تستمر مواسم عطائه

calendar icon 01 تشرين الأول 1998 الكاتب:بهجت غيث

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الافتتاح)


بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد له وحده سبحانه وتعالى في السراء والضراء وبه نستعين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون أصحاب السماحة والسعادة والسيادة. أسعد الله أوقاتكم وبارك اجتماعكم وتعاونكم على البر والتقوى وتلاقيكم تلبية للدعوة السنوية التي يوجهها المسؤولون القيمون على مؤسسة مركز الإمام الصدر للأبحاث حيث تزامنت هذه السنة مع الذكرى الخمسين لإعلان حقوق الإنسان والعشرين لتغييب قائد مسيرة الإصلاح والتحرر والانعتاق الذاتي من التخلف والحرمان ومن أوهام الخوف والجهل والهيمنة والطغيان وهكذا تستمر قوة الكلمة في تجسيد حضور الروح رغم تغييب الجسد باستمرار مواسم العطاء وحصاد غلال الوفاء من بذور الوعي واليقظة التي غرسها الإمام في قلوب المؤمنين من بني قومه ووطنه وأمته العربية والإسلامية وهكذا استمرت قوة كلمة الحق الأزلية منذ ابداع الكون وإنابته من حبة "كن" بأمر العزة الآلهية ترددت أصداء تلك الكلمة السواء على مسامع الخلق في سائر الدهور والعصور وضجت بها الأرض والسماء ونطق بها الرسل والأنبياء وعلموها للبشرية خلقاً بعد خلق وصولاً إلى الموسوية والعيسوية تمهيداً لنضوج كلمة الحق الأحدية المترفعة عن القبلية والبعدية أشرقت بها الشمس المحمدية لتبقى دائماً وأبداً واحدة في جوهرها رغم اختلاف وتعدد مظاهرها وهي الأمانة التي حملها الإنسان وكان ظلوماً لنفسه لجهله بها فلا بد له من العودة إليها بعد أن أدرك الخطر المحدق بحضارته المادية الخالية من القيم الروحية الخارجة عن المألوف من القواعد والثوابت الأخلاقية والأوامر والنواهي الآلهية التي يجب أن تسود وتحكم العائلة البشرية حيث تطورت الحضارة مع بداية هذا القرن تطوراً سريعاً مذهلاً ظناً من إنسان هذا العصر إنها ستكون مصدراً لأمنه وسلامته ورخائه وبلوغ سعادته فإذا بها تصبح فجأة مصدر تهديد وقلق متزايد ومتسارع مع تسارع ما تبقى من شهور وأيام ونهاية هذا القرن تهدد مصيره وتنذره بأوخم العواقب وتدخله في دوامة العنف والدمار والخراب وسفك الدماء تحت قناع محاربة الإرهاب بالإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان تحت شعارات حفظ تلك الحقوق فضاعت كلمة الحق وشح نورها والتبس معناها الحقيقي في أذهان الخلق وكفر الإنسان بنعمة خالقه الذي خلقه ليجتمع على مائدة المحبة الألهية بروح التسامح والألفة والصدق والوفاء لا بذهنية التعصب والحقد والكراهية والنفاق أمره بالطاعة فعصى وأمره بالتذكر فنسي وأمره بمعرفة نفسه ليعرفه بها فجهلها والإنسان عدو ما يجهل فراح يكتشف مجاهل الأرض والسماء وعلم الغيب وعجز عن اكتشاف مجاهل نفسه وهي أقرب إليه من كل قريب وأمره بالتواضع والمحبة والعطف فظلم وتجبر وتكبر وطغى وأمره بالاجتماع على القيم والمبادئ والثوابت الدينية التي تجمع ولا تفرق، ليعرف حقيقة الحق ويتحرر من الأوهام ويترفع عن تفاهات هذا الزمان السائلة طبائع معظم كبرائه ورؤسائه بسيلان الحطام والأثام، لقد نسي الإنسان الحق فاستعبده الباطل وأحب الظلمة وأعرض عن النور فحققت عليه إلحاقه وأدركته مصاعب هذا الزمان المتميز بالاستكبار والعتو والغرور والمطامع والشهوات والغرائز والشرور وكثرة الظلم والجور ودوام هبوب ريح الشيطان في نفس أهل البغي والفسق والفجور والعدوان فعمت الفوضى زوايا المعمورة وأصبحت الفضيلة كالعملة المهجورة وتحكمت بالقرية الكونية طبائع الضد وقواه الابليسية الشيطانية المنافسة للقيم والفضائل والمثل الإنسانية ونشطت في النصف الثاني من هذا القرن تلك القوى المتحكمة في حضارة إنسان هذا العصر الاستهلاكية وتمثلت وتجسدت بجمع أشتات فلول الصهيونية العالمية بدعم من القوى الكبرى التي جمعتها وغرستها ومكنتها في هذه البقعة المباركة من أرضنا المقدسة فتمخضت وولدت كيان التعدي والتحدي والظلم والعدوان ومن مفارقات ومفاجآت هذا الزمن أن يتزامن إعلان حقوق الإنسان مع ولادة هذا الكيان.

أيها الأخوة الأعزاء نتساءل وإياكم في مناسبة افتتاح مؤتمركم الذي نرجو أن يكون شمعة نور تبدد ما أمكن من ظلمة هذه الفترة الأصعب من تاريخ البشرية.

أين أصبحت حقوق الإنسان المسكين على مشارف نهاية الألفين وأين أصبحت إنسان هذا العصر حتماً كما تقول الآية النورانية لقد أصبح في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

وهل على الإنسان وحقوق خوف وخطر في هذا العصر إلا من أخيه الإنسان أي من نفسه الأمارة بالسوء في زمن الانحراف والطغيان وفقدان الايمان والتنكر للحق والقيم والفضائل وارتكاب المعاصي والشرور والرذائل، وركوب موجة جنون الغرائز والمطامع التي تجتاح الكون من قبل أرهاط الفساد والمفسدين المتكبرين المستعلين على الحق الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون.

لقد صنع الإنسان بنفسه لنفسه حضارة التيه في صحراء المادة فغرق في ظلمتها وأشغلته عن فهم حقيقة ما تدعو إليه الأديان التي بين يديه فجهل حقيقة كلمتها السواء التي جاءت لتكون حجة له فأصبحت حجة عليه ونسي ما ذكر به في الدين كما في الكتاب المبين "وما خلقكم وما بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير" (لقمان 28) "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" "فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً" "كل حزب بما لديهم فرحون" (المؤمنون 52-53).

لقد نسي الإنسان الحق في ذاته فكان الحق له ناسياً ماحقاً "وبما جناه على نفسه بنفسه شاهداً ناطقاً" يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم "إن الإنسان خلق هلوعاً" "إذ مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً" (المعارك 19-20-21).

أيها الأخوة المؤمنون لن نسهب في الكلام عما يسمى بحقوق الإنسان التي أصبحت سخرية هذا العصر والزمان ونترك لمؤتمركم معالجة ما أمكن من الخلل المتأصل بين فوارق الممارسات ورفع الشعارات والاهتمام بالمظاهر والأعراض عن الجوهر وبالأقوال المتناقضة مع الأفعال ونكتفي بالتذكير ولفت الأنظار لوجوب النظر بعين العقل في عمق حقائق نعمة الأديان ولا نكتفي بالإلمام بتعدد قشورها ومظاهرها بل نغوص في أعماق أسرارها لنستخرج كنوز جواهرها فنتذكر القول المأثور "العلم نقطة كثرها الجاهلون" كما يؤكد ذلك الكتاب المبين "وأتيناهم ببيناتٍ من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" (الجاثيه: 17) ونكتفي بالإشارة إلى علة اعتلال فهم الإنسان لحقيقة الأديان وتمسكه بالقشور التي تشتت وتفرق وتبدد. وإعراضه عن الجوهر الذي يجمع ويوحد ونعرض عن التوسع والأسهاب في ذكر تعدد المشاكل والعلل والأسباب التي أوصلت الإنسان لزمن الشدة والضيق وكوارث الحروب والتمزيق والتفريق والحريق والغريق وانتهاك الحرمات ومآسي الجوع والتشرد والمجازر وجنون الطبيعة وثورة الغضب والمفاجأت التي تنتظر الإنسان في زمن التغيير السريع الآتي مع صحبة الألفين ليقلب الموازين ويقلب عروش المستكبرين ويعيد الإنسان لرشده ووعيه وولائه للعزة الألهية الكونية المحيطة بهذا الكون بقوة خفية فقد أصبح التغيير حقاً من حقوق الإنسان ومن أولويات مطالبه الأساسية والخالق سبحانه وتعالى لا يتخلى عن خلقه ولا يتركهم سدى.

لا يغير نعمته ما أحسن أهلها مصاحبتها يعز من يشاء ويذل من يشاء لا يخلو منه زمان ولا من نوره مكان. أينما توجهت فثم وجه الله وجه الحق والحقيقة في الذات الإنسان علينا أن نستشعر ونتحقق تلك الحقيقة في ضمائرنا، في أعماق سر سرائرنا لنكون قريبين من الله الذات اللطيفة في ذاتنا والنور المشع في صفاء مرآتنا لنرحم أنفسنا ونتعرف على حقيقة الحق والعدل ونتحرر من التعصب والحقد والحسد والباطل والجهل ونثق بأنفسنا ونثبت على طريق إصلاح الذات والتعلم من دروس الحياة والصبر والصمود والثبات فبإصلاح الفرد تصلح العائلة والمجتمع والأمة وتبدأ مسيرة استعادة حقوق الإنسان وينتصر الحق ويهزم الباطل في ساحة الميدان ويتصالح الإنسان مع نفسه ومع أخيه وينعم بنعمة الأديان.

أيها الأخوة الأحباء والعلماء الفقهاء أهل الذوق والعلم والنباهة والفهم. الحقوق تؤخذ لا وتعطى للشعوب والأمم هذا إذا صحت العزائم ونهضت وأرادت وصممت النخبة المؤمنة من أهل الإيمان والحقيقة والبرهان وعلو الهمم ووفاء الذمم. والتغيير يصبح حقيقة واقعة ومهما تأخرت ستأتي ساعة الفصل ويصدر الحكم ويأخذ كل ذي حق حقه بحكم الحق والعدل وجمود الحق لفترة لا يعني إلى الأبد لذلك لا بد بانتظار التغيير الحتمي من الصبر والثبات والصمود في مقاومة الباطل المتجسد بالخطر الصهيوني الجاثم على أرضنا الممعن في محاولات زرع الفتنة بيننا لتفريقنا. لا بد من الوقوف صفاً واحداً في وجه الشر ودحره وعودة الحقوق العربية لأهلها في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان والجولان وفي ذلك مؤشر لعودة حقوق الإنسان وتحريره من الظلم والفساد والطغيان بإرادة خالقه وباريه ومرشده بعقله إلى سر النور الكامن فيه وهاديه إلى نعمة الأديان ليجتمع المؤمنون من كل العائلة البشرية الآدمية.

أخوة الأديان وأمة الأخوان المتجذرين في كل الأمم والشعوب والأديان أهل الذوق والمعرفة والثقة واليقين والإيمان لتنطلق صرخة الحرية والتحرر من هذا البلد الأمين مركز التغيير بلد انبثاق الحضارات والتقاء الديانات ورفع صوت الحق والمناداة بحقوق الإنسان لتسمع أصداؤه وتعلو رايته في كل موضع ومكان ويتسابق المتسابقون ويفوز الصادقون وينجح المؤتمرون في وضع النقاط على الحروف لإنارة طريق أهل الصلاح والفلاح والنجاح أهل الذوق الطيبين من كل طائفة وأمة ودين أصحاب النوايا الطيبة والقلوب النقية والعقول الزكية والنفوس الأبية التي تأبى الخضوع والخشوع إلا للعزة الألهية والقدرة القاهرة الكونية التي بدأت تظهر بعد أن كانت خفية وقد اقترب زمن إحقاق الحق واستيقظت لعلو صوته وتنبهت عقول الخلق.

فالبشرى للمستيقظين المستبصرين الذين بهم ترقى الأمم وبفضلهم تعلو نبرات الحق وتتبدد الظلم وبعلمهم تزدهر وتشع من جديد راية حقوق الإنسان وتشعر الإنسانية إنها اقتربت من بر الأمان رغم ظلمة آخر الليل التي تسبق طلوع الفجر وقرب عودة إشراق صبح حقيقة الشمس الأحدية والصبح بمشيئته قريب.

إنه تعالى سميع مجيب بوركتم أيها الأخوة وبورك مؤتمركم واهتمامكم بحقوق الإنسان.

والسلام عليكم وعلى كل من اتبع الهدى وأنار طريقه بنور العقل واهتدى وعشتم وعاش لبنان.

source