البعد الوطني في قضية تغييب الإمام موسى الصدر

calendar icon 11 كانون الأول 2003 الكاتب:باسم الجسر

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثامن: "الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر"






قضية تغييب الإمام موسى الصدر، فرضت نفسها، ولا تزال، على لبنان وعلى الوطنية في لبنان، بكل ابعادها ومعانيها. ومعظم الاسئلة التي طرحتها هذه القضية منذ ربع قرن، ما زالت بدون جواب شاف.

غني عن القول ان التغييب كان له نتائج وطنية اعمق وابعد من الاهداف السياسية المباشرة أو البعيدة، التي كانت اللعبة العبثية الدامية تدور حولها في لبنان.

كان الإمام موسى الصدر في اوج دوره السياسي والوطني في لبنان عندما بدأت الحرب اللبنانية عام 1975. لم يكن الزعيم الديني والسياسي الابرز في الطائفة الشيعية فحسب، بل كان قد كوكب حوله نخبة من الشخصيات السياسية والفكرية والثقافية المنتمية إلى كل الطوائف اللبنانية، جذبتهم إليه شخصيته الفذة، وجمعتهم به مبادئ وتطلعات وطنية وسياسية مشتركة.

فما تراها كانت تلك المبادئ والتطلعات؟

بين عام 1959، عام مجيء الإمام إلى لبنان، وعام 1975 يوم بدأت الحرب اللبنانية، كانت مسيرته ظاهرة جديدة بل حدثاً هاماً، في الحياة الوطنية والسياسية اللبنانية. ابتداء من الخدمات الاجتماعية والانسانية في صور والجنوب وانتهاء بانشاء المجلس الأعلى للطائفة الشيعية، ومرورا بحركة المحرومين وافواج المقاومة اللبنانية. اصبحت ظاهرة الإمام الصدر تحتل موقعا مميزاً ومتقدما في الساحة السياسية والوطنية اللبنانية منها والعربية.

ويمكننا القول، بل التأكيد على ان الإمام موسى الصدر نجح في السنوات الأولى من السبعينات لا في ان يكون القائد الروحي الأول والزعيم السياسي الاهم للطائفة الشيعية في لبنان، فحسب بل في ان يصبح قطب تيار وطني – سياسي لبناني يشارك فيه او ينضوي عدد كبير من المثقفين والسياسيين من كل الطوائف، بل وصاحب مشروع وطني سياسي اصلاحي ينتظر الفرصة التاريخية أو المناسبة السياسية، ليتحول إلى قوة سياسية قادرة على الاصلاح والتغيير.

لقد كان الإمام موسى الصدر، رجل دين نذر نفسه كأجداده من قبله لخدمة الاسلام. وكان اماما للشيعة في لبنان، وما عمله في سبيل رفع الحرمان عن مناطقهم، والدفاع عن مصالحهم لا يحتاج إلى دليل. ولكنه كان ايضاً زعيماً سياسياً وصاحب رؤية وطنية لبنانية واخرى قومية عربية.

فما هي بالضبط هذه الرؤية؟ وما كان بعدها قبل تغييبه، واين هي بعده؟

ليس من الصعب استخلاص النظرة الوطنية والمواقف السياسية للإمام موسى الصدر من خلال التصريحات والخطب والمحاضرات التي جمعت في مجلدين تلك التي ادلى بها قبل اندلاع الحرب في لبنان، وبعدها.

كان يؤمن بأن الاحترام المتبادل هو اساس للتعاون بين اللبنانيين. وانه لا خوف من تعدد الطوائف والمذاهب والمواقف. وان لا كرامة لشعب بدون سيادة واستقلال. وان القضية الفلسطينية هي قضية لبنانية. وان الوحدة الوطنية الحقيقية هي وحدة لكل المواطنين في كل الاهداف والمعايير. وان لا حل لقضية الفدائيين في لبنان الا بالحوار. وان اكثر الناس تعصبا لطائفته هم اكثرهم بعدا عن الدين. وان الطائفية في لبنان سياسية وليست دينا. وان تعايش الطوائف في لبنان هي التجربة الحضارية الوحيدة في العالم وهي ادانة صارخة لإسرائيل.

كان يردد ان اسرائيل هي عدو لبنان الأول. ويدعو إلى تقوية الجيش اللبناني وتدريب الشباب على الخدمة العسكرية وتوفير السلاح للصمود والمقاومة. وللتعاون بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية لتنفيذ اتفاق القاهرة.

كان يقول: ان المحافظة على لبنان ضرورة دولية وواجب قومي ووطني. ويتمنى ان يتحول النظام السياسي اللبناني إلى نظام ديموقراطي يعتمد على الكفاءة. وان من مسؤولياته تصحيح المناخ السياسي وادخال المزيد من الاخلاق في الصراع السياسي.

كان يؤمن بالاصلاح، لا بالعنف الثوري او الانقلابي. وان المشكلة الاجتماعية تشكل ارضا خصبة لكل الأزمات وان مستقبل لبنان مرهون بأمر القضية الاجتماعية.

وكان إذ اندلعت الحرب في لبنان، واصطدم مشروع التغيير الذي كان الإمام يجمع من حوله القوى المؤمنة مثله بالتغيير الديمقراطي الوطني بهذا الانفجار الذي راح يتحول سنة بعد سنة إلى انفجارات متعددة الاسباب والابعاد.

لم يستسلم الإمام للحرب التي كان قد تنبأ عنها وحذر من وقوعها، بل كرس كل وقته وجهده لوقفها. للعمل على التوفيق بين المتقاتلين فيها وعلى القيام بكل الاتصالات والخطوات داخليا وعربيا ودوليا لاخماد نيرانها.

اعتصم صائما في احد المساجد عل اعتصامه وصيامه يحملان المتقاتلين على وقف تقاتلهم. وشارك في كل اللقاءات والمساعي التي كان من شأنها وقف الحرب وايجاد مخارج سياسية لها.

كان يرفض اسقاط القضية الفلسطينية ويطالب بالتنسيق بين المقاومة والدولة اللبنانية. ينادي باستمرار الحوار بين المسلمين والمسيحيين. مؤكدا على ان الدين انما وجد لخدمة الانسان، وانه لا يتناقض مع حب الوطن والدفاع عنه وانه يجب وقف الاقتتال الداخلي و توجيه كل السلاح نحو العدو الاسرائيلي.

كان أول من حدد الاصلاحات السياسية المطلوبة لتحقيق مصالحة وطنية والتي شكلت اهم بنود الوثيقة الدستورية، عام 1976، ثم اتفاق الطائف.

كان يعتقد ويعلن ان الصراع في لبنان كان بين قوى خفية تفوق في امكاناتهم جميع الاطراف اللبنانية فيه. وان النتيجة الوحيدة المؤكدة هي خسارة جميع الاطراف.

كان يردد: ان الحل يأتي عن طريق التضامن العربي والوفاق السياسي وتفاهم اللبنانيين والفلسطينيين. واكد على ضرورة دعم الرئيس الياس سركيس ومساعيه للخروج من الازمة والحرب.

كان واضحا عنده، ان اسرائيل تحرض على التقاتل والتفجير وان سوريا تعمل لمنع التقسيم.

وفي السنة التي سبقت تغييبه كانت قناعته تتلخص في العناوين والشعارات التالية:

منع التوطين – بسط سلطة الدولة على كل لبنان - تداخل الصراعات العربية العربية في صفوف المقاومة الفلسطينية – التجاوزات التي يقوم بها المتطرفون تخدم الغايات الاسرائيلية – الخشية من تدخل الجيش الاسرائيلي في حال تدهور الوضع في الجنوب – الدعوة إلى قيام حكومة وفاق وطني.

يبقى السؤال موضوع هذه المداخلة، عن البعد الوطني لتغييب الإمام وهو سؤال يمكن او لا بد من تفصيله في عدة اسئلة:

سؤال أول عن تأثير أو بعد التغييب في مجرى الاحداث والحرب في لبنان؟

سؤال ثان عن تأثير التغييب على قيادة الطائفة الشيعية الدينية والسياسية في لبنان، في الحرب وما بعد انتهاء الحرب؟

سؤال ثالث عن بعد التغييب وتأثيره على مفاهيم الوطنية الجديدة، والاصلاح السياسي في لبنان؟

سؤال رابع عن تأثير التغييب على المعادلات التي تتجاذب مصير الشعب اللبناني ومصائر كل الشعوب العربية والاسلامية، من عقائدية دينية – سياسية، وقومية ووطنية وديمقراطية واقتصادية وانسانية؟

لا مجال للاختلاف في الجواب على بعض هذه الاسئلة، والقول، اولا بأن تغييب الإمام احدث فراغا كبيرا في الواقع الوطني والسياسي اللبناني، في تلك المرحلة من الحرب اللبنانية بالذات. وبعدها. ومع احترامنا وتقديرنا لكل المرجعيات الدينية والوطنية والسياسية التي تولت القيادة و التوجيه والتحرك من بعده، فان هذا الفراغ ظل قائما وملموسا. لقد كان الإمام موسى الصدر يجمع في شخصه وفكره ومكانته عدة قيادات توزعت وتفرقت بل وتخاصمت من بعد تغييبه. ويختلف الامر، حتما بين خط واهداف ترسمها قيادة واحدة وبين خطوط واهداف تتنافس واحيانا تتنازع عدة قيادات على اولوياتها.

ان بصمات الإمام موسى الصدر على تاريخ لبنان الحديث ما زالت مطبوعة. والمؤسسات التي انشأها لخدمة مصالح الطائفة الشيعية ما زالت قائمة وعاملة. والمشروع الوطني السياسي الاصلاحي الذي كان ينوي اطلاقه قبل الحرب. تجسد قسم كبير منه في اتفاق الطائف، والإمام شمس الدين الذي خلفه في رئاسة المجلس الشيعي الاعلى كان خير خلف لخير سلف، في ترسيخ الاجتهادات الدينية والمبادئ الوطنية والانسانية التي كان الإمام الصدر يدعو إليها. ولا تزال صورة الإمام حاضرة على الساحة السياسية، عبر "حركة امل"، التي تعتبر الإمام المغيب، قائدها الروحي وبالرغم من كل التحفظات السياسية على قيادتها والانتقادات التي تعلنها التنظيمات والقيادات والمرجعيات السياسية والروحية الاخرى، المتسابقة على تمثيل الطائفة الشيعية او قيادتها؟

كان الإمام موسى الصدر، احد ثلاثة او اربعة زعماء روحيين سياسيين لبنانيين، ممن طبعوا بصماتهم على تاريخ لبنان الحديث، سواء بالدور الوطني الاصلاحي الذي قاموا به، ام بالشعارات التي اطلقها وتحولت إلى مبادئ. وايا كانت الاسباب والظروف الظاهرة او الاغراض العميقة المخفية وراء تغييبه، فان المسؤولين عن هذا التغييب لم ينجحوا في تغييب صورته وفكره ومبادئه عن قلوب ابناء الطائفة الشيعية واللبنانيين عموما، ولا عن خاطر دعاة الاصلاح والحوار بين الاديان والحضارات في العالم، ولا عن بال الذين آمنوا معه بأن المصلحة القومية والمصلحة الوطنية والمصلحة الانسانية، تنبع او تلتقي مع الايمان الصحيح والصادق بالله، وبالحرية والعدالة واحترام كرامة الانسان.

وها نحن اليوم وغيرنا غدا، نلتقي لنؤكد على ان وجه الإمام الصدر ومبادئه الانسانية والاصلاحية، لم تغب، رغم تغيبه.

source