائم على أساس الايمان مجتمع متماسك حي كامل، التفاعل هو كمال الافراد والتعاطي هو عبادة ورسالة الأفراد) (22) بحيث (يتحول كل فرد إلى طاقة أبدية في سبيل تحرير وتغيير المجتمع) (23).

فكيف ينظر الإمام الصدر إلى التحرير والتغير؟

أنه في البدء يعطي مصطلحاً عاماً بالقول: (هو نتيجة التفاعل المستمر بين الإنسان وبين الكون المحيط به، وليس ناتجاً عن حدوث عنصر جديد في مسرح حياته، ولا غياب عنصر عنه) ومعالم التطور (ان الإنسان يبحث فيقرأ سطراً جديداً من كتاب الكون فيطلع على عنصر جديد أو طاقة جديدة في الشيء الذي يعرفه وعند ذلك يستفيد من علمه من جديد في سبيل تحسين وضعه ليستعمل الجديد ويطور حياته والكون المحيط به ويتطور هو أيضاً ثم ينطلق من المرحلة الحياتية الجديدة للبحث عن جديد آخر، وهكذا).

والنتيجة ان (ليس هناك شيء يطور حياة الإنسان من الخارج، ولا هنالك فقد عامل من عوامل الحياة الإنسانية تتغير الحياة من أجل انعدامه، "ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم" (24) [الرعد/11].

ولكن عملية تغيير ما بالنفس لا تتم في المناخات القلقة، فالإستقرار والاطمئنان نفسياً وفكرياً هما الادوات الرئيسية للاجواء التغييرية، وهذه الاجواء تتوفر: أولاً: بالكلمة الشريعة الطبيعية كلمة الله وليست الوضعية، لأنها الكلمة التي لا تتغير وإنما الذي يتغير هو المفهوم البشري لها (يعني ان أي فهم جديد للقرآن، وفي أي مستوى كان هو صحيح، عندما يحصل حسب القواعد المعتمدة في الكلام، ويمكن اعتماده والتمسك به في تنظيم شؤون الحياة وفي كلام الناس، لا يمكن اعتماد هذه القاعدة، لأن الإنسان يعبر عن مستوى ثقافي لا يمكنه تخطيه ولذلك لا يجوز فهم كلامه الا في حدود مستوى ثقافته) (25).

الركيزة الثانية في الجو المطمئن يعتمد على الاسرة التي (تشكل جانباً مهماً من حياة المجتمع البشري وتتفاعل مع المجتمع بصورة متقابلة فتتأثر بالتطورات الاجتماعية وتؤثر في المجتمع بدورها) (26).

عاملان يعطيان هاتين الركيزتين هويتهما المميزة، الاول: روحانية التعاطي أو ماديته، وقد درجنا أن نعتبر الكسب مادياً بينما اعتبرنا اداء العبادات أمراً روحانياً، ولكننا نرى الإمام الصدر يقدم مفهوماً مختلفاً عن المادية والروحية، وهو بهذا يخرجهما من حدود الاطار الاكاديمي، وهو بحد ذاته إطار جامد، لا يلحظ الجوانب النفسية عند الإنسان في فهمه أو قصده.

إنه يقدم لنا المادية والروحية في التفسير الفلسفي، بأن المادة: (كل موجود يحتاج إلى الحيز والابعاد، أو كل موجود متحرك الذات متطور الحقيقة، والمجرد: ما ليس له أبعاد وما لا يحتاج في ذاته إلى زمان أو مكان أو حركة (27).

يشرح الإمام الصدر هذا التفسير بالقول: (فجميع الحركات الصادرة عن الإنسان مادية حتى العبادات والفداء والاحسان، وحتى التفكير، فإنه يقترن بحركات خلايا الدماغ التي هي مادية).

في هذا الشرح يشتبه علينا الفهم فنتابعه حتى نقع على تحديد أكثر، وتعريف ما يرمي إليه، (فالميزان الصحيح لمعرفة مادية شيء وروحيته يعود في أعمال الإنسان إلى باعث العمل وغايته) (28) وعلى هذا يعتبر ان صلوات وساعات تفكر قد تكون مادية، بينما يرى ان اعمالاً اجتماعية أو إرادية وغيرها تصدر لغايات سامية فتجعل منها عبادات مقدسة.

نفهم من قراءتنا للإمام الصدر هذا الذي يرتكز على فعل الإنسان ومرجعيته للبناء على تحقق العبادة وليس على الحركة المجردة من أية أبعاد مما يحول الحركة إلى عبادة طقسية، وهي ما أنكره نبينا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله على من انقطع للصلوات دون العمل ودون سعي لرزق، والسعي للرزق جهاد.

جال الإمام الصدر في هذا الميدان، مناقشاً قولاً ومؤيداً قولاً في جو ممتع فكرياً رافعاً بعض حيرة في معرفة كنه المفاهيم، حيث يتيه الفكر في المعاني المجردة للألفاظ ومنها ما يوقعنا في تساؤل كبير لنجد ما يفرق بين الروح والنفس أو ما يجمعها، فنجده يبعد الحيرة بنسبة كبيرة إذ يعرف: (الروح المهتمة بتصريف شؤون الجسد تسمى نفساً، أما الروح فهي أسم خاص للشأن التجردي المطلق الذي يتجلى حال نزول الوحي وتدبير الشرع والذي يواكب الملائكة في بعض الآيات القرآنية) (29).

ربما هذا التعريف هو أفضل ما نجده مناسباً لمن لا شأن له بالفلسفة، ويحل الكثير من الابهام، أو على الأقل يسمح لنا أن نتابع الحديث دون حرج كبير، إذ  لا نحس بفرق بين الروح والنفس، وإنما هي محاولة تمييز وظائف نجدها في كتابات الفلاسفة، حتى أن (قسطا بن لوقا) في رسالته وبعد أن يجول في تعريفات وتمايزات ينتهي إلى القول: (ومهما يكن من أمر فإن النفس في اصطلاحنا مرادفة للروح ومقابلة للمادة، فالنفس هي الروح، هي النفس أو ما به حياة النفس) (30).

مفهوم الإمام الصدر ليس فقط اقتداءاً واتباعاً لسنة، بل يذهب به إلى العمق الفلسفي حيث يخرج منه إلى البناء التربوي والجهد الفكري الذي يجعل من الروحانية في الإنسان صناعة بشرية في قوله: (وقد ابدع صدرالدين الشيرازي حيث جعل الروح ذات حدوث جسماني وبقاء روحاني) وأخذ الإمام الصدر باتجاه الشيرازي يعني انه يخالف رأي ابن سينا بقوله:

هبطت اليك من المكان الارفع           ورقاء ذات تدلل وتمنع

ولذلك يقول الإمام الصدر: (ولا يتمكن الفيلسوف ان يتصور انفصال الجسم عن الروح، وصدور أفعال من احدهما بمعزل عن الآخر لكي يسمى بعضها افعالاً مادية وبعضها الآخر افعالاً روحية، بل التفاعل بين الجسم والروح يبلغ درجة تجعل منهما – عند كثير من الفلاسفة – تركباً اتحادياً) (31).

هذا التفاعل الذي يراه الإمام الصدر بين المادة والروح هو الذي يمكن ان يرتقي بالإنسان نفسياً وفكرياً وعملياً، أو بالاحرى يرتقي بهما الإنسان بتطور نحو الكمال شخصياً وجماعياً، ومن هنا يرى أن العالم قد تقدم كثيراً في المجال العملي، ولا يزال يتقدم بما لا يتصوره العقل، ولكنه لم يراع التوازن بين التطور العملي والتطور الاخلاقي، فأهمل اخلاقه بإنسانيتها وكأنه يبني اخلاقاً آلية ويرى ان ليس (من المعقول ان يعيش الإنسان في مجتمع يناقض الحظ الذي يسلكه في عمله ويتنافى مع إيمانه واخلاقه فلا ينفعل بذلك المجتمع) (32).

يمكن ان نفهم بالتالي ان التفاعل المادي الروحي هو الوسيلة لكل أمر إجتماعي صغير وكبير، تفصيله ومجمله، ومن هنا ننتقل للعامل الثاني وهو العمل حيث تتمثل فيه آلية التطوير، وروحية العلاقة الاجتماعية.

الإمام الصدر لا يرى العمل على أنه حركة جسدية فحسب، أو أنه لمجرد الكسب دون غاية خارج الكسب، (فعمل الإنسان هو القوة الوحيدة لتكوين التاريخ ولتحريكه وتطويره دون سواه) (33) من خلال حركة (المجتمع الإنساني الحي الذي يرتبط الافراد في بعضهم ببعض من خلال عطاء مطلق لا يحدد ولا يثمن) (34).

من خلال هذا القول لنا ان نسائله عن مفهومه حول العمل فنجد: (إن العمل هنا رسالة يجب تحقيقها ببذل كل ما في طاقة الفرد، فهو قطعة من وجود الإنسان ذابت فتحولت إلى العمل) (34).

العمل في هذه الفقرة رسالة واجبة التنفيذ، وكل من لا يقوم  بالعمل بحسب ما في الفرد من طاقة فهو آثم، ذلك لأن الطاقة هي مما استؤمن عليها الإنسان، وقد مر معنا هذا المعنى، والطاقة لم يؤتمن عليها للاحتفاظ بها بل لبذلها وإنفاقها، ولا يحصر معنى الطاقة بالجهد الجسدي ولا بالقدرة المالية، بل هي كل ما أمكن الإنسان أن يقوم به أو يقدمه من فكر أو علم أو مال وبأي شكل من أشكال التبادل بين الافراد والجماعات في المجتمع، وهذا ما يعتبره الإمام الصدر بالانفاق الذي يؤدي عدم معاطاته للفرد إلى التهلكة لأنه لا يساهم من تخفيف الاشكالات الاجتماعية وتنمية المجتمع، فتنعكس عدم المساهمة تخلفاً اجتماعياً عاماً يؤثر على مجمل اوضاع المجتمع بهلكة تصيب من لا ينفق لرفع المستوى الاجتماعي (35).

واذ يعتبر الإمام الصدر ان قطعة من وجود الإنسان ذابت فتحولت إلى العمل ندرك حالة التوحد التي أحلها للعمل في نفس الإنسان، كأن العمل هو أحد اولاده وفلذاته، ولم لا وهو قطعة من وجوده، وليس فقط لكونه نتاجاً ومماثلاً بل هو ايضاً حلقة تواصل مع الله سبحانه باعتبار ان (العمل حي مثل الإنسان، عبادة، لا يمكن تجميده ولا تثمينه، والمجتمع الذي يتكون من هذه الاعمال وهذه العلاقات مجتمع حي كمثل الجسم الواحد على حد تعبير الحديث الشريف) (36).

ان يكون العمل كمثل الجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له بقية الاعضاء بالسهر والحمى، ان يكون هكذا فهو المعنى التأكيدي لمماثلته الإنسان في حيويته ومساره، وبالتالي دعوة للمجتمع بأن يكون مسؤولاً عن كل عنصر فيه، يهب لحماية أفراده من انتكاسه أو ركود او إفلاس أو بطالة أو أي أمر يحول دون قدرة الاكتفاء والانتاج.

ومن هذا المناخ قسم الإمام الصدر الحاجة التي تصيب افراد المجتمع فتقعدهم عن الإنتاج إلى أربعة اقسام: كثرة العيال – قلة الخبرة بوسائل العيش – العاهة المعطلة – الكسل، ورأى ان على المجتمع ان يتحرك للاقسام الثلاثة الاولى لتوفير الوسيلة المناسبة للعون، أما بالنسبة للفئة الرابعة فيرى ضرورة إنزال العقاب بالكسول إلى أن يقلع عن كسله، وقد ذكر هذا المعنى في أكثر من موقع، والمبنى النظري أن (المؤمن بالله يهدف من خلال عمله إلى هدف أسمى هو كماله، ولذلك فإن كماله هو حركته التكاملية نحو الافضل، ولا يقصد من خلاله الوصول إلى الاجر الذي يقدم له مجتمعه، بل الاجر هو واجب مجتمعه تجاهه، وليس ثمناً لعمله) لأن (العمل بهذه الصورة ينبع من الايمان بالمطلقات وبالقيم التي لا ينفصل الايمان بها عن الإيمان بالله) (37).

هذه النظرة للعمل وكونه لا يمكن تجميده ولا تثمينه تدعونا للتساؤل عن قيمة العمل، ويعيدنا التساؤل إلى ابرز من طرح المسألة تاريخياً فنقرأ (آدم سميث) وهو واضع أوليات النظام الاقتصادي الرأسمالي، فهو عندما يتحدث عن المجتمع البدائي يعرف العمل بأنه أساس القيمة ليأتي بعده (ديفيد ريكاردو) وهو مؤسس قاعدة النظام الرأسمالي ليقول بأن العمل هو أساس القيمة ومصدرها.

أما "كارل ماركس" فيقول: تقاس قيمة الاشياء بحسب كمية العمل الضروري اجتماعياً، وتجنباً لتقدير العمل اتجه لتقدير قوة العمل، وهذا أيضاً أمر معنوي يعصى على التقييم.

وقبل هؤلاء، بما بين أربعة وخمسة قرون قال (ابن خلدون) تقاس قيمة الاشياء، بحسب قيمة العمل اللازم لإنتاجها، ثم عزى القيمة إلى موضوع العرض والطلب.

نلاحظ بأن هذه التعاريف تحدد قيمة انتاج العمل وليس قيمة العمل نفسه، وذلك لأن العمل هو أساس القيمة ومصدرها، ويعني انه القاعدة التي تقاس بها الاشياء، ولهذا لا نجد تحديداً للعمل بذاته في التوجهات الفكرية الثلاثة: الرأسمالية والماركسية والإسلامية، ولنا ان نعتبر نظرة ابن خلدون اسلامية وهو الفقيه المالكي، والموسوعة العلمية.

اما قيمة العمل التي يراها الإمام الصدر فهي قيمة مبنية على النظرة الاسلامية للتكامل والتطور بمعنوياتها الدنيوية وأجرها الأخروي، وتتمثل بالآية الكريمة: (أن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ويجزاه الجزاء الاوفى) [النجم/39-41] بما في ابعاد هذه الآيات، اذ تعتبر السعي هو القاعدة في الحياة العملية، وليس النجاح، فالسعي بحد ذاته نجاح في المنظور القرآني، ثم هذا السعي يرى يراه الساعي، فيقيم نتائج السعي توخياً لسعي آخر، ويراه جيل الساعي وأجيال أخرى إذا كان للسعي موقعه المرموق في سطور التاريخ، فيقتدي به جيل الساعي، وكذلك من بعده حسب قيمة السعي، واخيراً، فإن الله يراه فيجزي الجزاء الأوفى.

وهنا حق علينا ان نحدد حق الإنسان على الحياة بقدر ما يعطي للحياة حقاً، وبقدر ما يحسن عطاؤه وسعيه الحثيث لنيل حقه، ويحسن الغرض من السعي، فالإنسان، وإن كان من المفترض أن ينيله مجتمعه حقه، ولكن ليس المنتظر ان يتقدم أحد لتسليمه إياه، فهذا أيضاً من بواعث السعي.

وبهذا فقد حدد الإمام الصدر معياراً للعمل الذي هو قاعدة كل المعايير، وقد تمردت على المعايير المادية، ولكنها هنا ستقر وتطمئن.

شكراً لكم أيها السيدات والآنسات والسادة وأرجو أن أكون قد وفيت لكرم حضوركم وما علينا حين نحدد حقاً للإنسان في الحياة إلا ان نسائله عما أعطى للحياة من حقها عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله.

___________________

1- كراس حركة المحرومين: الولادة – ظروف النشأة – الابعاد، ص49-1986

2- منبر ومحراب – محاضرات للإمام الصدر – اعداد: حسين شرف الدين، ص30.

3- يراجع كراس (لا اله الا الله) ص 21 حتى 27.

4- يراجع كراس (لا اله الا الله)  ص21 حتى 27.

5- كراس لا اله إلا الله، ص20.

6- منبر ومحراب، ص40.

7- منبر ومحراب، ص42.

8- كراس لا اله الا الله، ص12.

9- ن، م، ص 13.

10- منبر ومحراب ص40.

11- منبر ومحراب ص 41.

12- لا اله الا الله، ص 29.

13- منبر ومحراب، ص 158.

14- كراس حركة المحرومين، ص64.

15- ن، م، ص 63.

16- كراس حركة المحرومين، ص63.

17- كراسة الشهادة الإمام، ص127.

18- حركة المحرومين، ص49.

19- منبر ومحراب، ص 111.

20- لا اله الا الله، ص36

21- منبر ومحراب، ص 107.

22- لا اله الا الله، ص 37.

23- الإسلام وتنظيم الاسرة، ص102

24- منبر ومحراب، ص 107.

25- الإسلام وتنظيم الاسرة، ص 202.

26- الإسلام وتنظيم الاسرة، ص 202.

27- منبر ومحراب، ص 202.

28- منبر ومحراب، ص 103.

29- ن – م- ص105.

30- مقالات الفلاسفة بيروت 1911.

31- منبر ومحراب، ص103

32- منبر محراب، ص 107

33- ن- م –ص 116

34- الاسلام وتنظيم الأسرة، ص 206.

35- تراجع مقالة حول تفسير القرآن الكريم، مجلة الزهراء – القاهرة – السنة 1- العدد1 – جمعية الدراسات الاسلامية وتنظيم الأسرة، ص206

36- الاسلام وتنظيم الأسرة، ص206

37- الاسلام وتنظيم الأسرة، ص 107

source