الآلية المتعلقة بالإختفاء القسري

calendar icon 12 كانون الأول 2003 الكاتب:جورج آصاف

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثامن: "الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر"





في هذا اليوم الذي انتقي للتحدث عن تغييب سماحة الإمام موسى الصدر لا يسعني وأنا أتطرق للآلية الدولية الخاصة بالاختفاءات القسرية وسبل اللجوء إليها سوى العودة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نحتفل هذه الأيام بمرور خمسة وخمسون سنة على صدوره.

وقد وصفه شارل مالك وهو أحد صانعيه بأنه "خميرة لضمير العالم" مستبقاً الاعتراضات التي قد تقوم حول أية محاولة لإقرار الإعلان بصيغة معاهدة أو اتفاقية دولية ملزمة لموقعيها، فأراد الإعلان الدولي مدخلاً لإيجاد آليات مختلفة عن الآليات الخاصة بالمعاهدات، التي لا تطبق إلا بقدر عدم إدخال تحفظات عليها، وهكذا نشأت الآليات الخاصة في لجنة حقوق الإنسان خارج إطار المعاهدات.

ولم يخطأ شارل مالك أيضاً عندما أعطى للهيئات غير الحكومية، وانسجاماً مع هذه الفكرة، دوراً استشارياً على مدى ثلاث سنوات في وضع صيغة الأولية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فتطور هذا الدور في العقود المنصرمة إلى أن أصبح في صلب الآليات الخاصة بعمل هيئة الأمم المتحدة لا سيما في مجال حقوق الإنسان.

لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة:

إن لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة هي إحدى ست لجان تقنية منبثقة عن هذا المجلس وهي غير لجنة حقوق الإنسان الخاصة بآلية تطبيق العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية وتدوم دورتها العادية السنوية ستة أسابيع حيث تنعقد في قصر الأمم المتحدة في جنيف (سويسرا).

تضم هذه اللجنة ممثلين عن 53 دولة وتبحث من 1967 في واقع حالة حقوق الإنسان في بعض الدول وذلك بحسب نمطين، الأول منهما علني والثاني سرّي.*

ومنذ 1980 أدخلت اللجنة المذكورة، من ضمن وسائل العمل المعتمدة لديها، هيئات متخصصة تضطلع بانتهاكات نمطية تحصل في أية بقعة من العالم وليس فقط في دولة معينة، ومعظم هذه الهيئات التابعة للجنة حقوق الإنسان مؤهلة لاستلام الشكاوى وتطبيق قانون حقوق الإنسان الدولي عند بحث مضمونها تماماً كما تفعل اللجان الخاصة بتطبيق المعاهدات المتعلقة بحقوق الإنسان، كل منها بالنسبة للمعاهدة التابعة لها.

مجموعة العمل المختصة بالاختفاءات القسرية:

نشأت مجموعة العمل المختصة بالاختفاءات القسرية من ضمن هذه الهيئات وذلك بناءً على مشروع قرار تقدمت به فرنسا سنة 1980 بعد أن اعتمد النظام العسكري في الشيلي الاختفاءات القسرية كوسيلة للتخلص من المعارضين.

هذا المشروع التي تقدمت به فرنسا، وهي دائماً السباقة في مجال حقوق الإنسان، كان يقضي بالسماح للمنظمات غير الحكومية بالتقدم بشكاوى وبطلبات مباشرة من مجموعة العمل المختصة بالاختفاءات القسرية التي تتمتع بسلطة التحقيق مع الحكومات حول مصير ضحايا الاختفاء القسري في بلادها.

وقد انقسمت آنذاك لجنة حقوق الإنسان فيما بين أعضائها حول هذا المشروع:

من جهة ممثلي الدول الغربية ومن جهة أخرى ممثلي دول ما كان يسمى بالكتلة الشرقية التابعة للاتحاد السوفياتي التي اعترضت على إنشاء مجموعة العمل هذه متذرعة بمفهوم السيادة الوطنية بحسب المادة 2 الفقرة السابعة لميثاق الأمم المتحدة (وهذه الفقرة تتحدث عن السلطة السيادية للدولة).

إلا ان مجموعة من دول كتلة عدم الانحياز رجحت الكف لصالح المشروع الفرنسي الذي قبل بالإجماع أي بدون تصويت، كحلّ وسط.

وقد عيّن خمسة أعضاء لمجموعة العمل الخاصة بالاختفاءات القسرية التي رأسها آنذاك محمد الجابري وهو من الجنسية العراقية فكان أن علقت عضويته في المجموعة من قبل حكومته وما لبث أن أصبح هو الآخر من ضحايا الاختفاء القسري بعد بضعة أشهر من ذلك.

وقد أنشئت في الفترة التي امتدت من 1980 إلى 1995 أربعة عشر مجموعة عمل حول حالات شتى لم تعط في معظمها السلطات التي أعطيت لمجموعة العمل الخاصة بالاختفاءات القسرية.

رغم ذلك فأن تعدد مجموعات العمل تسبب بحالة اختناق لدى مركز حقوق الإنسان في الأمم المتحدة (وهو الآن يعمل تحت اسم المفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة) المولج أمانة سرّ هذه الهيئات والذي لم يكن لديه الإمكانات الكافية للقيام بهذا العمل.

آلية العمل لدى المجموعة المختصة بالاختفاءات القسرية:

أما آلية العمل لدى المجموعة حول الاختفاءات القسرية فهي تتمحور حول اجتماعات ثلاث سنوياً تبحث المجموعة خلالها الشكاوى الواردة إليها بعد أن تتحقق أمانة السر في المفوضية العليا لحقوق الإنسان من شروط قبولها وتقوم بإحالتها إلى الحكومات المسؤولة وتنجز التقارير تباعاً، كل ذلك من خلال قسم التشريع وقسم الآليات الخاصة في المفوضية العليا.

ولا تشكل موازنة المفوضية العليا لحقوق الإنسان أكثر بكثير من 50.5% من موازنة هيئة الأمم المتحدة وهي مولجة بأمانة سرّ عشرات الهيئات المختصة بأنماط انتهاكات أو بحالة حقوق الإنسان في دولة معينة، من مجموعات عمل ومقررين خاصين.

وكذلك بأمانة سرّ المقررين الخاصين حول حالات نمطية لانتهاك حقوق الإنسان.

تمتد ولاية مجموعة العمل حول الاختفاءات القسرية على ثلاث سنوات يمكن تجديدها ولها من الاختصاص ما يجعلها تضطلع بالانتهاكات الفردية التي قد تتناول حتى فرداً واحداً كما بالحالات الجماعية وهي مخولة لاستلام الشكاوى والمعلومات من جميع أنحاء العالم وتقصّي الحقائق بنفسها مباشرة من خلال زيارات ميدانية أو بصورة غير مباشرة من خلال المصادر الأخرى التي تعتمدها دون حاجة أن يكون للمصدر صفة أو مصلحة مباشرة.

وتأتي الشكاوى من شتى المصادر بما في ذلك الأفراد والهيئات غير الحكومية. وبصورة عامة تؤخذ الشكاوى الواردة من قبل أعضاء عائلة الضحية بأكثر جديّة لما في الحالة من خصوصيات يصعب على الغريب الدخول إليها.

أما فيما يتعلق بتاريخ حصول الاختفاء القسري فلا شيء يمنع مجموعة العمل من النظر في قضايا اختفاء حصلت منذ أمد بعيد والطلب رسميا من الحكومة المعنية إعطاء المعلومات اللازمة حول القضية ومن ثم تفعيل آلية التحقيق لحين الوصول إلى نتيجة ولو كانت سلبية.

تقدم المجموعة تقريراً سنوياً للجنة حقوق الإنسان تضمنه ما توصلت إليه من نتائج.

يمكن إيجاز عمل المجموعة بأن عليها بذل الجهد عند تسلّم معلومات عن اختفاء شخص ما، حفاظاً على سلامته وحياته، بالتوجه إلى حكومة البلد المسؤول بنداء عاجل لمتابعة الأمر وتزويد المجموعة بالمعلومات كما قامت به الحكومة هذه لجلاء الأمر.

ومن جهة أخرى دعوة الدول حيث تحصل انتهاكات موثقة إلى احترام قانون حقوق الإنسان.

إذن عند حصول اختفاء تتحقق اللجنة من ظروف الاختفاء ومن ثم تقوم بوصف هذه الظروف من ناحية القانون الدولي أي أنها تستند إلى مجموعة المعاهدات الدولية والإعلانات الصادرة عن الأمم المتحدة والقانون الدولي العرفي.

وهي تتابع الإجراءات التي قد تتخذها الدولة المسؤولة من ناحية التحقق من حصول الانتهاك وإجراء المقتضى لا سيما تقديم المنتهكين أمام القضاء المختص والاقتصاص منهم والتعويض للضحايا عما أصابهم من انتهاكات ذلك ان القانون الدولي في مجال حقوق الإنسان يلزم الدول بموجبات تجاه الأفراد الذين هم تحت سيادتها.

وفي هذا المجال أن انتهاك حقوق الأفراد يعتبر انتهاكاً من قبل الدولة تحاسب عليه أمام المحافل الدولية التابعة للأمم المتحدة.

وتبقى مسؤولية الدول قائمة رغم التستر وراء مجموعات مسلحة تقوم هي بعمليات الخطف والإخفاء عند بروز التواطؤ لا بل التنسيق بينهما.

وقد وصفت مجموعة العمل المختصة بالاختفاءات القسرية هذه الانتهاكات بأنها مكوّنة لجريمة ضد الإنسانية.

الأصول المتبعة للنظر في الشكاوى أمام مجموعة العمل الخاصة بالاختفاءات القسرية:

أما الأصول المتبعة للنظر في الشكاوى فهي نوعا ما مبسّطة إذ لا تضع مجموعة العمل الخاصة بالاختفاءات القسرية أية شروط صارمة لتقبل الشكاوى شرط أن تكون هذه تحتوي على معلومات دقيقة بحسب استمارة وضعتها مجموعة العمل خصيصاً لذلك.

تعتمد المجموعة أصول مختصرة في حالات الاختفاء القسري الحديثة العهد أي التي لا تعود إلى أكثر من ثلاثة أشهر والهدف من هذه الأصول المختصرة التوجه بسرعة إلى حكومة الدولة حيث حصل الاختفاء لطلب المعلومات واتخاذ الإجراءات الفورية للتحقق من مكان وجود الضحية حفاظاً على سلامتها.

أما الأصول العادية فهي تتناول حالات الاختفاء الأخرى التي مرّ عليها أكثر من ثلاثة أشهر.

والمجموعة، بعد التوجه إلى الحكومات طالبة المعلومات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بكشف مصير الضحية، تعود بأجوبة هذه الحكومة فترسلها لمصدر الشكوى للتعليق عليها ولتزويدها بمزيد من المعلومات وتبقي هذا الاتصال غير المباشر لحين التحقق من مكان وجود الضحية، أو ثبوت الوفاة.

ينتهي دور مجموعة العمل المختصة بالاختفاءات القسرية عند هذا الحدّ.

أما إذا لم تتمكن المجموعة من معرفة مصير الضحية موضوع الشكوى تبقى هذه قائمة رهن التحقيق هذا ما قد يدوم عدة سنوات، على أن يعاود طلب المعلومات من الحكومات مرة في السنة على الأقل.

ترتدي هذه الاتصالات الطابع الإنساني أكثر منه طابع تطبيق القانون نظراً لدقة هذا الموضوع.

فالمجموعة لا تقوم بعمل قضائي وينتهي دورها عند انكشاف مصير الضحية، كما قلنا.

وهي لا تتابع الإجراءات ما بعد هذه المرحلة لجهة الملاحقة أو الاقتصاص من مرتكبي الخطف والتعويض للضحايا، إنما تضمّن تقاريرها مواقف صارمة تجاه الحكومات حيث تحصل هذه الاختفاءات مذكرة إياها بضرورة احترام موجباتها الدولية.

وتأسيساً على هدفها الرامي إلى مراقبة هذه الحكومات التي لا تحترم حقوق الإنسان فقد أوصت مجموعة العمل حول الاختفاءات القسرية لجنة حقوق الإنسان الموافقة على الطلب من الحكومات كافة تقديم تقريراً دورياً للأمين العام للأمم المتحدة عما تقوم به لتطبيق مندرجات "الإعلان الخاص بحماية جميع الأفراد من الاختفاء القسري"، الذي اعتمدته الجمعية العمومية للأمم المتحدة سنة 1992.

وتحاول مجموعة العمل المختصة بالاختفاءات القسرية وهي أقدم الهيئات التي أنشئت لدى لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، تحاول هذه المجموعة تطوير وسائل العمل لديها وقد اتخذت بعض الإجراءات مؤخراً (2001) لإقفال الملفات التي أبدت فيها عائلات الضحايا رغبتها بوضع حدّ للتقصي عن مصير هؤلاء، أو عند وفاة مصدر الشكوى أو عدم تمكنه من متابعة مسار الشكوى والتفاعل مع إجراءات اللجنة.

كما وأن انسجاماً مع توجه المجموعة نحو إرساء آلية لمحاسبة الدول التي ترتكب الانتهاكات، فقد وضع الخبير المستقل المكلف بتصوير الإطار القانوني الدولي بما في ذلك القضاء الجنائي، وضع إذن هذا الخبير تقريره أمام لجنة حقوق الإنسان (2002) لمناقشته واعتماده.

وتبقى مهام المجموعة شاقة إذ ان الشكاوى التي قدمت أمامها منذ 1980 بلغت ما يقارب 50.000 شكوى بقي 80% منها عالقاً.

وختاماً قد يكون من المفيد أن نكون على علم بأن هناك أكثر من 300 ملف لدى مجموعة العمل المختصة بالاختفاءات القسرية عالقاً مع الحكومة اللبنانية وهذا العدد يزداد سنة فسنة، بتقديم شكاوى متتابعة عن اختفاءات حصلت في الأراضي اللبنانية، خلال الحرب (وقد أجابت الحكومة اللبنانية عن عدم سيطرتها على الأماكن حيث حصلت الاختفاءات) وبعد انهاء الحرب سواء.


--------------------------------------------------------------------------------

* دكتور في الحقوق ـ محام بالاستئناف ـ مدير معهد حقوق الإنسان في نقابة المحامين في بيروت.

source