الحوار وتوليد الحقيقة

calendar icon 12 كانون الأول 2002 الكاتب:مار نصرالله بطرس صفير

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر"
(كلمات الافتتاح)

* مثله سيادة المطران بولس مطر


أيها الأحباء

رحلة الذات الى الآخر او التلاقي معه في شراكة الحياة قد تكون هي بذاتها مسار التاريخ ومعناه الأسمى وقد جاء في قول كريم ما يبين ان الله سبحانه خلق الناس أمماً وقبائل ليتعارفوا وهو لو شاء لكان جعلهم امة واحدة. غير ان إبحار الإنسانية في يم الوجود لم يعرف منطلقات سليمة منذ البدايات. فلقد وصم سيعنا الأول في إدراك الذات والأخر معاً بالإنقسام، وتحولت اول عملية إنقلابية للإنسان ضد مقاصد الله فيه الى منقلب عليه ما عتم ان خطف منه سكينة الجنة وسكناها وبسط المدى من حوله صحاري تنبت له الشوك. ونفث فيه الثعبان سموم العدوات فوقع فريسة لها وما زال يجر ذيولها عبر دروبه الوعرة وحتى اليوم وحتى الغد أيضاً.

وهل من دلالة على هذا المنحى البشري المتعثر اوضح مما في المفارقة بين مثال الإخوة المنزلة علينا نعمة من السماء والواقعة التي واجه بها اول اخ اخاه في التاريخ فقتله قتلاً وجرح بفعلته وإثمه طهارة الأرض؟ وإذا كانت هذه صورة الإخوة شركاء اللحم والدم فما تكون الحال مع الغرباء والأبعدين؟.

ما من شك من ان حالة البغضاء قد أرخت بظلها على تعاطي الناس بعضهم مع بعض سواءً على المستوى الفردي ام الجماعي. فالذات العامة كما الذات الخاصة تبرز الى حيز الوجود علاقة يسودها التوتر أي على مستوى الأمم والشعوب. ولن يكون إصلاح الأمر هيناً بين هؤلاء المتعاطين لآن تغيير الذهينة البشرية قد يتطلب وقتاً وجهداً ينبسطان ربما على مدى التاريخ كله، حيث تتجلى هدايات الرسل والأنبياء ووساطات الخير النابعة من ذوي الإرادة الصالحة.

أحبو أعداءكم "يقول السيد المسيح بما يشبه التحدي المطلق للانسان الذي يسعى الى ان يكون إنساناً حقاً. ان هذا القول الإنجيلي يتضمن نظرة الى العداوة تجعل منها امراً طارئاً على الوجود وليس عنصراً ثابتاً من طبيعة الأمور. فالإنسان لا يخلقه الله ليكون عدواً للإنسان بل رفيقاً له واخاً كما يظهر في احكامه ووصاياه مما يضفي على العداوة لون العبور . فانت الناظر إلى عدوك ترى من وراء العداوة المقامة حاجزاً بينك وبينه قبساً من انسانية تبقى هي حقيقته القصوى . ومع زوال العداوة المشوهه للصورة الحقيقية تتغيرامامك الدنيا وتنزل عليك المصالحة المرجوة التي من شانها اعادة اوضاع الارض الى مجاريها. فهل تنبع من غير هذه الرؤيا فضيلة الرجاء؟

لكن مثل هذه الرؤيا لا تمر بسهولة في اعين الذين يصنفونها في خانة الطوباويات. فيتعذر لها استقبال رحب في واقع الدنيا. وتفسيرات التاريخ كثيرة في هذا الموضوع وهي ترسم في غالبيتها الصراع البشري وكأنه هو الوجود او الواسطة الى تحقيق الوجود.

ومن هذه التفسيرات ما يطلقه بعض المفكرين الذين يدعون صفة الواقعية ليقولوا ان المصالحة البشرية وهم . والسلام لا يتامن الا عبر توازن القوة بالذات .فلا بد من السلاح ومن موقف الحذر من الآخر الى ما لا نهاية .اما التفسيرات الاخرى التي تدعي هي ايضاُ مطابقة بين الواقع والمثال فهي ترى التقدم عبر صدام الطبقات وصولا الى ما يسمونه اليوم صراع الحضارات وكأن هذه الحضارات مدعوة الى أن تتفانى بعضها على يد البعض الآخر. اما الأديان فتشوبها لدى كثير من الأقلام بات على قدم وساق بقية تصويرها وكأنها نوع من العقائد المتجافية أصلاً وفصلاً ومنطلقاً ومآلاً. هذا فيما المسيحية الحقة والإسلام الحق عالمياً التوجه والدعوة، وهما مسؤولان إيماناً وتصرفاً عن التعاون والتقارب بين الشعوب تحت أفق من المودة والمصالحة النهائية لعباد الله جميعاً عندما تسترهم نعمته وينزل عليهم رضوانه.

أي فعل والحالة هذه يكون المبدا وأي ساح يكون مجالاً للخبر أو إستحضاراً به؟ ولو كان الجهاد الأصغر هو الدنيا وما فيها لما كان سمي جهاداً أصغراً، فأحقية الجهاد محكومة أصلاً بفعل الجهاد الأكبر وهو جهاد الروح الذي يواصل بين الأرض والسماء. لذلك فإننا لا نرى اعلاماً لا يحضر فيه جوهر الرسالات حضور الملهم والموجه والمنبه الى كبرى الغايات. وإعلام اهل الحضارة إما ان يكون حضارياً او لا يكون. لن يعني هذا الكلام رفض المواجهة في التاريخ بين الحق والباطل ولا رفض المقاومة حيال الشر والأشرار ولن يتجرا احد فيدعي ان الحرية لا ثمن لها لكن مثل هذه المواجهات على انواعها لا تقضي بسحق الاخر ومحقه بل بتغيير الظروف التي مكنته من العدوان سعياً الى انتشاله من براثن الإثم الذي حل فيه. انت مدعو لنصرة اخيك ظالماً فتنزع الظلم منه ومظلوماً فترده عنه، لكن اخاك بالنهاية ليس هذا الذي ولدته لك امك وحسب، إنما الذي ولدته الأرض فهي بدورها ام وهي الام الكبرى لجميع الذين يلبسون جلدتها الواحدة. فأي اعلام نصوغ عن الذات وأيه عن الآخر؟ لن يجدى نفعاً إعلام يستر الأنا عن ذاتها او يشلح عليها ثوباً من الطوباوية ليس لها فيعيرها محاسن غيرها زوراً وخلافاً للحق.إن حرية الإعلام حيال الذات تحاذرها من الرأي المسبق الواحد الأحد وتعترف للجدل بقدرته على توليد الحقيقة او على إظهارها للناس فيربون على النقد البناء والإصلاح الأخوي المفروض عليهم بإسم شرائع الأرض والسماء. وهل تغييب عن بالنا ضرورة محاسبة النفس التي إشتهر بها الروحيون من كل دين؟ او ننسى الخلفاء الأوائل الذين كانوا يتنكرون في الليالي ويسيرون بين الناس وفيهم الغرباء ليسمعوا منهم حقيقة ما يظن بهم هؤلاء وما يحكمون عليهم به خارج مجال القضاء وسلطة المتسلطين؟

إن القصد من هذا الاسلوب لم يكن خنق المؤامرات في المهد بل اصلاح الحاكم ذاته وايصال همسات الناس اليه بالسر قبل العلن. انه اعلام من اجل الذات والهدف منه استقامة الحكم وسلامة الناس في آن معاً .

اما عن الآخر، صديقاً كان ام عدواً فان الاعلام المجدي حياله لن يسعى الى تشويهه ظناً بان في ذلك وسيلة سحرية للسيطرة عليه، فالتشويه آفة اعلامية مثل التستر. وان كان الانسان لا يستر حقيقة امره فكيف له ان يستر حقيقة اعدائه؟ فالظالم ظالم ولن يقول احد عن الغاصب والمحتل انه ليس بالغاصب او المحتل. الا ان الحقيقة يجب ان تبقى هي الحقيقة فلن نسلب حتى من الاعداء محاسنهم اذا كانت لهم من محاسن بل نتوخى مقاربة الامور بموضوعية قصوى لان مثل هذه الموضوعية تقي من السقوط في الاوهام وفي الحسابات الخاطئة .

وفي نهاية المطاف يدعى الذات والآخر معاً الى تخطي الواقع الراهن حيث يمكن التخطي واذا ما تقدم التاريخ نحو كمالاته فيواكب الاعلام مثل هذا التوجه رافضاً حصر مادته في امر النزاعات والسلبيات وملقياً الضوء على ايجابيات الحياة بابعادها الثقافية والروحية من كل نوع.

ربما كانت هذه المواصيع بعضاً من شغل هذا المؤتمر الكريم المنعقد حول "الذات والآخر" في الاعلام المعاصر .فنعم المسعى فيه ونعم الساعين في اثر حقيقة الاعلام واعلام الحقيقة. وانني بإسم صاحب النيافة والغبطة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير بطريرك انطاكيا وسائر المشرق الكلي الطوبى الذي شرفني بتمثيله فيما بينكم في هذا اللقاء الدوري الرفيع اتمنى للمؤتمر السابع لكلمة سواء مزيداً من النجاح والسؤدد في خدمة اعز قضايانا في الوطن اللبناني وفي سائر دنيا العرب ولكم منه تعالى دوام التوفيق.

source