حقوق الانسان في المنظمات الاقليمية الدولية

calendar icon 02 تشرين الأول 1998 الكاتب:شفيق المصري

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الخامسة)


إن الحديث عن حقوق الانسان في أصولها الفلسفية يطول ويتشعب. فهي من أسس القانون الطبيعي والشرائع السماوية والفكر السياسي بشكل عام. ولكن الحديث عنها في الوثائق الدولية المعاصرة يعود الى العام 1948 موعد صدور "الاعلان العالمي لحقوق الإنسان".

ولعل أهمية هذا الإعلان تتمثل في مناحٍ عديدة منها:

- في الاعلان العالمي ذاته لأنه أول وثيقة دولية جامعة يصادق عليها المجتمع الدولي وتتضمن الحقوق الانسانية الأساسية التي لا يجوز التصرف بها ولا التنازل عنها.

- في مناحٍ تشريعية عديدة على الصعيد الوطني للدول. فمعظم الدساتير الصادرة عن الدول التي استقلت بعد العام 1948 أو تعدلت (الدساتير) بعد هذا العام تضمنت في مقدمتها أو موادها الأولى التزاماً باحترام حقوق الانسان واعتمادها في صلب التشريعات الداخلية لهذه الدول. ولبنان لم يكن استثناء في هذا المجال. ذلك لأن الدستور اللبناني الذي عُدّل في العام 1990 تضمن في مقدمته بنداً يؤكد على أن لبنان "عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والاعلان العالمي لحقوق الإنسان" ثم تعهد الدستور أن "تجسّد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات دون استثناء".

- في مناحٍ تشريعية أو اجتهادية أخرى في القانون الدولي. ذلك لأن هذا الاعلان كان ولا يزال المرجع القانوني لعدد كبير من الاتفاقيات أو المعاهدات الدولية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: القانون الانساني الدولي المتمثّل باتفاقيات جنيف للعام 1949 وشرعتا الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للعام 1966 وجميع المعاهدات الدولية الأخرى التي تتناول هذه الحقوق مجتمعة أو تركّز على إحداها كحقوق الطفل والمرأة... إلخ.

- وفي مناح إقليمية دولية كالمنظمات الاقليمية الجغرافية مثل منظمة الدول الأميركية أو دول الاتحاد الاوروبي أو منظمة الوحدة الافريقية، والمنظمات الاقليمية القومية كجامعة الدول العربية، والمنظمات أو الوكالات المتخصصة مثل اليونسكو ومنظمة العمل الدولية وسواهما.

ومهمة هذا البحث المختصر تركّز، في شكل أساسي، على وضع حقوق الإنسان في المنظمات الاقليمية الدولية ومراقبة تطبيقها على أرض الواقع سواء بالنسبة لانطلاقة هذه الحقوق كما نصت عليها دساتير هذه المنظمات، أو بالنسبة لممارساتها في ضوء الحياة السياسية والاجتماعية أو بالنسبة لجزاءاتها التي يجب أن تكون شاملة حاسمة.

ولكن هناك بعض الاستدراكات التي يقتضي التنبيه إليها قبل الدخول في سجل حقوق الانسان لدى هذه المنظمات الاقليمية:

- أي تعريف لحقوق الانسان تعتمد هذه المنظمات؟ وفي أي قاموس سياسي يندرج هذا التعريف؟

- هل سعت هذه المنظمات الاقليمية الدولية الى التوفيق بين حقوق الانسان الفرد وحقوق الشعوب؟

- وهل هذا التوفيق وارد أصلاً لدى دول الشمال؟ وما هي انعكاساته في صدقية الحوار بين الشمال والجنوب؟.

لذلك فان الحديث عن حقوق الانسان لا يتناول لغة واحدة ولا نبرة واحدة ضمن هذه اللغة. وإذا كانت هذه الحقوق من الاتساع ما يسمح للدول المختلفة باختيار ما يناسبها منها، فان الموضوع يبقى مع ذلك وارداً كما طرحه هذا المؤتمر: بحثاً عن حق الإنسان.

أولاً: في الالتزام القانوني

1 - إن ضرورة احترام حقوق الانسان والتزام مبادئها (في لغتيها الفردية والاجتماعية) أمران موجبان لجميع الدول لأنهما يشكلان التزاماً بالقانون الدولي ذاته:

- فميثاق الأمم المتحدة يفرض في ماديته الأولى والثاني على كل الدول الأعضاء موجب التزام أهداف الأمم المتحدة ومبادئها. والواقع أن المبادئ والأهداف لحظت ضرورة احترام حقوق الانسان والتزامها في شتى المجالات. ولعل هذا الالتزام يتوسع أيضاً لكي يشمل الدول غير المنتسبة الى الأمم المتحدة وذلك بموجب الفقرة السادسة من المادة الثانية من الميثاق والتي تلزم الدول غير الأعضاء بأهداف الأمم المتحدة ومبادئها.

- والمعاهدات الدولية التي تبرمها الدول والتي تصبح ملزمة لها من دون أي تخلّف ولا إخلال. وهي التي تؤكد حقوقاً جماعية أو محددة من حقوق الإنسان.

- وقرارات مجلس الأمن الدولي التي تؤكد مبادئ القانون الانساني الدولي أو قانون حقوق الإنسان. وهذه القرارات ملزمة (بموجب المادتين 25 و103 من الميثاق) لجميع الدول.

- وتوصيات الجمعية العمومية للأمم المتحدة ولاسيما تلك التي صدرت في العام 1960 المتعلقة بانهاء الاستعمار وتحرر البلدان المستعمرة وتلك التي صدرت في العام 1970 المتعلقة بعلاقات الصداقة بين الدول وفقاً لمبادئ الأمم المتحدة. وكانت قد ركَّزت على حقوق الانسان بوجهها المجتمعي المتكامل.

- والاتفاقات الثنائية بين الدول المستقلة والتي تشير صراحة أو ضمناً الى حقوق الإنسان مجتمعة أو منفردة أو تؤدي إليها.

- والمؤتمرات الدولية التي تخلص الى بعض التوصيات والمقررات التي تؤكد هذه الحقوق.

ومن المعروف أن ثمة مؤتمراً دولياً يُعقد كل ربع قرن لتقويم الوضع الدولي لحقوق الانسان ولاستحداث الآليات اللازمة للمراقبة ولتفعيل الالتزام القانوني الدولي بها· وقد عقد في فيينا في العام 1993 هذا المؤتمر وخرج بتوصيات ومقررات عديدة تتناول في ما تتناول حث الدول والمنظمات الاقليمية الدولية لبذل مزيد من الجهود وإقرار مزيد من التشريعات الآيلة الى احترام حقوق الانسان والتزام مبادئها.

2- ولا يقتصر هذا الالتزام القانوني لحماية حقوق الانسان واحترامها على الدول وحدها وانما يتناول المنظمات الاقليمية الدولية أيضاً.

- فالمادتان 52 و 53 من ميثاق الأمم المتحدة تلحظان إمكانية تشكيل منظمات أو ترتيبات أقليمية للحفاظ على السلام والأمن. على أن تقوم بمهامها وفقاً لمقاصد الأمم المتحدة [علماً بأن الفقرة الثالثة من المادة الأولى من الميثاق تؤكد على أن المنظمة الدولية تهدف، في ما تهدف، الى... "تعزيز احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية للناس جميعاً...".

- والمادة 56 صريحة في هذا المعنى ذاته، إذ تؤكد على أن "يتعهد جميع الأعضاء بأن يقوموا، منفردين أو مشتركين [أي في إطار منظمة أو ترتيبات اقليمية معيّنة] بما يجب عليهم من عمل بالتعاون مع الهيئة لإدراك المقاصد المنصوص عليها في المادة 55". ومن المعروف أن هذه المادة الأخيرة (55) تشير الى أهم هذه "المقاصد" ولاسيما في ما يتعلق بـ:

- قيام علاقات سليمة ووديّة بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها.

- أن يشيع في العام احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز ولا تفريق. وعلى هذا الأساس يقتضي العودة الى السؤال الأساس حول وضع حقوق الانسان في سلم الأولويات الدولية والاقليمية الدولية.

ثانياً: تطوّر المفهوم

كان مفهوم حقوق الانسان الذي انطلق منذ العام 1948 يتناول مجموعة الحقوق الشخصية المتعلقة بالإنسان الفرد الشخصية والمدنية والسياسية. إلاّ أن العضوية المتزايدة لدول العالم الثالث في الأمم المتحدة والتوجهات التي فرضتها هذه الدول، من خلال أكثريتها التلقائية في الجمعية العامة، استطاعت أن تنقل أو ترتقي بهذه الحقوق من مستواها الإنساني الفردي إلى المستوى الاجتماعي الشعبي انطلاقاً من الإعلان العالمي ذاته. وبذلك تطوّر هذا المفهوم وتكثّر حتى يشمل الشعوب ولم يعد مقتصراً على الأفراد.

ولعل مثلاً واحداً يمكن أن يلقي الضوء على كيفية حدوث هذا التطور من الفرد الى المجتمع من دون أن يكون الوحيد في هذا الإطار:

نصت المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن "لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارهم بحرية". كما نصت المادة 29 من الإعلان ذاته أن "لكل فرد واجبات إزاء الجماعة التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل". وعلى أساس هاتين المادتين صدرت أحكام تطويرية في كل من "الشرعة الدولية للحقوق السياسية والمدنية" و"الشرعة الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العام 1966. وهاتان الشرعتان تمثلان اليوم أهم المصادر المباشرة والملزمة في القانون الدولي ولاسيما بعد أن حظيتا بأكثر من 125 تصديق من دول مختلفة.

وفي هاتين الشرعتين الدوليتين أن:

- لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها. وهي، بمتقضى هذا الحق، حرّة في تقرير مركزها السياسي، وحرّة في السعي الى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

- ولجميع الشعوب، سعياً وراء أهدافها الخاصة، التصرّف الحرّ بثرواتها ومواردها الطبيعية من دون إخلال بأي التزامات منبثقة من مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على قاعدة المساواة بين الشعوب والمنفعة المتبادلة ومبادئ القانون الدولي. ولا يجوز، في أي حال أو أي ظرف كان، حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصه.

- وعلى الدول التي أبرمت هاتين الشرعتين الدوليتين أن تعمل على تحقيق وانجاز الحق في تقرير المصير وفقاً لأحكام القانون الدولي.

وهكذا نرى أن اللغة الجديدة في حقوق الإنسان انطلقات من المفهوم الفردي الذي تحدث عنه الإعلان العالمي ولكنها لم تقف عنده وإنما تناولت حقوق الشعب الإنسانية في وجهها المجتمعي العام المرتبط بالتحرر والمساواة بين الشعوب وتحقيق العدل الدولي.

وهكذا أيضاً أدرجت تحت العناوين الرحبة لحقوق الإنسان بنود جديدة بدأت مع الستينات وكانت ملازمة لحرية الشعوب وكرامتها وسيادتها. ومن هذه البنود المنبثقة من حقوق الإنسان في لغتها الجديدة: الحق في المساواة بين الشعوب، وحق تقرير المصير، وحق سيادة الشعب على مقدّراته وثرواته الوطنية، وحق التنمية، وحق السكن اللائق وحق الاقليات والشعوب الأصلية وحق العمال الوافدين... الخ.

واستناداً لكل ذلك فأننا عندما نتحدث عن حقوق الإنسان فالمقصود هو الوجهان المتكاملان لهذه الحقوق: الأول الذي صدر في نهاية الأربعينات والذي ركّز على اللغة الأصلية أي المفهوم الفردي لهذه الحقوق والثاني الذي بدأ يصدر في الستينات والذي يمثّل اللغة الجديدة المكمّلة لحقوق الفرد أي الحقوق العائدة للشعوب وسيادتها وكرامتها وتحررها الكامل.

فهل اتيح للمنظمات الاقليمية الدولية استيعاب هذين الوجهين من حقوق الإنسان؟ وهل استطاعت التوفيق بينهما؟

ثالثاً: المنظمات الاقليمية الدولية:

كان من المنتظر، ولا سيما بعد مؤتمر فيينا الدولي لحقوق الانسان في العام 1993 أن تتسع هوّة الانقسام بين دول الشمال الغني ودول الجنوب الفقير حول حقوق الإنسان. فالشمال يركّز على الوجه الفردي لحقوق الانسان كما ظهر من خلال المواد الثلاثين التي ضمَّها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. ويطالب الشمال باحترام هذه الحقوق وحمايتها تحت طائلة المسؤولية الدولية لكل دولة تخالف أو تتجاوز هذه الحقوق· أما دول الجنوب الفقير فانه يحمّل الشمال تبعات استغلاله واستعماره طيلة عقود ويطالب بإقرار دولي لحقوق الإنسان بلغتها الجديدة أي بقدر ما تركّز على التحرر وتقرير المصير والعدالة الإنسانية الدولية.

ولم يكن هذا الانقسام طارئاً ولا جديداً ولا محصوراً بدولة دون سواها. فالواقع أنه شمل المنظمات الاقليمية الدولية أيضاً. ولذلك بات الحديث عن هذه المنظمات ذاتها يندرج في إطار هذه الثنائية الدولية. فالمنظمات الاقليمية الدولية التي تنتمي إلى دول الشمال (كالاتحاد الاوروبي) أو تسلم قيادتها لإحدى هذه الدول الكبرى القادرة (كمنظمة الدول الأميركية) تتعاطف مع حقوق الإنسان الفرد وتخلق الآليات اللازمة لرعاية هذه الحقوق وصيانتها. أما منظمات دول الجنوب فتركّز على حقوق الشعوب وكرامتها.

ومن أجل المزيد من التوضيح نستعرض عيّنات من هذه المنظمات ونرى مدى اهتمام كل منها بالمسألة المطروحة.

أ - منظمة الدول الأميركية:

أكدت هذه المنظمة، منذ العام 1948، على إصدار الإعلان الأميركي لواجبات وحقوق الإنسان ثم أردفته بالشرعة الأميركية لحقوق الإنسان في العام 1969. وفي هذه الشرعة:

- التوكيد على حقوق الإنسان الفرد الشخصية والمدنية والسياسية بما ينسجم كلياً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

- التوكيد على إنشاء المحكمة الأميركية لحقوق الإنسان.

- التوكيد على الشق الفردي بشكل عام. إلاّ أن العام 1988 شهد تطوراً نوعياً جديداً حيث أضيف بروتوكول خاص إلى هذه الشرعة وأهمية هذا البروتوكول أنه تضمن بعض المناحي الاجتماعية التي تتعلق بحرية العمل والنقابات والضمان الاجتماعي وتوفير الأمن الغذائي والتعليم... إلخ.

واليوم، تشارك الولايات المتحدة في التوقيع على هذه الوثائق وفي التزامها جميع البنود التي لحظتها تحت طائلة العقوبات الدولية المناسبة (مع أن هذه العقوبات لم تستطع أن تشق طريقها إلى الأقوياء).

وعلى رغم لحظ هذه المنظمة البنود التي تعود إلى العام 1948 كما تقدم إلا أنها لم تعالج الاختراقات التي يمكن أن يتسلل إليها هذا الفريق أو ذاك.

وما ينطبق على الشرعة وأحكامها ينطبق أيضاً على المحكمة الأميركية لحقوق الإنسان: فكلاهما لم يتح له مجال التطبيق السليم ولا التفعيل الدائم. وقد سبق أن رفعت شكواها إلى الهيئات الدولية دون طائل.

فالمشكلة تتمثل في إطار منظمة إقليمية تسلم قيادتها الكاملة إلى دولة واحدة فيها. وهذه الدولة تنظر إلى مصالحها قبل مصالح الآخرين وفوقها. وتبقي مسألة حقوق الإنسان منوطة بصانعي القرار الذين يغيّبونها مراراً. وإن اضطروا إلى لحظها في أوقات مختصرة ونادرة.

ومع أن بروتوكول العام 1988 استجاب للغة الجديدة في الحقوق الإنسانية كما تقدم. إلاّ أن المفهوم الأميركي العام لحقوق الإنسان طغى على الدول الأخرى من أميركا اللاتينية.

ب - الاتحاد الأوروبي:

وعلى غرار الشرعة الأميركية لحقوق الإنسان فان الاتحاد الأوروبي أصدر أيضاً شرعته الشهيرة لحقوق الإنسان الأوروبي في العام 1950 ثم ألحق بها بروتوكولات متعددة تكمل أحكامها وتلحظ حقوقاً إنسانية جديدة أو آليات جديدة لصيانة هذه الحقوق. كذلك فان الدول الأوروبية استحدثت المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان وهي من المؤسسات القضائية الفاعلة في هذا المجال.

وبما أن هذه الشرعة الأوروبية وآلياتها المتعددة قد صدرت جميعها بما يتفق مع التشريعات الداخلية لمعظم الدول الأوروبية في هذا الصدد،

وبما أن الدول الأوروبية نفسها لا تخشى هيمنة إحداها على الأخرى ولاسيما بعد اتفاق هلسنكي 1975 الذي رعى تكريساً نهائياً للحدود الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية من دون هواجس ولا مطامع،

وبما أن هذه الدول تندرج في مستوى متجانس مدني وحضاري وسياسي وهي كلها ذات مأثورات متعاطفة،

لذلك كانت الشرعة الأوروبية لحقوق الإنسان بشموليتها الموضوعية ذات أثر بارز في العلاقات الدولية والاستقرار الدولي لاسيما وأن هذه الشرعة لحظت معظم الحقوق الاجتماعية الإنسانية واعترفت بها وشجعت على تحقيقها وبالأخص الحق في المساواة بين الشعوب والحق في تقرير المصير والتنمية وحقوق الاقليات وما إليها. هذا مع العلم أن الدول الأوروبية أصدرت في العام 1961 الشرعة الأوروبية الاجتماعية التي أكدت على حرية اختيار العمل وحماية الصحة والمساعدات الاجتماعية وما إليها.

جـ - دول المؤتمر الاسلامي:

انشئت هذه المنظمة الاقليمية الدولية في العام 1969 وتضم أكثر من 50 دولة إسلامية وتهدف الى تعزيز وتطوير التضامن الاسلامي في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ومن مبادئها العامة:

- المساواة الشاملة بين أعضائها

- واحترام الحق في تقرير المصير

- وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية واحترام سيادتها.

- واعتماد الوسائل السلمية لحل النزاعات من دون استخدام القوة ولا التهديد بها.

وبذلك يلاحظ المراقب أن دول المؤتمر الإسلامي لا يشكل تحالفاً ظرفياً ولا مجرد تجمّع طارئ إنما هي منظمة اقليمية دائمة لها آلياتها وأنظمتها ضوابطها القانونية الأخرى.

وإذا استشهدنا فقط بالبيان الأخير الذي أصدرته دول المؤتمر الإسلامي في قمة طهران الأخيرة في خريف 1997، نلاحظ:

- ان دول المؤتمر الإسلامي ركَّزت على ضرورة التصدي الفعلي والفاعل للسياسة الإسرائيلية بقدر ما تمثّل نماذج صارخة عن إرهاب الدولة.

- الإقرار بالحق في تقرير المصير والعمل على تحقيقه بأي أسلوب وجهد.

- نقل صورة أكثر وضوحاً عن الإسلام السياسي إلى الخارج وقيام تفاهم وتفاعل مع الثقافات والأديان الأخرى.

- تأكيد الأهداف والمبادئ وتأييد إعلان القاهرة بشأن حقوق الإنسان في الإسلام ولاسيما فيما يتعلق بالاحترام الكامل للمرأة في المجتمع المسلم.

وهكذا فان دول المؤتمر الإسلامي حريصة على إنجاح لقاءاتها عبر الجوامع المشتركة التي يمكن لها أن توحّد وتوطّد بدلاً من أن تفرق وتهدّد.

وكان من الطبيعي ولا يزال أن تهتم هذه الدول بالحقوق التي تتعلق بتحرر شعوبها وتحقيق كرامتها وتقرير مصيرها.

د - منظمة الوحدة الإفريقية:

سبق إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية لقاءات أفريقية متعاقبة ابتداء من العام 1958 تدعو، في بياناتها، إلى تقرير المصير وتحرير الشعوب الإفريقية ومناهضة سياسة التمييز العنصري... وهي كلها جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان.

وأصدرت منظمة الوحدة الإفريقية في العام 1964 بيانها بل قرارها الذي شكل قاموساً متكاملاً للكفاح الإفريقي من أجل التحرر والاستقلال والسيادة. ثم أصدرت المنظمة الشرعة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في العام 1981.

والواقع أن هذه الشرعة تمثل انطلاقة متقدمة في فهم حقوق الإنسان في وجهيها الفردي والشعبي. فهي تحرص في مواد عديدة على حقوق الفرد (وكذلك واجباته) بما يتلاءم وينسجم مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948. وتحرص الشرعة الإفريقية كذلك على الحقوق المكرّسة للشعوب الإفريقية بما في ذلك حقهم في تقرير المصير والعيش بكرامة وبسلام وفي بيئة مناسبة. وكذلك ركزت الشرعة الأفريقية على ضرورة سيادة الشعوب على ثرواتها الوطنية وأنظمتها السياسية ووحدتها الاقليمية في آن معاً.

والشرعة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب حاولت أن تخاطب المواطن الإفريقي في أهم حقوقه وواجباته أيضاً كما أرادت أن تكرّس كرامة الشعوب الإفريقية بعد قرون طويلة من الاستعباد الجسدي والسياسي والاقتصادي.

وعلى رغم أن بنود هذه الشرعة الافريقية لم تبصر النور بكاملها لأسباب عديدة موضوعية وسياسية واقتصادية وغيرها، فإن أهميتها تبقى في كونها مرشداً ذا مرجعية راقية للتعبير عن حقوق الإنسان في لغتيها التقليدية الفردية والمجتمعية في آن .

هـ - جامعة الدول العربية:

أنشئت كمنظمة إقليمية في العام 1945 أي قبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولهذا فان دستورها جاء خالياً من أية إشارة إلى حقوق الإنسان مع أنه تضمن التزاماً واضحاً بمبادئ الأمم المتحدة وأهدافها.

وإذا كان عذر الجامعة العربية مقبولاً في تاريخ إنشائها إلاّ أنه لم يعد مقبولاً بعد ذلك التاريخ. وفي الوقت الذي صدرت شرعات أميركية وأوروبية وأفريقية لحقوق الإنسان فان الجامعة العربية لم تصدر بياناً واحداً ولا قراراً ولا حتى توصية تشير فيها إلى حقوق الإنسان العربي.

هناك بعض التشريعات الوطنية التي تلزم الدول العربية نفسها بها في أمور تتعلق أو تنبثق عن حقوق الإنسان كالشرعتين الصادرتين في العام 1966 عن الحقوق السياسية والاقتصادية... الخ. إلا أن جامعة الدول العربية لم تصدر أي نص عربي يتحدث عن حقوق الإنسان العربي.

وما حصل (الواقع أنه لم يحصل أن تعرضت الجامعة لهذا الموضوع) بالنسبة للجامعة حصل كذلك بالنسبة لمؤتمرات القمة العربية منذ منتصف الستينات وحتى اليوم. فحقوق الإنسان العربي لم تدخل في أي بيان ولا إعلان ولا توصية صادرة عن مؤتمر قمة عربي.

وإذا كان هذا الاغفال العربي لحقوق الإنسان مردّه إلى طبيعة الحكم العربي وسلوكيته المعروفة، فان الأمر قد يتعدى ضمير الحاكم نفسه إلى الضوابط الدستورية التي ترعى هذه السلوكية. فإذا أخذنا الدستور اللبناني مثلاً، نرى أنه ملتزم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "على أن تجسّد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول". ولم يعد، بذلك، مكان للحديث عن إلزامية القانون الدولي ومرجعية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على مستوى قرارات الجامعة العربية، لأن هذا الالتزام أصبح دستورياً وطنياً بحتاً وبالتالي بات لبنان ملتزماً قانوناً بهذا الإعلان بشكل مباشر من دون أن ينتظر أي قرار إقليمي بذلك.

رابعاً: صدقية الالتزام على المستوى الإقليمي الدولي

لعل مسألة حقوق الإنسان، في إشكالياتها القانونية والتطبيقية، من أكثر المسائل جدلاً على المستوى الدولي. فقضية الإصرار على حقوق الإنسان الفرد من جهة وحقوق المجتمع أو الشعب من جهة ثانية، وقضية الإصرار على إمكانية الإشراف على حسن التطبيق لدى الدول (ولاسيما دول الجنوب) في مراعاة هذه الحقوق، وقضية إنصاف الشعوب الضعيفة والمحرومة في الدول الأقل نمواً، وقضية اتهام الشمال بالاستغلال تحت شعارات مختلفة منها حقوق الإنسان... كل هذه الإشكاليات تقف في وجه حسن التطبيق وتوحيد سلّم الأولويات.

ودول الجنوب تعاني، أكثر ما تعاني، من هذه الإشكاليات التي يضاف إليها طبعاً عقلية الحاكم وسلوكيته، وتحجّر التقاليد والأعراف وجمودها، وانتشار الأسباب التي تهدد بناء السلام الدولي، وعجز المنظمات الإقليمية الدولية ذاتها عن توفير الجوامع المشتركة لبناء مفاهيم موحّدة وموطّدة لحقوق الإنسان، ورفض الأنظمة السياسية ابرام المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان... كل تلك الأسباب وكثير غيرها يحول دون انتقال حقوق الإنسان إلى حيّز السلوكية العامّة لمواطن دول الجنوب. أضف إلى ذلك ما نشاهده حالياً من الشرخ الواسع بين الشمال القوي المتحالف المتضامن وبين الجنوب الفقير المبعثر والمضطَّهد بكافة وسائل الاضطهاد والظلم السياسي والاجتماعي في آن.

أما المنظمات الإقليمية الدولية في سياق حقوق الإنسان، فأنها تشكو عدة أعراض ونقاط ضعف بنيوية ووظيفية منها:

أ - على المستوى البنيوي:

يتضح، من خلال المنظمات التي استعرضنا، أن الأمر بجذوره التنظيمية متعلق بمدى تقدم الدول الأعضاء بشكل عام الأمر الذي يجعل الاتفاق الإقليمي أكثر انسجاماً وصدقية وتعاوناً (الاتحاد الأوروبي مثلاً). أما إذا كانت المنظمة الإقليمية تجمع متناقضات بين قوي وضعيف (كمنظمة الدول الأميركية التي تجمع الولايات المتحدة إلى جانب بعض دول أميركا اللاتينية الصغيرة الفقيرة) فمن المنتظر أن يستخدم القوي بعض الشعارات، ومنها حقوق الإنسان، لكي يمارس تسلطاً قيادياً كاملاً على الضعيف.

ثم ان دساتير هذه المنظمات ذاتها تتعثر، في بعض الأحيان، بمشكلة التطبيق الملزم للقرارات المتخذة. فإذا كانت هذه القرارات تستدعي لإلزاميتها إجماعاً من قبل كل الأعضاء (الجامعة العربية مثلاً) وإلا فهي لن تلزم إلا الدول التي وافقت عليها فإن معنى ذلك أن كل قرار قد تتخذه هذه المنظمة بصدد حقوق الإنسان سيصطدم بعقبة التنفيذ.

ولعل المشكلة البنيوية الأساسية بالنسبة لدول الجنوب ومنظماتها أن ثمة إشكالات بل مشكلات كبيرة وخطيرة تتناول الأنظمة السياسية ذاتها وتحول بالتالي دون نفاذ هذه الشعارات المتعلقة بحقوق الإنسان إلى الشعب حتى تلك التي تتناول حقوقه بالذات. وهكذا ينتقل السؤال حول حقوق الإنسان من إطار الحيّز المحلي حيث يرفض الحاكم التعاطي مع الموضوعي أصلاً أو يستخدم شعارات التحرّر لكي يقمع الحرية والاستقلال لكي يبرر الاستغلال ومناهضة الاستعمار لكي يستمر في كافة ضروب الاستثمار وهكذا...

ب - على المستوى الوظيفي:

حيث تبرز هنا وجوه الأنماط الجديدة أو المتكررة من العلاقات الإقليمية والدولية. فالنظام العالمي الجديد يمارس، منذ أوائل التسعينات علاقات وظيفية تتسم بمظاهر ظالمة لدول الجنوب كافة سواء على صعيد المعايير المزدوجة للمرجعيات الدولية وقراراتها (التغاضي الدولي مثلاً عن كل الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل أو صربيا ضد حقوق الإنسان) أو على صعيد الاختراقات التي ترتكبها الدول الكبرى ذاتها التي يُفترض أن يبقى حرصها كاملاً على حماية هذه الحقوق (ما تقوم به الولايات المتحدة مثلاً من أعمال القصف والحصار والتعدّي...) أو على صعيد السيطرة الاقتصادية الطاغية على كافة الشعوب ومقدراتها.

فالموضوع، إذن، يتناول بجوهره، مخاطر الطبقية الدولية التي تزداد هوّتها اتساعاً وأطرها تفككاً وبعثرة. وإذا كانت للثنائية القطبية حسنات اهتمام دول الشمال ببعض الجنوب لإبعاد المنافسة واستقطاب الحلفاء، فان هذا الشمال اليوم لم يعد يكترث إطلاقاً لنداءات الفقر والمرض والأميّة التي يطلقها الجنوب يومياً.

أما الشركات العابرة للجنسيات والتي تتداول أعمالها بترليونات الدولارات في الشمال والجنوب معاً فإن لها منطقها القدير الخطير. وليست حقوق الإنسان بالنسبة لها أكثر من أدوات تزيينية - ديكور - على جدران البورصات والمكاتب.

الحل؟؟!... وهل ثمة حل في كل هذه الصراعات الحادة؟!..

إعادة النظر بأساليب تربية الفرد المدنية وإكسابه ثقافة سياسية جديدة تصبح فيها حقوق الإنسان جامعاً مشتركاً بين الإيمان والسلوك المدني.

وإعادة النظر بدول الشمال وفرض نمط جديد من العلاقة مع جنوب متحدّ أو على الأقل أكثر تعاوناً واتحاداً.

وإعادة النظر بهيكلية المنظمات الإقليمية لدول الجنوب بحيث تكتسب المزيد من القوة والتنسيق فيما بينها.

وإعادة النظر في شعارات التغريب السياسي والاجتماعي والاقتصادي بحيث يصار إلى استنهاض القيم الذاتية المؤمنة... لعل هذا يكون بداية الحل.

source