تقييم الاعلان بعد 50 سنة

calendar icon 02 تشرين الأول 1998 الكاتب:حسن الشلبي

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الرابعة)

أولاً - الجذور

لقد جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948 تتويجاً لجهود ترقى إلى إنسانيات الاغريق والرومان منذ عشرات القرون، رمت إلى الاعتراف بكرامة الإنسان وحريته وحقه في المساواة.

فقد أعلن خطيب الاغريق الشهير بركليس منذ ما يزيد على 24 قرناً أن جميع المواطنين يتمتعون بالمساواة، وأما من حيث الوصول الى المناصب فالمفاضلة بين الأفراد لا تقوم إلا تبعاً لما يتميزون به. وأساس هذا التمييز هو الموهبة لا الانتماء إلى طبقة معينة، ولا يمكن أن يحال بين شخص وبين خدمة المدينة بسبب فقره أو خموله الاجتماعي ما دام قادراً على النهوض بهذه الخدمة.

ولقد قيل عن الديمقراطية الاثينية التي ظهرت في أيام الاغريق أنها الديمقراطية التي تناصر الضعفاء وأنها كانت ترى في ذلك الشيء الذي كان يسمى "عبداً" وجه إنسان وأن يحس أن في تلك الآلة روحاً وأن العبد نفسه خليق بأن يعامل بعطف إنساني.

ولقد صرخ التربيون كانليوس في وسط المعركة التي حمى وطيسها بين الإشراف والعبيد في أيام الرومان قائلً: "هل هناك إهانة أكبر وأبلغ من أن يعتبر جزء من المدينة غير جدير بالمصاهرة وكأنه جزء مدنس... لماذا لا تقرّون إذن أن رجل الشعب لا يمكن أن يجاور الشريف ولا أن يمشي على نفس الطريق ولا أن يجلس على نفس المائدة ولا أن يصعد إلى نفس المنبر". وإذا لم يعط الشعب الروماني حرية التصويت ولم يسمح له بأن يعط منصب القنصل لمن يشاء، فإن روما لن تستطيع البقاء على قدميها، إن الإمبراطورية ستنهار".

وقال مخاطباً الأرقاء: "ألا تحسون بوطأة ذلك الاحتقار، إنهم لو استطاعوا لسلبوكم نصيبكم من هذه الشمس التي ترسل إليكم ضياءها، إنه لما يبعث الثورة في نفوسهم أنكم تتنفسون وتتكلمون وأن لكم أوجهاً بشرية".

ثم يلتفت كانليوس إلى الإشراف ليختم حديثه وهو يهدد بقوله: "وفي النهاية من الذي يملك السيادة.. أأنتم الذين تملكونها أم الشعب الروماني... وعندما طردنا الملوك هل كان ذلك لكي نقيم سيطرتكم محل سيطرتهم، أم كان لكي نحقق للجميع الحرية وسط المساواة. يجب أن يعطى للشعب الروماني الحق في أن يضع التشريع إذا أراد".

وهكذا نكاد نقرأ في إنسانيات الاغريق  والرومان ما نقرأه اليوم في وثائق إنسانيات القرن العشرين وما نستشرفه من ذلك في القرن الواحد والعشرين.

وبدل أن يستجاب إلى هذه النداءات والصرخات بالاعتراف ولو بأبسط الحقوق بين البشر وأوجبها لحياة الإنسان، إذا بطغاة روما يمعنون بانتهاك الكرامة الإنسانية وحرية الإنسان مبقين على نظام الرق ويسرفون في إنكار المساواة بين بني البشر في كل الحقوق والمقومات الأساسية لحقوق الإنسان.

ولقد اختفت فكرة المواطن الحرّ في القرون الوسطى التي كانت عزيزة على المدن الديمقراطية في العالم الاغريقي والروماني. بحيث قالت الكنيسة ان الفقراء، أسمى من الأغنياء، ولكنه كان سمواً "أمام الله"، أما على سطح الأرض فيجب ان يلقن الفقراء الخضوع، فإذا ضربوا على أحد الخدين وجب عليهم ان يمدوا الخد الآخر أي أن يطيعوا حتى السيد الشرير.

وإذا تزوج العبد من امرأة حرة فإنه يكون قد ارتكب جريمة يستحق عليها أقصى العقاب والعذاب. وإذا تزوج الرجل الحر من عبدة فأنه يفقد حريته.

ولقد بلغ الأمر من ذلك بحيث قال رجال الكنيسة: "أيها التبغ ألزموا الخضوع في كل حين لأسيادكم ولا تنتحلوا الأعذار من قسوتهم أو بخلهم. ألزموا الخضوع لا للخيرين ولا للمعتدلين من الأسياد فحسب، بل لأولئك الذين ليسوا كذلك".

ولم يكن بد للإنسانية من انتظار ثمانية عشرة قرناً حتى ترى الحرية والمساواة والأخاء أفكاراً فعالة في أوروبا وذلك عندما صدرت عن رجال الثورة الفرنسية وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن في سنة 1789 حاملة إلى العالم مبادئها الأربعة التي دارت على القول بأن الناس يولدون ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق. وأنه يمكن للناس أن يفعلوا كل ما لا يضر بالغير وبناء على ذلك يمكنهم أن يفكروا ويتكلموا ويكتبوا ويطبعوا في حرية. وأنه للمواطنين الذين تتكون منهم الأمة الحق المطلق في إدارتها. وأنه يجب على الأمة صاحبة السلطان أن تضع نصب عينيها دائماً حقوق الأفراد من جهة والمصلحة العامة من جهة أخرى.

وإذا كانت وثيقة إعلان حقوق الإنسان قد سجلت الحقيقة القائلة بأن واقع الإنسانية الظالم لا يمكن أن يدخل عليه الإصلاح ويتحقق فيه شيء من العدل إلا من خلال صراع مرير طويل، فان هذه الوثيقة قد سجلت حقيقة أخرى ألا وهي إدخال فكرة حقوق الإنسان في عالم القانون بعد أن توّجت مرحلة من وثائق وإعلانات الحقوق مثل العهد الأعظم الماغناكارتا الصادر في بريطانيا سنة 1215 وإعلان الحقوق الصادر في بريطانيا سنة 1688 وإعلان الحقوق الصادر في ولايات أميركا الشمالية سنة 1774.

لقد تمكنت هذه الوثائق والإعلانات من أن تنقل ما صاغه الفلاسفة والحكماء في أيام الاغريق والرومان والكنيسة في العصر الوسيط حول حقوق الإنسان من مبادئ الكرامة والحرية والمساواة، من عالم الفكر والآمال والتمنيات إلى دنيا القانون الوضعي الذي جعل هذه الأفكار والآمال جزءً من القانون الدستوري الملزم للسلطات والحكومات، بحيث جعلت جميع الدساتير الديمقراطية في العالم من هذه الحقوق ديباجة لها إما تحت عنوان الحقوق والواجبات العامة أو الحقوق الفردية حتى تكتسب ما للدساتير من سمو وحرمة وحصانة وتغدو المثل السياسي في الأمة الذي لا يجوز انتهاكه أو المساس به.

وبالنظر ما لفكرة حقوق الإنسان ومبادئها من حرمة وقدسية، لم يكن بد من أن تنتقل من محيط الدساتير والقانون الدستوري الى محيط القانون الدولي علّه يعطيها الحماية والكفالة بالاحترام الذي عجزت قواعد القانون الدستوري بكل ما لها من قوة قانونية وحصانة عن إعطائها. وهكذا دخلت هذه المبادئ وما تحمل من أفكار ومعان على استحياء رحاب عصبة الأمم وذلك عندما صوتت جمعيتها العامة في سنة 1933 بالموافقة على قرار دعت فيه الحكومات كلاً فيما يخصه لاحترام حقوق الإنسان بالرغم من عدم وجود معاهدة خاصة تنص على هذا الاحترام. وقد اتخذت الجمعية هذا القرار بناء على شكوى كان قد تقدم بها غلى عصبة الأمم أحد المواطنين الألمان في سيليسيا العليا متهماً بها الحكم النازي بخرقه للمعاهدة المنعقدة في سنة 1922 بين ألمانيا وبولونيا تحت إشراف العصبة والخاصة بضمان احترام حقوق الاقليات في المقاطعة المذكورة.

ومهما تكن دلالة هذا القرار من حيث أنه يتيح لأول مرة للمنظمات الدولية تحديد موقفها من قضية تتصل بعلاقة بين حكومة وأحد رعاياها، إلا أنه قراراً مقيداً بمعالجة هذه الحقوق والحريات بقدر تعلقها بمركز الاقليات، وعاجزاً عن معالجة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بوصفها قضية قائمة بذاتها وبنطاقها الشامل الجامع.

ولم تتهيأ إمكانيات هذه المعالجة إلا في الحرب العالمية الثانية، وفي أيام الأمم المتحدة عندما تأكد أن مسألة حقوق الإنسان هي واحدة من العوامل الأساسية التي في مقدورها التأثير بصورة بالغة على قضية حفظ السلم الدولي. إذ بدا واضحاً أن المجتمع الدولي يصر على الاعتراف بقدر أدنى من الحقوق والحريات الأساسية للأفراد في ظل كل النظم وكل الحكومات، وعلى تأمين حد أدنى من الاحترام لهذه الحقوق والحريات بحيث إذا لم يتحقق هذا الشرط عد ذلك انتهاكاً للسلم الدولي.

هكذا جاءت مقترحات دومبارتن أوكس تقضي بأنه من واجبات الهيئة تسهيل حل المشكلات الدولية ذات الصبغة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية خاصة ما كان منها متعلقاً بتأمين احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وقد عدّلت هذه الأحكام في مؤتمر سان فرنسسكو بما أعطى لاحترام هذه الحقوق والحريات كياناً أكبر في الميثاق بحيث اعتبر العمل على هذا الاحترام أحد الأهداف والمبادئ الموجهة للمنظمة الدولية.

إذ جاء في الديباجة في الجزء الأول الفقرة 2 "نحن شعوب الأمم المتحدة... وقد ألينا على أنفسنا... أن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية".

وهكذا يبدأ وصل حفظ السلم والأمن الدولي في ميثاق الأمم المتحدة باحترام حقوق الإنسان منذ الديباجة بالتأكيد على إيمان شعوب الأمم المتحدة بهذه الحقوق واعتبار الرغبة في هذا التأكيد أحد الحوافز التي قادت لقيام المنظمة الدولية، وعلى وجه جعله مقروناً بما ورد في أول الديباجة من أن الهدف الأول لقيام الأمم المتحدة هو إنقاذ الأجيال من ويلات الحرب.

ثم نص الميثاق في فصل المقاصد مادة 1 فقرة 3 بما جعل تأمين احترم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية إحدى الغايات التي ينبغي للتعاون الدولي المشار إليه في هذا النص بقوله: "مقاصد الأمم المتحدة...3 - تحقيق التعاون الدولي... وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك انطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء".

وإعمالاً للنص المذكور جعل الميثاق من واجبات الهيئة في المادة 55 فقرة ج العمل على احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية باعتبار ذلك من الشروط الجوهرية لقيام العلاقات الودية بين الدول وتحقيق السلم الدولي بنصه "رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم... تعمل الأمم المتحدة على... ج – "أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلاً".

وحرصاً على توسيع نطاق هذا الالتزام بحيث يشمل الشعوب التي لم تبلغ مرحلة الاستقلال بعد، قضى الميثاق في المادة 76 فقرة ج باعتبار هذا الهدف أحد أهداف نظام الوصاية الذي جاء به الميثاق بنصه: "الأهداف الأساسية لنظام الوصاية طبقاً لمقاصد الأمم المتحدة المبنية في المادة الأولى من هذا الميثاق هي... ج – "التشجيع على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء، والتشجيع على إدراك ما بين شعوب العالم من تقيد بعضهم بالبعض".

على أن الميثاق لم يجعل هذا الواجب مقصوراً على الهيئة الدولية وعلى ما نشأ في ظلها من فروع، بل جعله شاملاً للدول الأعضاء أيضاً· إذ قال في نص المادة 56 "يتعهد جميع الأعضاء بأن يقوموا منفردين أو مشتركين، بما يجب عليهم من عمل بالتعاون مع الهيئة لإدراك المقاصد المنصوص عليها في المادة الخامسة والخمسين".

ثانياً - الإعلان:

وعلى جلال قدر ما أتى به ميثاق الأمم المتحدة من خدمة ورعاية لهذه الحقوق بتدويلها وإدخالها إلى القانون الدولي واعتبارها جزءً من الضمير العالمي، فقد جاءت مبهمة ومجملة في حاجة إلى التفصيل والتعيين ليعرف كل حق منها بعينه ولتفوز بقدر أكبر من الحماية والرعاية والضمان ضد انتهاكها.

وهكذا نبتت فكرة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عندما تقدمت بعض جمهوريات أميركا اللاتينية بمقترحات إلى مؤتمر سان فرنسسكو الذي أنشأ ميثاق الأمم المتحدة في ربيع 1945، رمت إلى إدراج إعلان مفصل بهذه الحقوق في الميثاق.

إلا أن مؤتمر سان فرنسسكو رأى أن القيام بهذه المهمة هو من شأن الهيئة التي يجب عليها أن تعد مثل هذا الإعلان وتقره عن طريق جمعيتها العامة. وفعلاً أقرت هذه الجمعية في 10 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1948 إعلاناً عالمياً لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية مكوناً من ديباجة وثلاثين مادة ومشتملاً على بيان حقوق الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.

وهكذا جعل هذا الإعلان من حقوق الإنسان قيوداً على سيادات الدول باعتباره تفصيلاً للحقوق التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وباعتباره إعمالاً لهذه النصوص وتحويلها إلى نصوص قابلة للتطبيق بحيث غدا كل حق من هذه الحقوق حقاً قائماً بذاته يمكن التعرف عليه وتعيينه بما يفضح انتهاكه والعدوان عليه.

ففي المجال المدني، نصت المادة الأولى منه على حق الإنسان في حرمة كرامته وحقه في المساواة. والمادة الثانية على حق الإنسان في الحرية وعدم التمييز لأي سبب كان وسواء كان تحت سلطان دولة مستقلة أو في وطن مستعمر. والمادة الثالثة على حق الإنسان في الحياة والسلامة. والمادة الرابعة على منع الاسترقاق والاستعباد بوصفه أبشع مصادرة للكرامة والحرية والإنسانية. والمادة الخامسة على منع تعريض الإنسان للتعذيب ومنع تعرضه للمعاملة المتوحشة باعتبار ذلك مما يحط من كرامته. والمادة السادسة على حق الإنسان في الاعتراف بشخصيته القانونية. والمادة السابعة على حق الإنسان في التساوي مع جميع نظرائه أمام القانون والتمتع بحمايته المتكافئة وتحريم كل صنوف التمييز في هذا الشأن.

وفي المجال القضائي، نصت المادة الثامنة على حق الإنسان في أن يلجأ إلى القضاء ضد أي عدوان على حقوقه الأساسية المقررة في القانون. وفي المادة التاسعة على حق الإنسان في صيانته من القبض أو الحجز أو النفي التعسفي. وفي المادة العاشرة على حق الإنسان في الحصول على قضاء عادل نزيه علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه. وفي المادة الحادية عشرة على حق الإنسان في اعتباره بريئاً حتى يدان، وحقه في تأمين الضمانات الضرورية للدفاع عنه، وحقه في أن لا يعاقب عن عمل أو امتناع عنه إلا إذا كان جريمة في وقت إتيانه، وحقه في أن لا يعاقب بعقوبة أشد من تلك المقررة في وقت ارتكاب الجريمة.

وفي المجال الاجتماعي، نصت المادة الثانية عشرة على حق الإنسان في عدم التدخل في حياته الخاصة وحياته في أسرته ومراسلاته ومسكنه، وحقه في حماية القانون له ضد هذا التدخل أو أي حملة من الحملات في هذا الشأن. وفي المادة الثالثة عشرة على حق الإنسان في حرية التنقل داخل بلاده وحقه في مغادرة أي بلاد بما فيها بلاده وحقه بالعودة إليه. وفي المادة الرابعة عشرة على حق الإنسان في اللجوء إلى البلاد الأخرى هرباً من الاضطهاد. وفي المادة الخامسة عشرة على حق الإنسان في التمتع بالجنسية وحقه في عدم جواز حرمانه منها تعسفاً وحرمانه من تغييرها. ونص الإعلان في المادة السادسة عشرة على حق الإنسان رجلاً كان أو امرأة بتكوين أسرة بالزواج دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين والمساواة في الحقوق ما بين الزوجة والزوج، حقهما في قيام زواجهما على الرضا الكامل الخالي من شائبة الإكراه، واعتبار الأسرة الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمع والجديرة بحماية المجتمع والدولة. وفي المادة السابعة عشرة على حق الإنسان بالتملك منفرداً أو مشتركاً مع غيره وعلى عدم جواز نزع ملكه تعسفاً. وفي المادة الثامنة عشرة على حقه في حرية التفكير والضمير واختيار الدين وحريته في إقامة الشعائر والتعليم. وفي المادة التاسعة عشرة على حق الإنسان في حرية الرأي والتعبير وفي تلقي الأنباء والأفكار وبثها دون قيد بالحدود الجغرافية. وفي المادة العشرين على حق الإنسان في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية.

وفي المجال السياسي، نص الإعلان في المادة الحادية والعشرين على حق الإنسان في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة في بلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة بواسطة ممثلين يختارون اختياراً حراً، وحقه في التساوي مع غيره في تقلّد الوظائف العامة واعتبار إرادة الشعب الإرادة العامة يعبر عنها بانتخابات نزيهة دورية سرية تجري على قاعدة المساواة. وفي المادة الثانية والعشرين على حق الإنسان في الضمان الاجتماعي المكفول بالمجهول القومي والتعاون الدولي وبما يتفق مع نظم كل دولة ومع مواردها، وعلى حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والتربوية اللازمة لكرامته وللنمو الحر لشخصيته.

وفي المجال الاقتصادي، نص الإعلان في المادة الثالثة والعشرين على حق الإنسان في العمل وحرية اختياره بشروط عادلة مرضية وحقه في الحماية من البطالة، وحقه في التساوي مع غيره في الأجر عن العمل، وحقه في أجر عادل يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان، وحقه في الانضمام إلى النقابات التي تحمي مصلحته· وفي المادة الرابعة والعشرين على حقه بالراحة وفي تحديد ساعات العمل تحديداً معقولاً وفي العطل والإجازات الدورية. وفي المادة الخامسة والعشرين على حقه في الضمان ضد المرض وضد البطالة والعجز والترمل والشيخوخة وحق الإنسان في الأمومة والطفولة المكفولة بالحماية والرعاية.

وفي المجال التعليمي، نصت المادة السادسة والعشرين على حق الإنسان في التعليم المجاني والإلزامي في المراحل الأولى والأساسية وحقه في تعميم التعليم الفني والمهني وحقه في التعليم العالي على قاعدة المساواة والكفاءة، وحق الإنسان في قيام تربية لإنماء شخصيته وتعزيز حرياته على قاعدة التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات أياً كان عنصرها أو دينها، وحرية الآباء في اختيار نوع تربية أبنائهم. ونص الإعلان في المادة السابعة والعشرين على حق الاشتراك الحر في حياة المجتمع الثقافية والتمتع بالفنون ومزايا التقدم العلمي والإفادة من نتائجه، وحقه في احترام ملكيته الأدبية والفنية.

وفي مجال حماية حقوق الإنسان، نصت المادة الثامنة والعشرين على حق الإنسان في أن يعيش في نظام اجتماعي مكفول فيه دولياً احترام الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في الإعلان. وفي المادة التاسعة والعشرين على واجب الفرد نحو مجتمعه الذي يرعى نمو الشخصية نمواً حراً كاملاً، وعلى واجب الفرد في أن يخضع في ممارسة حقوقه وحرياته للقيود التي يقررها القانون الرامية إلى احترام حقوق الغير لتحقيق العدل وإقامة النظام العام والأخلاق ورعاية المصلحة العامة في مجتمع ديمقراطي وفي نطاق احترام مبادئ الأمم المتحدة ومقاصدها. ونص في المادة الثلاثين منه على عدم جواز تأويل أي نص منه من قبل أي دولة أو جماعة أو فرد تأويلاً يؤدي إلى هدم الحقوق والحريات الواردة في الإعلان.

ثالثاً - المسار:

وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد استطاع أن يكون الأول من نوعه في التاريخ بما توفر له من خصائص وميزات من حيث تدويل هذه الحقوق وتفصيلها وتحديدها وتكليف السلطات والحكومات بتوفير الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلى جانب الحقوق المدنية والسياسية، فانه قد استلزم على مدى الخمسين عاماً التي مضت على ظهوره، إبرام العديد من العهود والاتفاقيات وصدور العديد من الإعلانات بحيث شكل بقيادته ما يمكن تسميته بمنظومة حقوق الإنسان في العالم.

فما أن صدر الإعلان في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948 حتى قام جدل في أوساط القانون والفقه الدولي حول مدى ما أضافه هذا الإعلان إلى ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة من مبادئ عامة في هذا الشأن من قيود على سيادات الدول بالنسبة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية باعتبار أن الإعلان المذكور لم يتقرر بميثاق أو معاهدة دولية وإنما بتوصية اتخذتها الجمعية العامة.

وبالرغم من مخالف هذا الرأي من جانب بعض الفقهاء الذين يصرون على اعتبار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جزء من ميثاق الأمم المتحدة. فان الدلائل في هذه المنظمة الدولية تشير إلى عدم اعتبار الإعلان المذكور ملزماً بدرجة كافية للأطراف الدولية مما جعل هذه المنظمة تبذل الجهد والمساعي المتواصلة لوضع ميثاق دولي بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية يلزم الدول والحكومات بتطبيق النهج الذي يقرره بالنسبة لهذه الحقوق وهذه الحريات وعلى الوجه الذي يمكن من تحقيق سلم مؤسس على احترامها.

وهكذا أبرمت الدول والحكومات في سنة 1966 العهد الدولي لحقوق الإنسان المدنية والسياسية والعهد الدولي لحقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والثقافية حتى تكون كفالة هذه الحقوق التزاماً كسائر الالتزامات القانونية الدولية.

وتوالى تحت راية الإعلان عقد الاتفاقات وصدور الإعلانات في مختلف مجالات حقوق الإنسان بحيث شملت جميع هذه المجالات على وجه التقريب. فإلى جانب الإعلانات التي صدرت والاتفاقيات التي انعقدت في مجال الحقوق العامة للإنسان، صدرت إعلانات وانعقدت اتفاقيات بشأن حق تقرير المصير مثل إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الصادر بتاريخ 14 كانون الأول (ديسمبر) 1960. وفي مجال حماية ضحايا الحرب انعقدت اتفاقيات مثل اتفاقية جنيف بشأن تحسين حال الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان الصادرة في 12 آب (أغسطس) 1949. وفي مجال القضاء على التمييز العنصري والتفرقة انعقدت اتفاقيات مثل إعلان الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري بكافة أشكاله الصادر في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963. وفي مجال تحريم إبادة الجنس البشري انعقدت اتفاقية مكافحة جريمة إبادة الجنس البشري والعقاب عليها الصادرة في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1948. وفي مجال تحريم الرق واستغلال دعارة الغير انعقدت اتفاقيات مثل الاتفاقية الدولية الخاصة بإلغاء الاتجار في الأشخاص واستغلال دعارة الغير الصادرة في 21 آذار (مارس) 1950. وفي مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية انعقدت اتفاقيات مثل الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادرة في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1966. وفي مجال المساواة في الأجور والاستخدام وتحريم السخرة انعقدت اتفاقيات مثل الاتفاقية الدولية الخاصة بتحريم السخرة الصادرة في 25 حزيران (يونيو) 1957. وفي مجال الحرية النقابية وحق التنظيم انعقدت اتفاقيات مثل الاتفاقية الخاصة بالحرية النقابية وكفالة الحق النقابي الصادرة في 9 تموز (يوليو) 1948. وفي مجال الحقوق المترتبة على الزواج وتكوين الأسرة انعقدت اتفاقيات مثل اتفاقية الرضا في الزواج والحد الأدنى لسن الزواج وتسجيل عقود الزواج الصادرة في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1962.

وهكذا سمت قواعد منظومة حقوق الإنسان في عالم القانون حتى غدت قواعد آمرة بموجب القانون الدولي للمعاهدات لا يجوز بحال انتهاكها وبحيث كل ما يخالفها يعد باطلاً. وهكذا انعقد الوصل أيضاً بين قواعد هذه المنظومة وحفظ السلم الدولي بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. كما يبين من قيام هذه المنظمة بالتدخل في العديد من ممارساتها بداعي قمع انتهاكات هذه الحقوق بموجب الفقرة السابعة من المادة الثانية من الميثاق الأممي.

رابعاً - الإخفاق:

وبالرغم من هذا التقدم الهائل الذي حققته قضية احترام حقوق الإنسان على صعيد القانون، وهذه العلياء الدستورية والأخلاقية التي سمت إليها هذه القضية، فما يزال واقع حقوق الإنسان في واد وهذه العلياء القانونية والأخلاقية في واد آخر. وحسبنا من ذلك الإشارة إلى ما تحفل به هذه الأيام من محنة الإنسان في فلسطين وفي العراق وفي البوسنة والهرسك وفي كوسوفو.

وهنا لا بد من التساؤل عن العوامل والأسباب التي أدت وما تزال إلى هذا الانفصال الصارخ بين الواقع والمرتجى. ولاختزال هذه العوامل والأسباب نقول أن استمرار محنة حقوق الإنسان يمثل انتصار قوى الشر على قوى الخير، وجبروت الحكام وطغيانهم على مقاومة هذا الطغيان في وقت من الأوقات.

فنحن لا نعرف الدولة ولا نحس بها ولا نراها إلا من خلال وقع سلوك الحكام ومسافات هذه السلوك الواقعية. فهؤلاء هم الذين يملكون السلطة ويتولون حق الأمر والنهي في المجتمع.

وهكذا تبرز حقيقة استعصاء حقوق الحكام في العالم للقانون ومبادئه مهما سمت. ما يدعونا إلى تلمس السبل والوسائل العلمية والعملية التي لا يقتصر الأمر فقط فيها على إعداد بيان أو اتفاقية أو معاهدة تشتمل على أفضل وأحدث المبادئ الإنسانية والديمقراطية وإنما على أقدر الضمانات وأفعلها في ألزام الحكام باحترام هذه المبادئ والشعارات وتطبيقها في العمل.

ومن أسباب إخفاق الاعلان العالمي لحقوق الإنسان في تحقيق أهدافه هو عدم إيمان الدول الكبرى بشمولية هذا الاعلان ولزوم تطبيقه على الجميع. فتراهم يحرصون كل الحرص على احترام هذه الحقوق في نطاق بلدانهم على سعتهم ويتحايلون على تطبيقها واحترامها في البلدان التي لا يرونها جديرة بهذا الاحترام.

وتراهم في أحيان أخرى يحابون حكومات وسلطات تعتدي على حقوق الإنسان بأبشع ما يكون العدوان ويتدخلون بزريعة احترام حقوق الإنسان في بلدان أخرى مما يصدق عليه القول الذائع الصيت في هذه الأيام (الكيل بمكيالين).

هنا لا بد من التنويه بالفارق الأساسي القائم بين هذه المعايير الدولية الراهنة والممعنة بالنسبية والاخلال بالمساواة والعدل والانصاف وبين ما جاء به الاسلام العظيم. فهو عندما أقام مبادئ العدل والمساواة والحرية والوسطية بين المادة والروح والتوازن بين حقوق المجتمع وحقوق الافراد، قد أقامها على قاعدة العالمية والشمولية الصادقة، فلا استثناء ولا التواء ولا محاباة ولا كيل بمكيالين وإنما تمتع بالحقوق للكل ومساواة وحرية وتحرر للجميع. لأن النص الذي قضى بهذه الأحكام هو نص في كتاب الله العزيز وفي سنة نبيه المطهرة يعبر عن إرادة الله، وقوته من قوة هذه الارادة وسلطانه من سلطانها بحيث لا يمكن لحاكم أو مشروع ان يخرج على هذا السلطان فيتعسف أو ينحرف في التطبيق.

خامسا – التفعيل:

في مقدمة أسباب تفعيل احترام حقوق الإنسان رقابة الرأي العام. ولهذه الرقابة صورتان إحداهما شعبية والثانية فنية. وتتلخص الأولى فيما تتفق عليه أغلبية أبناء الشعب، ويستخلص الرأي العام في صورته هذه من وسائل الاعلام كافة والمحافل السياسية والاجتماعية العامة، وما يدور في أقوال الناس وكتابات المفكرين ودراساتهم.

من كل هذه العناصر مجتمعه يمكن ان نقف على الرأي العام في صورته الشعبية، على أن هذه الصورة من الرقابة غير مضمونة الأثر، إذ أنه ينقصها التنظيم الفني والمعيار العلمي. ولذلك وجدت الصورة الثانية وهي الصورة الفنية لرقابة الرأي العام وتسمى بالتنظيم الفني للرقابة. وهنا نجد رقابة سياسية تباشرها الهيئة السياسية ورقابة قضائية تراقبها الهيئة القضائية.

أما الرقابة فتكفل رعاية المحاكم لحقوق الافراد وحرياتهم وتسهر على دستورية القوانين وشرعية الأنظمة. وفي هذا تمكين للرأي العام من التكون والنضج وتحقيق الرقابة السياسية.

اما الوسيلة الأخرى على صعيد القوانين الضامنة لحقوق الإنسان فتتجلى بما يعرف بالقطاعات أو المناطق المحجوزة التي تمنع السلطات من أن تتدخل في شأن وحريات أساسية معينة والافتئات عليها، بحيث يعرف الحكام والمحكومون ما لكل منهما من حقوق وواجبات، بما يجعل الديموقراطية أداة فعلية لتأمين حرية المواطنين والمساواة فيما بينهم.

ويفرد عادة في الدساتير المعاصرة لهذه القطاعات المحجوزة أو الحقوق والحريات، وثيقة خاصة باحترام حقوق الإنسان التي تحدد الاسس السياسية لفلسفة الدولة والنظام.

ولكفالة نفاذ احترام حقوق الإنسان وحمايتها ثمة ضمانات فنية ينبغي الأخذ بها، كجزاء غير مباشر، يحمل الحكام على احترام حقوق الإنسان وسيادة الدستور والقانون.

ويتحقق قدر كبير من هذه الضمانات في تقرير سمو مبادئ حقوق الإنسان في مواجهة السلطات العامة وإقامة رقابة قضائية على نشاطها وتصرفاتها في هذا الشأن، فمن غير شك أن مخاصمة الهيئات العامة أمام قاض متخصص يملك لأن يناقشها تصرفاتها وان يراجعها الحساب في مشروعية هذه التصرفات، سوف يكون من أهم عوامل إرساء الديموقراطية وفرض احترامها على الجميع.

على ان انتشار الوعي ورسوخ فكرة الحقوق والحريات الاساسية العامة في ضمير الجماعة مع انتشار الثقافة، يعتبر هو الآخر ضمانة أخرى لصيانة الديمقراطية لما له من أثر ضخم في زيادة دور الرأي العام في هذا السبيل.

ومن أكثر الوسائل فعالية في حماية حقوق الإنسان واحترامها ما يتيحه عالم اليوم من ضمانات دولية لهذا الغرض، وذلك عندما تتكفل الأمم المتحدة بالحفاظ على الديمقراطية في دولة معينة إنفاذاً لاحترام حقوق الإنسان ومنعاً للحكام من ان يستعملوا سيادة الدولة لانتهاك هذه الحقوق ومن ثم تهديد السلم الدولي. ويتم مثل هذا التدخل من جانب الأمم المتحدة إنفاذاً للمادة الثانية الفقرة 7 من ميثاق الأممي.

source