الإمام الصدر نموذج مصطفى من قلب لبنان

calendar icon 02 تشرين الأول 1998 الكاتب:أنيس مسلم

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الخامسة)


غيبوه عن العيون، فبقي مثل الرجاء، حاضراً في صفو الخواطر، يخفق في قلبي عذاب النبرة، والايقاع.

لا الأيام التي توالت على غيابه، ولا الحجب التي أسدلوها على فعلتهم الشنيعة، قدرت على محو صورته من الأذهان، أو الحؤول دون لطف تعابيره تهل علينا معانيها لا تتوقف، فتردد أوديتنا والجبال، سهولنا وشواطئ بحرنا أصداءها، ويختلط نسمه بانسام لبنان، فيأرج عبير الحرية، كلما مال على ايكه غصن رطب أو غرد عصفور، او استشهد مقاوم يفتدي الشرف والأرض.

أجل، أيها الغائب الحاضر، ما درى المغيبون أن الأفكار لا تخنق وإن غيب أصحابها، أو رحلوا، بل تظل تعاود عقول الناس ويعاودونها، وفي أيام الشح يروون من معينها عطشهم، فتغدو الأفكار ينابيعهم الجوفية وقوام حياتهم، تعصمهم من الضغينة والتردي وتسمو بهم إلى مصافها.

ثمة تواريخ مشرقة في حياة الشعوب، العودة إليها تنعش الذاكرة والنفس، تشعل الحمية، تسرع فعالية الزمن، وتوحي إلى الناس بالقدرة على مواكبة الركب والترقي مع الصاعدين.

وهنالك تواريخ كمدة مظلمة، موجعة، تصيب الإنسان بضيق التنفس لفرط ما تكتظ به من ضنك وأسى، إذ يقلص ذكرها فسحة الرجاء في النفس، ويحرم صاحبها نعمة الاغتباط بالأمل.

الأولى تمجد الحرية والعدالة وترتفع بكرامة الإنسان، تصونها. من هذه التواريخ المجيدة الاعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أما الثانية فتجديف على القيم النبيلة كلها. إنها تقزز النفس، تغرقها في الوحشة، وتوقظ وحوش الغرائز الغافية فيها. من هذه البشعة الممقوتة، البالغة الشوهة، تأريخ غياب الإمام السيد موسى الصدر.

أراد سماحته التعجيل في إخراج لبنان من التخلف وإبعاد شبح المحنة عن أرضه وأهله، والحؤول دون دخولنا في نفق التشرذم والوقت الضائع وقد استمتع في اخداره واستلذ العديدون من اخواننا العرب، فدفع ودفعنا، وما نزال، الثمن غالياً، بل باهظاً جداً.

وثق الإمام بالإنسان اللبناني، حاول مخلصاً، أن يستلهم شرعة حقوق الإنسان، إنطلاقاً من مبادئه السامية وتربيته الفاضلة، وتقدمه في الفهم والمعرفة وادراك الأمور.

حاول على مدى عقدين من قيادته الفذة، إيقاظ الناس إلى حقوقهم، لفتهم، بفطنته إلى وعورة الطريق، نبههم إلى ضرورة سلوكها وإنما بشجاعة مقرونة بالحكمة ونزاهة النفس.

لقد أدرك أن الخروج على الوطن خروج على الذات، وإن التقاتل فيه وعليه، خطيئة مميتة، فحمل راية السلام، وراح يمهد سبل التلاقي بين اللبنانيين، في الداخل والجوار، عدته عفة وصفاء قلب وذهن، مؤكداً أن جمال الحياة لا يقابل بالكمد وتقطيب الوجه والانغلاق على الذات، بل بالرضى وبسط المودة والبسمة التي تبقى مفتاح القلوب الذهبي.

أيها السيدات والسادة،

بعد مرور خمسين سنة على اعلان شرعة حقوق الإنسان، هل يستطيع المواطن اللبناني، صيانة حقوقه الأساسية – في القانون وفي الممارسة – والمشاركة السليمة في الشأن العام؟

هل تمكنا، كمجتمع منظم وكدولة، ان ننتقل من مرحلة الإنسان الفرد الذي يؤمر فينصاع إلى مرحلة المواطن الذي يدرك أهمية القانون، فيساهم في إعداده ودرسه واقراره، ويبدأ هو نفسه في احترامه والخضوع لأحكامه؟

إن مفهوم المواطن، مرتبط بمفهومي الدولة والحرية: الدولة من حيث هي عناية تدرك حاجات مواطنيها فتعمد إلى تأمينها لتمكنهم من العيش بسلامٍ واستقرار، فيمارس كل منهم حريته في التعبير عن آرائه وأفكاره، وفي بحثه عن الحقيقة والعيش بمقتضاها.

ألم يكن اعلان حقوق الإنسان مثابة ميلاد المواطنية الحديثه، وانطلاق فكرة السيادة الوطنية؟

فمنذ الثورة الفرنسية والمفكرون السياسيون يعتبرون جهل حقوق الإنسان أو تجاهلها أو ازدراءها، من الأسباب الجوهرية التي تؤدي إلى فساد الحكومات، ومن ثم إلى انحطاط مجتمعاتها.

وإذا كان هدف كل تجمع سياسي منظم – بما في ذلك الدولة والمنظمات الدولية والاقليمية والعربية – حماية الإنسان والمحافظة على حقوقه الطبيعية، فهذا يعني ان الإنسان لم يولد من أجل الدولة أو المنظمات، بل ان الدولة أقيمت من أجل الإنسان، والمنظمات على أنواعها، أريدت لمعاونة الدول المنتمية إليها، في صيانة هذه الحقوق عن طريق التفاهم والتنسيق والتعاون.

وهذا ما أردكه الإمام الصدر، إذ رأى بثاقب نظرته، أن التعايش في مناخ الجهل المتبادل، وان قام على الحرية، ليس كافياً وقد يضر بنا، فعمل بوعي وجدية متصاعدة، للتعريف بحقوق الإنسان، ومد الجسور بين مختلف الفئات، بقصد التواصل والتوعية والتعارف والتفاهم، داعياً إلى احترام الدولة ومؤازرتها والتعاون ضمن اطار القوانين.

إننا نفتقد، اليوم وجه المتقدم الوسيم القسيم، الذي كان يدخل لتوه من العين إلى القلب فيحرزه القلب ولا يعود يتخلى عنه.

نفتقد القائد والمفكر السياسي، الذي أردف القول بالفعل فصار سلوكه ونهج حياته، باكورة شجاعة سياسية، بل نموذجاً فريداً مصطفى للاسلام السياسي في لبنان.

جاء من الايمان إلى التجربة الايمانية، الحية، من الفكر الصفي، إلى الممارسة التي لا تخون الذات ولا الآخر، فغداً رائداً.

ربط، بصدقٍ وليونة نادرين، بين السياسة والأخلاق، آخذاً بأنبل القيم المعاصرة، من الحرية إلى الكرامة ماراً بالخبز ونوعية الحياة فقبول الآخر ومحاورته، في ضوء الإيمان والعقل والمعاناة اليومية.

وعلى الرغم من عسر الأمور، ووعورة المسالك، لم يستقل من دوره، ولا تردد في اتيانه على وجهه الأفضل.

ثابر في سعيه على تضييق الشق بين اللبنانيين، كي لا يتحول الشق إلى هاوية تبتلعهم جميعاً، وبسط مدى التلاقي على أرض الوطن وفي حقول الرب، وما أكثرها وأحوجها الينا كلنا!.

أسس مدرسة في الشأنين الاجتماعي والوطني، وتمسك بالدولة، بعد ان تخلى عنها أهلها الأقربون والقيمون على شؤونها، ورفض "الادارة المدنية" بأشكالها كلها، والتقسيم على انواعه والتوطين بتوصيفاته واقنعته، وتشبث بالكرامة الوطنية وبكل ذرة من تراب الوطن، وبقي على بساطته وتواضعه الجم، كبيراً.

قاد حملة توعية مباركة لإعادة الإعتبار إلى القيم المسيحية والإسلامية المشتركة، في زمن طغت فيه الشهوات، والتبس الحق بالباطل، والصدق بالكذب والنميمة والافتراء.

شغله الشاغل، يوم استعرت الحرب كان وقفها واعادة السلطات والسيادة إلى الدولة، ذلك انه وعى خطورة الأنانية في وجهيها الفردي والجماعي، وضخامة المطامع الاقليمية والدولية المحدقة بلبنان.

أدرك الإمام الصدر أن الوصول إلى الاساسيات يبدأ بإحياء الحس بالمسؤولية في نفوس المواطنين، فانبرى يقنعهم بضرورة العمل على قيام الدولة القوية القادرة المنتجة، وبالتالي المحافظة على كرامة من نختارهم لادارة شؤونها.

فعندما تنهار الدولة لا يبقى هناك مواطن، نعود إلى العصبيات قبلية أو عشائرية أو عائلية كانت، ذلك أن وجود المواطن مرهون بوجود الدولة، ونوعية هذه مرتبطة بنوعية ذاك.

وهذه أمور غدت، اليوم أكثر إلحاحاً من قبل نظراً لدقة المرحلة التاريخية التي نجتازها، ولتزايد تعقيدات نظامنا السياسي والاداري والاقتصادي، وتصاعد فعالية وسائل الاعلام والاعلان ومن يقف وراءها من أسياد بالغي القدرة، متعددي المصالح والأهواء.

ولعل التوافق على حد أدنى من وحدة التفكير بمصير الوطن، ووحدة الموقف منه وتحسس مصالحه الأساسية، هي التحدي الكبير الذي يواجهنا جميعاً، فلا تعود رياح الدولة العربية والاقليمية وعواصفها الهوج، تجتاح سلامنا واستقرارنا في كل مناسبة، فتمزق خلافاتها ومصالحها المتضاربة وحدتنا الوطنية وتدمر أحقادها واطماعها، في شهر، ما بنيناه في دهر.

مرة جديدة نعود إليك أيها الإمام العظيم، علنا نستمد من عزمك عزماً، ومن  يقينك ما يغلبنا على شكوكنا المتمادية، فنحن جياع عطاش إلى طهارة النفس، ونور العقل وحدة البصيرة، حائرون، ضائعون، في وطننا، نتخبط، نعثر، نهيم على وجوهنا، وكأننا فقدنا المرجعية ومعها الثقة بالنفس والناس والنظم، ونكاد نفقد الرجاء بالخلاص.

رأيت أن شرط اصلاح المؤسسات، وفي طليعتها الدولة، يكمن في إعادة الاعتبار إلى القيم، فاعضدنا، حيث انت لنتوب إلى الله والوطن عما اقترفنا بحقهما، عسانا نقوم، جميعاً من موت الخطيئة إلى نعمة الحياة.

source