الإمام الصدر في نظرة مختلفة للأسرة

calendar icon 05 تشرين الثاني 1997 الكاتب:حسين شرف الدين

مؤتمر "كلمة سواء" الثاني: الأسرة واقع ومرتجى
(كلمات الجلسة السادسة)

باسمه تعالى

الأب – الأم – الأولاد – الأسرة – المرأة – الرجل – المجتمع – الزواج الدائم – الزواج المنقطع – الزواج المدني – التربية – الإيمان – المشاعر – الرغبات الجسدية – الفساد الأخلاقي – حرية المرأة قانوناً واستعباد جسدها إعلاناً وإعلاماً – تهيئة المناخات الصالحة لبناء أسرة وسلامة توالد – تحديد النسل – رفض مجتمع الآباء، إلى ما هنالك من موضوعات الحياة ومن همومنا العامة، تحدث عنها وفيها الإمام السيد موسى الصدر.

وهذه كلها وسواها مباحث تناسب طروحات هذا المؤتمر، ولكن المواعيد العجلى تقصر عن ملامسة هذه الموضوعات فضلاً عن استيعابها، ليس ذلك لاتساع مداها فقط، بل لأبعاد إحاطتها، وإن حصر الإمام الصدر موضوعات العناوين تلك بالإنسان، ولكنه حدد صلات الإنسان بثلاثة ارتباطات: الله – الإنسان – الكون، مما يعجزنا عن السير في ركابه حتى على مستوى التأليف: لذلك رأيت أن احدد نفسي بملامح لجملة واحدة في ما كتبه وهي:

(القرآن يعتبر المرأة مثل الرجل في الحقيقة وفي الذات)1.

وأحاول معالجة هذه العبارة معالجة نظرية من ناحية استقراء للآيات البينات، وأخرى معالجة عملية تتبعاً لنظرة الإمام للأسرة في مجتمع متطور، في مجتمع يساير الحركة الطبيعية لمتغيرات الحياة، وليست تلك الحركات التي تقعد المجتمع او تعوق مسيرته او تخلخل اسس نظامه أو تبدله وغيرها من الأسباب المعوقة آنياً او دائماً.

ويحسن بنا قبل الشروع في الحديث ان نوضح معنى الحقيقة والذات، فالحقيقة والذات والماهية ألفاظ لمعنى واحد في المصطلح الفلسفي، وهو الشيء الذي تتشخص هويته، كما نستخلصه من تعريفات الجرجاني، ويؤكده ابن سينا بقوله: ان لكل شيء ماهية هو بها ما هو، وهي حقيقته بل هي ذاته2

من طبيعة المجتمع المتطور أن يحافظ على أسس ثقافته وينسل منها أسباب تطويره ثم تجديد فهمها، وهذا ما يلزم الإمام الصدر به نفسه، إذ يعيد ما يطرحه من آراء إلى القرآن الكريم، ولم ألحظ في أدبياته أنه يدعي لنفسه رأياً، وانما يفسر ما في القرآن.

وكان يؤكد هذا المعنى وأشباهه كلما اقتضى المقام التدليل على خلود شريعة الله وكلماته من خلال الفهم المتجدد، وتفسيري لهذا الالتزام هو:

1-   النجاة بنفسه من الوقوع في الشبهات.

2-   الاسهام في الحركة المتطورة عند المسلمين من خلال الالتزام بالقواعد الأصيلة من مفهوم وجوب التقدم3.

3-   الحفاظ على حق المبادئ في الاستمرار مع المجتمع، دون أن يلصق بها عبث المدعين معرفة الإسلام، او من في نفسه مرض، حيث يضيع الموقف الإسلامي من القضايا العامة، كما ضاع الموقف من المرأة حسب قوله، (إن اكتشاف موقف الإسلام تجاه المرأة في هذا الوقت لا يخلو من بعض الصعوبات).

وأسباب هذه الصعوبات في نظره أنه:

1-      اختلطت بعض العادات عند الشعوب الاسلامية بالتعاليم الاسلامية الأصيلة، فخيل للباحث أن جميعها من الاسلام.

2-      ما بثه المستشرقون وبعض الكتاب المسلمين حول المرأة، مما يجعل الموقف الإسلامي الحقيقي تجاهها غامضاً مجهولاً.

3-      الجهل او التجاهل ان في الآثار الدينية الإسلامية قسماً يتحدث عن وضع المرأة في مرحلة معينة من التاريخ، حيث ينظر إلى الموضوع القائم في زمان صدور الحكم، وهو ما يعرف بمصطلح علماء المنطق وأصول الفقه بالقضايا الخارجية، كما ان قسماً من الآثار هو تعاليم أساسية خالدة، تبحث عن الأحكام الثابتة للموضوع أينما وجدت، وفي كل زمان ومكان، وهذا يعرف بالقضايا الحقيقة.

4-      (ولأجل أكتشاف حقيقة الموقف الإسلامي تجاه المرأة، علينا ان نجعل من الآيات القرآنية أساساً للبحث عن المرأة، وإطاراً لمعرفة التعاليم الحقيقية – لا الخارجية – بالنسبة للمرأة، وعندئذٍ فقط نتمكن من فصل العادات عن الأحكام، ومن معرفة الأحكام الثابتة وتمييزها عن الآراء المرحلية)4.

هذه منهجية الإمام الصدر، رسمها بقلمه، وما علينا إلا أن نسير معه بموضوع هذه الليلة حول الأسره، ونبدأ من المرأة وحقيقتها في الإسلام من خلال الإعتبار بأن المرأة مثل الرجل في الحقيقة وفي الذات. وهذا يعني المماثلة في الواقع الخلقي والخلقي، في الجوهر والعرض، في الصفات والميزات، في الدور والاداء، في الحقوق والواجبات، وباختصار في ما يقال: (الشبيه يدرك الشبيه)، إذ إن انتفاء المثالية والتشابه ينفي قيام حياة ناهضة للمجتمع.

المتابعة للمنهجية تأخذ بنا إلى ما اعتمده الإمام الصدر من القرآن الكريم لتحديد شخصية المرأة، في استشهاده بالآية الكريمة: ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا ]الروم/21[، للتأكيد على مثلية المرأة والرجل في وحدة مادة الخلق، وهو ما أحاول معالجته في الجانب النظري من الحديث.

قد يُرى من أن عبارة من انفسكم تشير إلى اسبقية الذكر في الخلق، مما يرتب افضلية تكوينية في الحق، وهذا لا يقوم إذا رأينا ان الخطاب للبشر كافة، وعبارة (أنفسكم) تنال الأنثى كما تنال الذكر، وعبارة الزوج تعني القرين، قال تعالى: وجعل منه الزوجين الذكر والانثى. وعن الراغب: زوجة لغة رديئة، وجمعها زوجات، وجمع الزواج ازواج5. ويفسر الميزان من أنفسكم أي لأجلكم او لينفعكم او من جنسكم قرائن6.

أما اختلاف المظاهر التكوينية، فهي من الآيات الإلهية الثلاث التي اختصت بإيجاد الانسان7، ففي سورة الروم/22: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم. ولا يبعد أن تحمل الألوان معنى الأصناف والأنواع، والشيخ الطوسي في تفسيره الآية: وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه ]النحل/13[ يفسر ألوانه من الدواب والشجر والثمار8.

وقد تبين اختلاف الجنس من الآية 20 من سورة الروم: ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون. فهذه الفجائية في التحول من مادة التراب إلى كتلة من لحم ودم، غرضها الانتشار، ولكن الانتشار له وسائله،

ومن وسائله اختلاف اللسان، تعبيراً عن إمكانية التخاطب اللفظي، ولكنها قد تحمل معنى التخاطب الوجداني المواصل للأرواح المتباعدة فإذا هي في وصال جسدي يكفل الانتشار بالتناغم الروحي والاختلاف الشكلي الذي (هو الامتناع من أن يسد أحد الشيئين مسد الآخر)9.

وقد يتضح معنا الأمر أكثر، إذا تتبعنا الآيات الأخرى التي يستشهد بها الإمام الصدر، وظاهرها تراتبي الخلق:

"يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها" ] النساء/1[.

"وهو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها" ]الأعراف/189[.

"خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها" ]الزمر/6[.

ليس في التفاسير التبيان للطوسي ومجمع البيان للطبرسي والميزان للطباطبائي والأمثل لمكارم شيرازي10، ما ينص على ترتيب الخلق بين آدم وحواء، ولكن التبيان والبيان، واهتداء ايضاً بتفاسير السدي وقتاده ومجاهد وغيرهم، يقولان بخلق حواء من ضلع آدم وهذا يؤكد تراتبية الخلق.

وفي نفس الوقت يورد الطوسي رواية عن الإمام الباقر من ان حواء خلقت من فضل الطينة التي خلق منها آدم، ويورد ايضاً من أنه سلام الله عليه كذب حكاية خلق حواء من ضلع آدم، مسنداً إلى تفسير العياشي11.

وهذا يعيدنا إلى نقطة البدء من عدم وضوح ترتيب خلقي وبالخصوص أن المفسرين المتأخرين العلامة ومكارم ينفيان نفياً قاطعاً موضوع ضلع آدم وأن هذا الموضوع متأثر بالرواية التوارتية.

اما كيف يفسرون الآيات، فالطوسي مثلاً: يأخذ من آية سورة النساء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) من أنها وعظ ثم تحذير من قطع الأرحام وتوصية بالأولاد والنساء والضعفاء، لأنهم جميعاً من نفس واحدة فيما يدعو إلى لزوم امره وحدوده في الإرث وفي العطف، ثم يفسر: (وخلق منها زوجها)، بموضوع خلق حواء من ضلع آدم ولا يبعد ان تكون الآية بكاملها اخلاقية، وليس جزؤها الاول فحسب.

المعنى الاخلاقي الاجتماعي أخذ به العلامة الطباطبائي ولكن بأفق أوسع اذا اعتبر ان الجزء الاول من الآية هو الدعوة إلى تقوى ربهم في انفسهم لاتحادهم في الحقيقة الانسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل والمرأة، ولا صغير ولا كبير، ولا عاجز ولا قوي، (ولا يظلم كبيرهم الصغير في المجتمع الذي هداهم الله اليه لتتميم سعادتهم والاحكام والقوانين المعمولة بينهم التي الهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم وحفظ وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين).

وتفسير الطباطبائي بخلق الزوجين من نفس واحدة متناسق مع فهمه للجزء الاول من السورة، اذ يقول: (فالنفس على ما يستفاد من اللغة عين الشيء، يقال: جاءني فلان نفسه وعينه)، ويقول: (ونفس الانسان هو ما به الانسان انسان، وهو مجموع روح الانسان وجسمه في هذه الحياة الدنيا والروح  وحدها في الحياة البرزخية)12.

وفي تفسيره للخلق من نفس واحدة في سورة الاعراف يقول: (هو الذي خلقكم يا معشر بني آدم هو ابوكم، وجعل منها اي من نوعها زوحها ليسكن الرجل الذي هو نفس الواحدة اليها اي إلى الزوج التي هي امرأته).

اما في ما يتعلق بالآية /6 من سورة الزمر، وفيها (... ثم جعل منها زوجها) وثم حرف عطف يفيد الترتيب، ولكن العلامة يعتبر (الخطاب لعامة البشر والمراد بالنفس الواحدة على ما تؤكده نظائره من الآيات – آدم ابو البشر والمراد بزوجها امرأته التي هي من نوعها وتماثلها في الانسانية) وتجاوز (ثم) في التفسير يسهل علينا الميل نحو التزامن من خلق آدم وحواء في هذه الآية وفي مثيلاتها، ان كان من تفسير الطباطبائي او تفسير آية الله مكارم شيرازي الذي يركز ايضاً على نفي موضوع ضلع آدم ويعتبر خلق الازواج من الانفس يعني من نفس النوع والجنس وليس من اعضاء الجسم. وفي هذا تتوحد تفسيراته لجميع الآيات التي حمل هذا المعنى13.

ولو رجعنا إلى النصوص التوراتية نجد اواخر الاصحاح الاول من سفر التكوين: (فخلق الله على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقه).

وفي اواخر الاصحاح الثاني من نفس السطر يقول: (فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم، فقال آدم هذه الان عظم من عظامي ولحم من لحمي)14.

النص الاول هو الأقرب للنصوص القرآنية، وقد يميل إلى التزامن، او ليس فيه ما يشير إلى انفصال زمني.

قد يرد تساؤل حول تباين التفسيرات لدى العلماء، هذا امر طبيعي وحيوي، لأن كلاً منهم يعيش ثقافة جيله، فالشيخ الطوسي من ابناء القرن الخامس الهجري والشيخ الطبرسي من القرن السادس، بينما طباطبائي توفي في بداية القرن الخامس عشر والشيخ شيرازي احد مراجع التقليد في قم الآن. وبمثل هذا التباين قال الإمام الصدر: (ان اي فهم جديد للقرآن، وفي اي مستوى كان، هو صحيح عندما يحصل حسب القواعد المعتمدة في الكلام، ويمكن اعتماده والتمسك به في تنظيم شؤون الحياة).

وتجدر الاشارة إلى ان الإمام الصدر تلميذ السيد طباطبائي في التفسير والفلسفة، وزميل دراسة ورفقة نشاط مع الشيخ ناصر مكارم شيرازي، انهم ابناء الجيل الخامس عشر الهجري، بفارق عشرة قرون عن الطوسي والطبرسي.

كانت مسيرة مع قولة الإمام الصدر، متبركاً بالآي الكريم، مال بنا إلى التزامن في الخلق، وأدت إلى وحدة الغرض في الخلق الآدمي باتفاق مادة خلق الزوجين واختلاف الكفاءات الجسدية لتوفير أهداف الخلق، اتفاقاً واختلافاً، المتمثل بقوله تعالى: ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة.

وهنا تختصر عناصر الجعل الإلهي للعلائق بين الأزواج: السكن والمودة والرحمة، ومنها عمدة البناء الأسري هنالك من اسباب أخرى في هذه العملية، وعلى ما يبدو هي الثوابت، وما سواها فإنما هو مقتضيات حركة المجتمع. وظروف الحياة يقيمها الانسان لتنظيم الروابط الاجتماعية وتسيير شؤون الحياة استهداء بالأقانيم الثلاثة: السكن والمودة والرحمة، عماد البناء الأسري الأحب عند الله حسب الحديث النبوي الشريف: (وما بني في الاسلام بناء أحب عند الله من الزواج).

البناء يرتفع متكوناً من أجزاء، ولكنه وقد نهض، فلا تجوز إعادته إلى عناصره الأولى، لأن هذه العناصر لا تعود إلى طبيعتها كما كانت، فالتفكيك يصبح ركاماً،. والاجزاء شتاتاً.

وفي هذا يقول الإمام الصدر: (ان المجتمع في نظر الاسلام يتكوّن من وحدات، وكل وحدة هي الاسرة وليست الفرد، كما ان المجتمع ليس الوحدة التي تتجزأ إلى الافراد او الاسر او الطبقات)15.

وهنا انتقلنا مع الإمام الصدر من وحدة الخلق إلى وحدة المجتمع، وكما ان عودة الفرد إلى التراب – عنصره الأول – هي عدم، فكذلك المجتمع تنعدم إجتماعيته اذا تفكك إلى عناصره الأولى، فردية كانت ام جماعية، تشكيلات أسرية ام تنظيمات نقابية او سياسية، اذ لا تستطيع اي منها ان تكون هي المجتمع، وإن كان لها وضع جامع، فهو وضع خاص بها، ولا يتمكن اي تشكيل ان يطبع تشكيلات أخرى بطابعه.

من هذه النقطة نتحول مع الإمام الصدر لمعالجة الجانب العملي في الوحدة الأسرية، فيستوقفنا قوله: (إن الأسرة تشكل جانباً مهماً من حياة المجتمع البشري). وما يوقفنا انه لم يستعمل المصطلح الشائع من ان الأسرة هي الخلية الإجتماعية الأولى.

ترك الأولوية لأنها ترتهن لصفتها، فالخلية الأولى او الخلية الأم تندثر بعد ان تتوالد، فينعدم تفاعلها، وإن اولدت مجموعة من الخلايا، منها ماله مهامها، ومنها ماله مهام أخرى، وقد تكون للأسرة هذه الطبيعة، ولكن طبيعة أخرى للأسرة لا تشارك فيه الخلية بمفهومها، وهذه الطبيعة هي التراكم الثقافي وطاقة التجديد من خلال التوالد الفكري فضلاً عن التوالد الجسدي. وطاقة الفكر لا إندثار لها.

ولذا تحدث الإمام الصدر عن الأهمية وليس الأولوية، وأهميتها انها (تتفاعل مع المجتمع بصورة متقابلة متأثرة بالتطورات الإجتماعية – اقتصادية وسكنية وغيرها – وتؤثر في المجتمع بدروها حيث تنعكس حالات الأسرة وأحداثها على المجتمع).

التفاعل المتقابل بين الأسرة والمجتمع، ينظر اليه الإمام الصدر من خلال مجتمع متطور، حيث يترتب على التطور ان تزداد الحاجات في مختلف شؤون الحياة، وبالتالي زيادة الجهد لتأمينها مما يضطر الأسرة إلى ان تأخذ بواحدة من أمور ثلاثة، او إلى الثلاثة معاً:

1-      تطوير عمل الرجل او تغييره.

2-      النزوح إلى المدينة او العاصمة او الهجرة.

3-      اضطرار المرأة، في بعض الأحيان، لأن تعمل.

وهذا واقع حياتنا في الظروف الطبيعية، ولم يكن في الذهن، عند طرح هذه الأمور الوقائع الظالمة والمظلمة التي تعرض لها مجتمعنا، في ما بعد، من حرب فرضت أموراً لها مباحثها الخاصة، انه في هذه الفقرات التي نقتطفها يتحدث عن عملية تطور طبيعي ومتناسب مع الحركة العامة إقليمياً وعالمياً.

المستجدات على الحياة الأسرية من تزايد حاجات وزيادة نشاط (تنعكس بصورة واضحة على حياة الأسرة والعلاقات الأسرية، بالإضافة إلى ان مجرد تزايد الحاجات هو من عوامل تغيير هذه العلاقات).

هكذا يرى الإمام الصدر، ويرى ايضاً (ان الوقت لزيادة النشاط وغياب الرجل في حالات الهجرة او النزوح، وتغيير الظروف عندما تهاجر وتنزح الأسرة، وهكذا غياب المرأة عن البيت وبقاؤها في أجواء عملها واستقلالها المادي، وغير ذلك من المؤشرات لها مفعول عميق في العلاقات الأسرية بصورة مباشرة او غير مباشرة).

الغياب الذي يراه الإمام الصدر نتيجة ازدياد الحاجات من جهة والنشاط لتأمينها من جهة أخرى، يؤديان في نظره إلى علاقات والدية مهتزة بدخول عنصر جديد على النظا الأسري، وهي ما يسميه الإمام بالرعاية البديلة بقوله:

(ان الطفل الذي يشعر بحاجة إلى الرعاية الدائمة المطلقة، يرى نفسه في رعاية بديلة عن الوالدين – من شخص او مؤسسة – والرعاية هذه تحصل مقابل ثمن ما، اما رعاية الأبوين فلا تحصل الا في بعض الأوقات، وفي حدود معينة).

الرعاية البديلة المأجورة، تفجر الأقانيم الثلاثة السكن، المودة، الرحمة – بهدم عنصر الرحمة التي تتوج الأقانيم، اذ انها الحالة التصاعدية لروحية السكن بما فيه من إطمئنان واستقرار، والمودة بما فيها من تبادل للمحبة، وتحاضن للإلفة، تتصاعد هذه المشاعر لكون الرحمة العطاء بلا عوض، بلا مقابل، بسعادة غامرة بأن عطاءً وقع يسلم الرحيم إلى نشوة الرحمة، واذا بالأسرة، بناء للضرورة تلقي زمام المنزل ورعاية الطفل إلى عاملة او مدرسة داخلية او حضانية، حيث تنعدم المودة لتحل محلها الوظيفة، وتستبعد من العلاقات الجديدة للرحمة.

ولا نستطيع ان تنظر إلى هذه الرعاية البديلة بأنها وظيفية فحسب، بل المشكلة الأدهى ان الأم تتخلى عن رعايتها الرحيمة مقابل أجر في ما تكسبه من العمل خارج الأمومة. (ان هذا الطفل يفتقد – في مثل هذه الظروف – صفة الإطلاق في والديه، وبالنتيجة يرى الوجود العام المتمثل في وجودهما محدوداً نسبياً وسطحياً) يقول الإمام الصدر، والنتيجة؟ نستخلصها من كلمات الإمام:

1-      يتقلص مقام الوالدين، ومقام الوجود كله في نظر الطفل وفي مشاعره.

2-      تهتز العلاقات بين جيل الطفل والجيل السابق.

3-      تهتز العلاقات الوالدية.

الإنعكاسات الهامة التي استخلصها الإمام الصدر من الإهتزاز الأسري نقرأها بقوله: (نجد تفسيرات للحركات العنيفة التي يمارسها الجيل الصاعد في عصرنا).

ويقول: (ان الأجيال المتعاقبة كان يرتبط بعضها بالبعض الآخر، لا بالرباط الفكري وبالوحدة العقلانية، اذ انها كانت مفقودة، بل ان هذا التفاوت في التفكير والمنطق هو السبب الأساسي للتكامل والخروج عن الجمود).

ويشدني هذا الرأي لمتابعة الإمام الصدر قبل ان أعقب، اذ بدأت تأخذ بي حالة تساؤل كبير، ان لم أقل الإنبهار، فأجده خلال المتابعة يضع قاعدة التعادل بين جيل الصغار وجيل الكبار بقوله: (ولكن الجيل الصاعد المغاير منطقياً وعقلياً للجيل الذي سبقه، كان يرتبط به بمشاعر عاطفية متينة، حيث كان يجد فيه الإطلاق في العطاء)، وهو ما يسميه القرآن بالرحمة.

ويتسع نطاق الإطلاق في العطاء عند الإمام الصدر، فيخرج من دائرة الأسرة إلى القوة الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، فكما ان صفة الإطلاق هي من صفات الله، وعلى الإنسان ان يتخلق بأخلاق الله، فيعطي إيثاراً وليس إيجاراً، لتعزيز العلاقات البشرية بكل أشكالها بالرحمة، وهذا ما كان بنظر الإمام، (فكانت الأم مثالية للعطاء الدائم الشامل العميق، للعطاء اللامحدود، وكذلك الأب والمعلم والطبيب وغيره، وكان الطفل ينمو من خلال هذه الصورة الجذابة عن الحياة، عن الماضي، ينمو مسحوراً منجذباً يمتلئ وجوده بمشاعر الحب والإحترام، ويرتبط برباط وثيق من الوفاء والشعور بالمسؤولية).

هنا نتخذ فرصة تأمل، اولها: يصف الإمام الإرتباط الذي يعنيه بالإنجذاب، وهو في البعد الصوفي أكثر من إرتباط او إنشداد، بل هو اتصال إلتحامي، قد يتوقف النظريون من المتصوفة عند بلوغه، ولكن العمليين منهم يرونه حالة من حالات التفجير للإرتقاء والوصول، لذلك نرى عند الإمام الصدر، ان الإنجذاب وإمتلاء الوجود بمشاعر الحب والإحترام، تمتن وفاءً وشعوراً بالمسؤولية. تتكامل الأحاسيس العاطفية المتجاذبة مع التباين في النظرة المحكومة بالعقل، والمتأئرة بسلوكيات المحيط والنشأة.

وثانيها، أنني في ما وقفت عليه من نظريات تربوية وإجتماعية ونفسية، لم أقع على مثل ما طرحه الإمام الصدر، انها نظرة مختلفة في التطور الإجتماعي من خلال التنامي العاطفي والتباين النظري اذ يعبر عن هذا بالقول: (وهذا الترابط العاطفي القلبي إلى جانب التغير العقلاني، هو الذي يجعل الأولاد مكملين لدور الأباء، انهم مجددون ولكنهم يشكلون استمراراً لوجود الأجيال السابقة).

نفهم ان الإمام الصدر يعتبر ان التباين الفكري يجب ان تحكمه العاطفة ليتم تلاقح فكري فينتج تطوراً، يعني ان العاطفة هي الكابح للتباينات، فلا تجمح بقفزات او حرق مراحل، بل حركة تنامٍ طبيعي يكسب المجتمع متغيرات هادئة بنضوج مثمر.

وان لم يكن هذا التلاقي، فيحل فقدان الثقة بين الأبوين من جهة، وبينهما وبين الأولاد من جهة ثانية، ويشيع التفسخ الإجتماعي ويحدث تفاعل آلي في رأي الإمام الصدر بقوله: (والحقيقة ان المشكلة هذه لا تقف عند حدود العلاقات الوالدية والعلاقات الزوجية، بل تقتحم العلاقات الإجتماعية كلها، فتعطي صورة خاصة عن مجتمع تقوم العلاقات بين أفراده على اساس عطاء محدود مثمن، وتجعل التفاعل بين الأفراد، التفاعل الذي هو حقيقة المجتمع، تجعله تفاعلاً آلياً غير انساني وبلا روح).

التفاعل يحدث، ولكن اما ان يكون روحاً مجنحة، يدار بالعاطفة: او يكون آلياً يؤدي إليها (إعتماد المادة، والمادية قاعدة لبناء الحضارة وعزل ما وراء الطبيعة عن التأثير في الحياة. كما ارتآه بناة الحضارة الحديثة)، حيث (يعيش كل فرد فيه غريباً يرتبط مع الآخرين بحسب منافعهم المشتركة معهم، فالمجتمع شركة تجارية كبيرة تضم شركات أصغر منها بإسم الأسرة والعائلة والطبقة والصداقة والوطن والأمة).

انها مجرد شركات، تجمعها منافعها، ويفصل بينها رفع هذه المنافع، وهل لنا ان نسمي من تربطه المنفعة الشخصية انهم ابناء أمة واحدة في وطن واحد؟

بعد هذا السير مع الإمام الصدر، نتوقف في هذه الحلقة من قراءة افكاره عند رؤيته للموقف الإسلامي في موضوع الأسرة والمجتمع الموجز بالنقاط التالية:

1-    المجتمع الذي يقترحه الإسلام هو المجتمع الإنساني الحي الذي يرتبط الأفراد فيه بعضهم بالبعض الآخر من خلال عطاء مطلق لا يحدد بثمن.

2-     ان العمل رسالة يجب تحقيقها ببذل كل ما في طاقة الفرد، فهو قطعة من وجود الإنسان ذابت فتحولت إلى عمل.

3-    العمل حي مثل الإنسان، عبادة لا يمكن تجميدها ولا تثمينها، والمجتمع الذي يتكون من هذه الأعمال، وهذه العلاقات، مجتمع حي كمثل الجسم الواحد على حد تعبير الحديث الشريف.

4-    العمل بهذه الصورة ينبع من الإيمان بالمطلقات وبالقيم التي لا ينفصل الإيمان بها عن الله.

5-    المؤمن بالله يهدف من خلال عمله إلى هدف أسمى هو كماله، ولذلك فإن عمله هو حركته التكاملية نحو الأفضل ولا يقصد من خلاله الوصول الى الأجر الذي يقدم له مجتمعه بل الأجر الذي هو واجب مجتمعه تجاهه، وليس لعمله.

النقاط الأربعة الأولى تحتاج إلى وقفات، ولكنها قد تطول أمام الجانب الفلسفي للمجتمع وللحركة فيه وللمحركين، وقد تحدث الإمام الصدر عن العمل بالمطلق، الأمر الذي يقتضينا البحث عن تفاصيله عنده. ولكن النقطة الأخيرة تسمح لنا ان نتساءل اذا كانت الجعالة التي يتقاضاها الفرد مقابل عمله، هل هي حقه من العمل ام حقه على المجتمع؟ واذا كان حقه من العمل، فأين هي العدالة في تقييم التفاوت في الإنتاج مع التساوي في الأجر؟ واذا كان حقه على المجتمع، فأين هي قيمته كإنسان، في مجتمع كريم يحفظ لأناسيه كرامتهم.

هذه التساؤلات يضيق مداها لتنحصر بالأسرة فنتساءل:

اذا كان الهدف من العمل هو الكمال، فما هي دائرة التحرك الأسري، وما هي وظيفة أفراد الأسرة باعتبارها وحدة إجتماعية مكونة من أعضاء سليمة؟

وما هو دور المجتمع اذا اشتكى في هذه الوحدة عضو فيه؟ والشكاية هنا تعني ازدياد الحاجات التي تعرض اليها الإمام والتي تفرض اهتزازاً في العلاقات الأسرية كما ذكرنا.

وما هو دور المجتمع من هذه الشكاية ليحفظ للأسرة قدرة التهيئة لمستقبل يبنى أعضاؤه على تفتح ذهني وإشباع عاطفي واستقامة سلوك؟

هذه التساؤلات تستفزها كلمات الإمام الصدر، ولا يتسع المقام لتلمس الإجابات عليها، وهي بحد ذاتها موضوع دراسة مستفيضة، لذلك أعود إلى الإمام الصدر لأنهي وقفتي هذه بقولته: (ان الوالدين اللذين يقومان بدورهما بصورة رسالية مطلقة، وإلى درجة التفاني في خدمة الطفل، الوالدين هذين، يغمران مشاعر الطفل ويملآن عقله إيماناً وقلبه حباً ووجوده رعاية، ويعيش الطفل وينمو في هذا البحر المتدفق مؤمناً ملتزماً مكملاً لرسالة والديه، وفياً لعطائهما ولجيلهما.

والزوجان أيضاً يشكلان وحدة متكاملة خلال العطاء المطلق الرسالي الذي يقدمه كل منهما للآخر، ويقدمانه معاً للأولاد، والمهم هو نوعية العطاء لا حجمه).

1  منبر ومحراب – اعداد حسين شرف الدين – كلمات للإمام موسى الصدر – ص/164 ط/1 دار الأرقم – صور 1981.

2  مصطلحات فلسفية والشفاء ج/2 ص 292.

3  وفي كل موقع يقتضى الأمر يؤكد على تلازم التطور والمحافظة على الأصالة حتى أثبته في المادة الثانية من حركة المحرومين، ونصها:

أما تراثنا العظيم في لبنان وفي الشرق كله، الحافل بالتجارب الانسانية، المشرق بالبطولات والتضحيات والزاخر بالقيم والحضارات فهو الذي يرسم الطريق ويؤد اصالتنا ومشاركتنا الحضارية.

وفي نفس الوقت، فإن الاستفادة من تجارب الآخرين أينما حصلت بشرط الاحتفاظ بالأصالة هي دليل على رغبتنا الأكيدة إلى الكمال والتقدم ونتيجة قناعتنا بوحدة العائلة البشرية وبأن المكاسب التي ينتجها بعض أبنائنا هي ملك للجميع وفي خدمة الجميع.

4  منبر ومحراب – م.س – ص /163 – 164.

- 6  5راجع الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي مجـ 16/ص/116- مؤسسة الأعلمي – بيروت 1973.

7  يراجع الشيرازي -  ناصر مارم – الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل – مجـ/12 ص/ 450 مؤسسة البعثة – بيروت ط/1 – 1992.

8  يراجع التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي مجـ/6 ص/ 366 دار إحياء التراث العربي – بدون تاريخ.

9  الطوسي م.س.

10  شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (385-460 هـ) الفضل بن الحسن الطبرسي (ت: 548 هـ) العلامة محمد حسين طباطبائي (1321-1402 هـ) الشيخ ناصر مكارم شيرازي من مراجع التقليد في قم الآن.

11  الطوسي – التبيان في تفسير القرآن مجـ/3 ص/99.

12  يراجع تفسير الميزان-م.س.–  مجـ / ص136 ومجـ/8 ص 374 ومجـ/17 ص 237.

13  يراجع الامثل – م.س. – مجـ/3  ص/75, 76 ومجـ/5 ص 302.

14  يراجع الاصحاحان الاول والثاني من سفر التكوين في الكتاب المقدس – العهد القديم.

15  كل ما بين هلالين، هو من محاضرات الإمام الصدر وأحاديثه المحفوظة في مركز (الإمام الصدر للأبحاث والدراسات).

source