المحكمة الجنائية الدولية

calendar icon 02 تشرين الأول 1998 الكاتب:شبلي ملاّط

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة السادسة)


المحكمة الجنائية الدولية مسار، وليست حقيقةً. بهذه المقاربة تُدرك أهميتها، لأن حقيقتها الناقصة قانونياً مرهونٌ إكتمالها بنجاح ذاك المسار - أو فشله.

فعندما علا الهتاف في قاعة المؤتمرات في روما في السابع عشر من تموز 1998، قرابة الساعة التاسعة مساءً، بإعلان رئيس اللجنة العامة الكندي فيليب هيرش أن نص المعاهدة قد أُقرَّ، كان ذلك بعد خمسة أسابيع من النقاشات الحادّة اشتركت فيها رسمياً وفودٌ من 160 بلداً، 17 مؤسسةً دولية متعددة الأطراف، 14 مؤسسة مختصة، و 124 جمعية غير حكومية NGOS. وكان التصويت على النصّ الكامل بموافقة 120 بلداً، مقابل سبعة أصوات للبلدان المخالفة 21 امتناع عن التصويت؛ واعتناق المعاهدة بغالبية ساحقة هو نفسه غير كافٍ للتأكّد من صحّة المسار وسلامته إلى حقيقة المحكمة في ما تصبو إليه من طيّ صفحة طاغية في تاريخ الأمم؛ هي صفحة القانون الدولي المزدوجة من عدم التدخّل في الشؤون الداخلية لبلد ما، ومن عدم اختصاص القضاء الدولي المستقلّ في شأن أشنع ما ابتكره الإنسان ضدّ جاره الإنسان: الحرب.

وبعبارة أبسط، لا يظنّن أحد منّا، في ختام يومين من البحث الدؤوب عن حقّ الإنسان أن المحكمة الجنائية الدولية، على عظمة تسميتها، قد نجحت في السابع عشر من تمّوز 1998 في إحقاق حقّ الإنسان البديهي والأول: حقّه في الحياة.

إنما في المسار روح وفي المسار أمل. وفي المسار كما في كلّ شيء على هذه المعمورة، قضاء وقدَر يرجع إلى كلّ واحد منّا أن يسمح لطرف القضاء فيه أن يطغى على عمى القَدَر. هذا الميزان الدقيق، المؤمن بأن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، هو قدْر حديثي الموجز اليوم.

إنبعثت شؤون المحكمة الجنائية الدولية سنة 1990، من جديد، إبّان حرب الخليج. وكان الأمر بها ليس جديداً حتى يومذاك، فمسار المحكمة الجنائية الدولية له تاريخ يمتدّ على مدى نصف قرن، على الأقلّ، فيعود إلى الملفات الضخمة التي رافقت محاكمتي نورمبرغ وطوكيو، بل تابعها فقهاء القانون عن طريق أبحاث اللجنة القانونية الدولية International Law Commission، في اجتماعات دورية متتالية غابت عن الأنظار بسبب استحالة استحداث مثل هذه المحكمة في ظلّ الحرب الباردة. إلاّ أن ترهيف حدّ الحجة القانونية استمرّ في هذه المباحثات إلى أن انتهت الحرب الباردة متزامنة مع اجتياح الكويت، فارتفع الصراخ في الأروقة القانونية والشعبية بمطالبة محاكمة المسؤولين عن حربي الخليج، وهي في أغلبها مطالبة بمحاكمة القيادة العراقية بسبب الاجتياحين، وفي بعضها الاقلّي مطالبة بمحاكمة الحلفاء، وعلى رأسها حكومة الولايات المتحدة، لأربعين يوماً من ضرب منشآت مدنية بلا هودة.

وبتزامن نهاية الحرب الباردة ونهاية حرب الخليج الثانية، صار مسار المحكمة الجنائية الدولية قريباً بمعانيه من منطقتنا، ومشكّلاً بحسب عنوان كتاب لأحد الزملاء القانونيين العراقيين "الفصل المحذوف" من عاصفة الصحراء.

وفيما جمّد الموضوع لحين - ولحين فقط - على الجبهة الشرق أوسطية، عصفت المآسي في حقّ الانسان في كل من يوغوسلافيا والبحيرات الكبرى، فانحدر المسار جغرافياً حتى ارتفعت الدعوة الى محاسبة مجرمي الحرب في بوسنيا وفي رواندا، مكلّلاً بالنجاح هذه المرّة في إنشاء المحكمتين الجنائيتين اللتين لا تزالان تعملات بإنجازات وشوائب متفاوتة في هاتين البقعتين الحزينتين من تاريخ التمدّن الإنسان الحديث.

وتسارع المسار في سنتي 1994 و1995 بإجماع من مؤسسات غير حكومية - لاسيّما منها منظّمة العفو الدولية، وHuman Rights Watch، وWorld Federalist Association، ومن العديد من الدول، خاصة الأوروبية منها والأميركية - طالبة رفع فكرة المحاسبة القانونية مجدداً الى بُعْد كوني وحده يمنع ازدواجية المعايير وتفصيل المحاكم بحسب الأزمات. فنشأت من جديد فكرة محكمة جنائية دولية توّجت أعمالها في ما يسمّى بالنصّ النهائي Final Act في روما، والذي افتتحنا حديثنا به، وهو المسار الذي نتوقّف عنده اليوم، فقد يكتمل، وقد لا يكتمل.

ما هي النقاط الأساسية التي رست عليها المعاهدة؟ تضمّ المعاهدة 128 مادة. المقدّمة تركّز على الدول والشعوب ولا تركّز على الإنسان الفرد. مركز المحكمة مدينة لاهاي، وقد تختار المحكمة أن تلتئم أينما شاءت· أما علاقتها المؤسساتية مع الأمم المتّحدة، فقد تركتها المعاهدة لبحث لاحق.

الجرائم التي تتناولها المعاهدة أربع: جرم الإبادة، الجرائم ضدّ الإنسانية، جرائم الحرب، والتعدّي (والاجتياح Aggression)، وهو جرم يتمّ تحديده، بحسب المعاهدة، لاحقاً. أما عناصر الجرائم المختلفة، فهي مفصّلة، وتشمل الاغتصاب، واختطاف الأفراد وتغييبهم، وأخذ الرهائن، ونقل رعايا من الدول المعتدية للاستيطان في الأراضي المحتلّة، وغيرها، مع التشديد في أن الجرائم كلّها لها طابع جماعي وشامل. ومن مزايا المعاهدة عدم التفرقة بين الجرائم الناتجة عن حروب داخلية وجرائم النزاعات الدولية. إلاّ أنه لا يدخل مجرّد استعمال أسلحة الدمار الشامل، بما فيها الأسلحة النووية، بالضرورة من ضمن جرائم الحرب.

في ما يتعلق باختصاص المحكمة، تمّ الفصل بين جرائم الحرب والجرائم الأخرى، لأنه يمكن للدول الأطراف في المعاهدة أن تختار عدم إدخال جرائم الحرب Opt-out، ولمدّة سبع سنوات غير قابلة للتمديد، عند توقيعها على المعاهدة· وبشكل عام يكون اختصاص المحكمة حاصلاً في أحوال منصوص عليها كالآتي:

(1) في حال أبرمت الدولة المعاهدة

(2) في حال انضمام أو موافقة لاحقة للدولة التي تمّ الجرم على أراضيها، أو كان المتّهم من رعاياها.

لكن المحكمة لا يحقّ لها أن تنظر في اتهام لمجرد وجود المتّهم على أرض الدولة الطرف في المعاهدة.

(3) يجوز للمدعي العام أن يرفع القضية إلى المحكمة من تلقاء نفسه، لاسيّما إذا حقّق أولياً في الأمر بمعلومات من ذوي الضحايا أو من منظّمات غير حكومية.

(4) يجوز لمجلس الأمن أن يرفض استمرار المحكمة النظر في قضيّة ما، ولفترة اثني عشر شهراً قابلة للتجديد، إنما يتطلّب مثل هذا الرفض موافقة صريحة بتصويت إيجابي في هذا الصدد للأعضاء الخمسة الدائمي العضوية في ظلّ الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

(5) لا يجوز للمحكمة أن تنظر في قضيّة قبل أن تُعطى الدولة المعنية فرصة لمحاكمة المتّهم ويجوز للمحكمة الجنائية الدولية أن تنظر في القضية إذا تبيّن لها "استحالة أو تقاعس واضح" من جانب الدولة المعنية.

هذه أهمّ الترتيبات التي أقرّتها معاهدة روما، يتبعها تفصيلات تتعلّق بتأليف وتنظيم المحكمة، وبأصول المحاكمة لديها، وبكيفية تحرّك المدعي العام، إلخ... وكل من هذه التفصيلات يحمل مجالاً للاستطراد شغل وسوف يشغل المحامين والقانونيين الدوليين لسنوات طويلة.

أمّا وبالنسبة للسياق الزمني، فقد سمحت المعاهدة بإنشاء المحكمة، في أحسن الأحوال، بعد شهرين من اكتمال إبرام المعاهدة من قبل ستّين دولة، وقد تكون هذه العملية عملية طويلة، لاسيّما إذا اشتدّ رفض الولايات المتحدة للمعاهدة إلى حدّ تجييش طاقاتها الدبلوماسية الكبير لمنع الدول الغربية المحورية من اعتناقها.

لكن المشكلة الأكبر ترتكز قانونياً على بنود الاختصاص. وإذ نجح كبار رجال القانون في منع مجلس الأمن من شلّ عمل المحكمة، والسماح للمدّعي العام بالتحرّك من تلقاء نفسه، فإنّ حصر الاختصاص في حالتي الدولة التي أبرمت المعاهدة والدولة التي ينتمي إليها المتّهم - وهي غالباً الدولة نفسها في كلتي الحالتين - يؤدّي عملياً إلى إقصاء المحكمة عن النظر في أحوال جرائم جماعية كالتي رافقت عهود پينوشيه وعيدي أمين وپول پوت وصدّام حسين، كما جاء على لسان زميل في قسم جرائم الحرب في الخارجية الأميركية دعانا للاجتماع به الأسبوع الماضي في واشنطن.

وهكذا فإننا على مفترق الطرق في مسار طويل وشاقّ بحثاً عن حقّ الإنسان. فتفعيل المحكمة في ظلّ الجرائم المستمرة والسياسة الدولية الهائمة على وجهها - كما يتبيّن اليوم لنا في كوسوفو - مرهون باندفاع مستمرّ للأفراد والجماعات والدول، وبحث الإنسانية عن قوّة في القانون، بدل قانون القوّة، لا يزال في أوّله في عرف الدول.

source