الحوار الصدري

calendar icon 13 تشرين الثاني 1996 الكاتب:حسين صالح حمادة

كلمة الاستاذ حسين حمادة في افتتاح مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار
بسم الله الرحمن الرحيم
أشلاء الزيتون ظله،
الجبل الراسي والشامخ بعض من أعماق إيمانه، وشيء من سموق جبهته وقامته. الملائكية هي نورانية قلبه منعكسة على وجهه، كل وجهه.
القدس المقدسة واحدة من صور كتابه لتنقلب إسرائيل هي الشر المطلق. الحرية بشروطها الإنسانية من ألوان رايته.
الزمن المتحرك لعبته ومن اتباعه.
الحوار بموضوعيته وعقلانيته، إن عملياً أو نظرياً، وسيلته إلى قراره وموقفه.
- من شعاراته الفصل بين القول وقائله: "لا تنظر إلى من قال، بل أنظر إلى ما قال". لقد اخترق التاريخ بصفحاته الجامعة، ليحيط بأي من جهاته استيعاباً لعطاء عقل، وخفق قلب ونورانية نفس، وعصرنة منهاج.
وأسرع الزمان ليلحق بخطاه، ولتستمد مواكبه من أطياف عقله فتستمر حركة التاريخ الفاعلة والمتفاعلة صاعدة.
كلما كان لك إطلالة او إطلاع على مسالك دروبه تقاسمتك مثله العليا إن في الإخلاص على إطلاقه، وإن في العمل الذي يختصر المسافات في العطاء وإن في العبقرية التي هي نسخة مفردة، قلة او ندرة هم الذين على شاكلته ويجمعون بكفاءة وتكافؤ وعدل بين القيادة الدينية والسياسية والاجتماعية ويبعثون اليقظة في الغفلة، ويفجرون الثورة في أعمق الأعماق من نفوس المغبونين.
قال عنه البعض: إنه التاريخ الشيعي الذي مشى على قدميه.
المطالعة أو الكتابة الدينية والفلسفية والقانونية والاجتماعية والعلمية هي شغله، بل هي هم همومه وإن كانت هي خلسة شغله الشاغل بالناس، ونومه الذي هو كلمح بالبصر.
وحسبه ان يترك الآخرين ان يقرأوا فيه احتياجاتهم ويتوسموا منه طموحاتهم وقيل فيه:
"هو كلمة طيبة في أرض طيبة، بين جنبيه يهدر طموح تاريخ، وفي فكره ترعد دورة زمان، تزحم الصفوف صفوفه، ويستثير الوقيد وقيده، ليستقيم للمستضعفين يوم، ويستطيل للمشرعين ظل، وتحركت العجلة من دفع يده ومن دفق إيمانه، لتنتفض بقاعنا من جديد في تاريخ جديد، تاريخ خط من أكناف علي، ونهجه، وإذا البلاد قبس، وأبناؤها جذوة، بطاحها رغاب وجبالها قباب، تحدو موكب الشمس، وتتعهد أفراخ النسر، جبهة تناطح الجوزاء رفعة وعلاء، وللسفوح منها حنين ومحبة وضياء، وعلى تربنا الخصيب الخضيب فارس حل، ومن جرحنا السكيب فتح جرحه فانغمس في وهجه جيل في الصخور إباء، وفي ربوعنا مذ مرّ.. دب ربيع فوق دمارنا، وتحددت آلام أمتنا"1.
لقد كان الأكثر حضوراً على شاشة مرحلته اللبنانية، فالملامح الرقيقة كما المحبة، واللحية كما السلام، والعباءة المتواضعة الفضفاضة كما العلم، والعمة العزيزة المشدودة كما الصف المرصوص في الجهاد، والتلويحة كما الراية، او كما الإشارة بـ"الله أكبر" للصلاة، والنظرة الثابتة الصارمة رؤياها آفاق، وعمقها بعيد بعيد ولا قرار، كل هذا كان معلماً من معالمه، لقد استحال امامنا كبير الرموز لمرحلته اللبنانية، لينقلب الوجبة الرمزية الغذاء المفضل، الذي يقبل على تناوله، إن في الصباح، وإن في المساء، كل من يتصفح مجلة، او يقرأ صحيفة، او يخلو إلى مذياع، او يجتمع إلى شاشة صغيرة، أو يتعشق الرسوم للملائكة او الفرسان.
والمهمة الحوارية للإمام الصدر لم تتقلص معجمية ضيقة لتقول:
حاوره محاورة وحواراً، جاوبه وراجعه الكلام، قال تعال: ?قال له صاحبه وهو يحاوره? والمحاورة: المجاوبة، او مراجعة النطق والكلام في المخاطبة، والتحاور التجاوب. لذلك كان لا مندوحة في الحوار من متكلم ومخاطب، ولا بد فيه من مراجعة الكلام وتبادله وتداوله، وغاية غايات الحوار توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلم، لا الاقتصار على عرض الأفكار القديمة، وفي هذا التحاور توضيح للمعاني وإغناء للمفاهيم، يفيضان إلى تقدم الفكر، وإذا كان الحوار تجاوباً بين الأضداد كالمجرد والمشخص، والمعقول والمحسوس، والحب والواجب سمي جدلاً.
والحوار منطقياً هو قياس مؤلف من مقدمات مشهورة، او مسلمة وغرضه إلزام الخصم، وإفهام من هو قاصر عن ادراك مقدمات البرهان (تعريفات الجرجاني).
فإن كان الجدلي سائلاً معترضاً، كان غرضه إلزام الخصم، وإسكاته، وإن كان مجيباً حافظاً للرأي كان غرض جدله ان لا يصير ملزماً من الخصم.
والجدل اصلاً هو في الحوار والمناقشة. قال افلاطون:
الجدلي هو الذي يحسن السؤال والحواب، وغايته الارتقاء من تصور إلى تصور ومن قول إلى قول للوصول إلى أعم التصورات. وأعلى المبادئ.
واقتبس المحدثون عن افلاطون، فاطلقوا الجدل على الارتقاء من المدركات الحسية إلى المعاني العقلية، ومن المعاني المشخصه إلى الحقائق المجردة، ومن الامور الجزئية إلى الأمور الكلية، وسقراط قبل افلاطون ذهب به الزعم إلى أن العلم لا يعلم، ولا يدون في الكتب بل يكشف بطريق الحوار. فالمعاجم لا تتسع لمقولات الإمام الذي منحها زخرف القول عند خطواتها المباشرة.
فإن أراد بك الحديث غسلا لقلوب، وجلاء لنفوس، فليس إلا الحوار البناء مطهراً. وان كنت في ضائقة من أمرك، وقلق في نفسك، وظلمة في صدرك، فأقم الخلوة مع ذاتك ليأخذ الحوار سبيله بين ذاتك، فليس إلا الذات تحل مشكلة الذات ?وفي انفسكم أفلا تبصرون?.
ان شئت ان تكون مع الله سراً وعلانية، اطمئناناً ويقينا، فليس إلا الحوار مع الكون، التنصت لتسبيحه، واستراق السمع لآياته، بعد ان تعرض ذاتك عليها لتسمعك قرآناً عجباً، ولتشلح عليك برد اليقين والاطمئنان.
ان قاعدة القواعد في النظام الكوني، هي حوار الكائنات، وإن جامدة، ليأخذ بعضها من بعض، ويعطي بعضها بعضاً، كما هي طبيعة الحاجة، فيكون الانسجام والشد والعقد والاستمرار.
فالحوار ليس قصراً على الكلمات اللسانية المسموعة، وانما قد يتجاوز إلى الإشارة الموضحة، والنظرة الخاصة والزورة المقبلة، والعمل الصالح، والموقف المصلح، والبسمة المشوقة، والعبوس المتهجم، حتى الصمت لا يبعد، أحياناً، ان يأتي حواراً: ?سيماهم في وجوهم?  ]الفتح: 29[.
من البداهة القول بأن الإنسان كائن عقل واجتماع، كائن علاقة وحاجة ومن البداهة القول بأن هذه الاحوال أحوج حاجاتها اللقاءات المتحاورة، ليكون المجتمع على بينة من امره وعلاقاته، وعلى تناسق مؤتلف، وتفاهم واعٍ، وترابط معقود، كما الكون بقوانينه وأنظمته، التي تجعله يحفظ بعضه بعضاً، ويستمر بعضه ببعض.
فالعقل الذي هو شرف الإنسان، مبرره مهمته التي تجعل الإنسان مقتدراً على محاورة داخله ليحاور خارجه، إن افقياً مع الأرض، وأهل الأرض، وإن صعوداً مع السماوات العلى، حتى مع الله.
والعقل ليس له ان يذهب مذهباً، وان ينتهي إلى قرار دون تثبت، اظهر وسائله الحوار الكاشف الصالح.
كلما كان الأمر على سمو، وكلما ارتفع مركز القرار، كلما كنا إلى التشاور والتداول احوج، لأن هذا القرار بمقدار ما يكون ايجابياً بناءً بصوابه، بمقدار ما يكون سلبياً وهداماً بخطئه.
فالمحاضرة وإن جمعت فأوعت وإن تعمقت، فالمداخلات والمحاورات والاسئلة والاجوبة هي التي تجلو الغشاوة، وتزيل الإبهام والريب وتعمق المباحث وتؤصلها.
وانطلقت المؤسسات على اختلافها بمجالسها الإدارية، وهيئاتها الاستشارية تعمل تلافياً لأخطاء، وتجنباً لمزالق، وكل له اختصاصه ووسائله، لأن من يدعي أنه يعرف كل شيء لا يعرف شيئاً.
فالتفرد بالرأي والموقف قد يكون حصيلة استعلاء أحمق، او غرور مهووس، او عقدة نقص غبية، وفي ذلك اعتداء وجفوة، لينقلب هذا الجافي مجفوا ويكون في ذلك خطراً على نفسه أكثر منه على غيره.
إن المعلم ليس له التلقين في التبليغ ليرتضع طفله العلم ارتضاعاً تلقينياً مباشراً، فيكرره ليجتره دون اهتضام. فالدرس حوار منهجي متدرج لينتهي إلى قرار مكين، إلى استخلاص حكيم ومبين.
تحول إلى افلاطون في حواره، واستنطاقه، لا إلى تذكره، تجد الراشد المرشد يممم شطر أرسطو المشائي في حديقته المجادلة المحاورة تجده العالم على سعة.
وتجده الذي يحسن التبليغ في حواره ومنطقة، ولا يزال معنا يرسل حواره لنستقي منه بمقدار، ونتناول منه بنصيب.
فالحوار من مؤشراته ثقة المحاور بما عنده، وتحرره من القيد والارتهان وإقباله الشغوف للتعرف على الحق إن كان سليم الطوية.
قد يكون الحوار غاية في ذاته، فلا يجلو غشاوة، ولا يكشف باطلاً او حقاً ولا يستقر على يقين، إنما الغاية هي الحوار، أو إظهار البراعة في الحوار أو اثارة التشكيك والتمويه لينقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً.
وانطلق الإمام الصدر(عجل الله عودته) في أواخر الخمسينيات على طريق حوارية واثقة موثوقةـ وعيناه كانتا فيه على الله لا على الشمس.
طريقته الحوارية، نظرياً، كانت قرآنية، وعملياً كانت على سنة الأنبياء والرسل والمعصومين من الأئمة، وكانت امتدادا لطريقة السلف العظيم العظيم الإمام شرف الدين (قدس الله سره).
والقرآن حوار عقلي إيجابي، بناء حوار منهجي بطرائقه، موضوعي بأسلوبه أخلاقي بغايته، يقيني بنتائجه، متكافئ بوسائله وغاياته، إنه حوار يربط الأسباب بالمسببات، ويعتمد المقدمات والمطارحات، الأدلة والبراهين.
إنه البناء الحواري الجدلي المتكامل، والذي يشتد حجراً إلى حجر ومدماكاً إلى مدماك، إلى أن يوافى إلى المدماك القفل، والحجر القفل، والكل في المكان المناسب والكل على اتقان وإحكام.
فالحوار القرآني معتمدة اقتناع واقناع، وتتكافأ فيه الوسائل والغايات ولا إرهاب ولا أكراه.
لك أن تقول بأن القرآن ليس إلا الحوار بجملة طرائقه واساليبه، وكان حواره التنزيل على ما يتناسب مع فطر الناس واحوالهم، يقول (ص): "إنّا، معاشر الأنبياء أمرنا ان ننزل الناس منازلهم، ونخاطبهم على قدر عقولهم" .. قال تعالى: ?إدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن? ]النحل: 125[.
"... تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ..." ]آل عمران: 64].
فالقرآن ما رفض حواراً. إنما طرائقه الحوار الواسع: إقامة لحجة وتسهيلاًَ لمدرك، وهداية من ضلة، ومجلاة لغشاوة، وبعثاً ليقين.
فالجدل السفسطة والمغالطة، فالجدل لذاته، فالجدل الغاية، لم يسلك سبيله القرآن بل طلب إلينا اجتنابه والنفور منه، كيف لا والقرآن هو كلمة الله في الناس. وإذا كان السلام في القرآن هو الأصل، فالحوار كوسيلة لتحقيق هذا السلام هو الأصل.
والحوار القرآني مدرسة المدارس، وأم المعاهد في التربية التي تنتهي إلى صناعة المواطن الصالح والإنسان الصالح.
إنه لحوار مشمول به الكل، إن في الموضوعات، وإن في الأشخاص على مساحة كل الزمان، وكل المكان.
وحاور الله في قرآنه ملائكته ورسله، كما حاور الإيمان أهله، والكفر أهله وإن كان من هؤلاء إبليس الذي لا تتجاوز جبلته الشر على إطلاقه.
والحوار بين الله وإبليس ليس لغواً، إنما هو قاعدة المناهج في الحوار وإنما له مطلات على جملة من الشؤون.
وإذا كان إبليس الذي هو الشر المطلق، كانت له رخصة الحوار على مداها فأي من البشر وإن استشرى فساده وشره، لا يجب إقامة الحوار الموضوعي معه أولاً؟
ولعل أدنى مبررات الحوار هو إقامة الحجة، وكشف الالتباس وبيان أن هوية الإنسان إنما هي عمله، وما يتأتى عنه، وبعد الحوار لا قبله كان الطرد، وكانت اللعنة إلى يوم الدين.
هل الأنبياء والرسل كانت لهم مناسبات حوار كثيرة.
"يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا"
ولو توقف بنا الحديث عند أبي الأنبياء إيراهيم (ع) لوجدنا في حواره النموذج الأمثل لكل من كانت وسيلته الحوار.
إن الحوار لا استثناء فيه بين دعوات الأنبياء والرسل إلا برد اعتداء.
إبدأ بنوح عابراً إلى صالح ولوط وشعيب ومنتهياً بموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، تجد أنهم لا ينكفئون عن الحوار من مبتدأ دعواتهم إلى خبرها، وإن كان لاعدائها غلظة القلوب، وخشونة الملامس، وفظاظة المعشر وإن كان على ايديهم كل صنوف التعويق والتشريد والتنكيل.
نوح الذي جادل قومه فأكثر جدالهم:
صالح وهود مع عاد وثمور الطغاة الجفاة.
لوط مع قومه الارذلين.
موسى مع ربه، مع فرعون المتأله، مع بني اسرائيل الذين كانوا معه كقبض الريح، أو كانوا كل ألوان النفاق، مع الخضر العالم المعلم في ذلك الحوار النموذج في الوسيلة والغاية.
عيسى مع حوارييه، مع قومه وهو طفل، مع بني اسرائيل الذين لا عهد لتعاملهم معه ومع غيره الا بالتآمر القذر.
خاتم الأنبياء محمد (ص) مع عشيرته الأقربين، مع المؤمنين المستفسرين، ومع المشركين المعاندين، مع الطائف وجماعة السفه من اهلها، مع العقبة الأولى والثانية، مع المهاجرين والأنصار، مع الملوك برسائله، مع أهل نجران النصارى.
فالحرية على مداها ويكفلها القرآن لأنها تنسجم مع طبيعته، وطبيعة الإنسان كائناً عاقلاً، وكائناً إجتماعياً، وكائناً مسؤولاً، والا فلا تبعات ولا تكاليف.
"فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
"وشاورهم في الأمر"
"وأمرهم شورى بينهم"
بهذا وبغير هذا صدر عن القرآن الكريم الإنسان الفريد، والأمة العجيبة في التاريخ والتي هي نسخة مفردة، منقطعة النظير إيماناً وصلاحاً وإصلاحاً.
"كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" .
وإنطلق الإمام الصدر، من هذه المدرسة الإلهية والكونية والنبوية بشبابه جبلاً يدخل في جبل، وإن كانت كلمته هي كلمة الشيوخ بخبرتها ووعيها وعقلها ليجمع في إنطلاقته بين ظاهرتين إثنتين:
الأولى: هي الإرادة التي لا تصدّ ولا تردّ لأنها إنعكاس اليقين، ولأنها مقدودة من القوة التي بها كان يؤمن. والثانية هي المنهج المتكامل الذي له طرائقه ومراحله، والذي يعرف، يقيناً، كيف المسير وإلى أين المصير؟
العظمة عنده، أنه كان المسرع، لا المتسرع، في الإستيعاب للمرحلة بكل مناخاتها وشروطها، رغم أن مناخاتها الألوان والألوان، وشروطها كانت لا أقسى ولا أصعب.
تلك المرحلة كانت، ولا تزال، على أمراض مركبة ومتداخلة، وحسبها التراكمات والتشنجات الطائفية التي ليست من أي دين في شيء بل هي ظاهرة ذرائعية وتشويهية.
حسبها الثقافة الشعبية التي تتداخل فيها الضلالات والخرافات والتشنجات وتنهض على الجدليات الغوغائية. حسبها الصراعات الحزبية اللاموضوعية، والتي يتحكم فيها التقوقع والإنغلاق والإنعزال والذي يأخذ بالخناق.
حسبها الهيمنات الخارجية، أو قل حروب الآخرين على أرضنا.
وحسبها التآكل الأخلاقي والإنساني في الممارسات وعلى كل الصعد.
وأخيراً حسب هذه المرحلة من ضيق وإختناق أننا أصبحنا في لعبة الثقافة المشبوهة التي لها من خلفياتها ما يثير الإشمئزاز والحذر والخوف. والتي هي حرب على الأصالة والتراث، والتي جعلتنا نعيش في وطن الغربة أو غربة الوطن.
إن الداخل على الإمام الصدر تفتح له بوابة كبرى لمدينة كبرى متكاملة لها ألف باب وباب، وكل باب يدخل بك على ما هو الأرحب والأغنى، على ما يغريك بالتشبث به دون الرغبة بالتحول عنه وإن طالت الإقامة واستطال الحوار.
تدخل عليه فلا تجد سبيلاً للخروج، وذلك للمتعة واللذة، في كلمته وبشاشته ونورانية قسماته، وللفائدة الموسوعية في خطتبه وحكمته وحواره، وما ان تلقاه حتى يؤلمك ان تفارقه.
وتوسَّم فيه الإمام شرف الدين(قدس الله سره) الخلف الصالح، فكان عنده لخصوصيات صور، وعموميات لبنان مطلباً.
وإستقرت به الإقامة في صور انطلاقاً من منزل الإمام شرف الدين وما استقرت لأن القدمين عنده في حركةالقدم، واليدين يد، والفعل ما يشاء الإيمان الصلب، والعزم الوثيق.
وشرع التحرّك الصدري بسيارة "فولكس فاجن" المرهقة في رحلته، لتقطع به الطريق ما بين المايتين والمايتين وخمسين كلم يومياً، ولا تتخلف رحلته عن قرية جنوبية أو بقاعية أو شمالية أو جبلية، أما بيروت فاتركها له المحطة، ورحلاته اللبنانية التي كانت ليله ونهاره، كانت مع مختلف الفئات موعد لقاء أو حوار. سواء اتفق في حواره مع الناس أم اختلف، فالأهم أنه ما يلبث أن يترك الأثر الذي لا نسيان له عند أي من الناس الذي يلتقي بهم، ليجمع كل عارفيه على أنه ليس العاديّ ولا السهل بين البشر، وانه من طينة تختلف عن جملة الذين طرحوا انفسهم أو طرحتهم الوراثة لمواقع القيادة والسياسة، لأنه كان أحد مشاعل النور على الجبل العاملي، وعلى التاريخ العلمي والعاملي، ولأنه كان الجديد والجديد وان اتكأ على ثوابت لا تتحول.
من الجديد اللافت أنّ المحاور في منتداه، كان مقبولاً بما هو عليه، وإن كان جافياً، أو منغلقاً، أو خلواً من متطلبات الحوار وشروطه، لأن كلمة الحوار متى بدأت خطاها في مشروعه لن تتوقف بها الطريق وإن كانت أشواك، وإن كانت ذات تجعّدات، فالمسافة الزمنية الواعية والمتحرّكة الفاعلة والمتفاعلة كفيلة بالقناع والاقتناع وكفيلة بالتعليم ومنه التعلّم.
عن أي موضوع من موضوعات حواره ينطلق بنا الحديث؟
وما أكثرها تلك الموضوعات.
وإن كانت العقيدة قطب الرّحى في مناسبات نشاطه الحواري الدؤوب.
فالحزبية السياسية كان لها من حواره نصيب أيّ نصيب، والثقافة والعلم كان لهما نشاط أي نشاط في هذا الحوار المديد. أما الحالا ت الإجتماعية فقد كان لها الحضور الشاخص واللافت في المدرسة الحوارية لينتهي إلى موقف رائد من التسول، وإلى حركة نوعية مستجدة في أرضنا هي حركة المحرومين المغبونين وحركة المؤسسات الناجدة، والتي تزيل من أمرنا رهقاً، وتكفكف من ويلاتنا الإجتماعية ليكون لنا من ضنكها مخرج وفرج، بالأيدي المتكافلة، والطاقات المجتمعة، أو قل لينتهي هذا الحوار إلى الحركة الإجتماعية التي هي حاجات الحاجات اللبنانية.
وإن كان لنا من نسيان فلا نسيان لحواره المجاهد ومنبره المعلم ومنتدياته المزروعة في كل الأرض اللبنانية تحاور عن موقف، وتحتضر في مبدأ وتناقش عن قرار يقول: إسرائيل هي الشر المطلق. التعامل معها حرام وفلسطين قضية قضايانا.
كان عند إمامنا لكل حوار مصدره وجوهره، أساسه ومنطلقه، مبتدأه وخبره.
وكانت لهذا الحوار منتدياته ومجالسه ومنابره وصحفه، اذاعاته وزياراته وتجواله ومحاضراته وإعلامه ومحاضراته فدخل هذا الحوار كل بيت، ليدخل كل قلب، ويتواصل مع كل فكر ويتعامل مع كل توجه.
كان لهذا الحوار منهجية عملية انسحبت زيارات بادئ ذي بدء لتحيط علماً بكل لبنان، جغرافياً وتاريخياً، وعادات وتقاليد وأعرافاً، سياسياً واجتماعياً، وثقافياً وسياسياً، دينياً واقتصادياً، حزيباً وفئوياً.
لا منطقة، ولا مدينة، لا قرية مسلمة كانت أو مسيحية إلاّ وكانت في لائحة مشروعه الحواري المتجوّل.
وانتهى إلى استيعاب المرحلة بكل عقدها وعلى عجل، فالمرحلة لها بطن وظهر، ولها تقاليدها الغامضة المتوارثة منذ القدم، والتي نمت في ضمير الشعب، من توقه إلى الأحداث المدهشة الخارقة ننسبها إلى الدين وليست من الدين كما في قصص الأنبياء والأولياء والقديسين، وكما في أذهان العامة عند مختلف الفقراء.
واستوعب المرحلة بخلفياتها وأبعادها وحساسيتها وأدرك أنها فعل استشراق مشوه، وتبشير مزوّر وإرساليات حاقدة، وسياسات متاجرة، وطائفيات ذرائعية براغماتية وعصبانية متشنجة جاهلة، لقد شخص الداء وتجوّل يعطي الدواء الشفاء.
وميزة حواره أن لسانه كان في قلبه ووعيه، وكان السهل الممتنع، وكان النموذج في موضوعيته وتناميه، وكان الليّن الطري الشفيق، وكان يعرف كيف يقدم ويطرح ويبرهن وكيف يستخلص ويحكم، ويذهب إلى قراره المكين وحكمه المحكم الأمين والمتين. كان حواره بوسائله قرآنياً. بأهدافه قرآنياً لتتكافأ غاياته ووسائله، وكل من هذه الوسائل والغايات حق، والحق لا يضادّ الحق بل يوافقه ويشهد له.
يمكن القول أن الحوارات الصدرية هي اختصار للكتب السماوية بطرائفها وغاياتها، كما هي اختصار للحوارات النبوية مع الآخرين.
وكان للإمام الصدر التركيز في حواراته على مسألة خلافة الإنسان في الأرض.
ألم يكن للقرآن قوله:
"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" [ البقرة:30 ]
" يا داود إنا جعلناك في الأرض خليفة فاحكم بين الناس بالحق? [ ص:26]
وهذه الخلافات استحقها آدم بقدرته وعلمه وكفاءته، ولكن آدم ليس إلاّ الممثل الأول للخلافة.
لذلك انسحبت هذه الخلافة على كل الذرّية الآدمية على مساحة أو امتداد التاريخ.
"إذ جعلكم خلافاء من بعد قوم نوح" [ الأعراف:69]
"وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" [الأنعام:165]
بهذا الإعتبار فالبشرية هي المكلفة بالرعاية الكونية، والتدبير الإنساني، بل هي المنوط بها السير في الطريق المرسوم للخلافة الالهية في الأرض، أو قل هي المندوبة لإعمار الكون بجانبه الإجتماعي والطبيعي لأنها القادرة على استغلال طاقاته واكتشاف أسراره، ومعرفة قوانينه وأنظمته.
ألا يعني هذا أن البشرية على اختلاف جنسياتها تنتمي إلى المركز الواحد والمحور الواحد الذي هو الله المستخلف؟
أليس هذا التوحيد المطلق هو الذي نهض عليه كل دين سماوي، وحملت لواءه كل ثورات الأنبياء والرسل؟
أليست هذه الخلافة قضت بعلاقات اجتماعية تحرّر الإنسان من العبودية لغير الله، أياً كان ذلك الغير: حجراً كان أم بشراً كوكباً كان أم حيواناً.
هذا الإستخلاف يجسّد الأخوة العامّة في العلاقات الإجتماعية بعد القضاء على صفوف  التسلط وألوان الإستغلال.
وهذه الأخوة تنتهي إلى أن الناس متكافئون متساوون كرامة وحقوقاً. إن الخلافة أمانة، والأمانة مسؤولية وواجب، والمسؤولية حرية في السلوك والعمل وإلا فلا بناء ولا إعمار، لا صلاح ولا إصلاح.
فالخلافة هي الحركة الدائمة التي تتوقف بها الخطى نحو قيم الخير والعدل والقوة، نحو الله، نحو المطلق.
هذه الركائز هي ملتقيات بين سائر الناس، وسائر الأديان، ولا هم بعد ذلك ولا حرج إن اختلفت الوسائل والتعابير.
هذه الركائز لها مفهومها الواحد الذي ينعكس روحانية على المؤمن في تحمله المسؤولية إن استوعب معنى الخلافة المتوارثة عن آدم، والميثاق المأخوذ من ظهور بنيه، او كان له تأمل واعٍ لقول القائل:
"صار للإنسان الضعيف المحدود مملكة الله غير المحدود لأنه مثال الله وصورته، وهذا يستحق ان يكون مستودعاً لمشيئة الله"2.
من هذا كله نلاحظ أن الاستيحاء الفكري للمؤمنين واحد. وليس للمؤمن أن يفكر إلا بما يفكر به مؤمن آخر وإن اختلف صنع التعابير.
فالثابت هو الإيمان بالله الواحد الذي يتمثل به المؤمن في العدل والقوة والمحبة والعلم والقدرة، والحق ورفع الظلم وغيره من القيم.
الثابت أن دين الله واحد تنزل على الآلاف من الأنبياء والرسل، مزامير وتوراة وانجيلا، وقرآنا، بمفهوم واحد لأخلاقيات يتبنى عليها الإنسان الخليفة ولمهام تحددت بإعمار الكون، تلك القيم، وهذه المهام هي الثوابت للإنسان الالهي لأنها الثوابت في المشيئة الالهية، التي استمرت في صلب الرسالات وكل من آمن بالثوابت الالهية فهو ضمن نسيج واحد مهما كان غلاف حضوره البشري، ولا يفترق عن المؤمن إلا من اعتمد مكونات ثقافية مغايرة، من هنا يمكن نفي التعددية الثقافية في لبنان في النظرية القائمة على أساس تعدد الأديان على أرض لبنان3.
"إن الإنسان خليفة الله في الأرض بالعلم والإرادة فالوصول إلى هذا المقام المنشود، والتصرف في الكون، والتسخير لوقاه لا يمكن إلا بمعرفة الأسباب وتعلم الأسماء (على حد التعبير القرآني). وكل خطوة في سبيل معرفة الحقائق، واكتشاف قوانين الكون، في أي حقل من الحقول، خطوة نحو الهدف المقدس المهيأ للإنسان، وتحقيق للغاية التي خلق الإنسان لها. وأداء لواجبه الكوني.
وقد كلف الله الإنسان السير في هذا الخط في مراحل ثلاث: بالفطرة، بدعوة الأنبياء، وبالمصائب والمحن الناتجة عن تقصيره او قصوره"4.
إن المبادئ النظرية والممارسات العملية، التي قام بها الإمام الصدر تنتهي منهجاً تربوياً روحياً قوامه صلاة المحبة، وصلوات الضمير، ومنحاه توجه وطني رفضاً للفرز الطائفي، وتحليلاً للتاريخ، وسعياً حثيثاً للوحدة الوطنية، وإقامة للمشروع الحواري الإسلامي المسيحي ، معايشة للحدث، ومشاركة عامة من خلال شرط العمل بالدين الذي يحيا على ضوء الحدث اليومي وليس من خلال المستحدثات والطوارئ.
وشرف الإمام الصدر بتحركه الذي كان منظوراً إليه هو بانتمائه إلى دين وتطبيقه لتعاليم دين يحفزه على هذا التحرك الميمون، التحرك الذي مهمته مد يد التغيير في سبيل الصلاح والإصلاح في كل شأن وكان شعار الإمام الصدر الدائم في مشروعه الحواري قوله تعالى:
"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ..." [آل عمران: 64] وكانت وسيلته الحوارية تتناسب مع فطر الناس ومستوياتهم، واتجاهاتهم آخذاً بقوله تعالى:
"إدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن" [النحل:125].
الإمام الصدر كان المدرسة النظرية والتطبيقية لجيل مسلم ومسيحي، وكان المدرسة التي من مبادئها احترام الإنسان وخدمته وقبوله أياً كان دينه وأياً كان معتقده، إلى جانب النصرة المطلقة للمظلوم والمقهور بقوة، والتمسك بالحق مهما قويت شوكة الباطل، والايمان بالعيش المشترك في هذا الوطن. فالشر في ميزانه هو الشر إن كان ألواناً وغالباً، والخير في قاموسه هو الخير وان كان غريباً ومغلوباً.
وأدرك إمامنا ان الدين هو التزام بإسلامنا عن طريق الالتزام بالله، فاذا به يؤمن بتحديث الأساليب التثقيفية الدينية بالطريقة التي تتلاءم مع ثقافة الإنسان الجديد، وحضارته وكيفية تفكيره.
لقد كان محور نشاطه الحوار لأن الحوار في مشروعه الوطني والإنساني هو اعلان لوعي دينه، وشمولية مهمة هذا الدين، لذلك هو مؤمن ينطلق في علاقاته مع الإنسان الآخر من إيمانه الذي يحركه. لم يعتقد بأن الديانات بجوهرها تحتاج إلى الحوار، لأنها واحدة ومصدرها واحد وغايتها واحدة، والسيد المسيح له تلك القولة المشهورة، "ما جئت لأنقض، بل لأتمم".
فالحوار الحق في نظرية إمامنا، لا يكون بين الديانات، والمناهج الفكرية بقدر ما هو علاقة بين الاشخاص والجماعات الحية، لذلك لا بد من اللقاءات ومد الجسور ليشمل الحوار جملة الشؤون الحياتية بالتصور الصادق، والنية الصافية والمحبة المطلقة. لقد كان يؤمن بأن الحوار يتوزع على أربعة من العناوين: حوار الحياة، وحوار القلب، وحوار الكلام، وحوار الصمت، وهذه العناوين كلها تنتهي بغاياتها إلى الله، انطلاقاً من التحرر وانتهاءً بالتحرير.
فالحوار الحياتي هو التعايشي وهو الذي يتجسد في الحركات الاجتماعية كما كان الشأن في اللقاءات الناشطة بين إمامنا وبين المطران غريغوار حداد وأضرابه في حركته الاجتماعية.
والحوار لم تكن غايته عند إمامنا التخلي ولا الإلغاء، إنما معناه ان يفهم كل واحد ايمان الآخر كما يعبر هو عن ذاته، وإلا فهو حوار التجريح لا حوار الروح والحياة والاعمار.
واذا كان الحوار حراً كان تجربة عميقة يصغي فيها المتحاورون لصوت الله الذي يتكلم في كل قلب، وفي كل ضمير، في الصمت ينبغي ان يبدأ وينتهي الحوار الصحيح، في فن الاصغاء إلى الله وتفهم مشيئته والعمل بها، وبذلك يكون الصلاح والإصلاح، وتكون اعادة بناء مجتمع تسوده الحرية والعدالة والمساواة على اساس احترام القيم الروحية، والملتقيات الدينية والإنسانية.
من هذا المنطلق كان لا بد عند إمامنا من لقاءات فكرية تطال الكثيرين لازالة غشاوة، وهداية من ضلة وتنمية شخصية، وتعميق خبرة ومفاهيم بأسلوب ديمقراطي مع التشديد على أهمية التلاقي كمظهر للتواصل والتعاون والعيش المشترك وعدم التعصب والانغلاق، وانطلاقاً من الايمان بالانسان على أنه أغلى قيمة كونية، وقبول الآخر وللتعاون معه بصرف النظر عن موقفه الفكري أو الديني او العرقي لأن الخصوصيات البشرية والتمايزات هي مصدر غنى وليست سبباً للخصام والجفوة فالتفاعل المسيحي الإسلامي في لبنان ميزة حضارية تترك بصماتها الايجابية على كل صعيد.
إن الإمام الصدر وقف عمره للدعوة إلى الله، والاصلاح بين الناس، وخدمة المجتمع وإعداد جيل صالح.
لقد دخل في تجربة الله فكان داعية إلى الخير والسلام والمحبة، وآمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر. وخاض هذه التجربة بعقيدة صادقة، ونفس مخلصة، وإرادة نافذة معتبراً الروحانية الصافية هي الانتماء إلى الله الواحد قبل غيره، والتي تنادي بها كل الاديان السماوية وتجسدها، كان معتمده لله، والتزامه كان بالحق وطريقته كانت الحوار لتنجح تجربته أي نجح، وتظهر آثار دعوته بين المواطنين وتلقى الآذان الصاغية عند المؤمنين، وتحقق الكثير من تطلعاته المستشرفة.
فالعالم الجديد يحتاج إلى ما يشبه الرسل كما يقال: "خرج الزارع ليزرع وخرج إمامنا في جولاته وإلى حواراته الإمامية ليزرع كلمة الله لغذاء الإنسان والحياة عند كل اللبنانيين، لكن ظروفاً قاسية رافقت الزرع والزارع من الداخل والخارج، وهبت الرياح بتعثر حبوب المنطقة الذهبية، وتلقحت حقول شتى بزرع الزارع وبكلمات الحياة، فالروح يهب حيث يشاء، وحسب إمامنا الزارع ان يكون الزرع هو كلمة الله، وان يكون الحقول في لبنان.
لقد كان إمامنا جماعة في واحد، ومؤسسة خير في انسان، ومعابد في متعبد وعاملاً في شعب، ومصلحاً في بيئة ومحيط. آمن بالله لكل البشر، وبالخير لأي إنسان ولكل انسان وبالعدالة والمساواة، وبالطوائف لا بالطائفية.
لقد ترجم إمامنا الاسلام خاصة، والاديان عامة عطاء انسانياً بلا حدود ودون تمييز بين دين ودين لأن الانسانية في نظريته، لا هوية لها بل هي هوية بذاتها تؤكد صلة. الانسان بالله، بما هو الحقيقة المطلقة.
لذلك فالإنسان، عنده قبس إلهي له قيمته الذاتية وكرامته وحريته بقطع النظر عن انتمائه إلى دين معين، او طائفة معينة.
لقد كان المحاور الديني، وإن كانت الديانات لا تحتاج إلى حوار في احلك الاوقات وفي ظروف طغت فيها احداث الغرائز على أصوات القلوب والعقول والضمائر، وطغى فيها التعصب والتشنج على العقل والتعقل والتبصر، فكان صوته مبلسماً لا زيتاً على النار، وكانت مواقفه انقاذاً وهداية.
لقد كان حواره الديني ليسرع إلى رجال الدين من جملة الطوائف، لأنه في نظريته يجد الواحد في الآخر فرصة لتجسيد مفهومه عن امكانية تخطي المنطق الطائفي المغلق الذي تحول إلى أداة لانعاش الحرب الاهلية القذرة، والمهم ان هذه الامكانية تجد اصولها في الاسلام والمسيحية نفسهما، وليس بالتواطؤ على عزلهما جانباً كما يحاول البعض أن ينظر إلى الوحدة الوطنية في لبنان. فالمسيحية والاسلام يشكلان دائرة اساسية من دوائر الوحدة المنشودة، والخروج منهما لا يفضي إلى الوحدة بل إلى المزيد من فقدان الضوابط والقيم المشتركة التي تشكل النسيج الحي، والعميق لوحدتنا الوطنية.
قال إمامنا يوماً:
المواطنية الحقة هي اجماع المواطنين على شجب التمييز الطائفي لرفع مستوى حياة الكادحين والمحرومين.
- إن في لبنان طائفة المستأثرين الطغاة المحتكرين، أفرادها موجودون في كل الطوائف الدينية.
- أنا للجميع وإن كان هناك من يعتبر نفسه خصمي، فأنا لست كذلك.
- موقفنا في الأساس يعتمد على النضال المستمر بأساليب ديمقراطية لتطوير لبنان ورفض الطائفية السياسية، وإقامة العدل والمساواة وتكافؤ الفرص.
- كانت الأديان واحدة، تهفو إلى غاية واحدة، كما كانت حرباً على آلهة الأرض والطغاة ونصرة للمستضعفين والمضطهدين.
- المطلوب إزالة الطائفية رضيعة النظام اللبناني التي أوجدت تفاوتاً ثقافياً وعلمياً واقتصادياً في المجتمع، والمطلوب إزالة النظام الذي كرس العقل الطائفي السلبي وصان امتيازات لطوائف معينة لان النظام الطائفي في نظامنا يصنف المواطنين منذ ولادتهم. ويفرغ التعاليم الدينية من محتواها، ويحد الطموح الإنساني، ووصول الكفاءات إلى مواقع الاستفادة منها، وفي النظام الطائفي الحالي لم تتحقق المساواة، وتوزع الزعماء المغانم على موائد الاجتماعات والطعام وبقي الشعب محروماً.
- لبنان ضرورة حضارية للعالم نتمسك بوحدته ونصون كيانه واستقلاله.
- فالطائفية يحاربها لأنها ليست من الدين، إنها بدعة، وكل بدعة ضلالة، إنها معلم فساد وإفساد، وإنها تجارة رجال الدين والسياسيين والمنتفعين باسم الدين، فالاديان توحد ولا تفرق، تجمع ولا تبعثر وتقوي ولا تضعف، تعدل ولا تظلم.
وقدم إمامنا من ايران، وكلمح البصر، كان له الاندماج بالحالة اللبنانية وشبكتها وكان له الاقتدار على الوقوف على هذه الحالة بعروقها وأوردتها ونبضها وظاهرها وباطنها.
ولعل غيره يستمر اجنبياً لزمن طويل في لبنان، لكن عبقريته والتزامه، لكن مهمته الرسالية، لكن نشاطه المميز، لكن صفاءه ومحبته اختصروا له المسافة، لكن ذاكرته التي، لم تكن مقطوعة، أو منقطعة عن ولادة اجداده في هذه الأرض وهجرتهم منها، اتاحت سرعة الاستيعاب، وسهلت له تلك الحركة الحوارية التبادلية وزودته بتلك القابلية للارتفاع الدائم فوق السلبيات والنفعيات.
من قم جاء، من هذه الروحية العالية. قبل:
"قديم قديم، من القرن الهجري الاول ... من زمن النخل والفتح ... وحديث حديث، من أحدث الجامعات ومراكز الابحاث، من الواقع حد هذه الترابية ومن العرفانية جاء الإمام الصدر، من هنا لم تكن معركته مع الحداثة، كانت معركته مع المظاهر والاعراض والظواهر المرضية للحداثة في الفكر والسلوك، ولم تكن معركته مع الاصالة، لقد كانت له معركة مع المهاجرين إلى الماضي تخففاً من هموم وأعباء الحاضر والمستقبل وهروباً منها".
وفتح المغاليق لاستحضار التاريخ واستعادة النافع والجميل، واستبعاد الضار والقبيح، الاقلاع نحو العصر، نحو الغد، في سفينة واثقة ثابتة، يلتفت ربانها إلى الإمام وإلى الوراء، ذات اليمين وذات الشمال، وذات الوسط، إلى الأعلى وإلى الأسفل، إلى حركة الموج، وحركة الرياح، وحركة الأعماق وإلى الآفاق البعيدة وإلى مواطئ القدم، ويثبت الصاري ليؤمن الوصول، ويأمن من عثرات الطريق وكان الإسلام هو الهادي لهذه الرحلة ومرشدها.
وبدأت خطوته الأولى من صور خلفا عظيماً من دار عظيم.
السلف والخلف تحدرا من أصلاب شامخة واحدة، وكانت لهما دعوة هي نبات قرآني وذات نكهة محمدية وميزة علوية، ووثبة حسينية، كونت لهما بدورها وحدة موقف ووحدة خطاب في الدعوة إلى الوحدة الاسلامية والوطنية والانتماء العربي، وإلى الحفاظ على الوطن عامة وعلى جبل عامل خاصة وإلى مقارعة الاستعمار والصهيونية ومحاربة الظلم والفساد والعمل من اجل حياة افضل ووضع أمثل5.
وكان مشروعه الحواري الديني وغير الديني منهجاً وان كان المشروع كله ديني الروحية، خطى هذا المشروع اولاها كانت صورية.
وانطلقت إلى المنابر إلى المساجد إلى النوادي، إلى المطرانيات، إلى الكنائس إلى الكهنة، إلى المدن والقرى المسيحية والاسلامية حتى كانت التغطية على مستوى لبنان، وكان لنا شرف صحبته وخاصة في الشمال الذي اعتبره من مكتشفاته الحوارية كرجل دين وتجسد حواره المذهبي في صور بصحبة المرشد الازهري الشيخ محي الدين حسن الذي كان من الوعي والانفتاح، من القرب والتعاون ما جعله رفيقه الدائم في مجالسه ومناسباته، على منابره ولقاءاته في صور، ما كان في صور مناسبة غدير او عاشوراء، أو ليلة رمضانية في نادي الإمام الصادق او في المسجد القديم إلا وكانت المشاركات المنبرية. وكثيراً ما كان إمامنا يلاحظ في مناسبات اخوتنا أهل السنة، وكأنه منهم وفيهم وإليهم وكثيراً ما كان الشيخ محي الدين في مناسبات الشيعة وكأنه من الشيعة وفيهم وإليهم.
وقال إمامنا رداً على سؤال:
"ليس بين الشيعة والسنة اي تناقض، فهما مذهبان لدين واحد"6.
وقال ايضاً:
"إن وحدة الكلمة لا يجوز ان تبقى شعاراً مرفوعاً او كلمة مكتوبة بل يجب ان تكون ومضة الفكر، ودرب السلوك، لأنها البعد الأساسي للمستقبل، ولا يكون ذلك الا ببذل عناية فكرية خارقة من اجل تكريسها"7.
وأهل السنة رغم القلة فإنهم كانوا في مناسبات إمامنا ومجالسه ليسوا القلة وما ذلك إلا لأن إمامنا قد كشط غشاوة التوهمات الشعبية عن اذهانهم وأزال الحساسيات من نفوسهم، وقربهم منه بالدماثة والحلاوة لخلقه، ألم تكن لنا قراءة لخطاب قرآني للنبي (ص):
"ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ..." [آل عمران: 159].
سئل يوماً:
الكنيسة الكاثوليكية منذ البابا يوحنا الثالث والعشرين حتى الآن تعيد النظر في المقاييس والطقوس، فهي تقرب بين الطوائف المسيحية وتبحث عن طرق لإعادة جمع المسيحيين والالتقاء مع الاديان، هذا الجهد نحو التجدد والحداثة، ما رأيكم ان يبادر الاسلام إلى شيء يوازيه فيجمع بين فئاته المختلفة، ومللة المتعددة، وأية فئة تفتقدها ستأخذ المبادرة في هذا الصدد؟
الحقيقة ان ضمن التعاليم الإسلامية عناصر وتعاليم كثيرة، تسهل مهمة التطوير بصورة دينية مقدسة، ولعل كلمة الاجتهاد هي تعبير تقريبي عن هذا المبدأ، اما تطوير الطقوس فان هناك نوعين منها: العبادات التي تسمى الطقوس عند البعض وفي الحقيقة ليست من الطقوس بل هي ذات مفعول عميق على الإيمان وعلى التربية الاسلامية، وان هذه العبادات لا تقبل التطوير في الاسلام لأنها تمثل تكريساً مستمراً للإيمان بالغيب عند المؤمن.
والنوع الثاني من الطقوس كالشؤون والأعياد والمواسم الدينية والحفلات والملابس الخاصة برجال الدين وتنظيم المعابد، وأمثال ذلك، من الممكن تطويره من قبل المسؤولين الكبار بكل سهولة، وفي خصوص تقارب المسلمين على مختلف فرقهم، فان هناك جهداً حثيثاً عميقاً في هذا السبيل كان عن طريق دار التقريب بين المذاهب الاسلامية التي اسست قبل ثلاثين عاماً في القاهرة وفي أمثالها من المؤسسات وان هذه المحاولات العميقة اعتقد انها تحل المشكلة او تخففها بصورة اساسية وفي ضوء ما قلنا نجد المساعي قد بدأت من الجانب السني والشيعي، وقد انضمت إلى مؤسسة التقريب الطائفة الزيدية، ولا شك ان هذا الاحساس عميق في نفوس المسلمين عموماً، ويتجلى وينمو عبر قادتهم المخلصين8.
الواقع ان في تعاليم الاسلام بذوراً حية وواضحة لتطوير الأحكام الإسلامية، وهناك مفكرون اسلاميون أمثال جمال الدين الافغاني، ومحمد عبده والشهيد محمد باقر الصدر والإمام شرف الدين عملوا في حقل التجديد فكانوا اصلاحيين ثوريين دائماً، ومن مطلات الزمن نلاحظ العلماء الذين يزرعون الآراء الجديدة، والأفكار الاصلاحية المتطورة، وان المجتمع العلمي يتلقى هؤلاء العلماء بالارتياح والتشجيع.
ولا بد لنا من التوقف عن الكتاب الذي وجهه إلى سماحة مفتي الجمهورية فور انتخابه رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. يقول سماحته:
ها نحن نضع تجربتنا المتواضعة بين أيديكم، وكان قد سبق وعرضت في أول لقاء بيننا في دار الافتاء الاسلامية منذ اربعة اشهر، ان توحيد كلمة المسلمين وعقولهم وقلوبهم، وبتعبير أدق ان تعميق وحدة المسلمين وجعلها على ركائز فكرية، وعاطفية متينة يتحقق بطريقين:
1-     توحيد الفقه
2-     طريق المساعي المشتركة.
فالصرح الاسلامي الواحد في الاساس، والأمة الواحدة في العقيدة والكتاب والمبدأ والمنتهى بحاجة إلى وحدة في التفاصيل ايضاً، وتوحيد هذه التفاصيل المختلفة أو تقريبها، أمر لم تفت رؤياه الكبيرة، سلفنا الصالح من علمائنا الابرار (قدس الله سرهم) منهم الطوسي في كتابه "الخلاف" والحلي في كتابه "التذكرة" في الفقه المقارن، ودار التقريب في مصر التي من علمائها وفقهائها الافاضل الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد المدني وكبار علماء المسلمين في لبنان وإيران والعراق، كالإمام شرف الدين والبروجردي والسيد صدر الدين الصدر في كتابه "لواء الحمد" الذي هو محاولة لجمع كل ما رواه المسلمون في مختلف فرقهم عن النبي (ص) في سائر حقول العقيدة والشريعة ليكون مرجعاً للمسلمين بعد القرآن الكريم، وبتعبير أدق سعة لتوحيد السنة النبوية المطهرة إلى جانب ما وضع بعض الاعلام في هذه الفترة من ابحاث وكتب حول الفقه والمذاهب الاسلامية منها كتاب "الفقه المقارن" لمحمد تقى الحكيم عميد كلية الفقه في النجف الاشرف، ولا ننسى الموسوعة الفقهية التي وضعتها جامعة دمشق وموسوعة عبد الناصر للفقه الاسلامي التي وضعتها جامعة الازهر. ان هذه المساعي البناءة بدأت تعطي ثمارها في فتاوي فقهاء المسلمين وتؤكد اننا اصبحنا على مقربة من وحدة الفقه بإذن الله.
أما طريق المساعي المشتركة التي قال بها الكتاب فمنها:
أ- الأهداف الشرعية المحضة مثل توحيد الاعياد والشعائر الدينية وصنع العبادات كالآذان والجماعة.
ب- الأهداف الاجتماعية.
ج- الأهداف الوطنية ومنها:
- وجوب المشاركة الفعلية لتحرير فلسطين.
- وواجب دعم المقاومة الفلسطينية المقدسة.
- واجب حماية لبنان من مطامع العدو الغادر.
- ضرورة الاستعداد التام والتعاون الكامل مع الدول العربية الشقيقة لمواجهة العدوان المحتمل في كل لحظة.
- وموضع تحصين الجنوب بصورة خاصة وكل لبنان بصورة عامة ليصبح قلعة عليها تتكسر قرون اسرائيل وتبدد مطامع الاستعمار.
ان المبادئ بأهلها او تكاد.
ولو تحول بنا الحديث إلى المسيحيين في حواره لكان له محطات ومحطات.
وكان مدخل حواره معهم فتواه القائلة: بأن طعام أهل الكتاب في الأصل، ليس على نجاسة، وهم اطهار المظهر طالما لم نلمس النجاسة العينية عليهم. ولم تلبث النظرية ان استحالت إلى تطبيق عندما انطلق بملأ من حوارييه إلى حانوت مسيحي في حي مكتظ بالمارة والمقيمين ليتناول الطعام والشراب، وكأنه كان ينادي حين كان يتناول ما يتناول: أيها الناس: مسيحيين كنتم ام مسلمين لي اشخصوا ولمبادئي انتبهوا ومنها تعلموا.
وكانت المودة الحميمة بينه وبين النصارى استفادة من قوله تعالى:
"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنو الذين قالوا انا نصارى ذلك لأن منهم قسيسين ورهبان وإنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا، فاكتبنا مع الشاهدين .."
وتعمقت المودة بالحوار على المنابر وفي المجالس والزيارات، فالعلاقات خاصة بينه وبين المطارنة والقسس والرهبان الذين منهم المطران يوسف الخوري والمطران خريش، والمطران غريغوار حداد، والمطران بولس الخوري وغيرهم.
ان محاضراته في دار العناية في الصالحية في صيدا، وفي الكبوشية في البترون، وفي "الندوة اللبنانية" وفي بيروت وفي الجامعة الاميركية لهي مؤشر بالغ الايجابية في حواره مع المسيحيين خاصة، ومع اللبنانيين عامة.
قال يوماً مخاطباً رئيس الجمهورية عندما زاره يهنئه بانتخابه رئيساً للمجلس الشيعي:
"ان من يظن ان وجود الطوائف المختلفة في لبنان وتنظيم شؤون هذه الطوائف من اسباب ضعف الاحساس الوطني القومي، فقد ينظر إلى هذا الأمر من خلال زاوية ضيقة بل الطوائف المختلفة المنظمة منطلقات للتعاون، ونوافذ حضارية على مكاسب لمليارات من البشر في هذا العصر وفي العصور الماضية تدخل هذه التجارب على لبنان وتتبادل وتكون جسماً واحداً لا يمكن ان ينقص عضو منه وبالتالي يقوي الوحدة الوطنية والانسانية وفيما يخص مجلسنا فاننا نعلن اننا على استعداد كامل للتلاقي مع جميع المسلمين لخدمة الاسلام ديننا العزيز وللسعي لأجل تقارب أبنائه وتوحيدهم وعلى استعداد كامل للتلاقي مع جميع الطوائف لخدمة الدين والأخلاق والحفاظ على هذا الوطن الغالي"9.
ومن جانب آخر أليست إقامته لمركز المجلس الشيعي الأعلى في الحازمية مبادرة حوار جريئة وتعايشاً مشتركاً يشد الوحدة الوطنية ويدعو إلى السلام؟
لقد حاور وحاور وباقبال وثقة، بمحبة وموضوعية، بجرأة وشجاعة خدمة للدين والوطن، لقد حاور متقبلاً محاوريه كما هم عليه، لأنه يعتقد ان مرحلة الحوار كفيلة بالكشف والاقناع والتغيير والتقارب. لا تثريب عليه إن انتفت القابلية لدى المحاور لأن النهر لا يفرق بين الصخور والحقول، ولأن الشمس لا يهمها اين تقع منها الضياء، لأن إبليس محال ان ينقلب ملاكاً، ولأنك لا تهدى من أحببت إن الله يهدي من يشاء.
ولعل إمامنا في هذا الحوار نهج نهجاً علوياً، قيل: اتفق بأن أمير المؤمنين التقى يوماً وهو في طريقه إلى الكوفه برجل، فاتفقا على الصحبة لأن بينهما بعضاً من الطريق مشترك، الرجل كان نصرانياً ولم يكن يعرف أمير المؤمنين وكان الوصول إلى مفترق طريقهما، لكن أمير المؤمنين تحول إلى طريق صاحبه مشيعاً مما بعث التفاته لصاحبه، فقال: هل أخطأت الطريق أم عدلت. فقال أمير المؤمنين لا ولكن أشيعك بعض الطريق كما علمنا نبينا إذ قال: للصاحب عليك حق الصحبة إذا ما استفدت منه، وانا قد استفدت بصحبتك، ولك علي حق التشييع، فكان لهذا الصاحب تعليق يقول: الآن عرفت سبب انتشار الاسلام في قلوب الناس، وان نبيكم لعظيم، وكان الافتراق، وكانت لهذا الصاحب بعد فترة حاجة يقضيها في الكوفة ودخل على دار الإمارة، فرأى ان الذي يجلس على مسند الإمارة إنما هو صاحبه، فأسرع إليه مقبلاً يديه ومعلناً اسلامه وانتهى من اهل التقوى والوفاء والصحبة ومن المقربين.
ولقد كان يعتبر المحاورات محاولات متواضعة لتأدية الواجب الإلهي المكلف به ودفعاً للشكوك من اجل تثبيت اليقين وتحويله إلى إيمان في نفوس الذين يحاورهم مما ينعكس على ما لديهم من أفكار وعواطف لينتهوا إلى عناصر صلاح وإصلاح في المجتمع.
لقد تمكن ان يغزو العقول والقلوب في حواره الاخلاقي والفكري والديني.
كان يعمل ما وسعه العمل على تفهم ما في نفس المخاطب، والمحاور، السائل او المستمع من شكوك واسئلة واعتراض دون ان يفرض مهابته وواقعه الخاص.
فإذا خاطب، او سأل او سئل او حاور أو أجاب، يكون ذلك حسب المناسب حسب مقتضى الحال عملاً بقولة النبي (ص): "إننا معاشر الأنبياء امرنا ان ننزل الناس منازلهم ونخاطبهم على قدر عقولهم".
الذي عرف عنه انه منفتح على كل الناس بحركته التي أطل بها عندما أطلق شعار التعايش بين اللبنانيين مسلمين ومسيحيين من مواقعه الاسلامية ومن منطلقاته الدينية ومن ايمانه بوحدة الاديان مصدراً وغاية. ما كان يختلف مع الناس، وكثيراً ما كان يتفق معهم.
ولكن كل الذين اختلف واياهم، كانوا يشعرون بأناته ورصانته، بسعة صدره وغنى قلبه، لأنه لم يكن يجعل من الخلاف منطلقاً للعدواة وأساساً للخصام ولكنه يجعل الخلاف اساساً للحوار والتلاقي واساساً للجلاء والتفاهم، وتنوع التجربة، ولهذا كان يعيش في تجربته وفي عقله وقلبه كل اجواء المشكلة اللبنانية وساحتها.
بهذا استقطب بحركته السواد الاعظم من الناس، ونال التعاطف وملك ناحية الاعجاب من السنة والموارنة والارثوذكس بصرف النظر عن الشيعة الاكثرية، ليكتسب بذلك حق الدفاع عن الانسان في لبنان.

وكان لإمامنا تصدير حواري لكتاب: تاريخ الفلسفة الاسلامية للمستشرق استاذ الفلسفة بجامعة السوربون "هنري كوربان".10
وبحواره الموضوعي والعلمي مع الكتاب أظهر إعجابه بالمؤلف ثقافة واخلاصاً واتقاناً واستخلاصاً، كما نوّه بعظيم الخدمة العالمية، والخدمة التي يقدمها.
ولكن رأى في هذا الكتاب الموسوعي مباحث اساسية تقبل النقد، وتحتمل النقاش العادل، وكانت لإمامنا في هذا التصدير العلمي الدقيق بملاحظاته ووثائقه مناقشات بالغة النجاح لما أثاره الكتاب من مسألتي الظاهر والباطن وفواتح السور، والإمام، واستمرار تاريخ الانسانية الديني، والولاية، والتصوّف الشيعي، والقطب، والإمام الغائب، ومبدأ الباطنية.
وهذا التصدير الحواري بما هو عليه من موضوعية وغنى يحتاج الى تعميق في دراسته للإحاطة بمقتضياته ولكن المناسبة العجول تصدنا.
وكانت للإمام محاضرات ومحاضرات حوارية في بيروت منها التي حملت عنوان(الاسلام).11
وكانت مباحث المحاضرة هي: الاصالة أو ذاتية الاسلام. الروحية في الاسلام وقوتها أو ضعفها. اهتمام الاسلام بشؤون المجتمع، وعدم الاكتفاء بالايمان والاخلاق، ثم حل مشكل التطور.
وفي الاصالة بحث في خصوصية الاسلام وذاتيته مثبتا" شخصيته، بمقوماتها ونافيا" المزاعم المشبوهة التي تقول بتبعية الاسلام لغيره من الديانات وأنه لم يأتِ بجديد.
وتحدث في هذا المبحث عن "الله" القرآني، وعن الملائكة والشيطان والنبي والمعاد في المفهوم القرآني.

وأما مبحث "الروحية " في الاسلام، فحسبه البرهنة على أن نظرية الاسلام تنفي تقسيم الأشياء والأعمال إلى مادية وروحية.
إنه يقرر بأن هذا التقسيم خالٍ من الدقة ولا ينطبق على التفسير الفلسفي ولا على التعاليم الدينية، ولا يحظى باقناع روح المؤمن الفاحصة.
فالاسلام يعطي صفة الروحية لجميع أعمال الإنسان الصادرة عن باعث سليم، ويصبغ جميع الموجودات بصبغة القداسة، فالاصحّ في التعبير ألاّ نقول بضعف روحية الاسلام، واهتمامه بالماديات بل نقول واثقين بأن هذا الجانب إلى حدّ، يحوّل كل شيء إلى الروحيات.
وإذا أردت الحوار الاسلامي المسيحي بفاعليته وجرأته، باتساعه وشموليته باقباله وايجابيته، فعليك بحوار الندوة اللبنانية.
الندوة اللبنانية كانت محطة حوارية لها شؤون وشؤون.
إنها مرحلة فاعلة ومتفاعلة، مؤثرة ومتأثرة، وإنها الأهم بين مشروعات حواره الاسلامية والمسيحية أو قل الأهم في مشروع الحوار اللبناني. حوارها كان بدون قيود أو شروط، ورجالاتها لهم صيحات في كل ناد، ولهم فعلهم المنظور إليه في كل شأن وهم الواثقون الموثوقون في التوجه والقرار، منبر الندوة من أهم منابر الشرق العربي، يتكلم فيه أهل الفكر والفن والسياسة في العالم ويستمع الى محاضراته روّاد العالم والمباحثون عن الحقيقة.
وحين نتحدث عن حوار الندوة اللبنانية حول الاسلام والمسيحية انما نتحدث عنهما بملتقياتهما. وما يلتقيان عليه هو الأصل.
ولو تأتى لهذا الحوار الاستمرار لما كانت السنوات الست عشرة العجافِ السنوات الابليسية التي أهلكت الحرث والنسل.
يقول عنها مؤسسها ميشال أسمر في تقديمه لإمامنا في محاضراته "أضواء وتأملات"12:
"محاضرات الندوة اللبنانية بذور للمعرفة نغرسها في مزرعة الزمن، فاذا اثمرت وأتت أكلها، تحققت غايتنا، وأدركنا تمانينا، ولا فرق ان يكون هذا في أيامنا أو في العصور القادمة"
ومناسبة المحاضرة هي اذاعة نبأ عزم الإمام السيد محسن الحكيم ( قدس سره) على الحج الى مكة في تلك السنة، ومما قاله المؤسس في التقديم:
"... ولقد فعلنا ذلك مشاركة من الندوة وفي ايضاح أمور يجدر بجميع اللبنانيين ان يعرفوها سعيا" إلى انفتاح العائلات الروحية في هذا الوطن بعضها على بعض، ولقد لاقت رغبتنا صدى مستحبا" عند السيد موسى الصدر، وها هو الليلة في عقله وقلبه. أجل سيتحدث إلينا سماحته بفيض من العالم، غير أنه سيضفي على علمه العميق نبل الانفتاح، فيخلص من الأضواء الى التأمل بما يقرّب الانسان من أخيه الإنسان حيث يكمن الله. وتم بما يشدّ المخلوقات جميعا" الى الاله المتسامى، عز وتعالى".
وطاف المحاضرة حول التعريف الجامع عن الشيعة والخلافة والفقه والاجتهاد والمرجع، المرجع الاول، والحج، ومكة، والكعبة.
ويتبدى لنا أن هذه المحاضرة تنطلق من أن الإنسانية، رغم الخصوصيات والفروقات الفردية، تعيش وجودا" واحدا" متفائلا" بمختلف أجزائه، وكلما كانت الثقافة على ارتقاء ونمو، تجلّت الحقيقة وتبلورت.
إن تجزئة هذا الوجود تخالف الناموس الالهي، وتخرج عن دائرة السنة الالهية لأن الله خلقه موحداً وبميزات وهذه التجزئة تخالف طبيعة الإنسان وفطرته التي تنزع إلى الاجتماع والوحدة، كما انها مصلحة الإنسان العليا القائمة على التعارف والتبادل والتعاون والتفاعل بين أبناء الاسرة البشرية على مساحة الزمان وكل المكان.
إن العمل على التجزئة، كل ما في منطوياتها سلبي وخطر، سواء أكان دينياً أم وطنياً أم اجتماعياً يقول: ان التفاوت يجب ان يكون سبباً للحركة والتعارف وموجباً للتعاون والتبادل والتكامل، هناك ميزات وتراث وتجارب لكل شعب، لكل عصر، لكل طائفة، لكل منطقة، فوجب ان تبرز وتتضح لبقية الأفراد حتى يأخذوا منها صالحها: النصيحة، ويفهموا من معناها، الفكرة، ويستفيدوا من نجاحها: الطريقة، وبهذا تتمكن الانسانية ان تستمر في سيرها الطبيعي نحو الكمال والرفاه والسعادة13.
وأقامت الندوة سلسلة من المحاضرات حول "المسيحية والاسلام" فكان لسماحته المحاضرة الاسلامية الرائعة الشاملة، الاسلام وثقافة القرن العشرين14.
وحددت المحاضرة مباحثها بالموضوعات التالية:
-                   تحديد الثقافة الإسلامية.
-                   ثقافة الاسلام او الاسلام الثقافي.
-                   موقف الإسلام من سائر الثقافات.
-                   إعطاء أمثله عن هذا الموقف.
وحدد الثقافة بالحياة العقلية المشتملة على التشريع الحقوقي، الفلسفة، التصوف العلوم، الفن والادب.
أما الثقافة الإسلامية فتنهض على دعامتين اثنتين هما: المفهومات والتعاليم ليحدد المعالم الرئيسية للثقافة الإسلامية بالآتي:
الربانية اولاً والثبات ثانياً والشمول ثالثاً والدينامية رابعاً والوحدة أخيراً لتكون الخلاصة والاستخلاص بأن الاسلام يهتم بتكوين ثقافة اسلامية مؤمنة للمسلم وأنه يفتح صدره لقبول الثقافات البشرية واقتباسها وهضمها وتنشيطها، واعتبار ان هذه النشاطات من واجبات الإنسان في الحياة ورسالته في الكون.
انتهت المحاضرة بمشكلة لبنان والعالم، ألا وهي مشكلة السلام، تقول الخاتمة.
هل يعالج الاسلام مشكلة القرن العشرين الكبرى، مشكلة السلام؟
هذا الدين الذي يأمر اتباعه بالدخول في السلم كافة ويجعل تحيتهم سلاماً هذا الدين هل يتنكر جوهره للمشكلة؟
إن السلام اسم من اسماء الله الحسنى وصفة من صفاته العليا، تنعكس على الكون وتتجلى في الخلق، فهو سبحانه السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام.
والكون هذا المحراب الكبير للسجود والتسبيح لذات الله والمجتمع، هذه المجموعة المنوعة المترابطة من بني الإنسان، والإنسان هذا، الموجود الممتاز، كل منها مخلوق لله، موصوف بصفة السلام الالهي وكل منها نموذج عن الآخر، فالسلام الكوني والسلام الفردي يعطيان نهجاً منطقياً عن السلام العالمي، فالاختلاف في العنصر والرأي والانتاج في المجتمع العالمي يجب ان نعترف به ونعتبره كمالاً له وجمالاً فطرياً يسهل التعارف والتعاون والتكامل والوحدة.
هذا التنوع يتجلى بشكله ونتائجه في جسم الإنسان، وفي الصورة التي يعطي الاسلام عن الكون، فلا سلام بلا تنسيق الجهد الثقافي ووحدة الخطة العامة ولا سلام مع الرغبة في فرض وحدة الانظمة والآراء والانتاج والعناصر15.
وتكون عبارته الاخيرة متواضعة كما هو شأنها في جملة مناسباتها، والكلمة المتواضعة دائماً واثقة وتكون دائماً موثوقة.
هذا هو اسلامكم، وهنا اقف معترفاً خاشعاً اطلب العفو عن التقصير في التعبير، فإذا وجدتم انه يختلف عما في ايدينا، او عما كنا نصوره، وإذا وجدتم أنه يتمكن من الإحتفاظ بقيادة الإنسان في هذا القرن، ويقدر على خلق ثقافات جديدة، إذا وجدتم ذلك كله او بعضه إذا وجدتم زيادة حب له ورغبة صادقة فيه، فقد أديت وأدت الندوة رسالتها16.
هذه المحاضرة كان عنها الاثارة والدهشة والفائدة، والمسلمون بالذات عرفتهم المحاضرة بما كانوا يجهلون من الاسلام في ماضيه وحاضره ما يفوق المعجزات، وخدمات للعالم القديم تتجاوز سائر الخدمات.
هذه المحاضرة الاسلامية الحوارية البالغة الدقة والحساسية والنجاح كانت حلقة من سلسلة محاضرات "المسيحية والاسلام في لبنان" وقد التقت هذه المحاضرة مع محاضرة اخرى ألقاها عميد الكلية الطبية الفرنسية "فرنسوا دي بري لاتور" وعنوانها "المسيحية والعلم الحديث".
وكان لإمامنا حديث يعرفنا بالغاية من هذه المحاضرات ويقول:
"الغرض من هذه السلسة التي نظمتها الندوة اللبنانية ان يستمع الجمهور إلى أبحاث منوعة من نتاج الفكر الإسلامي والفكر المسيحي، يتحدث عنها رجال العلم والفكر الملتزمين من كلتي الديانتين، فيتعرف الدارس الذي يعني بهذه الشؤون على هذه الابحاث تعرفاً حقيقياً ويتكون نوع جديد من تاريخ الملل والنحل يفوق الطريقة القديمة دقة وعمقاً واتزاناً.
وان الهدف من هذه المحاضرات ايضاً هو السعي لعودة الجيل المثقف إلى التعرف الكامل على عقائده الدينية، والتمسك المنطقي النير بحدوده ومبادئه17.
وكانت هذه المحاضرات تعيش المرحلة بدقتها وحساسيتها، بصعوباتها واشكالاتها، فإذا بها تغزو العقول والقلوب، وإذا بها تجد من التجاوب الشامل، والترحيب على المستوى اللبناني، مما حمل المحاضرين الثمانية على عقد ملتقيات عدة في دار الندوة، لينتهوا إلى إصدار بيان للرأي اللبناني العام، هذا البيان لا بد من روايته لأهميته الحوارية بالنسبة للمشكلة اللبنانية، انه يقول:
"إن المحاضرين الثمانية الذين اشتركوا في سلسلة "المسيحية والاسلام في لبنان" يشكرون للندوة اللبنانية تنظيمها هذا الحوار الحر الخلاق، الذي هو افضل اسلوب لتعزيز الإلفة الوطنية في بلد جمع الله فيه عائلات روحية مباركة، ويتفاءلون بما آنسوه من ارتياح الجميع لهذا التواصل الخير الذي تعبر عنه مختلف الفئات في لبنان تعبيراً حياً تتجلى آثاره في انفتاح بعضها على بعض، وتعاون بعضها مع بعض في تفاهم وانسجام، ويؤكدون تلاقي الديانتين في إيمانهما بالله الواحد وبقيامها معاً على تعزيز قيم روحية ومبادئ خلقية مشتركة تصون كرامة الإنسان، وتعلن حقه في الحياة الفضلى وتنهض بالأرض وما عليها في محبة وسلام ووئام.
وانهم لعلى يقين بأن لبنان هو الموطن المختار لمثل هذا الحوار المسيحي الاسلامي، وبأنه حين يجدد وعيه بتعاليم هاتين الرسالتين يسهم في تحديد طاقة الإنسان الروحية وصونها.
انهم ليعاهدون الله على تحقيق لقاء اخوي مستمر ينهلون خلاله من معين الديانتين العالميتين وتعمل فيه كل فئة بتعاليم دينها جاهدة في تفهمها لما انطوت عليه الديانة الأخرى من عبر وعظات ونظم تقرب الإنسان من أخيه الإنسان، وعلى توسيع نطاق هذا اللقاء حتى يضم العناصر التي تبدي استعدادها للاسهام في تركيزه وتعميمه، وعلى السعي الدائب لإزالة الحواجز التي نصبتها عوامله مفتعلة يبرأ منها دين الله الحق.
ويرى الجميع لزاماً عليهم ان يسعوا لانشاء معهد جامعي عال للدراسات الدينية المقارنة تشرق فيه المعرفة بحقائق المسيحية والاسلام، ويصبح قبلة لجميع الباحثين عن هذه الحقائق بحثاً علمياً، وإنشاء مجمع لبناني للغة العربية يمكن لبنان من القيام بواجبه في اغناء لغته الوطنية والعمل على تقدمها تجاوباً مع معطيات رسالته الحضارية.
ويحرص المحاضرون على تأكيد تقديرهم للمقامات الروحية من مسلمة ومسيحية آملين ان يلتقوا معها في هذا الحوار ليكون أكثر إيجابية، وأعمق تأثيراً، لأن عملهم فكري، روحي وحضاري يستوحى الخير كله من شرعة المحبة، حتى يعيش المسلم والمسيحي متواصلين في الله ينبوع الرجاء والإيمان والسلام (8 تموز 1965).
التواقيع: نصري سلهب – جورج خضر – فرنسوا دي بري لاتور – يوسف ابو حلقة – موسى الصدر – حسن صعب – يواكيم مبارك – صبحي الصالح.
وتابعت طريق الحوار خطاها بين هؤلاء الثمانية الكبار في الفكر الديني وتواصلت بهم الملتقيات والمباحث في هذا الحوار الحيوي، وما برحوا في حركتهم وفي تفاعل حواراتهم حتى قر رأيهم على إصدار بعض المنشورات التي تتناول شؤون هذا الحوار، وعلى تنظيم سلاسل دورية يبحث فيها موضع مشترك بين الديانتين.
فالدورة الأولى كان موضوعها "المسيحية والاسلام في لبنان" وعالجها الثمانية الذين تعاونوا بصفة مستشارين ليقروا دورة ثانية او سلسلة جديدة من المحاضرات عنوانها (العدالة في المسيحية والاسلام)18.
لقد اختاروا منسقاً لكل حلقة من حلقات السلسة الجديدة التي اشرعت الباب أمام تعاون جديد بين الندوة وعناصر خيرة تتوزع أعمالها بين عمدة كلية ومنابر جامعية ورئاسات دينية وقيادات روحية، وعمل ملتزم، فكان القاسم المشترك بين هذه العناصر كلها التزام الحق والخير أينما اينعت، فضلاً عن وعيهم لمطالب القضية الروحية في لبنان، خاصة وفي معترك عصرنا الصاخب بالتيارات عامة ذلك ان قضيتنا الروحية تكمن جذورها في الدين والدنيا على السواء، كأنما القصد الأسمى، والغاية الأنبل هي إحياء الدنيا بالدين، الدين الصحيح، اي الدين الباني المحب الموحد.
وسجلت محاضرات "العدالة" نجاحاً مثيراً وكانت مثار الاهتمام، وموطن الرعاية، لقد رافق "العدالة" حضور هو على وعي، وهو على تجاوب، وهو كثير الاثارة والتساؤل، كأنما في الموضوع تلبية لما يداخل الناس، خاصتهم وعامتهم من أمور تتصل بالشاغل الكبير الذي هو الدين على مستوى الإنسان، إنسان اليوم والامس والغد، إنسان كل يوم، إنسان كل عصر، إنسان كل بلد وأرض.
الشهيد الموثوق على اهتمام الجمهور بهذه السلسلة ما كان من مداخلات وما كان من اسئلة وأجوبة وتحاور بين الجمهور والمحاضرين.
لقد شهدت الندوة بين من ألقى بذرته ومن التقطها تفاعلاً كان له الثمار المشتهاة، وخرج الحضور ويقينه مضاعف وركين بأن العدالة ليست مفهوماً تجريدياً، وانه ينبغي ان لا تكون في معطيات غيبية لا جذور لها في العالم، وان هذه العدالة هي حضور في العالم، وعمل في انسانه سواء كان فرداً أم جماعات.
وحقاً نقول بأن القصد بالبحث في هذا الموضوع المشترك بين الديانتين ما كان المقايسة ولا المفاضلة ولا المزايدة، وإنما كان القصد هو عرض معطيات أصيلة استقيت من ينابيعها إحياء لمحتواها، وإشاعة لها في العقول والقلوب بغية إنماء التواصل المشدود والتعاون المتين على التعارف، حباً لا اشتراعاً، فمن عرف أحب كما في لغة الصوفية، ومن تعارف تحاب، وان في تراتبات الديانتين المتآخيتين المكملتين لرسالة إبراهيم والرسل والأنبياء أجمعين من التعاليم الاخلاقية، والفضائل الروحية ما لا يجوز ان يكون تبادلاً بين اسباب معرفته، فيقلص الانغلاق، وتتسع مجالات التخاطب والانفتاح والتقارب، ويشيع في لبنان جو من الثقة التي تصنع الوحدة وتوطد أركانها في الأذهان والنفوس.
لقد توزعت هذه السلسة من المحاضرات على العناوين التالية:
- العدالة الالهية
فريد جبر
احمد مكي
5 ايار 1966
- العدالة السياسية
ألبير لحام
محمد يكن
9 ايار 1966
- العدالة الاجتماعية
فريد حداد
عمر مسقاوي
12 ايار 1966
- الانسان العادل
غريغوريوس حداد
حسين حمادة
16 ايار 196
هذه هي الندوة اللبنانية بالبعض من معطياتها الحوارية، ونشاطها التقريبي الايجابي، وكأنها كانت تدرس يقيناً ان الحوار المسيحي الاسلامي هو الدواء الشفاء أو كأنها كانت محيطة علماً بأن الخطر الداهم المدمر هو المصير اللبناني ان لم تهيمن لغة الحوار السماوية فيه، إمامنا هو المحذر:
وإذا اردتم أم لم تريدوا، فلبنان محتضر اذا بقيت عقليتنا على ما هي عليه وإني لأحذر منذ الآن من النهاية.20
لقد كان همه ان يجعل من الطوائف اللبنانية نوافذ حضارية على العالم لا دويلات متصارعة وليكون الوطن فيها ندوة للحوار الاسلامي المسيحي، وقاعدة اللقاء العربي الاوروبي، ومختبر التفاعل الحضاري.
في نظريته، لا حياة للوطن بدون الاحساس بالمواطنية والمشاركة، والمواطنية في معجمه هي إجماع المواطنين على شجب التمييز الطائفي، لأن جملة أمانيه هي تحويل النظام الطائفي الى نظام ديمقراطي قائم على الكفاءة، وعلى مآتي المواطن للوطن.
لقد كنا بحاجة إلى ست عشرة سنة لقراءة اعتصامه التاريخي في مسجد الصفاء القراءة الصحيحة للحفاظ على هذه الوحدة المبّراة من التشنج الطائفي وكنا بحاجة للاهتمام به لا كرمز فئوي، بل إلى ارتقاء الاهتمام به إلى رجل السلام اللبناني، إلى مستوى المؤسسة، لأنه رجل المؤسسة او الرجل المؤسسة.
لم يعرف تاريخ الحركات التحررية نشاطاً افعل من نشاطه الحواري في مرحلته، وإنه لأشبه في ذلك بالإمام شرف الدين او جمال الدين الأفغاني.
راح ناشطاً في كل الأندية ودور العبادة وبين الجماعات يفك قيود المكبلين بأصفاد الطائفية ويطلق الضمائر من معتقلاتها.
يقول:
الخطر ليس في تعدد الطوائف، بل في الطائفية، بل في تحول تعدد الطوائف إلى السلبية، فالطائفية ليست مبدأ مشكوراً في الأديان لأن الأديان لا تدعو إلى السلبية والطائفية عندنا هي عقدة العقد لانها تشكل السلبية في هذا البلد.
فالتعصب يعطي السلبية والشك، ولا فرق عندئذ بين الطوائف والاحزاب التي عندها نفس الروح. لماذا تحول الشعور بالسباق إلى الشعور بالصراع الذي يكون الشعور بالتضارب والكره.
وهذا ما نسميه بالفئوية، لأنها تجلت بالصراع الطبقي، وظهرت قبلاً صراعاً حزبياً، وقبلاً صراعاً طائفياً.
يجب على الدولة الترفع بالاقتراب من السماء فتكون بعيدة عن الحزب والطائفة والفئة.
إن العقلية الطائفية تأخذ من الدين مركباً تمتطيه من اجل مصالحها، لذلك علينا أن نتطور عقلياً، وتطورنا العقلي، دولة وشعباً هو الحس بالروح الوطنية وعلينا ان نمارس هذا وإلا فالتفكير يتحول إلى نقص، إلى تخدر21.
وعي إمامنا، وحس إمامنا، جعلاه لا يثير قضية على مستوى الأمة إلا إذا اطمأن به الشعور، إنها اساس لوحدة الامة.
لقد كان على غربة في كثير من ناحية، في وطنه كان يستشرف المستقبل والكثيرون كانوا يتخبطون في متاهات الحاضر، ويهربون إلى مطاوي الماضي.
لذلك لنا حاجة في قراءة مسيرته التي نهج والفكر الذي طرح والعقيدة التي حمل والأمانة التي ادى، انها مسيرة إمام يعتبر مجدداً للدين في لبنان بل في المنطقة بأسرها، قراءة مسيرته في الحوار الديني ترينا ان الطوائف المختلفة المنظمة هي منطلقات للتعاون ونوافذ حضارية على مكاسب البشرية في هذا العصر وكذلك ترينا ان الطوائف في العصور الماضية تدخل بتجاربها وتتبادل في معطياتها وتكون جسماً واحداً ليس بالإمكان ان ينقص عضو منه، وبالتالي يقوي الوحدة الوطنية والانسانية.
رحلة إمامنا الحوارية في لبنان تكشف لنا صورة من التاريخ، تملأ نفوسنا بكبريائه، وتلفنا بردائه مسلمين ومسيحيين، وتغدو تراثاً ترتسم به شخصيتنا وتمتزج في نسيجه بقية من ثقافات الأمم، وتحمل صفحاته أثراً وجهداً وفناً لكل مؤمن برسالات السماء حين حمل الإسلام في طياته جوهر الرسالات جميعاً.
إنها في وطننا هذا الذي نعيش صيغة من الحضارة دلف بها التاريخ إلى ساحتنا، لا يغنى عنها ذلك الركام المتراكم من الطروحات التي تبدد وحدتنا حين تعددنا طوائف وثقافات متعايشة ولا تتأمل جوهر التاريخ ومسيرته.
فهذا لبنان في نظرية الإمام، ونظريتنا، واحد بوحدة تراثه، ارتسم فيه الاسلام تراثاً للمسلمين والمسيحيين على السواء واتخذت المسيحية من صميم روحه تراثاً موصول الحلقات للمسلمين والمسيحيين على السواء وباتت الصيغة اللبنانية صنعة التاريخ وحده.
ولأنها صنعة التاريخ فهي ابعد من أن تكون إرادة عابرة في زمان عابر، فالتاريخ لا يستأذن ولا يستشير ولا يستفتي حينما يخط مسيرته، وتتمازج في إطاره الثقافات وتبنى من فيض ريعه الحضارات، وتقطف من وفر ينعه الثمرات.
وما نحن في هذا الوطن إلا من تلك الثمرات، ننفعل بالتراث ثم يتفاعل على بناء، فإذا بنا نحن مسلمين وغير مسلمين ننجذب إلى حلبة ذلك التاريخ وأيامه ومشاهده.
تلك مائدة تأكل منها ويأكلون وتلك أرض تجاور في مربع خصبها النبات المختلف فأثمر من فيض العلم والفكر، ورأى المسلمون والنصارى في إطارها وتشجيعها القيمة المطلقة لجهودهم، وامتدت جذور المسلمين والمسيحيين والمؤمنين برسالات السماء في عمق الحضارة وتراثها تغالب العواصف وتقلبات الزمان.
المحنة التي عانيناها، في نظرية إمامنا، اتخذت لها من ضعفنا الإيماني والفكري سبيلاً إلى أهدافها سوى تعريتنا من تلك الخلفية الجامعة التي هي الإطار لوحدتنا.
لقد وجد إمامنا، من خلال تأمله للمحنة ان اهدافها البعيدة تستهدف ذلك النسيج التراثي المترامي في عمق التاريخ، والمتأصل في عميق شخصيتنا والذي يشكل أرضية صالحة لدور حضاري جديد.
فالهدف الأساسي للمؤامرة، ان تحجم القيم الحضارية التي اظلت هذا الوطن لتصبح إطار طائفة، وحينما تصبح إطار طائفة فان المنطقة هويتها هذه الطائفة وأمام هذا الفراغ المريع سنجد أنفسنا ضائعين كقبض الريح.
إن ازمتنا الراهنة اننا وضعنا حدوداً للدين وحدود المجموعة البشرية التي به تؤمن فإذا نحن نطلق كلمة المجتمع وفق رغباتنا، لا طبق حقائق التاريخ التي ورثناها، فنقول المجتمع المسيحي والمجتمع الإسلامي وقد تتطور الخصوصيات لأمر تتحدث كل طائفة وكل نزعة عن مجتمع ما.
لقد جعلت الفتنة من تعدد ادياننا مشكلة يعبر عنها ذلك القلق الذي اروى ظمأنا إلى طمأنينة الاستقرار فإذا نحن اليوم أمام انقسامات تبحث في خصوصياتها عند وحدة الحياة.
ويرى، إمامنا، إن أزمتنا الحاضرة، وما سبقها من أزمات لا تكمن في تنوع الأديان وتعددها، بل في كيفية تعليمها، رغم بدائية الطرق التي بها تبلغ الحقيقة الدينية وقد أساءت التبليغ فخلفت الوعي التراثي مزقاً ورقعاً مختلفات. هذه الامة كما ذهب إليه، هي نتائج لاوضاع عامة موغلة في التخلف وإلا فالأديان ليست متنوعة او متعددة إنما هي واحدة مصدراً او غاية.
إن المشاكل الموروثة يجب ان ترتفع إلى مستوى الحوار حيث للعقل سيادة على النزوات والأهواء، وحيث يكون من المؤمل ان يصدر من الحوار ميثاق إخوة، او ميثاق مواطنية على مختلف فئاتنا، فيصبح عندنا، إن لم يكن ديناً من الدين، فهو نسم منه مقدس.
وسائل الحوار وما أكثرها؟
إعلام مرئي، مسموع، مقروء، لقاءات، وما ايسر.
الأصعب هو الوجدان المصفى، الضمير المغربل، القلب الطهر المطهر.
حركة الأنباء المحاورة بعيدة الخطى، واسعة المدى، سريعة كالشهب الثاقبة فالراديو والتلفزيون انقلبا من عادات الناس، وصارت لهما فاعلية عبر الأذن والعين، وهما غافلتان، واستحال حامل الترانسيستور مثلاً، يعرف على الرغم منه.
خير لنا الكف عن دغدغة طفولة العقل بالمهاترات احتراماً لقدسية العقل العاقل. إن إلغاء الحوار يجعلنا نعيش على أفكار قديمة خلف العصر، حتى كأن كل واحد منا هو الجد الأعلى لنفسه، لذلك لا موقف إلا موقف التطلع إلى الغد.
إن الحوار وحده يفسح السبيل إلى العطاء الذي يعرف مناسبته.
إن الانفتاح على جميع العطاءات والحضارات وقابلية الهضم لجميع الإيجابيات للتيارات الروحية والأخذ بتعلم اللغات، وهذا كله حوار أي حوار.
غدنا لا بد له من مرتكز وتطلع:
المرتكز يجب ان يربط بمحور الأرض، الكون، الله.
وأما التطلع فيربطنا بروحية العصر، وخطواته، وروائه، وعطاءاته بل يجب ان نلحق بالزمن ليكون لعبة أيدينا، وينبغي ان يلحق إنساننا بذاته وان نكون بقوة الزوبعة التي تعصف بالعصر.
فإذا تهيأ الحوار المتفاعل والفاعل على الجاد والواعد كان طلوعنا إلى طريق الغد غدا، الحوار حوار الله وبالله، للوطن والانسان، وعلى وعي وحكمة مترسمين الخطى للحوار القرآني المعلم وإلا فالعقد والنكد والبوار.
أجل وكان له وصول عندما فتح الطريق، ونادى بالصوت الواثق الحر: هيا اتبعوني مجاهدين ومبشرين ومنذرين، ألم يكن للرسول (ص) الوصول حين فتح الطريق؟
الوصول إلى النهاية هو شأن الأيام القادمة يوماً فيوماً، وشأن القادمين على دربه. وسار بنا الإمام المسافات والمسافات على الدروب بالخطى الواثقة الراسخة، بالخطى التي تضاف إلى كل خطوة هي وصول، ما من نهاية إلا وهي موصولة ببدايتها.
وساح إمامنا سياحات بعيدة وشاملة في دنيا الفكر النير والتحرر والتفاعل، وأغلب الظن أنه لو سئل قبيل ان يغيب هل قلت كل كلمتك؟ لأجاب لفظت منها مقاطع، أما الكلمة الكاملة فما قلتها بعد، لأن لكل مقام مقال ولأن الكلام ينبغي مراعاته لمقتضى الحال، ورغم ذلك فالذي قاله منها كان الذي وضعته الحياة على لسانه وبين شفتيه ولقد قاله عالياً، صافياً، جريئاً بعيد القرار.
إن الاعتصام الحواري لإمامنا في مسجد الصفا كان بحاجة إلى خمس عشرة سنة لقراءته قراءة لا عوج فيها ولا أمت.
وقالت المطولات فيه وقالت ولكنها لم تقل، فكيف لهذه العجالة ألا تكون قاصرة ومقصرة في قراءتها له؟
وعشت امامنا مبتدأ يومكم وخبره في لبنان، ولكن لم استطع ان احيط به علماً.
فالعذر العذر ترسل كلمتي إلى كل اللحظات اللبنانية ليومكم اللبناني حتى العودة التي ستكون عيد الأعياد، أو البقية من مقاطع كلمتكم اللبنانية التي لم تقولوها ورسالتكم الإسلامية واللبنانية والإنسانية ان تقولوها: ?وجاء من اقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين" [سورة يس: 20].

source