محطات في مسيرة الإمام الصدر

calendar icon 11 كانون الأول 2003 الكاتب:حسين الحسيني

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثامن: "الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر"


 بسم الله الرحمن الرحيم، الحضور الكريم، منذ خمس وعشرين سنة قلنا قضية إخفاء الإمام الصدر هي كبيرةٌ وستكبر. وها اننا الآن بعد خمس وعشرين سنة نجد أنها كبيرة وستكبر. لا أريد ان أصرف الوقت الثمين لاستغلال رئاسة الجلسة لأن أتكلم كثيراً. فأنا سأركز على محطات قد تُفيد البحث في مسألة البُعد الوطني والقومي والإسلامي لإخفاء الإمام السيد موسى الصدر عن طريق إيضاح بعض المحطات.

والمحطة الأولى هي الاجتياح الأول، اجتياح إسرائيل للجنوب بتاريخ 16 و17 أيلول 1972. في هذا الاجتياح الأول الذي استهدف بلدتي جويا وقانا اكتشف الإمام الصدر وكشف هذا الخلل الكبير الذي حصل في إطلاق أعمال المقاومة الفلسطينية دون وضع استراتيجية عربية موحدة. وكأن العرب عام 1967 بعد الهزيمة أرادوا إلقاء الحمل كلّ الحمل عن ظهورهم وبالتالي تحميل الفلسطينيين أو الشعب الفلسطيني الأعباء كل الأعباء عن طريق التهرّب من وضع استراتيجية عربية موحدة تمكّن كل دولة عربية من القيام بواجبها تجاه القضية العربية الفلسطينية. واكتشف الإمام الصدر أن هذه الإعتداءات المتكررة على جنوب لبنان من قبل العدوّ الإسرائيلي تأخذ طابع النزهة حيث أن هذا الاجتياح حدث سنة 1972 لم يجابه بأية مقاومة حتى ولو بحجر، الأمر الذي دعا الإمام الصدر إلى عقد اجتماع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في جويا، في اليوم الثالث من الاجتياح، وبعد أن تضافرت الجهود الدولية لإجلاء العدوّ الإسرائيل، عقد هذا الاجتماع الأول في 20 أيلول 1972. في هذا الاجتماع تم التداول بهذا الشأن وكانت البداية في إقرار خطة تدريب شباب القرى الحدودية على حمل السلاح وعلى التصدّي للعدو الإسرائيلي بحيث لا تعود الاعتداءات أو الدخول إلى الأراضي اللبنانية مجرّد نزهة.

أردت أن أقول بأن في هذه المحطة كانت بداية الصرخة الأولى في المطالبة بوضع استراتيجية عربية موحدة ونحن الآن إذا كنا أمعنّا النظر في مشكلتنا الحقيقية نجد أننا ما زلنا عند هذه النقطة أي عدم وجود استراتيجية عربية موحدة.

المحطة الثانية هي إدراك الإمام الصدر أهمية الوحدة الوطنية لدعم المقاومة. إذ أن التفريط بالوحدة الوطنية إنما هو تفريط بأعمال المقاومة، وصلب الاهتمام بالوحدة الوطنية هو تأمين الولاء التام للوطن الواحد عن طريق إقرار مبدأ ان لبنان هو لكل أهله وعلى كامل أرضه وهذه النقطة الأساسية هي النقطة التي سببت خللاً كبيراً في التكوين الوطني اللبناني منذ نشوء هذا الوطن. فكانت حركة المحرومين التي رفض الإمام الصدر منذ البداية في ان تكون حركة فئة أو حركة طائفة أو حركة مذهب أو حركة منطقة. ويهمني في هذا الصدد الإشارة إلى أن الذين أسسوا حركة المحرومين كان من عدادهم قلة قليلة من الشخصيات الإسلامية الشيعية، بينما الكثرة الكثيرة هي من شخصياتٍ تنتمي إلى كل الطوائف اللبنانية. هذه الحركة التي تبنتها هذه الشخصيات عبر النّدوة اللبنانية وعبرَ شخصياتٍ كبيرة "كالمطران جورج خضر" والأب يواكيم مبارك وغسان تويني ومروان حمادة ومحمد عطاالله وعدد كبير (لا أريد الاستمرار بسرد الأسماء حتى لا أقع في خطأ الإهمال). غير أن تطورات الوضع في المنطقة وعدم قيام المجموعة العربية أو جامعة الدول العربية بموجباتها شيئاً فشيئاً، ألقى كل عبء المقاومة على لبنان فقط. وهذا ما تسبب في بدء الأحداث اللبنانية. صحيح أننا لم نكن قد وضعنا أسس قيام الدولة التي تحمي الوطن، ومما جعل الأرض صالحة لقيام حالة عدم الاستقرار ولكن الصحيح أيضا أن التكوين اللبناني لم يَعُدْ يتحمل مثل هذه الأعباء.

فنشبت الأحداث فيما كان الإمام الصدر في ذروة تحركه لإزالة الحرمان عن المناطق اللبنانية، فإذ بالأحداث اللبنانية تندلع، وبالتالي حرصاً منه على الوحدة الوطنية كانت المواقف. ويهمني هنا أن أقرأ بعض النصوص التي هي بخط الإمام الصدر وهي عندما دعا إلى انتخابات المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في 1/7/1975 خاطب الذين يرشحون أنفسهم لعضوية المجلس بقوله: "ثم إن قيادة حركة المحرومين لا ترتبط إطلاقاً بالمجلس ـ أي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ـ وبأعضائه لأنها حركة لا طائفية تمثل وتعبر عن آلام جميع المحرومين وفي جميع الطوائف والمناطق".

وفي بداية تموز أعتقد حصلت الأحداث في البقاع فاعتصم الإمام الصدر في مسجد الصفاء في العاملية ـ احتجاجاً على هذه الأحداث وعلى مرتكبيها واحتجاجاً على التلكؤ في تشكيل الحكومة آنذاك حيث الأزمة الحكومية أيضاً ساهمت مساهمةً كبيرة في اندلاع الحرب ولم يفك اعتصامه إلاّ بعد تشكيل الحكومة وبعد زيارة أعضاء بارزين من الحكومة له في مسجد الصفاء. وما ان انتهى الاعتصام وبدأت الحكومة أعمالها وحرصاً منه على الوحدة الوطنية لصيانة المقاومة وصيانة العمل الوطني وجّه كتاباً بـ 14/7/1975 للمرحوم النائب والوزير السابق "بيار حلو" ولمن معه قال فيه:

"مع التحيات والأدعية لعلكما تتذكران حديثنا حول إمكانية تشكيل هيئة برلمانية لحركة المحرومين لا تتعارض مع الالتزامات الاقليمية والبرلمانية تهتم بمطالب المحرومين على صعيد التشريع والتنفيذ والملاحقة والاعلام وها أنا لظروف قاهرة مضطرٌّ للسفر دون إنجاز هذه المهمة والوقت يسبقنا لأن أملي أن تبدأ الهيئة عملها مع طرح الثقة للحكومة.

أرجو مُلحاً ان تعملا على دعوة السادة النواب الآتي أسماؤهم للإجتماع وللإعلام عن تشكيل الهيئة وإذا ارتأيتم زيادة أو نقيصة فأنتما معاً مفوضين فإلى اللقاء وسأكتب رسالة موجهة لهم وهم: الأستاذ بيار حلو ـ الأستاذ عبد اللطيف الزين ـ الدكتور رفيق شاهين ـ السيد حسين الحسيني ـ الدكتور البير منصور ـ الدكتور حسن الرفاعي ـ السيد محمد بيضون ـ الأستاذ سليم المعلوف ـ السيد حسين منصور ـ الدكتور طارق حبشي ـ السيد عبد اللطيف بيضون ـ السيد يوسف حمود ـ الدكتور علي الخليل وغيرهم. فإلى اللقاء".

موسى الصدر

ووجه للنواب رسالة مرفقة بالرسالة الأولى قال فيها:

"إخواني السادة النواب تحياتي وتحيات الوطن الجريح والمواطنين القلقين على مصير الوطن وتحيات المحرومين الذين يعضون على الجرح حفاظاً للوطن وبعد فإنكم تعرفون أن الأشهر الأربعة القادمة هي أغلى فرصة في حياة الوطن بل ومصيره وأن وجود لجنة برلمانية مخلصة تلاحق الأمور وتعالج محنة المحرومين أكثر من ضرورة ولعلّ فيه الإنقاذ لذلك أقترح عليكم بإسم حركة المحرومين أن تشكّلوا هيئة برلمانية لا تتنافى مع التزاماتكم الإقليمية تضع لنفسها ميثاقاً وهو تحقيق العدالة الكاملة في مجالات التنمية والفرص والحقوق المواطنية تدرس المطالب المقدمة من قبل حركة المحرومين وتَنْقدُها وتكملها وتطالب بها وتصنع الصيغ اللازمة لها وتسن القوانين المطلوبة وتلاحق تنفيذها وتتلاحم مع جماهير الحركة وتضع خطاً سياسياً واضحاً وممارساً للمستقبل للانتخابات النيابية وغير ذلك من النشاطات.

أيها الأخوة لستُ أولى بالوطن ولا بالمحرومين منكم، ولكني أصبحت أشبه برمز اللقاء بينكم فإلى الاجتماع فوراً وقبل طرح الثقة لكي يتحدث ممثلكم وإلى اللقاء".

موسى الصدر



ولم تقف الأحداث واستمرت إلى أن عُقد مؤتمر الرياض فكانت هُدنة بسيطة خلال هذه الهدنة. وفي 11/5/1977 صدرت ورقة العمل عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى المتضمنة أول موقف إسلامي يقول بالوطن بأن لبنان هو وطن نهائيٌ لجميع أبنائه وعلى كامل أرضه.

ويُهمني في هذه المناسبة أن أقرأ المقدّمة التي هي ملاحظات عامة:

"مهما كانت أسباب المحنة ومهما كانت العناصر الخارجية التي هيأتها ودفعتها وتفاعلت بواسطتها على أرضنا ومهما كان دور إسرائيل ومن يشدُّ أَزْرِهَا في هذه المؤامرة الضخمة التي حيكت خيوطها في عواصم عديدة قبل أن تنفّذ على أرض لبنان ومهما كان صراع اليمين الدولي واليسار الدولي مباشرة أو بواسطة اليمين واليسار اللبنانيين على الساحة اللبنانية ومهما كان خلاف اللبنانيين أو الفلسطينيين ومهما كانت امتيازات فئة منا وغبن فئة ومهما تعاظم عاملا الخوف والغبن عند كل من الفئتين وبكلمة واحدة مهما عدّدنا لهذه المحنة المأساة من أسباب داخلية وعربية ودولية يختلف على تحديدها اللبنانيون منا باختلاف مشاربهم ومصالحهم وانتماءاتهم يبقى أمر ثابت واضح لا خلاف عليه هو أن الجسم اللبناني كان قد فقد مناعته الطبيعية وأمسى عرضة لجميع المضاعفات".

ثانياً: "إن الوطن بمعناه العميق ليس أرضاً محددة وحسب تلتقي عليها طوائف ضمن مناطق متعايشة سلمياً في نوع من الحذر والتحاسد والتمويه بل هو قبل كل شيء مناخ استقرار وطمأنينة وثقة في إخاء حقيقي وحرية مسؤولة وطموح على بسط العدالة الاجتماعية في إطار تكافؤ الفرص للجميع وفي احترام حضاري للكرامة الإنسانية".

ثالثاً: "واجب الدولة هو إنماء روح المواطنة الصحيحة في نفوس المواطنين بكل ما لديها من وسائل ومن الفضول القول ان جميع الوسائل الناجعة للوصول إلى هذا الهدف الأسمى هي أصلاً بحكم طبيعتها بيد الدولة".

رابعاًَ: "ان المآسي في حياة الشعوب الراهنة بواتق انصهار وتُجدّد وتألق وليس كثيرا على الشعب اللبناني العريق في اصالته أن يخرج من مأساة العامين الرهيبة وقد انصهر وتجدد وتألق فيعمد إلى تعمير ما تدمر في بُنيانه الاجتماعي بل إلى تجديد هذا البنيان من أساسه بما يكفل له وحدة وطنية حقيقية لا رياء فيها ولا زيفها وحدة يكون فيها الوطن الحي الدائم التجدد على أرض الوطن".

هنا كانت الفقرة الأساسية التي كانت البداية، أولاً في هوية لبنان ونظامه: تجدو الطائفة الإسلامية الشيعية إيمانها بلبنان الواحد الموحد وطناً نهائياً بحدوده الحاضرة سيداً حراً مستقلاً، عربياً في محيطه وواقعه ومصيره، يلتزم التزاماً كلياً بالقضايا العربية المصيرية وفي طليعتها قضية فلسطين، منفتحاً على العالم بأسره يلتزم بقضية الإنسان لانها من صلب رسالته الحضارية جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد وعلى مبدأ فصل السلطات وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين في نظام اقتصادي حر مبرمج ووفق تخطيط علمي إنمائي شامل لمختلف الطاقات والإحتياجات والنشاطات في جميع المضامير بلد الكرامة الإنسانية والطموح الحضاري.

لا أريد أن أطيل على المحطات الأخرى لأختم بما حصل في شهر حزيران 1978، دون أن أُغفل الموقف الهام الذي اتخذه الإمام الصدر في موضوع الاجتياح الإسرائيلي عام 78، في آذار عام 1978، هذا الموقف الذي أمّن قيام إجماع لبناني تجسّد بالوثيقة النيابية التي نسميها وثيقة الـ 74 أي الـ 74 نائباً الذين صوّتوا بالإجماع على أسس حل الأزمة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

قبل سفر الإمام إلى ليبيا في آب، في أواخر آب 1978، قبل ذلك أي في شهر حزيران كان الإمام الصدر قد أجرى محادثات مع شخصيات لبنانية كثيرة وتمكن من إقناع عدد كبيرة من هذه الشخصيات في تشكيل جبهة وطنية للتصدي للأزمة، ولحل الأزمة ولمحاربة التقسيم فضلاً عن مواجهة الاحتلال، ومن أبرز الشخصيات التي طالها التداول هي شخصية العميد المرحوم ريمون إده الذي كان في باريس حيث جرى التواصل معه وتمّ الاتفاق معه على تشكيل جبهة وطنية من 16 شخصية لبنانية على رأسهم الرئيس السابق للجمهورية الرئيس سليمان فرنجية والعديد من رؤساء المجلس والحكومات والشخصيات السياسية والقيادات اللبنانية بحيث يتأمن الإجماع اللبناني لهذا الحل ووافق الجميع وكادت هذه الجبهة أن تولد في بحر آب 1978 غير أن في اللحظات الأخيرة جرى تباين في الرأي حول مكان عقد الاجتماع فكان هناك اقتراح بعقد الاجتماع في صوفر في أوتيل صوفر الكبير وكان هناك اعتراضات على هذا المكان. فاتفق على تأجيل الاجتماع إلى ما بعد عودة الإمام الصدر من سفره لعقد الاجتماع في قصر بيت الدين وطبعا حصل السفر وحصل الإخفاء وفي هذه المناسبة أريد أن أنوّه بما سمعته صباحاً في الافتتاح بكلمة نجل الإمام الصدر السيد صدر الدين الصدر وقد وُفّق كثيراً لتعداد المحطات التي تتعلق بعملية الإخفاء والتي تحسم حسماً نهائياً مسألة اللغط حول ما إذا كان الإمام الصدر قد غادر ليبيا أم لم يغادر ليبيا فالإخفاء قد حصل في ليبيا وأثناء زيارة رسمية.

أرجو أن تكون هذه المحطات التي ذكرتُها من شأنها إلقاء الضوء أو إيضاح بعض الجوانب المعتمة في قضية الإخفاء لأترك المجال إلى الأخوة المشاركين في هذه الندوة بحيث نستمع إليهم وأتمنى على الدكتور باسم الجسر أن يبدأ بالكلمة.

شكراً

source