في تغييب السيد الإمام موسى الصدر

calendar icon 12 كانون الأول 2003 الكاتب:مروان فارس

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثامن: "الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر"



تغييب الامام موسى الصدر قضية من القضايا التي واجهت العقل في في الربع الاخير من القرن العشرين. وهي ما زالت محوراً كبيراً من محاور التفكير في المرحلة الراهنة لانه لا بد من الوصول الى الحقيقة التي تكشف الاسرار والالتباسات المحيطة بها , خاصة وان شخصيته العظيمة تمثل منارة مضيئة في بحر الظلمات التي تغمر هذه المنطقة التي ننتمي اليها في الشرق الذي عرف تاريخه ولادة الاسرار المقدسة وجبروتها في حركة التاريخ. ففي الديانات السماوية, التي تشكل هوية الناس داخل الامة ترتفع مسائل معينة من مستويات الاعتيادي لتصل الى مستوى اللااعتيادي فتضج الحياة بما هو خارج عنها الى داخل عميق لا أغوار له ولا نهايات. فالموضوعة لم تعد موضوعة رجل اختفى في حقبة من الزمن الحديث بل هي على أكثر من ذلك اذ تحول الاختفاء بحد ذاته الى قضية لما تمثل من أبعاد ومعطيات ولما يحمل هذا الرجل من رسالات ترفعه الى مقام العلماء . لذلك واذ تتكاثر الاسئلة حوله وتبقى الى الان دون اجابات فان اية محاولة للقراءة في رسالته تبقى محاولة الى ان ينكشف السر الذي حمله في حياته والذي يكبر في اختفائه . مما يحفز بنا في البحث عنه للدخول عنده الى محكم الاسرار التي يحملها والى طرائق الكشف عنها واساليب التعاطي مع قضيته امام المحافل المحلية والدولية وبشكل خاص امام الامم المتحدة.

أولاً: محكم الاسرار

تمتلئ سيرة السيد الامام موسى الصدر بالاستمرار في الحركة باتجاهات مختلفة تدور جميعها حول هدف وحيد هو تغيير الحياة الروحية والاجتماعية في حياة الناس. فهو لذلك في اي موقع من المواقع التي عمل في اطارها كان يشغل العقل الفردي والعقل الجماعي للناس. وهذه خاصية من خاصياته الكبرى. فلم يهدأ في مكان من الامكنة وكان المكان الوحيد دائما مقدما من مقدمات الامكنة في فكره وفي سلوكه. ففي التعاطي مع دور المراة في الاجتماع البشري اعتبر بان المراة هي اكثر من عنصر مكون للمجتمع, اعتبرها عاملاً اساسياً من عوامل النهوض بحاجاته الاساسية. لذلك اعتمد لها اطرا ومؤسسات تعمل داخلها بما تتمتع به من قدرات دؤوبة .

وهو اذ توصل في العلوم الفقهية الى درجة الاجتهاد كان بذلك من طلائع الفكر الاجتهادي الذي شكل العمل في الاطار هذا بالنسبة له موقعا من مواقع الاستبصار بالحقيقة ورفعها الى حقائق اخرى تفتتح طرقا ومناهج. من هذا الاساس فان وضعه للمنهج الاجتهادي قاده باستمرار الى تاسيس الوسائل الاجتهادية. ففي مجال الاعلام عن الحقائق التي كان يقوده الاجتهاد للكشف عنها ذهب به المسار الى تأسيس الوسيلة الاعلامية لما كان يسعى اليه بغية تعميمه بدءا من محاولاته باصلاح المفاهيم داخل الحوزة وصولا إلى تأسيس المجلة الثقافية العاملة في حقول المعرفة.

واذ كان اول معمم يدخل الجامعة في طهران كان بذلك يشكل الرمز العلمي الذي اختصر المسافة بين الواقع واحتمالات التغيير فيه . وما المعركة الهائلة التي تقودها الجامعات الان في طهران باتجاه المنافسة في العلوم النووية الا اتباعا للنهج الذي اعتمده الامام السيد موسى الصدر في علاقته مع حركة الثورة الاجتهادية والعلمية التي مثلها علماء الشيعة في ايران وفي مقدمتهم الامام الخميني الذي كانت تربطه به علاقة الثورة التي هي علاقة التغيير الكبير الذي ادى الى الاطاحة بنظام الشاه وما يحمله من تخلف ومن رجعية. ان السيرة في ايران هي ذاتها السيرة في النجف وفي لبنان .

ان الولوج مكامن العلم بالاجتهاد والوصول الى معطيات المعرفة في الجامعة , كل ذلك قاد بالسيد الامام موسى الصدر الى تاسيس حركات التغيير مستهدفا اهدافا اساسية في التغيير الفكري والاجتماعي في مختلف الامكنة والحقول. فان قاوم من اجل حياة اجتماعية جديدة في ايران كان دائم السعي لاقامة حياة اجتماعية جديدة في لبنان. فاعتمد لذلك اساليب الاحتجاج الديمقراطية المتعارف عليها دولياً. فكانت اضرابات بيروت وصور وبعلبك وحشد الناس حولها مقدمة لانشاء مجلس الجنوب مثلا وانشاء حركة المحرومين ومثالا اعتمده السيد الامام الخميني في حركته الثورية الكبيرة التي ادت الى سقوط نظام الشاهنشاهية. والجوهر في المسالة هذه يتمثل في ان معطيات الثورة في سلوك السيد موسى الصدر ليست معطيات احادية الجانب. اذ تم الوصول الى التغيير بادوات مغايرة للادوات الثورية التقليدية. فكان التغيير في الثورة من صلب الاجتهاد الذي توصل في ما يلي الى اعتماد المعطى الديني في الجهاد المقدس الى معطى قتالي في اسقاط الظلم وبالتالي تهاوي انظمة الظلم.

على هذه السوية العقائدية كان لحركة السيد الامام موسى الصدر الفضل الكبير في انتاج وسائل المقاومة الي ادت الى الانتصار على العدو الاساسي للامة والذي كان هو اول من اعتبر بان "اسرائيل هي الشر الطلق".

ان ابلغ ما في قضية السيد الامام موسى الصدر على المستوى النظري في هذا المجال انه كان عامل تاسيس نظري هام في الحركة المؤدية الى الانتصار. فنجاح المقاومة في لبنان في هزيمة "الشر المطلق" وهو يتماثل مع انتصار الثورة الاسلامية في ايران يقود الى استنتاج نظري يوصل الى التقاء الاجتهاد حول الجهاد بالجهاد نفسه. فالاجتهاد بحد ذاته شكل من اشكال الجهاد من اجل القضية التي تعبر عن معطيات الحياة الجديدة.

ثانياً : محكم العمل

هذه الحياة التي كان دائم السعي اليها لم ينحصر البحث عنها في مكان من الامكنة المعرفية بل انتقل الى كل الامكنة التي كان يمكن الذهاب اليها . وهذا الامر يرتبط بمفهوم للحضارة التي كان دائم البحث عنها في الارض والاديان والعلاقات .

أ ـ في نهج الامام موسى الصدر توق الى المعرفة في الاطر المختلفة التي تتواجد داخلها وفي الامكنة المتعددة التي يمكن ان تتحدد اقامتها فيها . هذا التوق الى المعرفة قاده الى الانتقال بين الدول والقارات والالتقاء بالشعوب المختلفة على وجه القرى الارضية. هذا الامر في حياته ادى عنده الى تكوين لمفهوم للحضارة كان لبنان من اشد البلدان حاجة اليه. اذ تشكل في التاريخ من مجموعات حضارية مختلفة اعتبرها هو مجموعة حضارية واحدة. لذلك فانه تشارك مع الجامع والكنيسة والحسينية في هم توحيدي واحد تحول الى مسعى منتظم في سلوك فكان لقاؤه مع ميشال اسمر والاب يواكيم مبارك مثلا ناجحا لمسلك فكري واتجاها في اتجاهاته النظرية قاده الى بناء علاقة وثيقة مع الفاتيكان حيث ربطته بقادة الكنيسة المسيحية وشائج التعرف والمحبة. لذلك كانت قضية غيابه بحد ذاتها قضية حضارية اذ تم اعتبارها طعنة في عمق الحضارة البشرية التي تحددت من خلاله في القرن العشرين كنمط انفتاحي داخل حركة الاديان في انتقالها من الجمود الى المعطيات الجديدة في النظرة الى الحياة والكون. ان المسالة النظرية على هذا المستوى تتمثل في السعي الى التقاط عناصر الوحدة داخل الاختلاف في الحغرافية وفي الزمان في المادة والروح. مما يوحي بقدرة عظيمة في ابداع المعادلات التي سعى اليها باستمرار . فكان الانجاز عنده مقدمة لانجازات وكان الخلق مقدمة لمزيد من التعرف الخلاق في في سياق البحث عنه .

ب ـ داخل هذه الحركة الكبيرة في احضان المعارف الانسانية لم تغادر الثوابت الاساسية في الفكر المنهج العقلي عنده . فالعداء لاسرائيل في نهجه الفكري تحول الى حالة واقعية ادخل الناس في اطارها . وتواكب الموقف النظري مع الاجتهاد العملي. فاعتبار "السلاح زينة للرجال " اتى اعلانا داخل حركة الناس المجتمعة حول قضية. ولما كانت القضية بحاجة الى انتصار تاسست الحركة الموصلة اليه عند المحرومين. وهذه الحركة لانها كانت تعبيرا عن فكرة تحولت الفكرة الى معطى عند الناس. وهذا المعطى ادى الى نشوء المقاومة ومن ثم شمولها حركة الناس فعلا ثوريا ودعما من خارج امكنة الاجتهاد الى داخل امكنة التعاضد . وبذلك تحول مفهوم السيد موسى الصدر من حالات متمايزة الى حالة وحيدة قادت الى تحقيق النجاح الكامل حتى بعد غيابه. فانتصار المقاومة على اسرائيل في لبنان, اذ تشاركت فيه الاحزاب والعقائد المختلفة كان نتيجة لمعطيات انفتاحية في الفكر الذي ساهم بانجاز التغيير التاريخي الكبير. بذلك لم يكن السيد الامام موسى الصدر مقدمة من مقدمات الانتصار بل عاملا اساسيا من عوامل تحقيقه. اذ تحول اتباع فكرته الى مقاتلين ومن ثم الى شهداء. وتحول متبنو فكرته الى حاضنين لهذه الفكرة . فكان هو محكم اسراره شرطا من شروط الانتصار الذي تحتاج قراءته الى بحث عميق .

ج ـ في رحاب الفكر الثوري والتغيير اللاحق به لم تغادر القضية الفلسطينية رحاب عقله المتسع . بل كانت اساسا قامت عليه حركته المستمرة اذ اعتبر القضية بحد ذاتها قضية مقدسة. واذ ترافق مع جملة افكاره التحذير من الخطر الصهيوني فأقام الشبكة النظرية لوشائح الفكر في هذا المجال. لم يكتف باعتبار اسرائيل شرا مطلقا بل دعا الى مقاتلة هذا الشر وصولا الى احتضان الشعب الفلسطيني في مكان الاعتداء عليه وعلى مقدساته التي هي مقدسات اسلامية ومسيحية تعني مقدسات عامة للبشرية مما دفع بانتاجه الفكري الى التمركز حول اللطخة الحضارية التي تشكلها الصهيونية بوجه القيم الانسانية مسيحية كانت ام اسلامية . ان التحذير من الخطر الصهيوني واعتبار اسرائيل شرا مطلقا ونصرة الشعب الفلسطيني قضايا متلازمة عنده على الصعيد المنهجي وبالتالي على الصعيد العملي في استتباعات العمل لتحقيق النهج والفكر. مما ادى على الساحة اللبنانية التي كانت المسائل الطائفية عاملا اساسيا فيها وسببا من اسباب القتال الداخلية بين الفرقاء اللبنانيين .وفي الوقت ذاته ايضا اذ كانت المسالة الفلسطينية بين اللبنانيين خرج السيد الامام موسى الصدر من كل ذلك بمشروع توحيد حول القضايا الخلافية فكان الى جانب القاع المسيحية ودير الاحمر المسيحية في حمى الصراعات الطائفية . فتقدم موقعة الوطني على موقع الانتماء الطائفي في هذا المجال وتوجيه المعركة ضد الصهيونية باتجاه تاسيس الحركة المعادية لها وهي تعالج حرمان الناس بذلك كانت معركة الناس معركة واحدة ضد الحرمان وضد الاعداء. وبذلك اعطيت اشارات الوحدة على حساب اشارات الافتراق.

ثالثاً : الدور في المحافل الدولية

لان شخصية السيد الامام موسى الصدر هي على هذا الاتساع النظري وعلى هذه المسافة الشاهقة من خلافات الناس بعضهم مع البعض الاخر افرادا وفرقا وشيعا , كان الاجتماع حوله اجتماعا فريدا يقتضي بالتعبير عنه وتمثيله موقفا موحدا للجميع في البحث في قضية تغييبه والمسؤوليات في ذلك تقع على جميع اولئك الذين يبحثون عن الحقيقة في الامر. وبشكل خاص على المستوى الدولي فالمحافل الدولية التي كان سماحة الامام دائم التوجه اليها لنصرة القضايا العادلة في العالم وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني وقضايا الشعوب العربية , معنية بالكشف على جملة الاسرار المحيطة بغيابه الطويل عن الحقيقة بالذات. فمصيره يساور مصير الحقائق الاساسية في التاريخ المعاصر. من هنا فان جميع الاطر الدولية وبشكل خاص اطار المفوضية السامية لحقوق الانسان معنية بايجاد الاجابات الحقيقية في هذه القضية التي تتحول بفعل مرور الوقت الى قضية شائكة. فالامم المتحدة التي هي مرجعية دولية اولى في في قضايا الانسانية العادلة معنية مباشرة بقضية السيد الامام موسى الصدر واللجنة البرلمانية اللبنانية لحقوق الانسان لا تتعاطى بشكل عابر من تغييب الامام موسى الصدر بل قضية تغييبه قضية جوهرية من القضايا التي تتعاطى معها في التشريع وفي البحث عن الاجابات المحقة في غيابه .

ان الموضوع ليس موضوعا لبعض اللبنانيين في طائفة او في حركة . انه حق لجميع اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم الفكرية والعقائدية والروحية . فلقد جسد السيد الامام موسى الصدر خير تجسيد لروح الامة التي انتمى اليها وهي في مسارها الطويل للخروج من الحرمان والظلم من تنتمي اليه في روحه وافكاره . لذلك كله فان الجمعية العامة للامم المتحدة والتي كان لبنان احد المؤسسين فيها والتي تاخذ مقدمة الدستور اللبناني بما توصي به مبادئ وشرائع وقوانين, ان الجمعية العامة للامم المتحدة مطالبة بتشكيل لجنة من اعضائها للنظر في قضية السيد الامام موسى الصدر واصدار احكامها العادلة بشانها وصولا الى عودته لاهله وقضيته التي هي قضية دولة عضو في اطارها.

source