البعد الانساني في قضية تغييب الإمام الصدر

calendar icon 11 كانون الأول 2003 الكاتب:هاشم الحسيني

* مثله معالي الوزير الدكتور اسعد دياب
* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثامن: "الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر"



حينما تثار في الذهن مسألة البعد الانساني، تفتح الأبواب واسعة على كل الآفاق. ذاك ان البعد الانساني هو جملة أبعاد: انه الانسان بذاته، والانسان لذاته، والانسان في ما يتعدى ذاته.

هذا البعد قائم على الارتقاء بالانسان، قلبًا وعقلاً، الى مرتبة القيمة العليا. والانساني هو المتقبّل لجميع الناس، والساعي أبدًا للتعبير عن تقبّله بروح العطاء.

مثل هذا الكلام، لا يساق بالصدفة حين يكون الإمام موسى الصدر هو القضية، فالإمام الصدر الذي طالما تشبّث بالقيم الانسانية، قولاً وفعلاً، هو الذي يعاني محنة فقدان هذه القيم، روحًا وجسدًا. إن الرجل الذي شكّل ظاهرة استثنائية في تاريخ لبنان الحديث قد تحوّل مصيره الى تراجيديا اغريقية في تاريخ المنطقة العربية.

في ماضيه، تمثلت سيماء المستقبل، صار معلمًا وكان لا يزال طالبًا، تتلمذ عليه الكثيرون من أترابه الذين في مثل سنّه. اذا حدّثهم اجاد الحديث، واذا اصغى اليهم أحسن الاصغاء، لقد وعى حاجات الشباب في مقتبل عمره.

هو صاحب قرار، شاء ان يكون مصلحًا اسلاميًا فاستطاع. وقبل كل شيء، آمن بقيمة الانسان وحريته وكرامته، وأبى ان يكون نشاطه مقتصرًا على الرعاية الدينية. لقد دعا الى تنمية مواهب الانسان وتطوير كفاءاته ساعيًا الى مساعدة الآخرين متيحًا لهم ما تيسّر من فرص للتنور والتقدم. خاض في مفاهيم السلام والعدل والمعرفة، واستخدم، وهو رجل دين، مصطلح العدالة الاجتماعية، وكان بعد في بداياته.

وقبل ثلاثة عقود أو اكثر، تحدث عن الديمقراطية الدينية. لأنه يرى ان الدين وجد لخدمة الانسان، والمصالح الدينية لا تتعارض والمصالح الانسانية. على ان هذا الانسان لا يسمو ويتهذب الا بالممارسة، فالعمل لديه جزء من الفكر.

أخذ على بعض المؤسسات الدينية. كونها لا تركّز على صناعة الانسان مع ان واجبها الديني الاول هو وضع طاقاتها في خدمته.

ورأى في التعايش بين الاديان امانة حضارية تاريخية، وفي رأيه انه ارادة مشتركة لديها جميعًا. وفي حماسه العقلاني لقضية وطنه، اعتبر ان التعايش بين الطوائف الدينية في لبنان بخاصة، تجربة غنية للانسانية جمعاء. ودعا الى الاندماج الاجتماعي بين الطوائف، لأن الشعور الديني في رأيه مبني على التسامح.

وفي نظرته لحركة التاريخ يرى ان هذه الحركة تأتي نتيجة تفاعل الانسان مع العالم وقد خلقا معًا – كما يعتقد - على اساس الحق والعدل.

لكن الانسان اذا أطلق لطموحاته العنان، فسوف يتجاوز حدوده وسيلحق الضرر بحرية الآخرين. عليه اذًا ان يلتزم بالقيم والمبادئ الاجتماعية الأساسية كي يبقى ضمن حدوده الآمنة. وهي حدود ليس من شأنها ان تعيق قدراته أو طاقاته الكامنة في أعماقه.

ولأنه يرى ان رسالته الدينية الانسانية لا تنحصر بالعبادات، قام الامام الصدر بمبادراته الاجتماعية وعمل على انشاء مؤسسات تربوية ومهنية. وقد توخى من وراء ذلك السعي لتحقيق العدالة، في مجتمع لا بد أن ينتفي فيه ظلم الانسان للإنسان. فالعمل الاجتماعي عنده ينبغي ان ينصَّب على مكافحة شقاء البشر.

وفي نظرته كصاحب نزعة انسانية بارزة، يرى الامام الصدر ان الانسان هو العنصر الذي يطوّر الكون، اذ يضطلع بدور متعاظم على الدوام وعلى مدى فسيح الأرجاء.

لذلك فمن حق الانسان ألا يتعرض للكبت، لأنه سيتعقّد، كما يقول، وتتحوّل أحاسيسه الى هواجس. فالإنسان حين يعيش قناعاته ويمارسها في أعماله وعواطفه واحاسيسه، إذّاك فقط يعيش حقيقة ايمانه.

ونظرته الى المرأة هي ان تلعب دورها كإنسان يقف الى جانب الرجل داخل البيت وخارجه ليبنيا العالم معًا.

وهو اذ يدعو الى قيام حضارة انسانية متقدمة، يشدّد في الوقت نفسه على أهمية القيم الاخلاقية للحضارة. فإذا انطلقت الحضارة من مبدأ المنافسة غير المنضبطة ومن الطموح الجارف، فإنها ستتحول الى حصان جموح يودي بصاحبه.

ولا يخفي قلقه على مصير المجتمع الحديث من جراء التأثيرات السلبية للحضارة المادية. الحضارة الحديثة حملت الانسان على الشعور بنشوة الانتصار، فإذا به يلقى نفسه وحيدًا، بمواجهة الآخرين. لقد تغلغلت المادية في صميم هذه الحضارة حتى انها أثرت على فكرة الأمومة، فإذا بالأم التي كانت أمًا في المطلق، تصبح أمًا بمقدار، فتضحي مقتّرة في أمومتها. وكذا شأن الأب، وكذلك الأولاد الذين باتوا يردّون باللغة نفسها. هذا الأمر أدى الى تصدع الصلات العاطفية، وكان الانفصام بين الماضي والحاضر. لذا نراه يدعو لقراءة الماضي قراءة من أجل الحاضر والمستقبل وليس قراءة ماضوية.

وفي نظرة سريعة الى الحضارة الغربية، يثمّن الامام الصدر غاليًا ما حققته من منجزات ويرى فيها مكتسبات تعود بالخير على كافة بني البشر، لكنه لا يقرّ بالأسس التي قامت عليها هذه الحضارة.

الامام الصدر، هذا البهي بإطلالته الانسانية من موقعه الديني، أخفي في سراديب العقول المريضة.

هذا القابع منذ ربع قرن في غياهب المجهول المعلوم ما تراه يقول، وكيف يشعر، ما الذي يجول في خاطره، كيف يدري ولا يدري؟ هل في العالم الخارجي عين ترى وأذن تسمع؟ كلها تساؤلات حائرة، فهل هي جائزة؟!

إنه انتظار مأساوي لمصير افتراضي.

وأي حال كذلك تعيشه عائلة الإمام من الناحية الانسانية، فهل للوضع الافتراضي أن يولّد يقينًا؟!. انه فراق ليس ككل فراق، فراق مبنيّ على تأرجح الظّن!

اما محبوه واصحابه والمؤمنون برسالته فأبوا هم أيضًا، إلا ان يقيموا في قاعة الانتظار، انتظار بنوا عليه احتمالات المستقبل...

ما أشدّ هذا العذاب، لكن الرهان على صلابة الرجال، على همة الرجال!

اما السجّان، فقد وقع في أسر السجين. فكم هو ضعيف اذ لجأ الى الانكار، هو أعجز من ان يعترف، من ان يحدّق في عيني ضحيته. راح يكابر جاعلاً من مرور الوقت فرس رهان، فإذا بزمن الامام الصدر ليس كسائر الازمان، انه زمن، يكاد فيه الماضي يكون حاضرًا ومستقبلاً في آن، لقد زج الظالم نفسه في سوء التقدير وهام على وجهه هربًا من وهج الحقيقة!

وأما المطالبون بجلاء الأمور، فبعضهم سعى بكل ما أوتي من قوة، ولكن ما الذي يفعله اصحاب اليد الطولى؟ ماذا يفعل القادرون؟ اولئك الذين يمتلكون الوسائل. هل انهم حقًا يجهلون ما جرى، ام تراهم يخفون سرًّا لأنهم مدركون ان وراء الأكمة ما وراءها!

نعم قضية الامام الصدر، قضية بعدها انساني بالدرجة الاولى، وتأثيراتها شخصية وعائلية واجتماعية ووطنية على حد سواء.

ماذا، أهي ايضًا سخرية القدر – في الالفية الثالثة وبدايات القرن الواحد والعشرين - ان يبقى مصير انسان كمثل الامام موسى الصدر لغزًا من الألغاز؟

أما لهذا الليل من آخر؟!

source