مسؤولية الأمم المتحدة عن توفير الحماية الدولية لحقوق الانسان

calendar icon 02 تشرين الأول 1998 الكاتب:محمد المجذوب

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الثالثة)


إن المفهوم أو المضمون الحديث لحقوق الانسان لم يستقر في ضمير البشر ويتبوّأ المكانة الرفيعة التي يحظى بها في الأنظمة الديموقراطية وعلى الساحة الدولية إلاّ بعد سلسلةٍ طويلةٍ وشاقةٍ من الكفاح المستمر والمعاناة المريرة.

وحقوق الانسان كانت في الماضي مسألةً فرديةً أو محلّيةً تُعنى بها التشريعات أو الممارسات الداخلية لدولةٍ ما. ولكنها أصبحت اليوم قضيةً تتّصف بالعالمية. وليس من المبالغة القول بأنها غدت تراثاً إنسانياً مشتركاً يحتضن حقوق كلّ إنسانٍ أنّى وُجد، والى أيّ دينٍ أو عرقٍ انتمى.

وهناك اليوم إجماع دولي على اعتبار الانسان محور كل الحقوق وعمودها الفقري. ولا قيمة لهذه الحقوق إن لم تكرّسه لخدمته والحفاظ على كرامته وتوفير الرفاهية له. ولهذا رأينا أن الاهتمام بها، في النصف الثاني من القرن العشرين، فاق كلّ اهتمام، وتجاوز حدود الدول ونصوص الدساتير والتشريعات الوطنية ليتحوّل الى كابوسٍ أو هاجسٍ أو همٍّ عالمي.

والسمة العالمية التي اكتسبتها هذه الحوق برزت وترسّخت في المواثيق والاتفاقيات الدولية، وفي طليعتها الشرعة الدولية لحقوق الانسان المتمثّلة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهدين الدوليين للعام 1966. والإنجاز الكبير الذي حقّقته الأمم المتحدة على هذا الصعيد يتجلّى في نجاحها في تدويل حقوق الانسان ووضعها تحت إشرافها وحمايتها.

فهل تُعتبر الأمم المتحدة التي قامت للحفاظ على السلم والأمن الدوليين وترسيخ إيمان الشعوب قاطبةً بالحقوق الأساسية للانسان، مسؤولةً عن حماية هذه الحقوق ورعايتها ومعاقبة من يخرق حرمتها؟ وإذا أجبنا بالإيجاب، فما هي الوسائل التي تتّبعها لتأمين هذه الحماية؟ وهل تواجه عملية الحماية عقبات من جانب الدول؟

لا بد لنا، قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، من استعراض أهم النصوص والقرارات والاتفاقيات التي تستند اليها الأمم المتحدة في جهودها الرامية الى توطيد أركان حقوق الانسان.

وبذلك تتشعّب دراستنا الى ثلاثة أقسام:

1- تعزيز حقوق الانسان من خلال الجهود التشريعية للأمم المتحدة.

2- اجراءات الحماية الدولية لحقوق الانسان.

3- العقبات التي تواجه الحماية الدولية.

القسم الأول

تعزيز حقوق الانسان من خلال الجهود التشريعية للأمم المتحدة

إن جميع الوثائق المتعلقة بحقوق الانسان والحريات العامة قد تناولت وضع الانسان في المجتمع وعلاقته بالحاكم أو السلطة الحاكمة. وجميع الوثائق والمواثيق التي صدرت في الماضي كانت تعبيراً عن إرادة محلّية ظهرت في بلد معين، وأدرجت في تشريعات أو دساتير محلّية، ولم تنتقل الى رحاب القانون الدولي العام المجسّد في الاتفاقيات الدولية إلاّ مع بداية القرن العشرين. وهذا يعني أن لحقوق الانسان جذوراً وطنية تنطوي على مبادىء وقيم وعقائد وفلسفات تراكمت وتفاعلت عبر الأجيال وتركت أصداء في الأوساط الفكرية والسياسية.

وكان للانتهاكات الخطيرة التي تعرّضت لها حقوق الانسان خلال الحربين العالميتين (لا سيما خلال الحرب العالمية الثانية) أثر بارز في اهتمام المشاركين في مؤتمر سان فرنسيسكو بهذه الحقوق وإصرارهم على إدراجها في مقاصد الأمم المتحدة.

ولم تكتفِ المنظمة العالمية بهذا الجهد التشريعي، وإنما سعت الى تقنين هذه الحقوق دولياً عن طريق القرارات والاعلانات والاتفاقيات. وسنلاحظ أن هذه العملية انطوت على مستجدات على الصعيد الدولي.

أولاً- إدراج حقوق الانسان في الميثاق الأممي

عندما نجري مقارنةً سريعةً بين ميثاق عصبة الأمم وميثاق الأمم المتحدة نجد أن الثاني، خلافاً للأول، يُوجّه عنايةً فائقةً لحقوق الانسان فيذكرها في ديباجته وينص عليها في مواده.

1- فقد ورد في الفقرة الأولى من الديباجة أن شعوب الأمم المتحدة آلت على أنفسها أن تُنقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي جلبت على البشرية، مرتين خلال جيل واحد، آلاماً يعجز عنها الوصف.

وورد في الفقرة الثانية أن هذه الشعوب تؤكد من جديد إيمانها بالحقوق الاساسية للانسان، وبكرامة الكائن البشري وقيمته، وبما للرجال والنساء والأمم، كبيرها وصغيرها، من حقوق متساوية.

وورد في الفقرة الخامسة أنها صمّمت، في سبيل تحقيق هذه الغايات، على أن تسلك طريق التسامح وتعيش معاً في سلام وحُسن جوار.

2- وحدّد الميثاق مقاصد الأمم المتحدة في المادة الأولى فجعلها أربعةً. واعتبر أن حقوق الانسان تُشكّل واحداً منها. فالفقرة الثالثة تنص على تحقيق التعاون الدولي على حلّ المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الانسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية للناس جميعاً، والتشجيع على ذلك، بلا تمييز بسبب العرق أوالجنس أو اللغة أو الدين.

3- وفي الفصل التاسع المكرّس للتعاون الدولي، الاقتصادي والاجتماعي (المواد 55- 60)، تُطالعنا المادة /55/ التي تُشير الى رغبة الأمم المتحدة في تأمين ظروف الاستقرار والرفاهية الضرورية لقيام علاقات سلمية ووديّة بين الأمم، قائمة على احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، ومن أجل ذلك تعمل المنظمة العالمية على إشاعة احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية للجميع، بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين.

وجاءت المادة /56/ تُضفي طابع الالتزام على الدول الأعضاء، وذلك بالنص على تعهدّهم بالقيام، منفردين أو مشتركين، بما يجب عليهم من عمل، بالتعاون مع المنظمة، لإدراك المقاصد المنصوص عليها في المادة /55/.

4- وفي الفصل العاشر المكرّس للمجلس الاقتصادي والاجتماعي (المواد 61-72) موضعان يتعلّقان برعاية حقوق الانسان. فالفقرة الثانية من المادة /62/ تنص على أن للمجلس أن يُقدّم توصيات من أجل تأمين الاحترام الفعلي لحقوق الانسان والحريات الأساسية للجميع. والمادة /68/ تنص على أن المجلس ينشىء لجاناً للشؤون الاقتصادية والاجتماعية ولتعزيز حقوق الانسان، كما ينشىء غيرها من اللجان الضرورية لتأدية وظائفه.

ثانياً - السعي لتقنين حقوق الانسان دولياً

وفي موازاة ما تحقّق في الميثاق من تمجيد وتبجيل لحقوق الانسان، فقد سعت الأمم المتحدة لتقنينها دولياً، أي لتعزيزها وترسيخ عنصر الالزام فيها بواسطة اعلانات واتفاقيات وصكوك دولية. ويشكل مجموعها ما يُعرف بـ "القانون الدولي لحقوق الانسان". وكانت باكورة هذا العمل اتفاقيةٌ واعلاناً صدرا في يومين متتاليين. والاتفاقية هي "الاتفاقية المناهضة لإبادة الجنس البشري"، الصادرة في 9/12/1948. أما الاعلان فهو "الاعلان العالمي لحقوق الانسان"، الصادر في 10/12/1948.

وحركة التقنين التي رعتها الأمم المتحدة أتت استجابةً لطلبات ملحّة، أو معالجةً لأزمات أو مشكلات تعرّضت لها حقوق الانسان في بعض الأقطار، أو تعبيراً عن استياء عالمي من تصرّفات معينة أساءت الى تلك الحقوق، أو تجاوباً مع وعي اجتماعي إنساني يرفض التساهل والوقوف موقف اللامبالاة إزاء تيارات أو اتجاهات أو أعمال تنتهك حرمة الحقوق والحريات الأساسية وتناقض المبادئ التي أعلنها الميثاق الأممي.

1- ففي 14/12/1960، صدر عن الجمعية العامة "إعلان منح الاستقلال للاقطار والشعوب المستعمرة".

واعترفت الجمعية فيه "بأن شعوب العالم تحدوها رغبة قوية في إنهاء الاستعمار بكل مظاهره"، وأنها "تملك حقاً في الحرية الكاملة لا يمكن التصرّف به، وحقاً في السيادة وسلامة الأراضي الوطنية، وعبّرت عن اقتناعها بأن" الإبقاء على الاستعمار يحول دون إنماء التعاون الاقتصادي الدولي، ويعرقل الإنماء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للشعوب التابعة، ويناقض مُثُل السلام العالمية التي تطمح اليها الأمم المتحدة". وأكدت "أن مسيرة التحرير حتميّة ولا رجوع عنها، وأنه، اجتناباً لأزمات خطيرة، يتحتّم وضع حدّ للاستعمار ولجميع ممارسات الفصل العنصري والتمييز العرقي التي يفرزها".

وجاءت المادة الأولى من هذا "الاعلان" تجزم بوضوح "ان إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يُشكّل إنكاراً لحقوق الانسان الأساسية ويناقض ميثاق الأمم المتحدة ويسيء الى قضية السلام والتعاون العالميين".

فالاعلان الصادر في العام 1960 كان، إذن، تجاوباً مع حركة تصفية الاستعمار التي عمّت إفريقيا في نهاية الخمسينات، وتجسيداً لموجة التحرر والانعتاق التي اجتاحت الأقطار الرازحة تحت نير الاستعمار بمختلف أشكاله· فبعد استقلال تونس والمغرب والسودان وغانا وغينيا في الأعوام 1955-1958، ونتيجةً للسياسة الخارجية الحكيمة التي انتهجها الجنرال ديغول، بعد تولّيه الرئاسة في العام 1958، نالت /15/ دولة افريقية استقلالها، دفعةً واحدةً، في العام 1960.

2- وفي 20/11/1963، صدر عن الجمعية العامة "إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العرقي". وفي 21/12/1965 استعاضت الجمعية عن "الاعلان" بـ "الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع شكال التمييز العرقي".

واكد إعلان العام 1963 "أن التمييز بين الكائنات البشرية بسبب العرق أو اللون أو الأصل الإثني إهانة للكرامة الانسانية، ويجب أن يُدان باعتباره إنكاراً لمبادىء ميثاق الامم المتحدة، وانتهاكاً لحقوق الانسان والحريات الاساسية التي نادى بها الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وعقبةً دون قيام علاقات ودية وسلمية بين الدول، وواقعاً من شأنه تعكير صفو السلم والأمن بين الشعوب.

وشجبت الدول الاطراف، في اتفاقية العام 1965، التمييز العنصري وتعهّدت بانتهاج سياسة تهدف الى القضاء على كل شكل من أشكاله، وتعزيز التفاهم بين العروق، واتخاذ التدابير اللازمة (ومنها إصدار التشريعات) لحظر كلّ تمييز عنصري يمارسه الأفراد أو الجماعات أو المنظمات، ووضع حدّ له.

وفي 30/11/1973، أصدرت الجمعية العامة "الاتفاقية الدولية للقضاء على جريمة الفصل العنصري وقمعها". وأعلنت الدول الأطراف فيها "أن الفصل العنصري جريمة ضد الانسانية"، ولم تتوانَ عن تجريم المؤسسات والشخصيات التي ترتكب هذه الجريمة.

وصدرت هذه الوثائق عن الأمم المتحدة في حقبةٍ سجّلت أرقاماً قياسية في ممارسة سياسة التفرقة العنصرية والاضطهاد العرقي في بعض الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة (اغتيال الراهب الاسود المسالم والمنادي بالمساواة، مارتن لوثر كينج، في العام 1968)، وبعض الدول الافريقية، مثل جنوب افريقيا حيث كان السكان الأصليون من السود يُعانون الأمرّين في ظل حكم البيض من الأوروبيين.

وكان المؤتمر العام لمنظمة الأونسكو قد تبنّى، في 14/12/1960، اتفاقية خاصة بمكافحة التمييز في مجال التعليم، وتعهّدت فيها الدول الأطراف بجعل برامجها التربوية تهدف الى تفتّح الشخصية الانسانية وتعزيز احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية.

3- في 25/9/1926، أي في عهد عصبة الأمم، وُقّعت الاتفاقية الخاصة بالرّق، واعتبرت الرق حالة أيّ شخصٍ تُمارس عليه صلاحيات حقّ الملكية، كلها أو بعضها. واعتبرت أن تجارة الرقيق تشمل أسْر شخصٍ أو جيازته أو التخلّي عنه للغير بقصد تحويله الى رقيق، كما تشمل كل فعلٍ ينطوي على حيازة رقيق بغية بيعه أو مبادلته، وكل فعل ينطوي على التخلّي، بيعاً أو مبادلةً، عن رقيق تحت حيازته بُغية بيعه أو مبادلته، وكذلك أيّ اتّجار بالأرقاء أو نقلٍ لهم.· وتعهّدت الدول المتعاقدة باتخاذ جميع التدابير الناجحة لحظر وقمع شحن الأرقاء وإنزالهم ونقلهم في مياهها الاقليمية أو على جميع السفن التي ترفع أعلامها.

وفي 23/10/1953، أصدرت الجمعية العامة بروتوكولاً بتعديل الاتفاقية المذكورة. وفي 30/4/1957، أصدرت اتفاقية تكميلية خاصة بإبطال الرق وتجارة الرقيق والاعراف والممارسات الشبيهة بالرق. وحدّدت المادة الأولى هذه الاعراف والممارسات بأنها:

- إسار الدَّيْن أي الوضع الناجم عن ارتهان مدين واكراهه على تقديم خدماته الشخصية أو خدمات شخص آخر تابع له، ضماناً لديْنٍ عليه.

- القنانة، أي وضع شخص ملزم بالعيش والعمل في أرض شخص آخر وتقديم خدمات معينة لهذا الأخير، بعوض أو بلا عوض، ودون أن يملك حرية تغيير وضعه.

- الوعد بتزويج امرأة، أو تزويجها فعلاً، دون أن تملك حقّ الرفض، ولقاء بدل مالي أو عيني.

- منح الزوج أو أسرته أو قبيلته حقّ التنازل عن زوجته لشخص آخر، لقاء ثمن أن عوض آخر.

- إمكان جعل المرأة، لدى وفاة زوجها، إرثاً ينتقل الى شخص آخر.

وكانت الجمعية العامة قد أصدرت، في 2/12/1949، إتفاقية حظر الاتّجار بالبشر واستغلال دعارة الغير. وفي 25/6/1957، أصدرت اتفاقية تحريم السخرة.

وهذه الوثائق صدرت في وقت كانت فيه تجارة الرقيق، على الرغم من إدانتها وتحريمها، منتشرةً في مناطق عديدة من العالم، وفي أشكال مختلفة (الرقيق الاسود والرقيق الأبيض). ومن العوامل والدوافع التي حثّت الأمم المتحدة على الاهتمام بمسألة الرق امتناع بعض الدول، في العام 1948، عن توقيع الاعلان العالمي لحقوق الانسان بسبب حظره، في المادة الرابعة، استرقاق أيّ شخصٍ أو استعباده، ومنع تجارة الرقيق بجميع أشكالها.

4- تأثّرت المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الانسان بالأوضاع والأحوال (ويمكن القول: والأهوال) التي شهدتها الحقوق والحريات خلال الحرب العالمية الثانية. ففي هذه الحرب تعرّضت حقوق الإنسان لضروب لا توصف من القهر والظلم والإذلال، واستطاعت الأنظمة الفاشية الغاشمة تحويل الكائن البشري الى أداة لتحقيق أطماعها ووقود لتسيير عجلات التدمير فيها.

ودفعت هذه الأحداث دول الحلفاء، عند انتهاء الحرب، الى الاتفاق على محاكمة كبار مجرمي الحرب، وانشاء محاكم في نورمبرج لهذا الغرض. وفي 11/12/1946، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة المبادىء القانونية التي صدرت عن تلك المحاكم ووصفت الإبادة الجماعية بأنها جريمة في القانون الدولي العام. وبعد عام كلّفت لجنة القانون الدولي صياغة هذه المبادىء في نظامٍ متكامل. وفي العام 1950، أنجزت اللجنة المهمة وجمعت المبادئ في سبعة بنود، عدّد أحدها الافعال (ومنها القتل والابادة والاسترقاق) التي تعتبر جرائم جرت وجرائم موجّهة ضد الانسانية.

غير أن الجمعية العامة وجدت أن الأمر لا يحتمل الانتظار، فأصدرت في 9/12/1948 (أي قبل انتهاء اللجنة من وضع الصياغة المطلوبة، وقبل يوم واحد من إصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان) أول اتفاقية دولية لمنع وقمع جريمة إبادة الجنس أو الابادة الجماعية. وفيها اكدت الدول الأطراف أن هذه الإبادة، سواءٌ أتمّ ارتكابها في زمن السلم أم الحرب، ما هي إلاّ جريمة بمقتضى القانون الدولي. وتعهّدت بمنعها وانزال العقوبة بمرتكبيها.

وبعد صدور الاتفاقية طُرح سؤال حول سقوط تلك الجريمة بفعل مرور الزمن، فأصدرت الجمعية، في 26/11/1968، اتفاقية حول عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، أعلنت في ديباجتها أن القمع الفعال لهذه الجرائم هو "عنصر مهمّ لتفادي وقوعها، ولحماية حقوق الانسان والحريات الاساسية، وتشجيع الثقة، وتنشيط التعاون بين الشعوب، وتعزيز السلم والأمن الدوليين". وتعهدت الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير الداخلية، التشريعية أو غير التشريعية اللازمة لتسليم المجرمين، وفقاً للقانون الدولي العام، وكفالة عدم سريان التقادم على جرائم الإبادة.

وعندما لمست الجمعية العامة إهمالاً أو تلكّؤاً في ملاحقة هذا النوع من المجرمين، أصدرت، في 3/12/1973، قراراً بـ "مبادىء التعاون الدولي لتعقّب واعتقال وتسليم ومعاقبة الاشخاص المذنبين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية". وأكد القرار أن هذه الجرائم، أيّاً يكن المكان الذي ارتُكبت فيه، يجب أن تكون موضع تحقيق، وأن الاشخاص الذين تقوم الدلائل على أنهم ارتكبوها يجب أن يلاحقوا ويعتقلوا ويحاكموا ويعاقبوا، اذا تبيّن أنهم مذنبون. ومنح القرار كلّ دولة الحقَّ في محاكمة مواطنيها بسبب هذه الجرائم، وطالب الدول بوجوب التعاون، ثنائياً أو جماعياً، لوقف هذه الجرائم أو الحيلولة دون وقوعها.

ومن اطلاعنا على وثائق الأمم المتحدة الخاصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية نكتشف أن هذه الوثائق أثرت القانون الدولي العام بانجازات مهمة، نشير الى ثلاثة منها:

أ‌- إمكان ارتكاب هذه الجرائم في زمن السلم، لا في زمن الحرب فقط، وانزال العقوبات بمرتكبيها.

ب‌-   إمكان إخضاع الفرد لاختصاص قضاء جنائي دولي، وتطبيق نظام المسؤولية الدولية عليه لدى ارتكابه جرائم دولية. وهذا التدويل للمسؤولية الفردية هو، كما سنرى في القسم الثالث من البحث، أول اختراق لمبدأ سيادة الدولة ومبدأ عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صلب السلطان الداخلي للدولة.

ت‌-    إمكان انشاء محاكم جنائية دولية في التسعينات مشابهة للمحاكم التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك لمحاكمة الأفراد الذين تسبّبوا في حصول مجازر جماعية في يوغوسلافيا السابقة ورواندا. وفي هذا برهان على أن القانون الدولي العام لم يعُد يخاطب الدولة وحدها في مجال المسؤولية عن الافعال الجرمية التي تشكل جرائم ضد الانسانية.

5- وتلقّت أجهزة الأمم المتحدة، بعد صدور (الاعلان العالمي) و(العهدين الدوليين)، مجموعة من الشكاوى والاحتجاجات بأوضاع الموقوفين والمسجونين في العالم، فسارعت في 13/5/1977، الى تبنّي "مجموعة القواعد النموذجية لدينا لمعاملة المسجونين". وهذه المجموعة مكونة من جزءين: يتضمن الجزء الأول قواعد التطبيق العام. وهي تعالج مسائل السجن، والفصل بين الفئات، وأماكن الاحتجاز، والنظافة الشخصية، وارتداء الملابس، ووجبات الطعام، والتمارين الرياضية، والخدمات الطبية، والانضباط والعقاب، وأدوات تقييد الحرية، والحق في المعلومات وتقديم الشكوى والاتصال بالعالم الخارجي والحصول على الكتب وممارسة الشعائر الدينية وحفظ المتاع... أما الجزء الثاني فيتضمن القواعد التي تنطبق على فئات خاصة، وهي السجناء المدانون، والسجناء المصابون بالجنون أوالشذوذ العقلي، والموقوفون أو المحتجزون رهن المحاكمة، والمسجونون بسبب الديون، والموقوفون أو المحتجزون دون تهمة.

وكانت الجمعية العامة قد أصدرت، في 9/12/1975، اعلاناً بحماية جميع الاشخاص من التعذيب وغيره من العقوبات أو المعاملات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة"، وكلفت لجنة حقوق الانسان وضع مشروع اتفاقية حول هذا الموضوع في ضوء المبادىء التي وردت في هذا "الاعلان".

وفي 6/3/1984، أنجزت اللجنة عملها ورفعت الى الجمعية العامة نص مشروع الاتفاقية. وفي 10/12/1984، أقرت الجمعية "اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من العقوبات...".

والواقع أن الأمم المتحدة اهتمت، منذ نشأتها، بمسألة التعذيب والمعاملات القاسية. فالمادة /55/ من ميثاقها تنص على أن المنظمة العالمية تعمل على إشاعة احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية للجميع. والاعلان العالمي لحقوق الانسان ينص، في المادة الخامسة، على عدم خضوع أي انسان للتعذيب والعقوبات والمعاملات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يتبنّى نص المادة الخامسة ويضيف اليها "حظر إخضاع أي إنسان، دون موافقته الحرة، للتجارب الطبية أو العلمية".

والتعذيب عملٌ قاسٍ قد يقوم به فرد ويوجّهه الى جسد إنسان للسيطرة عليه، أو لإنزال قصاص به، أو للتأثير في ارادته. ولكن التعذيب الذي أصبح موضع اهتمام القوانين والاتفاقيات الدولية هو التعذيب الذي يتعاطاه رجال السلطة. فغالبية دول العالم تمارس اليوم، كما تؤكد تقارير منظمة العفو الدولية وجمعيات الدفاع عن حقوق الانسان، التعذيب على نطاق واسع أو ضيق، وبوتيرة منتظمة أو متقطعة، وفي معظم الأحيان من أجل التخلص من الخصوم.

وتطورت، في الآونة الأخيرة، أساليب التعذيب، فأُضيف الى الضرب المبرح الموجه الى الجسد أساليب اخرى تستمدّ عنفها وشراستها من مبتكرات الكيمياء والكهرباء وعلم النفس.

ولم يكن للتعذيب وضروبه تعريف واضح في الماضي، فخدم هذا الغموض مصالح المحبّذين والمنفذين لأساليب المعاملات الوحشية. وعندما وضعت اتفاقية مناهضة التعذيب تعريفاً، وحدّدت واجبات الدول الاطراف، وأنشأت لجنة لدراسة تقارير هذه الدول عن تدابيرها المتخذة تنفيذاً لتعهداتها النابعة من الاتفاقية، راحت عدة أنظمة سياسية مناهضة للديموقراطية تتحايل على المبادىء الانسانية وتستخدم أساليب وحشية ضد المعارضين أو المطالبين بحرية الرأي والاجتماع.

وقبل الانتقال الى النقاط المستجدة التي أفرزها الاهتمام بحقوق الانسان، نشير الى أن الأمم المتحدة اهتمت، بالاضافة الى الحقوق التي أتينا على ذكرها، بحقوق اخرى كثيرة تلازم حياة الانسان، وأقرّت بشأنها اتفاقيات، مثل الجنسية وانعدام الجنسية، واللجوء واللاجئين، وحقوق المرأة والطفل، والحريات النقابية، والتقدم والانماء والتعاون والثقافة والبيئة والتلوث...

ثالثاً-  المستجدات الثلاثة التي أفرزها الاهتمام بحقوق الانسان

يتعلق المستجدّ الأول بالمركز القانوني الدولي للفرد، والثاني بدخول حقوق الانسان عالم الاستراتيجيات الدولية، والثالث بالعلاقة بين هذه الحقوق والسلام العالمي.

1- إن المركز القانوني الدولي الذي اكتسبه الفرد من جراء اهتمام الأمم المتحدة بحقوقه لا يقلّ أهميةً عن المركز الذي يتمتّع به أشخاص القانون الدولي العام. وهذه الأهمية تُستنتج من كثرة العناية التي وجهها الميثاق الأممي الى حقوق الانسان، ومن حجم الاتفاقيات والاعلانات التي أقرتها الأمم المتحدة ورعت بها تلك الحقوق، ومن تركيز المنظمة العالمية على مسؤولية الفرد عن جرائم الحرب والجرائم المخلّة بالأمن والسلام الدوليين والجرائم ضد الانسانية.

2- وإن الاهتمام المتزايد بحقوق الانسان في المؤتمرات الدولية السامية أدّى إلى إدراج هذه الحقوق في جداول الاستراتيجيات العالمية، وجعل منها عنصراً بارزاً وضرورياً في كل حوار أو اجتماع أو لقاء يُعقد بين رؤساء الدول أو بين كبار المسؤولين فيها· ويكفينا أن نشير الى القمم العالمية التي عُقدت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأبدت جميعها اهتماماً واضحاً بحقوق الانسان: القمة العالمية للطفولة في العام 1990، والقمة العالمية للبيئة في العام 1992، والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية في العام 1994، والقمة العالمية للتنمية الاجتماعية في العام 1995، والمؤتمر العالمي الرابع للمرأة في العام 1995، والقمة العالمية للغذاء في العام 1996.

3- إن العلاقة الوثيقة بين السلام العالمي وحقوق الانسان أوجدت نوعاً من الربط الجدلي بين الأمرين. وهناك عدة مؤشرات أو تصرفات تثبت ذلك:

أ- فالاشادة بهذه الحقوق، وتأكيد إيمان شعوب العالم بالحقوق الأساسية للانسان وبكرامته وقيمته، وإيراد ذلك في ديباجة الميثاق الأممي بعد الحديث عن إنقاذ الأجيال من ويلات الحروب... إن كل ذلك يوحي بوجود ترابط بين استتباب السلام العالمي وحق الانسان في الحياة، الذي يأتي في طليعة الحقوق الاساسية.

ب - وإيراد حقوق الانسان ضمن مقاصد الأمم المتحدة يؤكد أن حفظ السلام والأمن الدوليين (وهو أول مقاصدها) لا يتحقق الاّ بتعزيز احترام حقوق الانسان.

ج- وإدراج بند دائم في جدول أعمال اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الاقليات (وهي تابعة للجنة حقوق الانسان) يحمل عنوان "السلم والأمن الدوليان كشرط جوهري للتمتع بحقوق الانسان، وفي مقدمتها الحق في الحياة"، يشكل اعترافاً واقراراً بشدة الترابط بين هذه الحقوق والسلام العالمي.

د- وإصدار مجلس الأمن، بصفته المسؤول الأول عن حفظ السلام والأمن الدوليين، العديد من القرارات التي تعتبر كل انتهاك لحقوق الانسان إخلالاً بالسلام والأمن وتهديداً لهما، يؤكد إيمان هذا الجهاز بالتلازم القائم بين الحقوق والسلام.

هـ- وتشكيل محاكم جنائية دولية لمعاقبة أفراد ارتكبوا جرائم منكرة من شأنها إبادة فئات من البشر وتعريض السلام العالمي للخطر، يبرهن على اقتناع الأمم المتحدة وكبار المسؤولين الدوليين بأن انتهاكات حقوق الانسان كفيلة باشعال المعارك والحروب وزعزعة السلام.

و- وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، تهدف دائماً الى توضيح هذه الرابطة· ففي 1/2/1997، قال: "ينبغي لنا، لكي يسود سلام فعلي، أن نستوعب المفهوم الشامل للأمن الانساني. فليس في مقدورنا الشعور بالأمان اذا كان الجوع منتشراً حولنا. وليس في إمكاننا تشييد السلام دون التخفيف من وطأة الفقر. وليس في استطاعتنا تأسيس الحرية على الظلم". وفي 20/10/1997، قال: "نحن ندرك أن السلام الدائم يتطلب رؤيا واسعة تشمل التربية ومحو الأمية والصحة والتغذية وحقوق الانسان والحريات الاساسية".

ز- وإدخال أنشطة متعلقة بحقوق الانسان في المهمات التي تنجزها قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مناطق ساخنة من العالم، يثبت العلاقة الراسخة بين حفظ السلام وازدهار حقوق الانسان، ويكشف عن دور هذه الحقوق في توطيد السلام.

***

تلك هي أهم الجهود التشريعية التي بذلتها الأمم المتحدة من أجل تعزيز مكانة حقوق الانسان في القلوب والعقول والممارسات. ولكن الأمم المتحدة لم تكتف باصدار القرارات والاعلانات والاتفاقيات الدولية الرامية الى تمجيد حقوق الانسان، بل سعت كذلك الى توفير الحماية لها عبر آليات واجراءات ومناهج معينة.

***

القسم الثاني

إجراءات الحماية الدولية لحقوق الانسان

المقصود بالحماية الدولية لحقوق الانسان قيامُ الأمم المتحدة، مع أجهزتها المختلفة، بدراسة أوضاع هذه الحقوق في جميع دول العالم (سواءٌ أكانت أعضاء أم غير أعضاء في الأمم المتحدة، عملاً بالفقرة السادسة من المادة الثانية من الميثاق التي تطالب المنظمة العالمية بالعمل على أن تسير الدول غير الأعضاء فيها على مبادىء الميثاق)، والتحقّق من مدى التزامها القواعدَ والاتفاقيات الخاصة بحقوق الانسان، والكشف عن الانتهاكات المرتكبة، وتقديم المقترحات والتوجيهات لحماية هذه الحقوق وتوطيدها، وطلب إنزال العقوبة، داخلياً أو دولياً، بالمذنبين.

ولو بحثنا عن المستند القانوني الرفيع الذي تعتمد عليه الأمم المتحدة لإنجاز هذه المهمة وإلزام الدول التعاونَ معها لتأمين الحماية لحقوق الانسان، لوجدناه في ثلاثة نصوص من الميثاق الأممي: الأول هو الفقرة الثالثة من المادة الاولى التي تعتبر أن من مقاصد المنظمة العالمية "تحقيق التعاون الدولي... بتعزيز وتشجيع احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية". والثاني هو الفقرة (ج) من المادة /55/ التي تحثّ المنظمة العالمية على أن تعمل على "إشاعة الاحترام العالمي والفعال لحقوق الانسان والحريات الاساسية". والثالث هو المادة /56/ التي يتعهّد فيها جميع الأعضاء "بالقيام، منفردين أو مشتركين، بما يتوجّب عليهم من عمل، بالتعاون مع المنظمة، لإدراك المقاصد المنصوص عليها في المادة /55/".

وتتم الحماية الدولية واجراءاتها بوسائل أربع:

1- ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الانسان.

2- ما تتخذه لجنة حقوق الإنسان من اجراءات.

3- ما يُصدره مجلس الأمن من قرارات للحفاظ على الأمن والسلام الدوليين.

4- ما تُصدره المحاكم الجنائية الدولية من أحكام ضد المسؤولين عن جرائم الحرب أو الجرائم ضد الانسانية.

أولاً- الحماية الدولية من خلال الاتفاقيات الخاصة بحقوق الانسان

هناك اتفاقيات دولية خاصة بحقوق الانسان، يشتمل معظمها على آليات واجراءات لتوفير الحماية لهذه الحقوق·. وهذه الحماية ترتدي أشكالاً مختلفة، أشهرها:

1-  تعهّد الدول الاطراف بوضع تشريعات داخلية تتفق مع الأحكام الواردة في هذه الاتفاقيات، أو تعهّدها بتعديل تشريعاتها لكي تتلاءم مع هذه الأحكام.

2-  النص على تشكيل لجنة من الخبراء تكون مهمتها رصد تطبيق الاتفاقيات، وتعهّد الدول الاطراف بتقديم المعلومات والتقارير الدورية اليها والتزام قراراتها.

3-   الاتفاق على أن اللجنة لا تصدر قرارات إدانة، وانما تقدم ملاحظات وتوصيات عن مدى تطبيق الاتفاقيات في الدول الأطراف. وتُبلّغ هذه الملاحظات والتوصيات الى الدول المعنية وتُرفع الى الأجهزة المختصة في الأمم المتحدة.

4-  السماح للدول في بعض الاتفاقيات بأن تعلن، في كل وقت، اعترافها باختصاص اللجنة في أن تتسلم وتدرس بيانات تنطوي على ادّعاء دولةٍ طرفٍ بأن دولة طرفاً اخرى لا تفي بالالتزامات التي تُرتِّيها عليها الاتفاقية (راجع، مثلاً، المادة /41/ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية).

5-   اعتراف الدول الاطراف في بعض الاتفاقيات باختصاص اللجنة في أن تتسلّم شكاوى من أفراد ينتمون الى هذه الدول، يدّعون فيها بأنهم كانوا ضحايا انتهاكات حقوق مقرّرة في الاتفاقية ارتكبتها تلك الدول (راجع، مثلاً، المادة الاولى من البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وكذلك المادة /14/ من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري. وتضيف هذه الاتفاقية كلمة "جماعات" الى كلمة "أفراد").

ثانياً- الحماية الدولية من خلال إجراءات لجنة حقوق الانسان

بقيت هذه اللجنة حتى العام 1967 محرومةً من صلاحية اتخاذ أي اجراء بالنسبة إلى الشكاوى المتعلقة بحقوق الانسان. وفي ذلك العام، وبمناسبة كثرة الشكاوى المقدمة إلى اللجنة الخاصة بتطبيق اعلان منح الاستقلال للشعوب والاقطار المستعمرة، أصدرت لجنة حقوق الانسان قراراً بإدخال بندٍ سنوي ثابت في جدول أعمالها بعنوان: "مسألة انتهاك حقوق الانسان وحرياته الاساسية في أية منطقة من مناطق العالم، مع إشارة خاصة إلى الأقاليم المستعمرة وغيرها من الأقاليم التابعة". وأقرّ المجلس الاقتصادي والاجتماعي هذا المنحى وسمح للجنة بدراسة حالات الانتهاك الخطير لحقوق الانسان ورفع تقاريرها اليه.

ومع أن عمل اللجنة بقي مقتصراً على الانتهاكات التي تقع في الاقطار الخاضعة للاستعمار، وفي جنوب إفريقيا، فان نجاح الآلية التي اتبعتها تشجّع الجمعية العامة للأمم المتحدة على تشكيل لجنة تُعنى بالممارسات الاسرائيلية التي تحسّن حقوق الانسان في الأراضي العربية المحتلة، وتُحال تقاريرها إلى لجنة حقوق الانسان التي تناقشها كلّ عام في إطار بندٍ خاص بعنوان: "مسألة انتهاك حقوق الانسان في الأراضي العربية المحتلة، بما فيها فلسطين".

وفي السبعينات من هذا القرن طرأ تغيير واضح على المناخ الدولي والعلاقات والظروف في العالم، وكذلك على المواقف المتنكرة أو الرافضة لفكرة الحماية الدولية لحقوق الانسان. وسمح هذا التغيير للجنة حقوق الانسان بتوسيع صلاحياتها والخروج من نطاق الدول الخاضعة للاستعمار. وكان تشكيل فريق عمل، في العام 1974، لدراسة انتهاكات حقوق الانسان في التشيلي في عهد الحكومة العسكرية، أول خطوة جريئة في هذا السبيل.

وتوالت الخطوات المماثلة واستعيض أحياناً عن فريق العمل بمقرَّر خاص أو خبير، حتى أصبح لست عشرة دولة، في العام 1998، مسؤولون من هذا النوع، مكلّفون دراسة حالات حقوق الانسان فيها.

وقرارات الحماية التي تتخذها اللجنة تصدر بناءً على مشروع قرار تتقدم به دولة أو عدة دول ويكون مبنيّاً على معلومات توافرت لدى اللجنة عن أوضاع حقوق الانسان في دولة معيّنة. وتشترط اللجنة أن تكون الانتهاكات المشكو منها خطيرة ومنهجية وثابتة. والمؤسف أن تصويت الدول على مشروع القرار يخضع غالباً لاعتبارات وعوامل سياسية.

وعند الموافقة على مشروع القرار يُسمّى رئيس اللجنة مقرراً خاصاً لدراسة حالة حقوق الانسان في الدولة المعنيّة وتقديم تقرير نهائي إلى اللجنة يتضمن عرضاً لتلك الحالة ومقترحات بتحسينها.

وتناقش اللجنة التقارير وتتخذ بشأنها تقارير تُعرض على المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ثم تُرفع إلى اللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة لدرسها وإعداد مشاريع قرارات فيها تمهيداً لعرضها على الجمعية العامة من أجل اعتمادها واصدار قرارت بشأنها.

وابتداءً من العام 1980، أخذت لجنة حقوق الانسان تتّبع منهجاً جديداً في تحقيق الحماية الدولية يتلخّص في التركيز على حق واحدٍ محدّدٍ من حقوق الانسان وتوجيه كل الاهتمام اليه. ولعلّ سبب ذلك يعود إلى تفاقم ظاهرة اختفاء الاشخاص في أميركا اللاتينية ودول العالم الثالث واصدار الجمعية العامة قراراً يطلب من لجنة حقوق الانسان النظر في هذه المسألة وتقديم التوصيات المناسبة. وشكلت اللجنة فريق عمل من خمسة أشخاص لجمع المعلومات حول المسألة وتقديم تقرير سنوي. وما زال هذا الفريق يمارس مهمته ويرفع تقريراً سنوياً إلى اللجنة.

وأخرى نجاح المنهج الجديد بتوسيع دائرة الحقوق التي تستحق الرعاية والاهتمام، وتكليف مقررين خاصّين إلى جانب فرق العمل لرصد كيفية تطبيق حق معين أو وثيقة معينة. وهناك اليوم أكثر من /15/ موضوعاً يخضع كلّ منها لمراقبة فريق عمل أو مقرر، مثل:

- الاختفاء القسري.

- الاحتجاز التعسفي.

- القضاء على العنف ضد المرأة.

- التعذيب وغيره من المعادلات والعقوبات اللاإنسانية.

- أثر النزاعات المسلحة في الأطفال.

- التهجير القسري الداخلي للأشخاص.

- حقوق الانسان في حالات الطوارئ...

والتقارير السنوية التي يُعدّها المقررون وفرق العمل تُرفع إلى لجنة حقوق الانسان وتُوزّع ضمن وثائقها وتُعدّ مرجعاً مهماً للأمم المتحدة (وللباحثين كذلك) عن أوضاع حقوق الانسان في دول معينة.

ثالثاً- الحماية الدولية من خلال قرارات مجلس الأمن

مجلس الأمن هو الأداة التنفيذية للأمم المتحدة، وهو المسؤول الأول عن حفظ السلم والأمن الدوليين وقمع أعمال العدوان وانزال العقوبات بالأعضاء المخالفين. ويتعهد أعضاء الأمم المتحدة بقبول قرارات المجلس وتنفيذها. واهتمام المجلس بحقوق الانسان وحمايتها ينطلق من مسألة تأثير انتهاكها في أوضاع السلم والأمن في العالم.

فالمجلس يتدخل في حالات انتهاك حقوق الانسان التي يعتبر أنها تُشكّل تهديداً للسلام العالمي ويتخذ تدابير قمعية أو قسرية ضد المسؤولين عنها. ولكن توصيفه لهذه الحالات لا يعتمد على معايير قانونية (ولا على معايير منطقية غالباً)، بل على تقديرات سياسية.

وفي 31/1/1992، نظم مجلس الأمن اجتماع قمة لأعضائه انتهى باصدار وثيقة ختامية عالجت موضوع حقوق الانسان باعتباره جزءاً من السلم والأمن الدوليين.

وأُتيح للمجلس، منذ سنوات، إصدار قرارات تتعلق بالحماية الدولية لحقوق الانسان وارسال بعثات لتقصّي الحقائق عن مدى احترام هذه الحقوق في بعض الدول. ويمكننا الاستشهاد بقراره الصادر في 16/6/1993، والمتعلق بالوضع في هايتي.

ففي العام 1990، جرت انتخابات في هذه الدولة وانتُخب جان برنار أريستيد رئيساً للبلاد. وفي العام 1991، تعرّضت البلاد لانقلاب عسكري أطاح الرئيس. وفي 11/10/1991، دانت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الانقلاب، وأدرجت هذه المسألة في جدول أعمالها تحت بند "حالة الديموقراطية وحقوق الانسان في هايتي". وفي حزيران (يونيو) 1993، تقدم مندوب هايتي لدى الأمم المتحدة (وكان يمثل الرئيس المخلوع) بمذكرة إلى رئيس مجلس الأمن يطلب فيها فرض عقوبات على النظام العسكري الحاكم.

وتجاوب المجلس وأصدر قراراً، في 16/6/1993، أوضح فيه أن الوضع في هايت (أي إطاحة الرئيس المنتخب) يُهدّد السلم والأمن الدوليين في المنطقة، ويستوجب فرض حظرٍ تجاري وجوّي على هذه الدولة. وفي العام 1994، قرر المجلس تشكيل قوة عسكرية موحدة بقيادة الولايات المتحدة لتسهيل عودة الرئيس الشرعي إلى السلطة. وتم تشكيل هذه القوة وأعيد الرئيس إلى السلطة في 25/9/1994.

وسلوك مجلس الأمن حيال هذه القضية ينطوي على سابقة خطيرة، هي استخدام قوات دولية لإحلال نظام مكان نظام. وهذا التصرف يحدث لأول مرة في تاريخ المنظمة العالمية. والخطورة تكمن في السلطة التقديرية التي يملكها المجلس والتي تُجيز له اتّهام أي نظام سياسي بتهديد السلام العالمي ثم استخدام القوة لتغييره.

فالمادة /39/ من الميثاق الأممي تنصّ على أن المجلس يُقرّر، في كل الحالات والنزاعات التي تُعرض عليه أو يضع يده عليها، أن ما وقع هو تهديد للسلم، أو إخلال به، أو عمل من أعمال العدوان. وهذا النص يُحوّل المجلس سلطةً تقديريةً واسعة تجعل منه صاحب الاختصاص الحصري والمطلق في تكييف ما يُعرض عليه من وقائع وما يُعدّ تهديداً أو إخلالاً أو عدواناً.

والمؤسف أن هذه السلطة التقديرية تستند، في معظم الأحيان، إلى اعتبارات ومصالح ونزوات سياسية، فتُجانب الحقّ وتُهمل العدالة وتقلب الموازين وتستخدم مكيالين وموقفين في القضية الواحدة. والدليل الساطع موقف مجلس الأمن من انتهاكات اسرائيل القواعدَ والاتفاقيات الدولية، وانحيازه إلى جانب الدول المتغطرسة والمستكبرة. وحسبنا الاشارة إلى موقفه المتّسم بالانتهازية والمزاجية من أحداث فلسطين في العام 1948.

ففي نيسان (أبريل) كانت العصابات الصهيونية تستخدم العنف، بالتواطؤ مع قوات الانتداب، لترحيل السكان الاصليين والاستيلاء على أملاكهم. ونظر المجلس في هذه الأحداث فلم يرَ فيها تهديداً للسلم والأمن الدوليين. وعندما أوشكت كفة ميزان القوى أن تميل لصالح العرب، تدخل المجلس وأصدر في 19 أيار (مايو) قراراً بالتزام الهدنة. وعندما استولى الكيان الصهيوني الناشئ على مقدار من أرض فلسطين وأصبح بحاجة إلى فترة لتنظيم الصفوف والعتاد والتقاط الأنفاس، سارع المجلس، في 15 تموز (يوليو)، إلى اصدار قرار وصف فيه الأحداث الدامية التي غمرت فلسطين بأنها تهديد للسلم، وفرض على أصحاب الحق (العرب). والمغتصبين (اليهود) الامتناع عن القيام بأية أعمال حربية، وقرّر أن مخالفة ذلك سيُعدّ إخلالاً بالسلم يستوجب تطبيق أحكام الفصل السابع من الميثاق.

رابعاً - الحماية الدولية من خلال أحكام المحاكم الجنائية الدولية

أنشأ الحلفاء، في نهاية الحرب العالمية الثانية، محكمة نورمبرج لمحاكمة كبار مجرمي الحرب وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتشار الاضطرابات في معظم دول المعسكر الاشتراكي السابق، اندلعت نزاعات مسلحة في مختلف أنحاء العالم اقترنت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.

وطُرحت المشكلة على مجلس الأمن وطالب بعض الأعضاء بتشكيل محاكم جنائية دولية خاصة ببلد محدّد. وكان أول قرار اتخذه المجلس في هذا الصدد هو القرار الصادر في 22/2/1993، الذي قضى بإحداث محكمة جنائية دولية لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم الخطيرة التي وقعت في أراضي يوغوسلافيا السابقة منذ العام 1991. وكان من أشدها خطورة جرائم التطهير العرقي والديني التي تُعدّ من جرائم الإبادة الجماعية.

وكلّف المجلسُ الأمين العام للأمم المتحدة إعدادَ مشروع النظام الأساسي للمحكمة، فأنجزه في فترة قصيرة. وفي 25/5/1993، اعتمده المجلس وشكّل المحكمة.

وفي العام 1994، حدثت جرائم ابادة في رواندا، فاعتمد المجلس نظاماً مشابهاً وشكّل محكمةً خاصة لمحاكمة المتهمين بارتكاب هذه الجرائم. وفي الاسبوع الأول من أيلول (سبتمبر) 1998، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا حكماً بالسجن المؤبد ضد رئيس بلدية سابق ورئيس حكومة سابق، واعتبرت أن المذنبيْن ارتكبا أعمال إبادة وجرائم ضد الانسانية. وأشاد الأمين العام للأمم المتحدة بالحكم ورأى فيه نقطة تحوّل في تاريخ القانون الدولي وعملية إحياء للمُثُل التي تبنّتها اتفاقية جنيف منذ خمسين عاماً.

ونجاح هذه المبادرة شجّع لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة على التفكير في إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة على غرار محكمة العدل الدولية، فعقدت اللجنة ثلاثة اجتماعات تمهيدية في العام 1997، وقررت عقد مؤتمر دبلوماسي في العام 1998 من أجل وضع نظام لهذه المحكمة.

وفي 15/6/1998، افتتح الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، في روما المؤتمر الدبلوماسي المكرّس لانشاء المحكمة، بحضور ممثلي /156/ دولة. وأشار في كلمته إلى الجرائم التي ارتكبت في كمبوديا بين عامي 1975و 1978، وفي رواندا في العام 1994، وفي يوغوسلافيا السابقة بين عامي 1991 و1995، وأكد عدم كفاية المحاكم الخاصة للحكم في جرائم الحرب وعمليات الابادة والجرائم ضد الانسانية، ودعا الاسرة الدولية إلى إقامة "سدّ منيع في وجه الشر" بانشاء المحكمة الدولية الدائمة.

وبعد شهر من المداولات أُقر، في 17/7/1998، نظام المحكمة بأكثرية 120 دولة، ومعارضة سبع دول، في مقدمتها الولايات المتحدة.

وخلافاً للمحكمتين الدوليتين الخاصتين بجرائم الحرب في رواندا ويوغوسلافيا السابقة، واللتين شُكّلتا للفصل في جرائم جرت في فترة معينة ومنطقة محددة، فالمحكمة الجنائية الدولية الجديدة ستكون دائمة وجاهزة لمحاكمة المتهمين بارتكاب أشد الجرائم خطورةً في أي مكان من العالم.

وهذه الجرائم أربعة أنواع:

- جرائم الإبادة (القضاء كلياً أو جزئياً على مجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية).

-   الجرائم ضد الانسانية (الاعتداءات الواسعة أو المنظمة على المدنيين. ومن هذه  الجرائم: الاستعباد والتعذيب والاغتصاب والعقم أو الحمل الإجباري).

-   جرائم الحرب (الناتجة عن الانتهاكات الخطيرة لاتفاقيات جنيف للعام 1949، أو للقوانين والاتفاقيات التي تحكم النزاعات الدولية).

-       جرائم العدوان (وهي الجرائم التي يعود لمجلس الأمن حق تحديدها وفقاً لميثاق الامم المتحدة).

ومن المستجدات التي أتى بها نظام المحكمة إدراجُ الجرائم التي تقع خلال النزاعات المسلحة غير الدولية (أي النزاعات الداخلية) ضمن جرائم الحرب.

وبالنسبة إلى التصديق على هذا النظام فان سجلّ تسلّم التصديقات من الدول سيبقى مفتوحاً في الأمم المتحدة حتى نهاية العام 1999. وسيكون مقر المحكمة في لاهاي، ولن تنظر إلاّ في الجرائم التي ستُرتكب بعد دخول النظام حيّز التنفيذ.

والخلاصة أننا نلمس، بعد الاطلاع على جهود الأمم المتحدة في مجال قمع الجرائم غير الانسانية، توجهاً دولياً بارزاً نحو تدويل المسؤولية الجنائية الفردية عن خرق حقوق الانسان. فالحصانة لم تعُد سراً يحمي الرؤساء من العقاب عن ارتكاب جرائم دولية. والتذرّع بتنفيذ أوامر الرؤساء لم يعُد وسيلةً للتهرب من المسؤولية الفردية. والفرد أصبح مدوّلاً، أي خاضعاً للمساءلة الدولية، لدى اقترافه جريمة ضد حقوق الانسان، أو لدى اعتباره ضحية انتهاك لهذه الحقوق.

القسم الثالث

العقابات في وجه الحماية الدولية

تواجه عملية الحماية الدولية لحقوق الانسان عقبات وعراقيل، أهمها: مبدأ سيادة الدولة، ومبدأ عدم التدخل.

أولاً - مبدأ سيادة الدولة

لن نتعرّض لشرح هذا المبدأ، ولن نتحدث عن مفهوم السيادة وأهميته وتطوره، فكلّ ما يعنينا هنا هو الاعتراف بأن التطورات التي طرأت على العلاقات الدولية بسبب تقدم العلم والتكنولوجيا أدّت إلى فرض قيود على سيادة الدول.

صحيح أن الدولة تتمتع بالسيادة، إلاَّ أن ذلك لا يعني أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء. فسيادتها ليست مطلقة، أو لم تَعد مطلقة. فعلى الصعيد الداخلي أو الوطني يمكن تقييد سلطة الدولة بواسطة الدستور والقوانين، وهو ما يُعرف بالتقييد الذاتي. ويمكن كذلك تقييدها على الصعيد الخارجي بواسطة الالتزامات أو المعاهدات الدولية التي تتم بارادة الدولة ذاتها، وأحياناً لأسباب يُحتّمها التطور التكنولوجي.

ففي مجال التعاون الدولي تجد الدولة نفسها مضطرةً إلى التعامل مع الدول الأخرى. وهذا التعامل ليس اختياراً، وانما هو ضرورة نابعة من الحاجة. ولأنه ضرورة فالدولة مضطرة، في كل وقت، إلى وضع قيود على حريتها للتعامل مع العالم الخارجي. وإذا كان هذا التعامل يتجسّد في التعاون بين الدول لتحقيق المصلحة العليا للمجتمع البشري، فإن تحقيق هذه المصلحة يقتضي تقييد سيادة الدولة.

والغالبية الساحقة من دول العالم أعضاء في المنظمات الدولية. والانتساب إلى هذه المنظمات يفرض بعض القيود، وأهمها التزام القرارات التي تُتّخذ بأكثرية معيّنة. وبعض هذه المنظمات (لا سيما المنظمات الفنية أو المتخصصة) يُقدّم مساعدات مالية أو فنية ويمارس رقابةً على كيفية استعمالها أو استثمارها. وهذه الرقابة تشكل أسلوباً لتقييد السيادة. وكثيراً ما تتمّ هذه الرقابة عن طريق الأجهزة الدولية المكلّفة اجراء التفتيش. فالدولة التي تنضم إلى وكالة دولية، مثل الوكالة الدولية للطاقة النووية، تتعهّد بالسماح للأجهزة الدولية بالقيام بعمليات التفتيش على أجهزتها الداخلية وطرق عملها وإنتاجها. وفي مجال استيراد التكنولوجيا تُضطر الدولة إلى الخضوع لمجموعة من القيود التي تكبّل سيادتها.

والأمم المتحدة، كمنظمة عالمية تُعنى بالقضايا الدولية الكبرى، اضطرت، بسبب اختزال المسافات والأبعاد وتشابك المصالح والخدمات واشتداد الحاجات المتبادلة بين الدول، إلى الاهتمام كذلك بالقضايا الاقليمية أو المحلية أو الداخلية ذات الآثار العالمية المشتركة، مثل مسائل التلوث والتربية والتطور السكاني والتنمية الاقتصادية والمواد الغذائية وحقوق الانسان...

وأثبتت المؤتمرات العالمية التي نظّمتها الأمم المتحدة  في السنوات الأخيرة وعالجت الهموم الانسانية المشتركة أن العالم تقلّص، بفعل الاختراعات الحديثة، إلى قرية صغيرة يواجه أهلها مصيراً مشتركاً، وأن المشكلات والأزمات التي تعانيها البشرية مرتبطة بأوضاع حقوق الانسان، وأن المفهوم التقليدي للسيادة لم يعُد صالحاً لمواكبة المستجدات والمتغيرات في عالم اليوم.

وأدرك الأمين العام السابق، بطرس بطرس غالي، هذا الأمر جيداً وعبّر عنه، في تقريره المقدّم بعد اجتماع القمة لمجلس الأمن في 31/1/1992، بقوله:

"إن احترام صميم سيادة الدولة وسلامتها هو أمر حاسم لتحقيق أيّ تقدّم دولي مشترك بيد أن زمن السيادة المطلقة الخالصة قد مضى· فالنظرية هنا لم تعُد تنطبق على الواقع· ومهمة قادة الدول اليوم هي تفهّم هذا الأمر وايجاد توازن بين حاجات الحكم الداخلي ومتطلبات عالم يزداد ترابطاً يوماً بعد يوم. فالتجارة والاتصالات والأمور البيئية تتعدى الحدود الادارية... ويكمن أحد متطلبات حلول هذه المشاكل في التزام حقوق الانسان...".

وجاء الأمين العام الحالي، كوفي أنان، يشدّد بدوره، في تقاريره، على اتجاهات العولمة التي تجتاح الدنيا، ويشير إلى تأثيرها الواضح في تطور مفهوم السيادة.

ثانياً- مبدأ عدم التدخّل

وهنا أيضاً لن ننغمس في تعريف المبدأ وأهميته وتطوره، فكل ما يعنينا منه هو علاقته بحقوق الانسان وبمدى التزام الأمم المتحدة به عندما تتعرّض تلك الحقوق للانتهاك في بلد معين. وللتبسيط يميّز الباحثون بين نوعين من عدم التدخل: عدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وعدم تدخل الأمم المتحدة في الشؤون التي تُعتبر من صميم السلطان الداخلي. والنوع الأول لا يحتاج إلى شرح، فميثاق الأمم المتحدة، في الفقرة الرابعة من مادته الثانية التي تُعدّد مبادئ المنظمة العالمية، يطالب الأعضاء بالامتناع في علاقاتهم الدولية عن اللجوء إلى التهديد بالقوة أو استخدامها ضد الوحدة الاقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة.

ولترسيخ دعائم هذا المبدأ وحثّ الدول على الأخذ به واحترامه أصدرت الجمعية العامة عدة قرارات حول هذا المبدأ كان آخرها "الاعلان الخاص بعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول"، الصادر في 9/12/1989، بأكثرية /120/ صوتاً.

وحظي المبدأ بتأييد القضاء الدولي، فتعرّضت له محكمة العدل الدولية في قضيتين: قضية مضيق كورفو بين بريطانيا وألبانيا (القرار الصادر في العام 1949)، وقضية أعمال الولايات المتحدة، العسكرية وشبه العسكرية، في نيكاراغوا (القرار الصادر في العام 1986). وأتيح للمحكمة في هذه المناسبة أن تؤكد التزام الدول عدمَ التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتعتبر استخدام القوة الاسلوب غير المناسب لتأمين احترام حقوق الانسان.

أما النوع الثاني، أي مبدأ عدم تدخل الأمم المتحدة في الشؤون التي تُعدّ من صميم السلطان الداخلي للدول، فيجد مستنده القانوني، كذلك، في الفقرة السابعة من المادة الثانية المكرّسة لتعداد مبادئ الأمم المتحدة. لقد نصت هذه الفقرة على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يسوّغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولةٍ ما...".

ولكن ما العلاقة بين هذا المبدأ والحماية الدولية لحقوق الانسان؟

إن ميثاق الأمم المتحدة، بخلاف ميثاق العصبة، يخلو من أيّ معيار قانوني لتحديد الشؤون التي تدخل في صميم السلطان الداخلي للدول· ولو اطلعنا على الأعمال التحضيرية لإعداد الميثاق لاكتشفنا أنه كانت هناك دول، مثل فرنسا، تميل إلى عدم الأخذ بحجة السلطان الداخلي عند تعرّض حقوق الانسان لانتهاكات خطيرة من شأنها تشكيل تهديد للسلام العالمي.

غير أنه لم يُؤخذ آنذاك بهذا الاتجاه· وبعد صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العام 1948 جرت محاولات (لا سيما من جانب الاتحاد السوفياتي) لتشبيه بعض الممارسات المسيئة لحقوق الانسان بجريمة إبادة الجنس، فلم يحالفها التوفيق. وبعد صدور إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، واعتبار الاستعمار إنكاراً لحقوق الانسان، جرت محاولات لتطبيق هذا المفهوم على حالاتٍ تقع خارج نطاق الاستعمار، فلم تلق تجاوباً.

ومع أن التشيلي كانت، في العام 1973، أول دولة مستقلة أخضعت لمراقبة أوضاع حقوق الانسان فيها من قبل فريق عمل، فقد بقي هذا الاجراء يتيماً. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الدول المشاركة في "إعلان هلسنكي" للعام 1975، من أجل تدويل مسألة حقوق الانسان، فان موضوع السلطان الداخلي بقي خارج الوفاق مشوباً بالحذر والتردّد وخاضعاً للاعتبارات السياسية.

ولم يتغير الوضع إلاّ بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وزوال القطبية الثنائية وهيمنة الولايات المتحدة على مقاليد الأمم المتحدة. وهذا التغيير لم يحصل لصالح المبدأ أو لخدمة حقوق الانسان، فقد انتهزت الولايات المتحدة فرصة الفراغ السياسي واختلال ميزان القوى وضعف حلفائها في العالم وراحت، منفردةً وبدعوى الدفاع عن حقوق الانسان أو الشعوب، تستخدم الأمم المتحدة لخدمة مآربها واستعمال القوة ضد الدول التي ترفض السّير في ركابها.

وذهبت الادارة الأميركية، بما تملك من وسائل الضغط والترغيب والترهيب، إلى أبعد من ذلك، فأوعزت إلى السائرين في فلكها، خلال مناقشات الجمعية العامة في العام 1991، باقتراح إعادة النظر في مفهوم عدم التدخل، وبالانتقال من مرحلة منع التدخل إلى مرحلة حقّ التدخل، وبرفع شعار "واجب التدخل الديموقراطي".

وعندما عقد المؤتمر البرلماني الدولي دورته في التشيلي، في خريف العام المذكور، تدخلت الادارة الأميركية واستعملت، كعادتها، مختلف أساليب الضغط لاستصدار قرار يؤكد أن مبدأ عدم التدخل في الشؤون التي تكون من اختصاص الدول لا يمكنه منع الأمم المتحدة من التدخل واتخاذ التدابير الكفيلة بتأمين احترام المبادئ الاساسية لحقوق الانسان.

وموقف الادارة الاميركية، المحبّذ اليوم لمبدأ  التدخل، يتناقض مع موقفها السابق المعارض له. ففي العام 1945، ولدى مناقشة مشروع الميثاق الأممي في مؤتمر سان فرنسيسكو، هدّد رئيس الوفد الأميركي حينذاك، جون فوستر دالاس.الذي أصبح وزيراً للخارجية فيما بعد)، بأن القبول بمبدأ التدخل سيدفع الكونغرس الأميركي إلى رفض الميثاق، وعدم الانضمام إلى الأمم المتحدة، وتكرار ما حدث في العام 1919 عند انشاء عصبة الأمم.

وهذا التناقض المقصود والمدروس، والمبني على المصلحة الخاصة الضيقة، والحافل بالنزعة الانتهازية، هو الذي قاد الادارة الاميركية إلى الكيل بمكيالين والتلاعب بميزان الحق والعدالة في علاقتها الخارجية ونظرتها إلى بؤساء العالم.

ولو تجاوزنا هذه المسألة وعدنا إلى التساؤل عن العلاقة بين الحقوق ومبدأ عدم التدخل لوجدنا أنفسنا أمام السؤال الأهم: هل تقع حقوق الانسان ضمن السلطان الداخلي للدول، أي ضمن القطاع المحجوز للدول الذي لا يجوز لأية دولة أو جمعية أو منظمة دولية أن تتدخل فيه؟

واذا كان من الصعب قبول فكرة إدخال جميع حقوق الانسان ضمن الاختصاص الحصري للدول، فمن الصعب أيضاً التنكّر المطلق لفكرة الحماية الدولية للحقوق والحريات الأساسية. وفي رأينا ان المسلك المعتدل والعادل يقضي بالتمييز بين الحقوق العادية التي تخضع  حصراً لسلطة الدولة، وبين الحقوق الاساسية التي لا يجوز مسّها والتعرّض لها حتى في أوقات الحروب وحالات الطوارئ.

والحقوق الاساسية تشكل قواعد آمرة في القانون الدولي المعاصر. وهناك اتفاقيات دولية صادرة عن الأمم المتحدة أو برعايتها تنص على هذه الحقوق التي تشمل، مثلاً، الحق في الحياة وفي عدم التعرض للابادة أو الاسترقاق أو التمييز العرقي أو الديني...

والحقوق الاساسية ليست جامدةً، فعددها يزداد وأهميتها تتضاعف بفعل التطورات التي يشهدها القانون الدولي. ففي 18/12/1992، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة "إعلان حماية جميع الاشخاص ضد الاختفاء القسري"، واعتبرت أن هذه الظاهرة تسيء إلى القيم العميقة لكل مجتمع حريص على احترام الشرعية وحقوق الانسان والحريات الاساسية، وأن ممارستها على نحوٍ منتظم تشكل جريمة ضد الانسانية.

وتعرّضت محكمة العدل الدولية، في الأحكام والفتاوى الصادرة عنها، إلى الحقوق الاساسية للانسان، واعتبرتها من القواعد الامرة التي لا تدخل في القطاع المحجوز للدول (راجع، مثلاً، قرارها في قضيةAffaire de la Barcelona traction، الصادر في 5/2/1970) .

source