أعطى المحرومين أصواتاً

calendar icon 01 تشرين الأول 1998 الكاتب:محمد مهدي شمس الدين

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الافتتاح)


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

أصحاب السماحة والدولة والغبطة إخواني وأخواتي جميعاً السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نشكر الله سبحانه وتعالى على نعمته في هذا اللقاء الذي ما يزال يجمعنا على معناه الإمام السيد موسى الصدر في ذكرى من ذكرياته الكثيرة، وفي مناسبة من مناسبات حضوره الكثيرة والدائمة على معنى هو بالفعل أضخم معاني عصرنا، وهو حقوق الإنسان التي لا أريد الافاضة في التنظير لها. فجلنا يعرف هذا التنظير سمعنا منه في هذه الجلسة الكريمة الكثير وتعلمنا منه خلال حياتنا الكثير، ونعرفه منذ إرادة الخلق الأولى مروراً بجميع الرسالات منذ آدم ومنذ المحنة الأولى لهذه الحقوق في ابني آدم اللذين قال أحدهما لأخيه لأَقْتُلَنَّكْ وقال الآخر لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط إليك يدي إليك لأقتلك، أني أخاف الله رب العالمين.

وهكذا منذ تلك اللحظة الخالدة في ضمير الأكوان كلها، وفي معنى الأكوان كلها والى آخر تنهدة وابتهال في معبد من المعابد المعقودة على ذكر الله الى آخر الدنيا سيبقى هذا النداء وستبقى هذه الحقيقة.

منذ تلك اللحظة مروراً بجميع النبوات، نبوات ما بعد آدام وقبل ابراهيم، ونبوات ما بعد ابراهيم الى خاتم النبيين كما نعرفها الآن في القرآن والانجيل وكما نعرفها في التوراة التي "حكاها" لنا القرآن والإنجيل وليس كما "حكتها" لنا عقيدة التلموذ والصهيونية التي تمثل الآن أعظم وأخطر انتهاك لحقوق الإنسان على الجنس البشري كله. وتنعقد هذه الجلسة بناء لهذه الحقيقة على ذكر الإمام موسى الصدر ومصيبتنا في تغييبه هي إحدى معالم الإنتهاك الكبير لحقوق الإنسان في عصرنا ممن يدّعون أنهم ضحايا هذه الحقوق وأمناء عليها· هذا يكفي في التنظير.

ما هي القضية المطروحة الآن بالنسبة الى حقوق الإنسان وما هو دور الإمام موسى الصدر في هذه القضية في لبنان؟ أغتنم الدقائق القليلة التي أخاطبكم فيها لذكر بعض المعالم في هذه القضية، أولاً: إذا تقصينا الدور الذي سجله الإمام موسى الصدر في هذا الحقل، فسنجد أنه الدور الذي لا يزال يبحث، وأعتقد أنه سيبحث دائماً عن أبطاله وآليته، وهو كيف ننفذ ما شرعناه؟ كيف ننفذ ما شرعه الله وما فهمه الناس وشرعوه؟ منذ أول آية من آيات الوحي والى آخر آية نزلت على رسول الله في القرآن، ومنذ أول لمعة من لمعات العقل والروح في أذهان الفلاسفة والشعراء، والى آخر وثيقة صدرت أو ستصدر في نطاق الأمم المتحدة، وفي نطاق أية هيئة دولية أو اقليمية· كيف تنفذ هذه الحقوق؟ حينما نقرأ الآن أن ثمانين بالمئة من ثروات العالم الطبيعية، والإنسان يتمتع بها ويستهلكها عشرون أو أقل من سكان العالم، وأن عشرين بالمئة أو أقل من هذه الخيرات هي لثمانين أو أكثر في المئة من سكان، العالم هذا الرقم وحده يفسر لكم عمق الأزمة الإنسانية التي يعانيها الجنس البشري كله بالنسبة الى حقوق الإنسان.

حينما نجد أن نسباً كبرى في العالم تعاني من القهر والتسلط والسحق الروحي والإنساني من الأنظمة أو من العروق الغالبة أو من الهيئات الحاكمة، ونجد أن احترام هذه الحقوق حيثُ تُحترم في حفنة صغيرة من دول العالم هو تكرار لما كان يقال عن العدل الروماني أنه كان عدلاً للرومانيين وحدهم وما عدا ذلك العالم كله بربري لا يستحق ما للرومانيين من حقوق. ندرك حينما نلاحظ هذا عمق الأزمة التي تجتازها هذه الحقوق، حقوق الإنسان على مستوى عالمي. فإذا تجاوزنا هذا المدى الواسع لنلاحظ وضع هذه الحقوق على المستويات الاقليمية وعلى المستويات المناطقية وعلى مستوى كل دولة من الدول، فسنجد المآسي تتكرر وتتشابه في الشأن الاقتصادي والمعيشي وفي الشأن السياسي والإنساني في ما يتعلق بالحقوق والحريات، المشكلة عندنا على مستوى عالمي، وعلى المستويات الأدنى ليست البحث الفقهي والحقوقي والقانوني في هذه الحقوق بل البحث عن وسائل وضمانات التنفيذ· روح العالم الموجوعة والمتألمة اخترعت الأمم المتحدة، وكان للبنان دور كبير في إنجاز هذا الاختراع، ولكن أين أصبحت الأمم المتحدة؟ أين أصبح الطموح والتوق والشوق الذي غمر القلوب في الأربعينات وأين هو الآن؟ أين غدت قيمة هذه الأمم المتحدة باعتبارها الحارس الأول لحقوق الإنسان؟ ما هو الدور الذي تقوم به جمعيات ومؤسسات حقوق الإنسان في كل العالم وعلى جميع المستويات؟ لدى المراجعة نردد المثل القائل أسمع جعجعة ولا أرى أعمالاً.

كان الدور الذي لا يزال يتفاعل للإمام موسى الصدر هو أنه قام بمهمتين وإنجازين في قضية حقوق الإنسان في لبنان. إحداهما أنه جعل نفسه قوة فاعلة في مجال التنفيذ لم يكن ينقصنا من الماضي ولا ينقصنا الآن أيضاً، النص في شأن هذه الحقوق فالنصوص في أدبياتنا وقوانيننا وافرة ولكننا نشكو كما يشكو غيرنا من فعالية ووسائل التنفيذ، كان دور الإمام موسى الصدر منذ تحركاته الأولى في مدينة صور وفي جبل عامل وفي لبنان بعد ذلك، الى اعتصام العاملية وبعده وإلى رحلته المشؤومة التي كان يبحث فيها عن مخرج من الفتنة التي دمرت الإنسان وحقوقه في لبنان جعل من نفسه قوة كبرى في مجال التنفيذ، لم يقبع في صومعة ويعيد انتاج ما كتبه الآخرون في مستوى النظرية، وإنما نزل الى الشارع ليفعل ما حمله في سبيل التنفيذ. هذا كان الانجاز الأول، والانجاز الآخر هو أن الناس الذين كانوا خارج وعي حقوقهم، أو كانوا خارج القدرة على المطالبة بحقوقهم وهم المحرومون بالمعنى الاقتصادي أو السياسي أو بالمعنى الإنساني العام، جعلهم يتكلمون لم يتكلم عنهم ولم يحبسهم ويختزلهم ويختزنهم بل جعلهم هم يتكلمون حتى تحقق إنجازه الكبير في جانب كبير منه، فلم يكن صوت الذين لا صوت لهم، وإنما أعطاهم أصواتاً ينطقون ويتكلمون بها، وهذا أمرهم، فليس المهم أن نعي حاجات الآخرين ونسعى فيها ولكن الأهم أن نهب للناس الوعظ الذي يجعلهم يتحركون (وهذه كانت مهمة الأنبياء والأصفياء) فلا ينتهي التاريخ حين ينتهي الشخص وإنما تستمر الرسالة في ما بعد وفي من بعده من الناس· هذان الإنجازان الكبيران ينبغي تأريخهما لأنهما يشكلان حتى الآن حاجة أساسية لنا في لبنان الذي قطع شوطاً كبيراً منذ ذلك الحين في هذا السبيل والذي يشكل أمانة كبيرة في أعناقنا الذي يمثل إحدى النقاط الناصعة في آسيا، ولعله أنصع النقاط في ما يتعلق بحقوق الإنسان التي ينبع وعيه وحفظه لها من مجتمعه قبل حكامه، ومن هيآته المدنية قبل سياسييه ودولته من دون "تهوين" لدور أحد. لبنان هذا بما يختزله من قيمة إيمانية كبرى، هي حقوق الإنسان فيه، التي تصان وتريد أن تصان أكثر، التي تحترم ونريد أن تحترم أكثر قوانينه ضمانة ونظامه السياسي ضمانة ومجتمعه ضمانة.

إحدى الركائز والضمانات الكبرى لحقوق الإنسان في لبنان هو تنوعه الديني، أي وجود المسيحيين والمسلمين فيه، من هنا فإن هذا التنوع الذي هو الأساس لضمانة حقوق الإنسان المتميزة في المنطقة (في لبنان) هذا التنوع لا يجوز تجريحه ولا يجوز بوجه من الوجوه إشعار أي فريق مكون له أنه مهدد في ذاته أو في معناه أو مداه يجب أن يضمن كل ما يتعلق بخصوصية لبنان لأن المسلمين هم ضمانة المسيحيين في هذه المنطقة والعكس صحيح· وجود المسلم اللبناني، شرط حقيقي وواقعي لوجود المسيحي اللبناني، ليس تفضلاً وليس منة ووجود المسيحي اللبناني هو شرط كذلك لوجود المسلم اللبناني، وإكتمال هذا بإكتمال ذاك لذلك فإن الإجحاف سرقة الحقوق أو الاحتيال عليها بأية فذلكة سياسية أو تنظيمية أو تنظيرية دينية أو غير دينية هي سرقة وإنتهاك لحقوق الإنسان اللبناني في المجتمع المدني والدولة المدنية التي ينبغي عليها أن تحتضن الإيمان وأن تحميه وتكون قيِّمة عليه، ولكنها في الوقت نفسه مدنية لا يكون فيها أي عنوان من عناوين التسلط الديني من أحد على أحد في الحياة العامة أو في النظام.

لبنان الذي يتمتع فيه الإنسان بحقوق قلما تمتع بها الإنسان في العالم، وليس في العالم العربي وحده، وحتى في الدول التي تقول بأنها تتزعم مسيرة حقوق الإنسان، تعاني من انتهاكات كثيرة علينا السعي دائماً لسد ثغراتها. هذا ليس تزكية بالنظام أو الحكم أو الحكام بل تزكية بهذا التركيب الفريد الذي هو نعمة من اللَّه.

في لبنان، ونحن الآن نستقبل عهداً جديداً نتحدث فيه عن انتخاب رئيس الجمهورية القيمة العليا والأولى هي المحافظة على هذه الحقيقة مع المحافظة على لبنان لأن المناداة بحقوق الإنسان لا تعني أبداً التفريط بكيان الدولة وتماسكها والتفريط بسيادة القانون وإعطاء أفضلية لفريق على الهز في انتهاك القانون والاحتيال عليه.

إن حقوق الإنسان في صميمها هي الضمانة التي تؤسس لحماية حقوق الإنسان، "لا إن بسطت اليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف اللَّه رب العالمين"، كيف القانون وسيادته ونظافة السلطات ونقاوة الأداء وضمانات التنفيذ، لذلك فإننا نأمل أن يعي القيمون على هذا البلد أننا نريد حماية القانون، نريد أن نحتمي بالقانون ونريد سلطات ومؤسسات تحمي القانون وتحمي المركز الحقوقي للمواطن والجماعة إضافة الى المجلس النيابي وإضافة الى القضاء. دعونا، ونكرر، إنشاء هيئات مدنية بمعزل عن السلطات تتولى المراقبة والنقد ولا يكون لها أي ارتباط بأية هيكلية من هيكليات السلطة، وطمعها وروحها المفترسة. نريدها أن تكون قيِّمة لا أن تكون فرعونا ولا نريد أن نسمع اجتهاداً من هنا وهناك في حق الإنسان البسيط ونجد اجتهاداً متفقاً عليه في حق البسطاء. لا نريد أن نسمع مواطناً يقول أنهم يركبونها كيفما يشاؤون، وأنه في بعض القضايا هناك حكمان واحد في الجيب اليمنى والآخر في اليسرى.

أكرر لكم وأخبركم أني أؤمن بأن لبنان يمثل إحدى قمم عالمنا المعاصر في حقوق الإنسان اللبناني الذي وجد بأظافره وبلحمه وبدمه هذا الوطن والتراث، أن يفتخر بهذا ولكنا يجب أن نحمي ما نحن فيه ونكمله.

هذا فيما يخصنا، إذا تجاوزنا ذلك أريد أن أسلط الضوء على الانتهاك الأعظم لحقوق الإنسان في فلسطين بالنسبة الى الفلسطينيين كلهم، أعني الذين يتحركون على الأرض لا أعني الذين يساومون ويسلمون في البيت الأبيض وهو أمر لا نوافق عليه ولن نوافق عليه.

وفي محيط فلسطين في سوريا ولبنان وفي العالم العربي كله حقوق الإنسان المنتهكة في فلسطين بالكيان الصهيوني وتفاعلاته وأقول للبنانيين لا يوجد سلام قريب وإنسحاب قريب، وكل ما ينجز من رسل إنما هو لإستهلاك الوقت لينسى الناس حقوقهم، ولأجل أن تكِّل المقاومة السياسية والجهادية ولأجل أن يتوقف التضامن الذي يميز هذه المرحلة بين سوريا ولبنان، والتضامن الذي ينمو داخل العالم العربي والإسلامي، أمامنا كدح طويل قد يمتد سنوات كثيرة وعلينا وأن نتسلح بهذه الروح التي انتصرنا بها حتى الآن لسنيّ المستقبل الصعبة والمجيدة إنشاء الله، في كتاب الله سبحانه وتعالى.

الحقوق تنتهك على مستوى العالم· رسالتنا في لبنان أن نحصن أنفسنا وأن نتوجه نحو الآخرين لحماية هذه الحقوق.

ما أقترحه على هذا المؤتمر هو أن لا يركز على الجوانب النظرية لهذه القضية بل على الجوانب العملية لهذه النظرية وينشئ هيئات متحررة من وصايات محلية أو اقليمية أو دولية على مستوى العالم والقارات والأقاليم وعلى المستويات الوطنية لتنفيذ حقوق الإنسان حيث تنتهك ولتحصين حقوق الإنسان حيث تصان. لا أريد أن أطيل عليكم فمشاكل ومعضلات التنفيذ كثيرة جداً.

آمل من الله تعالى أن يسددنا جميعاً.

لا أريد مغادرة هذا المنبر دون توجيه تحية الى جناب البابا على مشاركته في هذا الحقل وعلى النداء الذي تكرر إعلانه من على هذا المنبر وسمعناه مراراً وتكراراً، هذا الضمير العالمي الذي يعبر دائماً عن هذا التوق الذي يشكل إحدى ضمانات الحصانة لهذه الحقوق، كل القوى الخيرة في العالم الى جانب نداء الله في السلام وإلى جانب كل نداء أريد التنويه بهذه المشاركة وأوجه هذه التحية وأحييكم جميعاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source