من أهداف الاسلام حفظ كرامة الإنسان

calendar icon 01 تشرين الأول 1998 الكاتب:مفيد شلق

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الأولى)


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله وعلى خاتمهم محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الغرِّ الميامين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين.

أيُّها الحضورالكريم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: لقد مضى خمسون عاماً على الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ولكنه من الوجهه التطبيقيه لم يزل حبْراً على ورق ولم يبصر النور إلاَّ جزئيا، فالشعوب المستضعفة المعروفة باسم العالم الثالث لا تزال تتقاسمها الدول المستكبره المسمَّاه بالكبرى وتمعن في استعمارها عسكريا أوْ ثقافيا أوْ اقتصاديا، ويدعم بعضها بعضا ظلماً وعدوانا.

والإحتلال الصهيوني لأرض فلسطين وتشريدُ أهلها وارتكابُ المجازر الجماعية بحقهم في الأرض المحتلة وخارجها، وسائرُ الحركات الاستعمارية الأخرى والحروبُ المدمِّره المتنقله، وما يتعرض له لبنان في جنوبه الصامد وبقاعه الغربي، كل ذلك العُدوان لا يهتزُّ لهوله الضمير عند الغربيين بل يصف حركات الجهاد والمقاومه بأنها أصوليَة عدوانيه، ذلك لأنه ضمير مصاب بالانفصام والأزدواجيه.

فالمساواة والحرية والديمقراطية والمُثل الأخلاقية والعدالة الاجتماعية، تلك الشعارات التي اعلنتها شرعة حقوق الانسان لم تحرص منظمة الامم المتحدة ولا مجلس الأمن على تطبيقها والعمل بمقتضاها إلاَّ في مجالات محصوره. فإذا ظُلِم مواطنٌ في احدى الدول المستعمره تحرَّك ضميرها وثار وتحمَّلت حكومتها كامل المسؤولية وربَّما أدّى الظلم او الخطأ إلى استقالة الحكومة أو إسقاطِها.

والعجيب الغريب أنّ هذا الضمير الغربي المرهف الاحساس تجاه قضايا مواطنيه سَرْعان ما يتعطَّل أو يتخدَّر ولا يستيقظ للظلم الجماعي الذي يُلْحِقُه أهله بالشعوب المستضعفة، وبذلك يبدو انَّ المنطق الجاهلي (انصر اخاك ظالماً اوْ مظلوما) والذي صحح النبيُّ مفهومه لا يزال على جاهليته حتى في الدول الكبرى. إنّ العالم الذي يدين بالمسيحيَّة بمعسكريه الشرقي والغربي الرأسمالي والاشتراكي لم يُطبِّق المسيحية السمحه القائمة على المحبه والسلام واحترام انسانيه الإنسان إنه في تعامله مع شعوب العالم الثالث عالمٌ مستكبر حاقد يَصْفع المستضعفين على الخدين الأيمن والأيسر ويأخذ لهم الثوب والرداء· والانكر انه يرتكب ذلك باسم ابرز شعارات المسيحيَّه (الله محبَّه) فما اكثر خِداع العناوين!!

إنَّ الاسلام الذي هو دين الله والذي بشَّر به جميع رسل الله والذي جاء بصورته الأخيره الكامله خاتم النبيين محمد بن عبدالله كان السبَّاق إلى احترام إنسانيه الانسان. فمن الأمْر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم ابي البشر، الى استخلافه سبحانه الانسان في هذه الارض وتكريمه وتفضيله وتحميله الرسالة والأمانة، الى تسْخيره لهذا الإنسان جميع ما في السماوات وما في الارض، إلى تحريمه العدوانَ عليه بما حَرْفيَّته (مَنْ قَتَلَ نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناسَ جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). إلى اعلان قبول استجارة المستجير ولو كان عدوّاً مشركاً [وإنْ أحد من المشركين استجارك فأجرْه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه].

وَلْنقف إجلالاً حيث وقف التاريخ مشدوهاً أمام الدعوة العامه الى المساواة التامه في الحقوق والواجبات وأمام الدعوة الى التعاون على البر والتقوى بين بني البشر في زمن وعالم تأصَّلت فيهما عقيدة التمايز بين الطبقات والدماء والالوان والأنساب، فإذا بصوت يجلجل كالرعد في رمال الصحراء ومن جوف مكَّه يُعلنُ أسقاط كلِّ الشعارات المنحرفه وامتيازاتها الطبقيه والعنصريه والقبليه، وَرَفْعَ شعار الحقِّ والفضيلة والعدل والتعاون والحرِّيه والمساواه. [يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ اكرمكم عند الله أتقاكم].

كيف لا يكون ذلك والناس كلهم لآدم وآدم من تراب وبنوه من ماء مهين ومن سُلالة من طين، وخالقهم واحد هو الله خالق كل شيء لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وصف ذاته العليَّة بأنه رب العالمين وأنه رحمان رحيم. إنَّ دعوة الاسلام الى الرحمه العامه وسعت كل شيء حتى الرفق بالحيوان فربُّ العالمين الذي خلق الانسان على مثاله في الكمال ونفخ فيه من روحه يقول (ورحمتي وسعت كلَّ شيء) ونبيُّ الرحمة يقول [إنّ الله كثير الإحسان في كلِّ شيء فإذا قتلتم فأحْسنوا القِتْلة واذا ذبحتم فأحْسنوا الذبحه ولْيُحِدَّ أحدُكُم شفرتَه ولْيُرِحْ ذَبيحتَه). وقد أخبر صلى الله عليه وسلَّم انّ رجلاً دخل الجنّه لأنه سقى كلْباً في ارض منقطعة وانقذه من الهلاك. كما أخبر ايضاً بأنَّ امرأة دخلَتِ النارفي قطَّة حَبستها فلاَ هِيَ أطعمتها وَلاَ هِيَ تركتها تأكل من خشاش الارض.

ولا عجب في هذا الإخبار طالما أنه في كل كَبِدٍ رطبةٍ أجْر ولا قيمةَ لإيمان لا يُثْمر عملاً صالحاً وخلقاً حسنا وَلَو اقترن بالعبادات المعتبرة اركاناً للدين. بل إنه ورَد في الأحاديث الصحيحه أنّ الله عزَّ وجلَّ يقول يَوم القيامه: [يا ابن آدم مرضتُ فلم تَعُدْني، قال يا رب كيف اعودُك وأنت ربُّ العالمين؟ قال أما علمتَ أنّ عبدي فلان مرض فلم تَعُدْه اما علمت أنَّك لَوْ عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يارب كيف اطعمك وانت ربُّ العالمين؟ قال أما علمت أنّ عبدي فلان استطعمك فلم تطعمه؟ اما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف اسقيك وانت ربُّ العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه اما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي].

إنَّ هذه المبادىء المثاليه التي دعا اليها الاسلام من اجل تحقيق انسانيَّة الانسان، لم تَبْقَ حبراً على ورق كتلك المبادىء التي دعت اليها شرعة حقوق الانسان بلْ نفَّذها ولاة الأمور المسلمون، وخضع لها المسلمون وأُذكِّر على سبيل الاستدلال بإيجاز وتلميح ببعض الحادثات المشهوره. كحادثة ردِّ النبيِّ لأبي جندل الذي جاءه من مكة الى المدينة مُسْلما فلم يسمح له بالبقاء فيها كي لا يكون بذلك ناقضاً لصلح الحدبيه فيتوجَّه اليه ابو جندل بالسؤال: يا رسول الله أتروني الى القوم ليقتنوني عن ديني أوْ يقتلوني؟ فيُجيبه النبيُّ يا ابا جندل ما كنت لأكذب على القوم وَلاَ لأنقض العهد معهم. يا ابا جندل نفِي لهم بالعهد ثم نستعين الله عليهم.

وأذكِّر ايضاً بحادثة إمتعاض الإمام على كرَّم الله وجهه لمَّا لم يسقّ الخليفة عمر بينه وبين خصمه اليهودي في مجلس القضاء فكنَّاه وطلب اليه أن يجلس. كما أنّ العالَم يذكر والتاريخ يروي كيف دخل الخليفة عمر بيت المقدس منفرداً بلا مواكبه وهو يقود بعيره بخادمه الراكب لقد كان في ذلك المظهر أبلغ من الف خطيب وداعيه ونتذكر مع هذه الحادثه معاهدة الأمان والسلام والتعاون مع البطاركه. ويروي التاريخ ايضاً باعتزاز قصة القبطي مع عمر بن العاص وولده وأن الخليفة عمر بعد أن أنصف القبطي قال لعمرو مؤنِّباً: (يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا). ولم ينس التاريخ ان يذكر انّ هذا الخليفه وضع الجزية عن الكتابيين العاجزين عن العمل وفرض لهم رواتب تؤمنهم وعيالهم من بيت مال المسلمين.

إنَّ كلَّ واقعةٍ من هذه الواقعات تثبت أنّ العدل والاخلاق والمساواه في الشريعة الاسلاميه واحدة مع المسلم وغير المسلم، مع الصديق والعدُوِّ وأنَّ الاسلام يحرص على تحقيق إنسانية الانسان وتأمين حُرِّيته وضمان سائر حقوقه المشروعه بصرف النظر عن معتقده وجنسه ولونه ووطنه بل إنه من خلال فريضة الزكاة المعتبرة قنطرة الاسلام وركنه الركين ومن خلال مشروعية الاوقاف لم يبقَ مجال من مجالات حفظ الكرامة البشريه وسدِّ حاجاته الماليه ومستلزماته الحياتية إلاَّ وتأمَّن سواءً على صعيد الجهاد ضدَّ الظلم أوْ على الصعيد الفردي للفقير والمسكين واليتيم والارملة والمعاق والعاطل عن العمل. وسواءً على صعيد المأكل والملبس والمسكن والطبابه والاستشفاء والتعليم بل إنه حتى الآن يوجد في بعض البلدان أوْقاف خاصه لاطعام الكلاب والهرره ولشراء الصحون والكاسات المكسورة بيد الخَدم والعمال صيانة لكرامتهم أمام ارباب العمل، بل إن رسول الله قرّر على هذا الصعيد ما لم تقرره سائر الانظمه الاشتراكيه حتى الآن [إخوانُكم حَولُكُم جعلهم اللهُ تحت ايديكم فمن كان اخوه تحت يده فلْيطعمه مما يأكل وَلْيُلبسْهُ مما يَلْبَس ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فاذا كلَّفْتموهم فأعينوهم] وليس بمستَغْرَب بعد هذا البيان أن نقرأ في الفقه الإسلامي في باب النسب [انه اذا اختلف مسلم وكتابي بشأن ولد مجهول لنسب فادعى المسلم انه عبده وادعى الكتابي انه ابنه وعجز كلٌّ منهما عن إثبات مدَّعاه. فيُحْكم به للكتابي على أنَّه ابنه ولا يُحْكم به للمسلم بانه عبدُه لأنه بذلك الحكم يكتسب شرف الحريَّة والنسب، وباستطاعته أن يهتدي بعد ذلك الى الاسلام بعقله.

وأخيراً لا آخراً فإنّ عمليَّة إخفاء اللوعي الأساس الداعية الى الله الإمام السيد موسى الصدر سليل بيت النبوَّة والذي آتاه الله بسطة في العلم والجسم وكمالاً في الخَلْق والخُلُق. إنَّ إخفاءه ورفيقيه عمليَّةُ عدوان سافر على مبادىء الانسانيه وعلى انسانية الانسان وعلى القيم الاسلامية والنصرانية وعلى الاعلان العالمي لحقوق الإنسان تلك القيم التي كان سماحته من ابرز اعلامها واركانها.

وإنني في هذا المؤتمر المنعقد بمناسبة مضي خمسين سنة على الاعلان العالمي، ومضي عشرين عاماً على عمليَّة التغييب اعتزُّ شاكراً بتكليفي بإدارة هذه الجلسه وبأن اقدِّم للحضور الكريم المحاضرين القيمين الغنيين عن التعريف سماحة الدكتور الشيخ محمود فرحات ليحدثنا عن مفهوم الكرامة وحق الحياة في الفكر الاسلامي والاعلان العالمي، وسيادة الآباتي روفائيل لطيف ليحدثنا عن مفهوم الكرامة وحق الحياة في الفكر المسيحي والاعلان العالمي فمن ثمارهم تعرفونهم ولْنستمع أولاً الى سماحة الدكتور الشيخ محمود فرحات فلْيتفضل مشكوراً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source