الفكر الإسلامي والإعلان العالمي

calendar icon 01 تشرين الأول 1998 الكاتب:محمود فرحات

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثالث: "بحثاً عن حق الإنسان"
(كلمات الجلسة الأولى)


بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد وعلى نبينا  وآله وصحبه وعلى اخوانه أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام وبعد

سماحة الأخ الرئيس، السادةُ المشاركون الأفاضل.

بحثنا المقرّر، بحسب عنوانه، يتركّز على موضوعين اثنين، وعلى العلاقة والتجانس بينهما، إن كان ثمة علاقة أو تجانس.

يتركّز على الفكر الاسلامي المنطلق من وحي الله تعالى الخالق البارئ والمدبِّر الحكيم، على سيدنا محمد (ص)، في أعظم ثورة انسانية منذ ألف وثلاثمئة وثمانين سنة ونيّف محورها الأساس، وموضوعها الأوحد هو الانسان، مكانته، كرامته، حريته، حقوقه·· في وقت كان الظلم والاستبداد، واحتقار الانسان، واستلاب حريته وامتهان كرامته، في مختلف ارجاء العالم قد بلغ، فكراً وممارسة، الحدود القصوى من الفظاعة والشدّة.

كما يتركّز، البحث، على شرعة حقوق الإنسان، وهي مبادئ استخلصتها مجموعة من بني البشر بتكليف من ممثلي الدول المنضوية في إطار هيئة الأمم المتحدة، وقد أقرّتها الجمعية العامة لهذه الهيئة في العاشر من كانون الأول سنة 1948.

ومن الطبيعي أن نعرض بإيجاز واقتضاب يناسبان الوقت المتاح لهاتين المبادرتين: الإلهية والبشرية، ولنوعية العلاقة والتجانس، إن كان ثمة علاقة أو تجانس بينهما.

ولن يكون البحث في تفاصيل الموضوعين.

فالأول غني عن التفصيل وقد بات معروفاً من جميع من يعيش في بلاد الإسلام، مؤمناً كان أو غير مؤمن، ومعروضا في عشرات ملايين الكتب والمؤلَّفات، ومثلها بل أزيد منها، في المقالات والمحاضرات.

والثاني وان كان حديث عهد، إلاّ أن معظم ما ورد فيه هو استنساخ شكلي، أو تصوير لبعض ظواهر المفاهيم والتعاليم الواردة في الفكر الاسلامي - موضوعنا الأول، وفي غيره من ديانات السماء، وتوصُّلات الحكماء الأقدمين.

سنكتفي، هنا بعرض سريع لهذين الموضوعين، نقف عند جملة من الأفكار والآراء حولهما، وفي اطار العلاقة والتجانس بينهما.

ويناسبنا في آلية البحث، وسياقه الفني أن نبدأ بعرض الموضوع الثاني، وهو ميثاق الأمم المتحدة أو كما يسمونها شرعة حقوق الإنسان، او المبادئ.

أقرّت هذه الشرعة الدولُ الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة في اليوم العاشر من شهر كانون الأول سنة 1948. وقد وقع في أحداث هذه السنة جريمة كبرى هي اغتصاب اسرائيل لفلسطين وتشريدُ أهلها على مرأى ومسمع من جميع الدول التي أقرّت هذه المبادئ – الشرعة، ومسمعها.

ولا أقصد بإشارتي هذه إدانة المبادئ ... إنّما هي نقطة في دائرة الشك المتكوِّنة عندي من الوضع والإقرار، والتي سنلمع بعض أضوائها خلال البحث.

والشرعة عبارة عن ثلاثين مادة أساسية ومواثيق مدنية، وسياسية ملحقة.

ومناقشتنا لهذه الشرعة ستكون من حيث الشكل والمضمون.

من حيث الشكل:

1ً- هيئة الأمم المتحدة مؤسسة يشترك فيها ممثلون عن دول العالم، بينهما دول كانت حتى الأمس القريب، ودول لا تزال حتى الحاضر، ذات مواقف إجرامية مخزية، وترتكب مجازر وحشية، وتضغط حتى الاختناق على صدور أبناء بلاد لا تزال تحتل أرضهم أو تستعمر بلادهم!.

2ً- هيئة الأمم المتحدة مؤسسة كبقية المؤسسات الدولية التي تشكلها الحكومات والأنظمة.. وهي مصادرة في جميع قراراتها، أو على الأصح في مفاعيل، قراراتها للقوى العظمى، وللفيتوات فهي بالتالي، اليوم، مصادرة وخاضعة لأميركا والشواهد قائمة وحيّة على ذلك.

3ً- الهيئة في قرارها، بشأن الشرعة، ادبي - أخلاقي ليس له قوة إلزام وتطبيق، إذ أنه عرض بشكل تمنٍّ ورجاء.

4ً- الهيئة تدّعي حفظ الحقوق وصونها والشرعة لذلك ولغيره من شؤون الانسان وُضعت، وهي بنفسها لم تحفظ حقوق من سبقها من واضعي الشرائع الانسانية والمبادئ التي تضمّن بيانها جملة منها، إذ أنها - الهيئة - بدون أي اشارة، أو ارجاع، أو ذكر، ولو في المقدمة، اقتطعت مجموعة مفاهيم تتعلق بحقوق الإنسان، من منابع سبقتها بأزمان وآماد بدءًا من جوستنيان الروماني، بل وقبل ذلك، من الأساطير الإفريقية القديمة، كأسطورة "مالوزي"، وأسطورة "كونو" وشعب "بوروبا" التي تضمنت نصوصاً صريحة في الإرشاد والى حقوق الناس وحتى الحيوانات( مجلة المؤتمر الثالث للفكر الاسلامي – طهران) ونسبتها الى نفسها.

كما تجاهلت الاسلام بمفاهيمه الانسانية الراقية، وتشريعاته السامية، في مجال حقوق الانسان، وكرامته وحريته..

وتجاهلت المسيحية التي، بحسب اعتقادها، أنزلت الله وجعلته انساناً، دلالة على مدى مكانة الانسان، وعظم قيمته.

إننا نرى في تجاهل هذه المصادر العظيمة لحقوق الإنسان، ونرى بعين اليقين، ومعنا لو انصف واضعو الشرعة، ان مجرد اعلان هذه المبادئ لا يقدم ولا يؤخر، ولا يغير ولا يبدل وخصوصاً ان الدول الكبرى التي أقرت هذه المبادئ ومعها الدول المستضعفة، لا تزال تمارس سياسات ووقائع، تتعارض كلياً مع المبادئ وتتنافى وتتجافى عن روحيتها وأخلاقياتها، وأن هذا الواقع كان معروفاً ومحرزاً من قبل، من خلال التركيبة في هيئة الأمم، ومجلس الأمن، ومن خلال محاور الكبار والصغار.

اننا نرى من خلال ما ذكرنا، وغيره، ان الاعلان لم يصدر برسم التنفيذ.

ونرى في أفق الإعلان دكنة ونقاطاً سوداء، تجعلنا نرقب بحذر وتوجس. فالإسلام وهو صاحب الأطروحة الفضلى والمتكاملة في شؤون الإنسان والحياة، وليس بين الأديان الأخرى والمدارس الفكرية والسياسية طرحاً يفضل طرحه، أو يقاربه لمدى قصير. فالبون كبير بين طرح الاسلام المتكامل والمفصّل، وبين غيره من  الطروحات الفعلية أو النظرية، في ساحات الفكر الانساني.

وفي الطرح الاسلامي تعظم قيمة الانسان. والجانب الأخلاقي فيه محكم وباهر، كما بقية الجوانب، بالاضافة الى أنه نظام انساني وحياتي متكامل.

وكما تقوم في الدول أزمات مالية واقتصادية، كذلك تتفجر أزمات انسانية على مختلف المجالات· وخصوصاً في مجال العلائق والروابط الأسرية والاجتماعية، وفي مجال الأخلاق أيضاً.

والحكومات والسلطات في اي بلد، تحاول أن تصون بلادها وشعوبها من الاختراق· وقد جاهدت حكومات كثيرة في أميركا وبلاد غربية، وغير غربية ان تمنع الخطر الأحمر من مداهمة شعوبها، والتغلغل في بلادها· ولم تتنفس هذه الحكومات الصعداء، إلا عندما نسفت الشيوعية نفسها· وحينها قرأنا وسمعنا تصاريح عدة، لمسؤولين أميركيين وأوروبيين، مفادها أننا انتهينا من الخطر الأحمر، وبقي علينا خطر الإسلام ( كتيب صغير للاستاذ محمد السماك يذكر فيها هؤلاء المسؤولين بالاسماء).

وحتى الأمس القريب كان الاسلام شرقياً، بمعنى أنه لم تكن سبل التواصل والاتصال متوافرة وميسورة مع الغرب. وكان غريباً في بلاد الغرب، بشكل عام، ولا يزال كذلك حتى اليوم، وإن بدأت تباشير العمل، عبر الأجهزة الحديثة، وخصوصاً "الانترنت"، وعبر مؤسسات معدودة، لا تزال في عمر الطفولة، أنشئت في بعض تلك البلاد وقد تكون خطوات على الطريق.

فاذا توافرت للإسلام ورشة من أبنائه العلماء، في مختلف المجالات والحقول، وأعادت صياغته، وأخراجه بشكله الحقيقي والمناسب، شكله العالمي، وبمزيد من التعمق في فهم التعاليم والمفاهيم، على ضوء المستجدات العلمية والفكرية، وعملت على تنقيح التاريخ من اللامعقولات، والتصادمات التي فرضتها إرادات سلطانية، وتحديات ومواجهات مذهبية، وسياسية، وعلى الترفق بعالم التغيب والماورائيات، وأخرجت منه ما أدخل عليه، وما اندس فيه، لتحقق نبؤة ذلك الايرلندي الفيلسوف برنارد شو. التي قرأتها منذ ثلاثين عاماً في كتاب لا أذكر اسمه ولكنه من تأليف الدكتور محمد يوسف موسى المصري عندما قال (برنارد شو): "في أواخر هذا القرن - القرن العشرين - سيغزو الاسلام بلاد أوروبا".

وليس بعيداً أن تكون الصهيونية العالمية، بمخططاتها وأساليبها الماكرة البشعة، وراء قطع طريق الإسلام عن بلاد الغرب، وأجزاء من الشرق، إذ أن من يتتبع الآثار "النبوية" و"الرسولية" في ديانة اليهود المعتمدة عندهم، والتي نجزم قاطعاً، أن نبي الله موسى، وربه عز وجل، هما مها براء .. يرى الإله القاسي الجبار التي يتلذذ بالدماء وإزهاق الأرواح، وهو يتقن فن الانتقام، ولو بالفعل المحرم، كما في الحادثة التي ينسبونها، والعياذ بالله، الى النبي داوود، مع زوجة جاره أوريا، وما فعل معه، من دفعه للموت، قتلاً، أمام التابوت، ومن الزنى بزوجته قبل موته. وهنا يقول إله اليهود لداوود معاتباً، ومعاقباً: لأرسلن واحداً من ولدك، يزني بنسائك على ملأ من الناس ... ويقول سردهم الديني، أن الله فعل ذلك. نبي يزني والعياذ بالله؟!!

إله، يأمر بالعقاب على الزنا، بزناً بالمحارم ؟!! ويسكت سردهم، عما إذا كانت أم هذا الابن من بينهن!!

ثم نرى هذا الإله عاجزاً يصارع الإنسان ( يعقوب)، من الليل حتى الصباح، فلم يتغلب عليه!!

ولو أن رجلاً من بسطاء اليهود وضعفائهم، نسب إليه ما نسب اليهود إلى أنبيائهم، لأقام الدنيا وأقعدها، على رؤوس هؤلاء...

هذه الشريعة التي تمتلى كتبها بالقتل والحقد، والانتقام والتسلط، والاغتصاب والسرقة، والكذب وامتهان الإنسان، غير اليهودي، وعدم اعتباره من بني آدم، الحقيقيين، والتي فيها فصول من الجنس، حتى بالمحارم، كالحادثة التي أشرنا، وحادثة لوط، معاذ الله، مع ابنتيه.

هذه الشريعة المصطنعة، بشكلها الحالي، هي، بنظري، ليست دستوراً للحياة، أو منهاج عمل بناء، إنما هي  نهج يرسم خطوات الانحراف والتحلل والفساد، والكفر بالناس والمجتمعات، إنه تعليم للناس وللأجيال، الجرأة والإقدام على المعاصي والموبقات، فهو، بالتالي، نحر للمجتمع الإنساني، وإتلاف لقيم الإنسان.

مثل هذه الشريعة ماذا يكون موقفها من شريعة كشريعة الإسلام، المحكمة المباني، والمتينة الأصول، والتي تدعو الناس، بل تلزمهم بالفضائل والقيم والأخلاق، وتتضمن في مطاويها مناهج حياتية، فردية واجتماعية، توصل الإنسان الى النعيم والسعادة في الدنيا؟

فلا يبعد بعد هذا، في نظري، أن تعمل الصهيونية بأقصى ما لديها من وسائل، لإبقاء الإسلام غريباً وبعيداً عن عوالمهم، التي تسرح فيها، وتصوغ ما يناسب هدفها من توجيه وتعليم.

ومن مقتضيات هذا الهدف، هدف تفشيل الاسلام، أو تشويهه، أو مسخه، وإبعاده عن الساحات الغربية، التي عملت الصهيونية على استلاب الطهارة المسيحية من معظم ابنائها، ولا تزال تعمل على تدنيس الباقي.. أن تلجأ إلى أهم أسسه ومرتكزاته، بل إلى اطروحته الأساس، وهي الإنسان، وحقوق الإنسان، ووضعيته في الحياة، فتمسخها، وتقتلعها من حقل روائها الايماني، كما فعلت بالشرعة ومبادئها، التي باتت أشبه ما تكون بحمل لطيف بريء، تعاهد رعايته وتربيته ذئاب كواسر.. لتفشلها، وتذهب سحرها وآخذيتها ..

ومن البديهي أن يلجأ حكام الغرب، وغيرهم من الحكام، الذين باتت الصهيونية تتحكم بمواقعهم ومصائرهم، الى مساندة، او تبني، اي أمر يشوه هذا الدين، ويبعده، إذ انه لو توافرت له أسباب الطرح الكافية، ووسائل التعرفة المناسبة، وتعرف الغربيون عليه، جيداً، وهم، بلا شك، عندي، أقدر على التعرف منا، في بلادنا، لاحدث، في تلك البلاد تغيرات وتبدلات، خصوصاً، أنها باتت بفعل الصهيونية، والمادية، تعيش حالات فوضى وفراغ فكري وروحي، وتفتقد إلى توالم المادة والروح... وقد برع الإسلام في صياغة هذا الأمر، وفي التوفيق والتوأمة بينهما... لذلك سارع أولئك الحكام، بإيحاء وتخطيط صهيوني، وقطعاً للطريق على الإسلام، وانتزاعاً لمبادراته وطروحاته التي صاغها للإنسان وحقوق الإنسان، إلى مصادرة المفاهيم والتعاليم، وطرحها مبتورة في الأمم المتحدة، كعلاج عالمي مبتكر، منهم، لمشاكل الإنسان وحقوق في الحياة والمجتمع البشري.

وإني هنا، ومن منبر الامام الصدر، الذي أدرك، بعمق، هذا الواقع، وآمن إيماناً عظيماً بضرورة توافق القوى الروحية المؤمنة في العالم، وبضرورة اتخاذ موقف موحد من المخططات التخريبية والتشويهية الصهيونية، للأديان السماوية وتعاليمها، والتي باتت تهدد، في بلاد الغرب، الصفاء والطهر المسيحي، وفي بلاد الشرق، حيث الإسلام، النقاوة والوضوح والإلتزام... من هذا المنبر أوجه نداءً، بل، رجاء المخلص الصادق للكنيسة المسيحية، على مذاهبها، في العالم، وللمفكرين المؤمنين المسيحيين، إنطلاقاً من صفاء المسيحية، وأخلاقياتها، وإنسانيتها، أن يعيدوا طرح نوعية العلاقة والإرتباط مع ما في العهد القديم، وغيره من الكتب، التي يطرحها اليهود، وأن يعيدوا التحقق والتحقيق في هذه العلاقة، ويضعوا أيديهم بأيدي المسلمين لتفشيل مخططات الصهيونية الرهيبة، التي لم ولن توفرهم، وتوفر غيرهم، في التخريب والإلغاء.

أما مناقشتنا للشرعة، من حيث المضمون، فلنا معها ثلاث محطات أساسية، ووقفة قصيرة مع بعض موادها، نعرضها مباشرة وباقتضاب:

1- يعتبر الميثاقُ الحياة حق، وهي ليست كذلك، إنّما هي نعمة إلهية، وأمانة أودعها الله تعالى البشر. والحقوق يمكن التنازل عنها، أو التفريط بها، أو تفويض أمرها الى آخرين، والحياة ليست بالتأكيد، كذلك، ولا يجوز، حتى لصاحبها، أن يفرّط بها أو يلغيها.

2- أفاضت الشرعة في المادة السادسة من الميثاق المدني والسياسي في بيان أحكام الاعدام، والمحكومين به، وفي بيان ما لهم من حقوق على السلطات، في الوقت الذي لم تعط قتل النفس، والدفاع عن أرواح الناس، وأمنهم، أهميتها المناسبة.

3- التعبير بالمساواة في حقوق الناس، تعبير جائر، في كثير من الموارد، وخصوصاً في موضوع المرأة والرجل. والتعبير بالعدالة هو، علمياً وحضارياً، التعبير الأصح والأرقى. ويتضمن تعبير العدالة إفساح المجال واسعاً، أمام المرأة، لأن تستفيد من طاقاتها، وإمكاناتها، بحيث أنها يمكن ان تزيد، بل يحق لها، في هذه الحالة، حالة العدالة، عن الرجل.

4- الحرية: وهي من مرتكزات الشرعة في ميثاقها بل هي الأهم، وقد وصفتها الشرعة بأنها أسمى آمال البشرية.

والحرية هي كذلك، إذا كانت موجَّهة، وفي مجتمع واع ومنضبط. أما إذا كانت المجتمعات فاسدة، والجماعات فالتة، تتبع الأهواء والرغبات والنزوات، وتستوحي مسيراتها من المبادئ الهدّامة، كالصهيونية المخرّبة، ونظريات وأفكار مكيافيلي، وبورجيا، وهوبز، فإنها الهدم والزوال.

وعلى هامشها، هامش الحرية، حرية الزواج، مع الاختلافات التي وردت في بندها الخاص، في مبادئ الشرعية، فهي محظورة، الى حد ما، في الدين والمعتقد فقط، وليس هذا الحظر الجزئي إلا لصون مؤسسة الزواج من تفاعلات عدم التوافق الفكري، والعقائدي، والعصبوي، تماماً، كمن يتزوج في ضيعة، أو بلدة، أو مكان ما، فتاةً من عائلة معيَّنة، وهو من عائلة أخرى، وبين عائلتيهما نزاع وصراع، وانقسام كياني، وتوجهات روحية مختلفة...

ولو توافقت العائلتان، وزال ما بينهما، من صراع وانقسام،، لارتفع عند ذلك الحظر، وزالت الموانع، وهذا أمر في منتهى الطبيعة.

أما المحطات الاساسية التي لا بد من الوقوف عندها فهي ثلاث:

- الأولى، الواقع البشري.

- الثانية، القدرة على التنفيذ·

- الثالثة، الضمانات

الواقع البشري:

يستفاد من مقدمة البيان، الذي تضمَّن الإعلان العالمي لحقوق الانسان، ان الغاية القصوى، والهدف الأساسي لواضعي الشرعة، هو تحقيق الحرية والكرامة والمساواة والأخوة، وغير ذلك من أساسيات حقوق الإنسان في الحياة.

كما يستفاد أيضاً، أن الدافع الأساس لوضع الميثاق، هو الحد من معاناة البشر والآمهم، ومن المصائب الكثيرة والمتنوعة الناجمة عن الغرائز، في صراع البقاء، وحب الذات، والأنانية وغيرها من المغروزات في النفس البشرية، والمرتكزات في أعماق البشر.

وإمكانية هذا الأمر - أمر تطبيق مبادئ الشرعة - تستدعي وجود حالتين:

أ- حالة الحاكم الصالح

ب- حالة القابلية والاستعداد عن الناس.

ففي الأولى نقول إننا لسنا قادمين من القمر، أو من أماكن أخرى، من الكون، بعيدة عن الأرض وما يجري عليها.

ولن أتعرّض للأنظمة، فنحن لسنا بالصدد، ولا بالمجال. وندع الرأسمالية وجشعها وبشاعتها، والاشتراكية وكوارثها، بمبانيها ونظرياتها، التي فجرتها، ونسفت كيانها.

إنما سنلقي بعض الضوء على الحكومات والسلطات، التي يطلب منها أن تدعو لمبادئ الشرعة وتعمل لها بإخلاص وإيمان.

منذ زمن كان العالم منقسماً بالشكل والفعل، الى محاور ثلاثة، شرق وغرب، ما بينهما، ومنذ قليل من السنين، أصبح العالم محورين، محور الأقوياء والمتسلطين، ومحور الضعفاء والمساكين. وهذا الأخير، تمحور، لا رغبة منه، أو مشيئة، إنما هو مرفوض، وغير مقبول، في صفوف الأقوياء والأغنياء، لفقره وتخلفه، وكما يعبرون في بلاد الغرب، لاعاقته، وهذا التعبير مستعمل في بلادهما (Handicaped) فحكامه وحكوماته، على العموم، رهن مشيئة المحور الأول، وتحت إشرافه، لا يجرأون على اجتراح فعل، أو اتخاذ قرار، أو نهج، يضرّ بمصالح الأقوياء، أو يفتح العيون والآذان، على ظلمهم، وجورهم، واستبدادهم بالأرزاق والأرواح.

والحال، هذا، معروف، وواضح لدى جميع الناس، والاطالة لا تفيد.

وإذا لم يكن، لروحيات هذه الحكومات والسلطات، مظهر، أو مؤشر، أو عمل كاشف، الا قضيتنا الكبرى، فلسطين والأراضي المحتلة، ومواقفهم السياسية من هذه القضية، فهو كاف للقول ان مثل هذه الحكومات، لا يمكن أن تجهد في نشر القيم والحرية والكرامة والمساواة، بل إنها تنسفها على رؤوس أصحابها وتفتك بها.

يقول وايتهيد: "أن الطبيعة البشرية معقّدة الى الحد الذي يجعل قيمة البرنامج المكتوب على تلك الأوراق لتحقيق الاصلاح الاجتماعي لا تعدل - لدى الحكام - قيمة تلك الأوراق المسوَّدة نفسها".

ب: حالة القابلية والاستعداد:

إذا انطلقنا من هذه النقطة من آية كريمة، أصبحت مقولة شائعة، يعتمدها القرآني، وغير القرآني، وهي: "إنّ النفس لأمّارة بالسوء"، نصل الى عالم، ينفذ أوامر السوء، ويدعو الى الشر والفساد، في كل مجالاته وشؤونه، وهذا ما سنفصل الكلام عنه لاحقاً. وعن الاستثناء الإلهي في الآية: "الا من رحم ربي".

والعالم البشري اليوم، في حالة لا يختلف عاقلان على زرايتها وفسادها، وهي تبعث الحزن والأسى، في قلوب المصلحين والمخلصين، إذ أننا بتنا نلقى صعوبة على امتداد الصحراء البشرية، في إيجاد روابط إنسانية حقيقية صافية أو هدوء اجتماعي أو استقرار حياتي، باستثناء بعض الواحات التي تنظمها بواعث روحية ودوافع إيمانية. فالقيم على تنوعها وتعددها، العدالة، الحرية، المساواة، الامن السلام، والمحبة، الاخوة والترابط والاحترام، حفظ الحقوق، أصبحت كلها تعار بمعيار المصلحة الذاتية والنفع الشخصي.

وما قول السادة الحاضرين، في كتل بشرية تحركها نفوس هائجة، وغرائز فالتة، تتفنّن في التعبير عن رغباتها ولذائذها، وعن شرهها وأطماعها، وعن فعل كل ما تعتقد إنه يعزز لها وجودها، ويحفظ بقاءها، جائزاً كان أو غير جائز، معقولاً أو غير معقول، تؤجِّج نيران هذه النفوس والغرائز مقولات مثل مقولة هوبز في "ذئبية الإنسان"، وميكافيلي في غايته التي تبرر الوسيلة، وسيزار بورجيا، "الجنس حتى مع المحارم"، ويلفّ هذه الدعوات والأفكار كلها إطار خفي نسجته الصهيونية العالمية، ومن تابعها، لتنفيذ تلك الأفكار والدعوات، وذلك كله في سياق هدف بات معروفاً لدى أهل المعرفة والدراية، وهو هدم المجتمع البشري ليعلو ويبقى مجتمع صهيون.

وتجري هذه الأمور بمعزل عن السلطات العاجزة، أو غير الراغبة، وخارج دائرة المؤمنين الذين يتحصَّنون بإيمانهم وبالتزامهم الروحي، وقد بات عليهم أن يزيدوا من الحذر والاستنفار مخافة التسلل والتلويث.

القدرة على التنفيذ:

من القواعد العقلية التي نستعملها في عملنا التوجيهي والارشادي قاعدة التخلية ثم التملية، أو ثبِّت العرش ثم انقش.

وكيف يتأتّى لدعوات ومبادئ تحمل الهمّ الانساني، على فرض، وتطرح مناهج ومواثيق تدعو الى احترام الإنسان وحريته، وأمنه، وكافة حقوقه في مجتمع بشري تحكم فيهم، كما أسلفنا، الأنانيات وبقية الغرائز، وما يتولّد منها، وما تقتضيه، اذا لم نُخِل هذا المجتمع مما هو فيه، أو نوقف اندفاعه وهياجه!؟

ولو فرضنا، محالاً، أنه توافرت للعالم حكومات مخلصة، صافية، محبة للإنسان، كيفما كان، وأينما كان، وتعمل بجدّ وجهد في تحقيق مواثيق ومبادئ هذه الشرعة، وتطبّقها في مجتمعاتها، وتأمر بها وتحاسب عليها هل يكفي هذا الأمر في نشر الأمن والأمان، والعدل والسلام وحفظ الحقوق وصون الكرامات؟

هذا السؤال يجيبنا عليه مدعٍ عام سابق في الولايات المتحدة الأميركية هو روبرت جاكسون في مقدمته على كتاب الحقوق في الاسلام (الحقوق في الاسلام جمع وتنظيم مجيد خدروي وهربوت ليبسني) حيث يقول:

"إن قانوننا في أميركا لا يطرح واجبات دينية بل هو يحذفها بكل دقّة... إن القانون في أميركا له تماس حدود مع تطبيق الواجبات الأخلاقية· والحقيقة هي أن الفرد الأميركي في نفس الوقت الذي يكون فيه فرداً مطيعاً للقانون، يستطيع أن يكون فرداً وضيعاً فاسداً".

وهكذا في كل بلد يحكمه قانون وضعي. فالقانون مع الناس، ما داموا ضمن الرؤية والمراقبة، وهو بعيد عنهم، وهم في أمان منه، إذا تمكنوا من اجتياز خطوط المراقبة والرؤية.

وكثيرون هم الذين يتسترون في هذه الحالة في دول القوانين الوضعية إما بالتفلت والاحتيال والتخفي أو بالنفوذ والسلطة والمكانة، ولو لم يتوافر الجو السياسي المخالف لكلينتون في اميركا ويدفع خصومه الفتاة الأميركية لإثارة موضوع العلاقة لما استطاع القانون وسلطاته أن يصلوا إليه ويكتشفوا فعلاته، ولبقي ناعماً في مخادعه غير المشروعة ..

أما المحطة الثالثة، في حديثنا، عن مضمون الشرعة، فهي الضمانات، أي ضمانات تطبيق المبادئ، وهي المحطة التي سندلف منها الى الحديث في المرتكز الأول لبحثنا وهو الفكر الاسلامي.

فالنفس البشرية هي - كما أسلفنا - أمارة بالسوء بمعنى أن غرائزها الأساسية وهي حب البقاء، الأنانية والجنس تفتش عن وسائل تحقيق هذه المطالب التي لا يمكن أن تهدأ النفوس وبالتالي أصحابها والمجتمعات إلا بامتلاكها فهي تسعى على الدوام بشكل يصل احياناً الى حدود الجريمة والجنون وبدون أي اعتبار أو مراعاة للحقوق والحدود. لتحصيل ما تعتقد أنه يسدُّ الخلة، ويرفع الحاجة، ويؤمّن البقاء ويشبع الأنا، ويطفئ سورات الجنس والشهوة.

فتحقيقاً للبقاء وحباً به يستهين الانسان بكل ما يتعارض مع بقائه ويقفز فوق مصالح الناس وأمنهم، وحقوقهم وسلامتهم،  فهو حاضر أن يقتل ويدمر ويبيد الآخرين، ان استطاع... حتى ولو كان الآخرون من رحمه وأهله، ومقولة هذه الحالة الأدبية "أنا ومن بعدي الطوفان" وفي العامية: "أسلم براسي وما يهمني حدا".

وكذلك "الأنا" وهي قدس أقدس، وغريزة الجنس وهي طامّة كبيرة، تهدم كيانات الأسر والعائلات، وتحول صاحبها الى ثور جامح أو ذئب هائج لا يراعى إلاَّ ولا ذمة ولا يعترف بموانع وحدود ومواثيق وعهود، همه إطفاء سعاره وإرضاء غريزته.

بيد أنه من الضروري القول إن هذه الغرائز هي ضرورية للانسان واستمراريته. فاذا انعدم حب البقاء عند إنسان، انعدمت عنده الرغبة في الاستمرار.

وإذا انعدمت "الأنا" من الإنسان تعطّلت عنده الدوافع والحوافز وإذا انعدمت غريزة الجنس انعدم عنده الميل الى الزواج والتناسل، وهو سبب استمرارية الوجود البشري.

والاشكال الكبير، والأمر الذي يبدو مستحيلاً، هو أنه مع وجود هذه الحالات التي يستولدها الناس من غرائز النفس البشرية، كيف يكون الإصلاح ومن أين نبدأ في إعادة الآبق الى كنفه، والهائج الى هدوئه ورشده؟

كيف لك إذا أودعت انساناً مالاً كثيراً بدون وثيقة أو شهود أن يعيده اليك عند الطلب ونفسه تحدثه بأنه وقد أصبح المال بين يديه، ولا حسيب أو شاهد عليه، سيخسره فيما لو أعاده إليك.

وكيف اذا استصرحته صدقاً، وقولهُ الصدق يضرّه، ولو نسبياً، أن يصدقك القول. ونفسه تحدثه أن لا يضر بها وبه من أجل الآخرين.

وكيف له اذا ائتمنته، سراً، ذا قيمة وأثر، وإفشاؤه يعود عليه بمال ونف. ونفسه لحثه، أن لا نجسر هذا المال والنفع، بكتمان السر!؟

وهكذا في كل شأن تقع عليه يده وبإمكانه امتلاكه دون عقاب فإن إرجاعه يعتبره خسارة له.

فهو بحساب الغرائز خاسر، إذا رد الأمانة وصدق القول، و، و...

فلا يمكن، إذن، أن نطلب من إنسان كهذا، هو عبد مطيع لنفسه، السيئة الفاسدة، أن يقدم على عمل فيه خسارة، وضياع فرصة، وأي طلب إصلاحي، إذا لم يكن فيه ربح له، أو بديل، أو تعويض، هو مرفوض ومردود، دون أدنى شك.

لذلك لا بد من البديل... والبدائل لأي عمل من أعمال الخير والصلاح، والصحة والاستقامة، في كل مجالات الحياة وشؤونها، تفوق التصور. ولا يمكن؛ بل لا يتصور ان تقوم بها حكومات ودول العالم مجتمعة.. فتسقط، نتيجة لذلك، جميع المحاولات البشرية، وتخيب المواثيق والعهود الوضعية، لأنها تفتقر إلى البدائل والأعواض.

نعم، هناك مرجع واحد يؤمن البدائل والأعواض بالضعف والضعفين، والعشرة، وبدون حساب هو الله سبحانه وتعالى.. وننقل الكلام الآن الى الفكر الاسلامي وهو الموضوع الأول الذي يرتكز عليه البحث الذي نحن بصدده الآن.

والاسلام دين وسع السموات والأرض، والحياة والموت، والدنيا والآخرة والقديم والحديث، ورسم لهذا كله، مفاهيم ومعارف، واختط لكل حدث نهجاً وموقفاً، ولكل حادثة حكماً وتكليفاً، ابتداءاً من الايمان بالملائكة، والغيب والماورائيات الى أرش الخَدْش في فقه المعاملات.

والانسان هو موضوع الاسلام الوحيد، وكل ما أطبقت عليه دفتا كتاب الاسلام هو في سبيله ومن أجله وفي خدمته.

"ولقد كرّمنا بني آدم..." و"وإذ قلنا للملائكة إسجدوا لآدم"...

"سخر لكم ما في السموات وما في الأرض"...

"وسخر الشمس والقمر"...

"إني جاعل في الأرض خليفة"...

هكذا يقوم الإسلام الانسان/وبهذا المستوى من التعظيم والتكريم، فاذا كان الاسلام يقدم الانسان بهذا المستوى، وإذا كانت منظومة الاسلام المفاهيمية والتعاليمية والتشريعية هي في خدمة هذا الإنسان العظيم وصلاحه ومصالحه.

وإذا كانت مفاعيل الإيمان تترك هذا الأثر الجبار في روحية المؤمن وقدراته ومسلكه، فلماذا لا يكون هذا التشريع بدلاً من الشرعة في انقاذ الانسان والانسانية من الحمأ التي يتردى فيها؟

ولماذا لا يكون إيمان المسلم وغير المسلم من أهل الديانات السماوية هو باب الولوج الى نعيم الانسانية وجنتها؟

إذا كان واضعو الشرعة في الأمم المتحدة يعرفون الإسلام وفعل إيمانه فلماذا لم يلجأوا إليه؟

وإذا كانوا غير عارفين، فهم جماعة تنقصهم المعرفة والدراية والاحاطة، فما لنا ولشرعتهم حتى ولو كانوا أبرياء.

ومهمة هذا الانسان في الوجود هي، بحسب الاسلام، إعماره لكي يتسنى له وللآخرين التمتع بالنعمة العظيمة الممنوحةَ له من الاله العظيم، وهي نعمة الحياة.

والإعمار المقصود ليس بالبناء والحجر والمدد، إنما هو إعمار القلوب والنفوس بالخير والعدل والسلام والمحبة، والأمن والاستقرار، متوسلاً تشكيل المجامع والمجتمعات ليصل بالتالي الى النعمة والسعادة في هذه المنحة الإلهية.

لذلك يمكن القول أن تشكيل المجتمعات الصالحة وإعمار النفوس والقلوب بالخير والفضائل هو غاية الخلق والايجاد.

ولعلّه، من باب مبدأ التضاد، الذي يقول فيه أهل الفلسفة: "لولا التضاد، لما صحَّ دوام الفيض عن المبدأ الفيّاض"، ويقول فيه أهل الحكمة "والضد يظهر حسنه الضد"، أو من مبدأ السالب والموجب في الموجودات، أو من باب ضرب الناس بعضهم ببعض، أو البقاء للأفضل، أو العدالة الالهية، أو لعلة أخرى، أودع الله تعالى، في الإنسان، ميولاً وأهواء، وغرائز وعواطف، وعقلاً وفطرة، متضادة فيما بينها، تتصارع جميعها، ويصادم بعضها بعضاً، في اختيار النجد الذي تنجده.

وهو أحد اثنين لا ثالث لهما، نجد الخير، ونجد الشر، وقد وضع سبحانه وتعالى، أمام أعين المتصارعين، العواقب والنتائج، وهذا النجد ورسم الحدود والأبعاد، وبيَّن الحلال والحرام، الصالح وغير الصالح، وما يغضبه وما يرضيه، وترك الناس، بعد ذلك، يختارون بين الشكر والكفر، بين الطاعة والمعصية، وبين الخير والشر.

ونسقط من حسابنا الذين نجدوا نجد الشر، واتبعوا أهوائهم فقط أسقطهم الله تعالى، من حساب الناس، في قوله "أولئك كالأنعام بل هم أضل".

ونبقى مع الذين نجدوا نجد الخير، وهو نجد الله تعالى، وهم المؤمنون. فالمؤمن الذي يؤمن بالله خالقاً، بارئاً، قوياً، عزيزاً، حكيماً، عادلاً، قادراً، رازقاً، معطياً، مالك الدنيا، ومالك يوم الدين، يحيى ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، يتعوذ به من الضلال والغوايه، ويصمد اليه في الشدائد والملمات، ويستعينه في المكاره والصعوبات. هذا المؤمن هو "أشد من الجبل" كما يقول الحديث الشريف "الجبل يُستغلّ منه، والمؤمن لا يستغلّ من عقيدته شيء".

ومثل هذا الايمان قادر ومؤهل للجم النفس، وكبح جماحها، وقمعها، وقهرها إذا أحوج الأمر، وقد زوَّده الله تعالى، لذلك، بأنواع متعددة من العبادات، فيوقف ما فيها من غرائز وعواطف، وميول وأهواء، عند الحدود المشروعة، فيستقيم له الأمر وتتفجّر فيه طاقات الخير والصلاح، وتبرز من مكامنها قدرات البناء والإعمار.

وحقيقة الايمان، شروطه ومستلزماته، تجلياته وآثاره، منظومة أنزلها الله سبحانه، تشريعاً وتعاليم، ومبادئ على رسوله محمد (ص) وهي، كلها في خدمة الإنسان، ومن أجل صلاحه.

وقد بلغت هذه المنظومة ذروة الكمال والشمولية، والاحاطة، بشؤون الإنسان في الدنيا والآخرة، ولم تترك صغيرة أو كبيرة، فعلاً أو قولاً، حركة أو سكنة، إلا ووضعت لها حكماً، أو تكليفاً.

وقد فعلت فعل السحر في مجتمعات البشر، ومعتقداتهم، وحوّلت، بسرعة عجائبية، نفوساً ومجتمعات، لا تختلف كثيراً، عما نحن عليه اليوم، الى نفوس ملائكية، ومجتمعات مترابطة، متطورة، حسن فيها الترابط والتآلف والتعاون، وحسنت فيها القيم والأخلاق، وانفتح العقل والقلب فيها، على ما فيه خير للناس، وما يرضي الله تعالى.

وإذا أردنا أن نجسد بعض تعاليم الإسلام الأخلاقية، والاجتماعية، في صورة رجل، نرى مؤمناً، يمشي في الأرض هوناً، ويحب لغيره ما يحب لنفسه، ويأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويعطي الحق لأصحابه ولو كان جلب شعيرة ويطفئ الحاكم شمعة بيت المال، التي يستضيء بها في الشأن العام، ليضيء شمعته الخاصة في شؤونه الخاصة. ويغضب الحاكم إذا كنّاه القاضي، ولم يكن خصمه، الذي يقاضيه. ويشتري ثوبين، فيعطي الأفضل منهما لخادمه. ينزه سمعه، وبصره، وفؤاده، عن السوء، منطلقاً من قوله تعالى " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً. ولا يفجر ولا يغدر، ولا يخون، ولا يتآمر، ولا يزني، ولا يقطع الأرحام، ولا يفتن، ولا ينم، ولا يغتاب، ولا يفسد في الأرض، ولا يقول الزور، ولا يفحش، ولا يسرق، ولا يكذب، ولا ينفك عن الجماعة، لأن: ... "من فارق الجماعة قيد شبر خرج من ربقة الإسلام"، ولا يستهين بالأخوة مع الناس، أو يتنكر لها .. وقد هاجر المكيون في أوائل الدعوة، فآخى الرسول (ص) بين المكي والأنصاري، حتى أنهما صارا يتوارثان توارث الأخوة في الدم!!

فإذا كان الإسلام يقدم الإنسان بهذا المستوى. وإذا كانت منظومة الإسلام المفاهيمية، والتعاليمية، والتشريعية، هي في خدمة هذا الإنسان العظيم، وصلاحه، ومصالحه.

وإذا كانت مفاعيل الإيمان تترك هذا الأثر الجبار، في روحية المؤمن، وقدراته، ومسلكه، فلماذا لا يكون هذا التشريع بدلاً من الشرعة، في إنقاذ الإنسان، والإنسانية، من الحمآت التي يتردى فيها؟.

ولماذا لا يكون إيمان المسلم، وغير المسلم، من أهل الديانات السماوية، هو باب الولوج إلى نعيم الإنسانية، وجنتها؟

فإذا كان واضعوا الشرعة في الأمم المتحدة، يعرفون الإنسان، وفعل إيمانه، فلماذا لم يلجأوا إليه؟

وإذا كانوا غير عارفين، فهم جماعة تنقصهم المعرفة والدراية والإحاطة، فما لنا ولشرعتهم، حتى ولو كانوا أبرياء.

وليس للاسلام في تشريعاته ومفاهيمه وتعاليمه، وفي احاطته وشموليته، لكل مشاكل الانسان في الحياة، وأنواع علاقاته وأشكالها، أية مشكلة، أو فراغٍ، أو نقص· فهو مؤهل لأن يكون دستور الإنسانية جمعاء، ورائدها الى نعيم الدنيا وجنَّتها· إنّما معاناة الإسلام هي، كما سبق وأشرنا، في الجغرافيا، وفي فعالية الطاقات الواعية من أهله، إذ أنه لم يُعرف الإسلام، حتى الآن، خارج دائرته الجغرافية، إلاّ لماماً، ومن خلال نقلة، هم على أقل التقادير، ليسوا أصدقاء، أو محبّين، أو منصفين.

وإنّ أبناء الإسلام الذين كانوا يخرجون من بلادهم، باتجاه الغرب، وجزء من الشرق، كانوا يعودون وهم يحملون إسلاماً صنعه المغرضون من أهل تلك البلاد، أو يملأون رؤوسهم بإرهاصات وافتراءات عن الاسلام، وتعاليمه السامية ليس الإسلام وتعاليمه في واردها على الاطلاق.

لذلك فإننا نرى:

1- عدم التركيز و الاعتناء بهذا اليوم العالمي، لأنه ليس في أصله موضوعاً للتنفيذ، ولا يمكن ذلك إلا من خلال رابط جامع للناس جميعاً هو الإيمان والدين.

2-        تشكيل هيئة أو هيئات ليس لها أي علاقة، أو طابع سياسي، تعمل، فقط، لإقرار سبل إيصال الإسلام إلى خارج الدائرة التي لا يزال فيها.

3-  تشكيل هيئات، أو لجان، تعيد قراءة الإسلام، وخصوصاً، التاريخ منه.

4-           استمرار التواصل مع القضية المنكرة، قضية تغييب الإمام الجليل السيد موسى الصدر، النموذج الإسلامي، عاطفياً وفكرياً وعملياً.

ونناشد، في ختام بحثنا، في هذا الموقع الذي ينتسب إلى هذه الشخصية الإسلامية الكبيرة المجاهدة، التي نستطيع بكل فخر وتباهٍ، أن نقدمها نموذجاً صادقاً للإسلام الفاعل، والقادر على التغيير والتبديل، وعلى إحداث انقلابات فكرية وروحية واجتماعية، كما فعل الإمام، في محيطه وأجوائه.

فالإمام السيد موسى الصدر، وهو، كما عرفناه جميعاً، رجل الإنسان وحقوق الإنسان، والمحرومين منهم خاصة، حكاية واضحة عن فعل الإنسان، وقدرته على التغيير، وعن إنسانية هذا الدين العظيم.

نناشد أهل الإمكانيات العلمية والمادية، والفاعليات  الفكرية من أبناء الإسلام، أن يعملوا على إخراج الإسلام من دائرته الشرقية، ومن أفقه المحدود، في بلادنا، إلى الدوائر الأوسع، والآفاق الأرحب، وهم إذ يفعلون ذلك يقدمون خدمة جلّى للإسلام. وبالتالي للإنسانية وحقوق الإنسان وشرعاتها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source