الإمام الصدر ولبنان

calendar icon 14 تشرين الثاني 1996 الكاتب:جورج ناصيف

كلمة الاستاذ جورج ناصيف في الجلسة الخامسة من مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار

حين يرد ذكر سماحة الإمام المغيب السيد موسى الصدر، يحضر في البال انه رجل ثلاثة:

رجل الاعتراض العميق على الحرب التي اوقدت في لبنان، تقبيحها والحض على ايقافها.

رجل المحافظة على الكيان اللبناني، لا تنتقص منه تجزئة ولا تذيبه وحدة، لا يتواضع عليها اللبنانيون جميعاً بالرضا. واذا كان النظام الطائفي جائراً، وهو كذلك، فان جوره ينبغي الا يذهب بنا مذهب من رفض الكيان والوطن، وهما من الثوابت، بل مذهب رفض هذه التركيبة الطائفية بعينها، والتوافق على تبديلها، سلماً وتدريجاً، بما ينصف المحرومين في وطنهم.

رجل الحوار المسيحي – الإسلامي، يريده باباً للتقارب والفهم المتبادل، بما يثري العيش المشترك ويقيمه على قواعد أكثر رسوخاً من مجرد التساكن بريبةٍ وتوجس، في انتظار ظروف تسمح بالغلبة أو المغالبة.

والحق ان يستقر في الذاكرة عن سماحة الإمام هو عينه ما كانه فعلاً.

ففي شأن الحرب وما يصاحبها من عنف، كان قاطعاً في رفضه العنف، وادانة من يتوسلونه طريقاً للتغيير، لأنه مجلبة تدمير للكيان والبلد، وتمزيق لنسيج العيش المشترك.

من هنا اصطدامه بالقوى والاجسام السياسية، يمينية ويسارية، التي شاركت في الحرب، سواء مبادرة وفعلاً او انسياقاً ورداً، ورفض الشعارات التي سوغت مشاركتها. ولعله كان الأكثر افصاحاً عن رفضه في هذا النص الجامع: "قلت منذ سنة، وكررته بعد ذلك عشرات المرات: ان السلاح زينة الرجال، كي أهيء ابناء امتي، وخصوصاً في الجنوب، لمجابهة العدو المسلح. اما الآن بعد ان برز السلاح في محنتنا الاخيرة بأبشع صورة كماً ونوعاً ضد احياء مدنية آمنة، ثم نرى الذي يستعمل هذا السلاح الفتاك وهو مواطن يعمل ضد وطنه ومواطنه، بعدما احس انهما اعزلان من السلاح، فقد اصبح هذا السلاح مداناً، مساهماً في تمزيق الوطن، مساعداً لتدهور الاخلاق، وفي تعريض الوطن والأمن للانفجار. لذلك فإن استعمال السلاح لأي هدف كان لا يخدم هذا الهدف ولا يخدم الوطن".

لكن رفضه العنف، ومن جانب القوى اليسارية تخصيصاً، لم يرادف لديه تبرير لعنف السلطة، وهو القائل: "كما اننا لا نقبل العنف وسيلة للتغيير، فمن باب أولى اننا لا نقبل بالعنف لمنعه، وإلا وقعنا في ديكتاتورية خيرٌ منها الثورة".

تأسيساً، على ذلك، طرح الإمام برنامجه التغييري حول بنية السلطة السياسية، فنادى بإلغاء الطائفية السياسية، او جعل النظام الطائفي ادنى إلى العدل، بحيث يعبر فعلاً عن المكونات الطائفية للبلاد، في توازن لا يلغي احداً ولا يستتبع احداً. وغني عن القول ان صيغة 1943 بما كانت تنطوي عليه من شراكة سنية – مارونية، لم تكن مطواعة بما يكفي لاستقبال الصعود السياسي للطائفة الشيعية، وادراجه ضمن توازنات النظام، بل هي صيغة اغلقت على نفسها، وانقطعت عن ان تكون تعبيراً فعلياً عن الخريطة السياسية والاجتماعية الحقيقية في البلاد، مما جعل الاعتراض الشيعي السياسي يأخذ لوناً من الاعتراض الشعبي من خارج المؤسسات الرسمية.

وقد كان سماحته واضحاً في اعلانه "اننا نقترح على اللبنانيين جميعاً تبديلاً عميقاً للوضع السياسي الممارس في البلد بإلغاء الطائفية او تطوير ممارستها" (24/1/75).

هذا التطوير الذي اوجزه هنا، عمد إلى تفصيله في مواضع اخرى حيث قال: "النظام الديمقراطي البرلماني، او الطابع الطائفي في لبنان ارتضاه اللبنانيون ولم يقبلوا عنه بديلاً، وهو في نظرنا يحتاج إلى تطور يلبي الحاجات المتزايدة، والتي تبعد عنه النقائص الموجودة. وفي هذا الصدد اقدم اقتراحاً مبنياً على اصلين:

الأول: اعتماد مبدأ الكفاءات في الوظائف والمراكز بمعزل عن الانتماءات الطائفية.

الثاني: انشاء مجلس واحد يضم ممثلين عن كافة الطوائف اللبنانية".

ولم يغب عن بال سماحته ان قانون الانتخاب النيابي يشكل مفصلاً رئيسياً في انتاج الطبقة السياسية الحاكمة، وهو يحول دون وصول قوى التغيير وصولاً طبيعياً وسلمياً، لذلك حرص على ان يجعل تغيير قانون الانتخاب في صلب اي مشروع اصلاحي: "كما ان الوسائل الديموقراطية كفيلة بالتطور الهادئ الهادف، فإن هذه الوسائل تبقى عديمة الجدوى إذا لم يتغير قانون الانتخاب بآخر – يتيح التمثيل الافضل لتطلعات الرأي العام في لبنان" (11/9/1975).

وفي رفضه العنف، كما في اقتراحه برنامجاً تطويرياً هادئاً كان سماحته ينطلق من ثوابت في رؤية لبنان، هي التي تشكل اصل نظرته، وهي التي تمنح التفسير الصحيح لمختلف مواقفه، واخص هذه الثوابت هي:

1- لبنان هو تعريفاً، التعايش المسيحي – الإسلامي، التعايش هو معنى لبنان ومبرر قيامه "وحدة لبنان هي ميزة وجوده. فهاتوا لنا ميزة غير التعايش. التعايش هو الميزة الحية. المزايا الاخرى سابقة وليست مستقبلية. إن الرسالة في لبنان هي التعايش. التعايش اللبناني اقدم من الميثاق الوطني ومن واضعيه. التعايش من صميم الحياة".

ويضيف في موقع آخر بات يعرف بشرعة الإمام الكبرى ووصيته الأولى: "ان التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها، ومعالجة كل الصعاب التي تعترضها".

2- هذا التعايش ليس حاجة لبنانية داخلية فحسب، بل هو حاجة حضارية عامة تفيد منها سائر الامم والشعوب. "فالتعايش ليس ملكاً للبنانيين فحسب، ولكنه امانة في يد اللبنانيين، ومسؤولياتهم وواجبهم وليس حقهم فحسب".

ويذهب ابعد في القول: "التعايش هو ضرورة حضارية بحت. العلاقات الدينية بين الطوائف المختلفة، وبين ابناء مذهبهم في الخارج، تجعل الطوائف نوافذ حضارية على جميع العالم وحضاراته وثقافاته".

هنا بالضبط تكمن مساهمة فريدة للإمام. فَصِلة الطوائف اللبنانية بمرجعياتها الروحية في الخارج، استحسنها الإمام كونها تجعل الطوائف نوافذ حضارية، وهو ما يناقض تماماً استتباع الطوائف للخارج، ابتغاء انفاذ غلبة او تحصيلاً لغلبة مضادة. ولعل واحدة من مآسي الحرب تكمن هنا. فالنافذة الحضارية استحالت، مع الذين سادوا على طوائفهم بالحديد والنار، التحاقاً بشعاً بالخارج، وتوظيفاً له في صراعات الداخل، مما افرغ الداخل تماماً، واحال لبنان ساحة تجاذب وصراع بالواسطة، واساء على وجه التخصيص للكتل الطائفية التي نطقوا باسمها وتحكموا بخياراتها.

3- المسيحيون في لبنان اصحاب دور مخصوص، ينبغي لهم ألا ينسوه او يطمروه، اما المسيحيون في العالم فيعرفون كم هي رائعة رسالة مسيحيي لبنان وسامية. أليسوا هم عناصر الاستيعاب والنقل والتفاعل؟ أليس بسببهم سُمي بنافذة الحضارة المشرقية في تجارب الغرب، ألم يرحلوا إلى الغرب بأعمق ما في روحانية الشرق ويقفلوا إلى الشرق بأجدى ما في تجارب الغرب؟".

أليس بسبب هذا الموقف الذي التزمه، طاف لبنان داعية حوار في الكنائس ومنابر الرأي المسيحية، وعندما اطلق حركة "أمل" اصر ان يتشارك المسلمون والمسيحيون في التأسيس على نحو كامل، فحفلت الهيئة التأسيسية باسماء مسيحيين ثقاة في مواقعهم ونوعية تمثيلهم؟

... ولأن الإمام كان ما كان، نفتقده بحرقة اليوم، نفتقد الشخص الآسر والفكر الآسر، فيما المسائل التي انقطع اليها جهاده ما زالت تحتاج إلى مجاهدين.

فالحرب، وان ولدت حامية، لكنها لم تخل مكانها لسلم اهلي حقيقي، فما نعيشه ادنى إلى الحرب الباردة، اجتماع عناصر قد توقد الحرب، وان بعد سنوات.

والاصلاح السياسي، الذي قال به اتفاق الطائف، أفرغ من مضمونه وجاءت نتائجه عكس ما ارتجاه الاغيار، فأوغلنا أبعد في الطائفية عوض ان نقترب من إلغائها، وبات قانون الانتخاب اسوأ، واصحاب الكفايات يقصون من الوظائف ليحل محلهم حملة المباخر من السقماء.

والعلاقات المسيحية – الاسلامية ليست في خير تماماً، وكم هي تشتاق إلى قامة الإمام وعباءته.

أليس ليسود ما هو سائد اليوم ازاحوه من الطريق؟ ولكن من يلغيه من القلوب؟.

source