الدور الوطني للإعلام بين الممارسة والقانون

calendar icon 12 كانون الأول 2002 الكاتب:انور خطار

* "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر"
(الجلسة الأولى)

بين "الذات والآخر" هو خير مدخل للحديث عن وسائل الاعلام ودورها. فالاعلام هو تحديدا اتصال وتواصل بين الذات والآخر. بين"الذات" المرسلة (اي الوسيلة الاعلامية) وبين "الآخر" (المتلقي). ولعل الاعلام هو المجال الامثل للعلاقة بين الذات والآخر، اذ ما يميز الاعلام عن سواه من وسائل التعبير ان الآخر هو حاضر دائما في الذات المرسلة. وبين الاثنين علاقة جدلية معقدة تقوم على الحوار وتتراوح بين التعرف الى الآخر والتشبه به ومماشاته وصولا الى التأثير فيه وتبديل قناعاته وانماط سلوكه.

ولعل عنوان هذا المؤتمر هو خير مدخل للحديث عن موضوع هذه الندوة حول دور وسائل الاعلام في لبنان. اذ ان دور هذه الوسائل انما يعني تحديدا دراسة موضوع هذه العلاقة بين الذات الاعلامية، اي الوسائل الاعلامية، وأي ذات؟ وبين جمهورها. هذا الموضوع، اي علاقة وسائل الاعلام بجمهورها ودورها في التأثر به او التأثير عليه، انما كان ولا يزال الموضوع الاكثر اثارة للنقاش. وبقدر ما كبر دور هذه الوسائل من خلال التقنيات الاعلامية وامكانيات الانتشار غير المحدود في الزمان والمكان، بقدر ما صار تحديد هذا الدور وضبطه مسألة ملحة ان على صعيد النظريات الاعلامية ام على صعيد التشريعات القانونية.

ما هو الدور الذي يمكن ان يلعبه الاعلام في مجتمع ما؟ ما هي علاقته بصناعة الرأي العام وتشكله؟ ما مدى تأثيره في الناس؟ واذا كان من تأثير فمن يضمن ان يكون هذا التأثير ايجابيا بالمفهوم السياسي الوطني والاخلاقي؟ هل يجوز ان يبقى الاعلام حرا ام انه اخطر من ان يترك حرا؟ واذا كان من رقيب عليه فمن له حق الرقابة؟ واذا كان لوسائل الاعلام مثل هذه السطوة على الناس فمن له الحق بتملكها، الدولة ام الناس، واي نوع من الناس وضمن اية شروط وضوابط؟

هذه الاسئلة وغيرها لم تزل مفتوحة، والاجابات عليها متعددة واحيانا كثيرة متناقضة، ولكن ذلك لم يمنع كل مجتمع من اختيار رؤيته وبالتالي تحديد نظامه الاعلامي. دون ان يعني حسم الدول لخياراتها القانونية في مجال الاعلام حسم الجدال حولها، مما جعل قوانين الاعلام الاكثر عرضة للتعديل والتطوير بما يتلاءم وحاجات وقناعات مستجدة، او لمماشاة التطورات التكنولوجية المتسارعة. ولبنان لا يشذ عن هذه القاعدة وقد شهد عدة قوانين للمطبوعات منذ الاستقلال حتى اليوم، وعدة تعديلات على هذه القوانين، كما شهد ولادة قانون جديد للإعلام التلفزيوني والاذاعي قبل عدة اعوام. هذه القوانين التي اعتمدت النظرية الليبرالية اساسا، لم تحسم الجدال القائم حول القضايا الاعلامية الكبرى مثل حرية الاعلام، وحدود هذه الحرية، وحول الدور الفعلي الذي تقوم به هذه الوسائل.

والدليل على ذلك لقاؤنا اليوم حول دور الاعلام في لبنان.

البحث في دور وسائل الاعلام في لبنان مسألة مطروحة منذ زمن طويل، وهي كانت ولم تزل مدار نقاشات ومؤتمرات ومساجلات طويلة، ولا أعتقد ان ندوة اليوم سوف تملك الرد الحاسم عليها، لجملة أمور والتباسات.

لقد تميز لبنان بكونه البلد العربي الوحيد الذي اعتمد الليبرالية في نظامه الاعلامي ، ان لجهة حرية تأسيس المؤسسات الاعلامية المكتوبة ام لجهة ضمان حريتها بالتعبير ضمن الضوابط القانونية. ومن ثم في كونه البلد العربي الاول والوحيد الذي تخلت فيه الدولة عن احتكارها للإعلام الاذاعي والتلفزيوني عبر السماح للقطاع الخاص بإنشاء محطات اذاعية وتلفزيونية عبر إصدار أول قانون للإعلام الاذاعي والمتلفز في العام 1994.

وهكذا وربما لهذه الاسباب تميز لبنان بكونه الاول في محيطه العربي ان لجهة عدد الامتيازات الصحفية التي تفوق ال1500 مطبوعة، اي نصف عدد المطبوعات في العالم العربي (وان كان ما يصدر منها عمليا اقل من ذلك بكثير)، وبكونه الاول في عدد المحطات الاذاعية والتلفزيونية الارضية والفضائية . وابرز ما يميز لبنان في هذا المجال هو الاجماع الوطني والرسمي على تكريس مبدأ حرية الاعلام وتعدديته واعتباره جزءا من هوية لبنان وتراثه ورسالته. وقد ساهم الاعلام اللبناني منذ نشأته في القرن التاسع عشر بدور وطني كبير حاملا لواء النهضة العربية آنذاك في مواجهة الاستعمار العثماني، وسقط له شهداء في هذه المواجهة هم شهداء السادس من ايار الذي أصبح عيد الصحافة، كما في مقارعة الانتداب الفرنسي، ودور الصحافة المشهود في معركة الاستقلال. لكن هذا الدور أصبح عرضة للكثير من التشكيك بوطنيته ومسؤوليته في السنوات التي تلت الاستقلال وسبقت اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975وتصاعدت حملات الانتقاد والتشكيك مع استمرار هذه الحرب حتى تو قيع اتفاق الطائف في العام 1989.

ففي الفترة التي سبقت اندلاع الحرب في العام 75، اتهم الاعلام آنذاك بتهمتين خطيرتين: الاولىهي التمهيد للحرب من خلال التحريض السياسي والطائفي عليها، والثانية هي ارتهان الصحافة للرأسمال الخارجي، العربي تحديدا، وذلك على حساب المصلحة الوطنية العليا. وقد اختصر الرئيس شارل حلو هذا الاتهام للصحافيين اثناء استقباله لهم في القصر الجمهوري بقوله الشهير: اهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان.

بعد حرب السنتين، وجهت الى الصحافة تهمة جديدة هي العمل على اذكاء نار الحرب الاهلية، وقد اثبتت هذه التهمة من خلال المرسوم 111977 الذي فرض الرقابة المسبقة على الاعلام، وقراراقفال المؤسسات الاعلامية غير الشرعية. ومن ثم بإصدار المرسوم الاشتراعي رقم 104 تاريخ 3061977الذي تميز بالتشدد في العقوبات على جرائم المطبوعات بالإضافة الى فرضه الرقابة على الموارد المالية للمؤسسات الصحفية. وقد جاء في تبرير هذه التدابير "الدور غير المسؤول الذي قامت به الصحف المحلية، وخاصة في الاحداث الماضية، كالتحريض على الفتنة الطائفية والتعريض ببعض الانظمة العربية ورؤسائها. وما رافق ذلك من استفزاز مثير، فضلا عن تدفق الاموال على بعض هذه الصحف بقصد الاثارة والتحريض. كل ذلك كان له الاثر الفعال في تكوين ردة الفعل .هذه القناعة المكونة من قبل الاحداث بضرورة وضع حد لمثل هذه الممارسات ولمثل هذا الاستغلال لمناخ الحرية، وذلك عن طريق وضع ضوابط لحرية الصحافة بحيث تكون الحرية مسؤولة "(1) وتصاعدت حدة هذه الاتهامات مع تصاعد حدة الاقتتال وتعاظم دور الاعلام الحزبي في الاحداث الجارية.

وقد شكلت الحرب الاهلية ضربة كبرى للإعلام اللبناني، كما يمكن ان تشكل نهايتها عبر توقيع إتفاق الطائف عام 1989 فرصة لتصحيح الواقع الاعلامي وما اصابه.

فالحرب بقدر ما كانت حرب الاعلام فهي كانت حربا على الاعلام وحريته. وقد ذهب ضحيتها العديد من الصحافيين، كما تسببت بإقفال الكثير من المؤسسات الصحفية المكتوبة من جرائد ومجلات، والى تهجير العديد منها. وفي المقابل شكلت الحرب بما تعنيه من غياب للدولة ومؤسساتها وسلطتها فرصة لنشوء مؤسسات اعلامية اذاعية وتلفزيونية عديدة تعكس التشرذم الحزبي الطائفي السائد.

لكن اليوم، نكتشف بأن الفرصة المأمولة بإعادة تنظيم الاعلام وإزالة ما لحق به من شوائب خلال فترة الحرب لم يتم استغلالها، بدليل ان الاعلام الحالي لم يزل موضع التشكيك والشكوى والاتهامات نفسها التي رافقت مرحلة الحرب وما سبقها، والتي تتلخص بإتهام هذه الوسيلة او تلك بتهديد السلم الاهلي والوحدة الوطنية والتحريض الطائفي والاساءة الى سمعة لبنان الخارجية والى علاقاته العربية وتحديدا مع بعض الدول الخليجية ومع سوريا . وآخر فصول هذه الاتهامات قرار اقفال محطة الmtv وإذاعة جبل لبنان.

لقد نص اتفاق الطائف في احد بنوده على "إعادة تنظيم جميع وسائل الاعلام في إطار الحرية المسؤولة وبما يخدم التوجهات الوفاقية وإنهاء حالة الحرب". وجاءت الترجمة العملية لهذا البند بإصدار قانون الاعلام المرئي والمسموع رقم 382 تاريخ، 1994الذي شرع وجود معظم الاذاعات والتلفزيونات القائمة بقوة الامر الواقع، والتي كانت مثار الشكوى الدائمة وموضوع التهم التي وجهت للإعلام في تلك الفترة. وقد شكل هذا القانون بمثابة قانون عفو عام عن إعلام الحرب اسوة بالعفو عن كل جرائم الحرب، وبالتالي تشريع وجود معظم هذه الوسائل الاعلامية اضافة الى وسائل اعلامية جديدة اسست بعيد اتفاق الطائف والتي تعود ملكيتها الى امراء المال ومرجعيات سياسية من داخل النظام واهله.

وأخطر ما في هذا القانون انه شكل صفقة غير شرعية ما بين الاعلام وما بين السياسة، كادت تطيح بما بقي من مصداقية عصر الصحافة المكتوبة، وكادت تمحي الحدود ما بين السلطة والاعلام والطوائف والمال.

وفي واقع كهذا بدت الحريات التي يتغنى بها اهل النظام وكأنما هي حرياتهم هم لا حريات الناس، اي حريات وسائل اعلامهم هم. وما خرج من هذه الوسائل عن دائرة نفوذهم المباشر او غير المباشر صار عرضة للمضايقات والاتهامات والمحاكمات وقرارات الاغلاق.

لقد شكل صدور قانون الاعلام الاذاعي والمتلفز خطوة جريئة على طريق الحريات الاعلامية، لكنه وفي الوقت نفسه ضيع فرصة إعادة تنظيم حقيقية للقطاع الاعلامي ضمن إطار الحرية والمسؤولية الوطنية، كما يتضح من الواقع الاعلامي السائد.

1- اعلام طائفي:

من البديهيات التي يسعى الى تحقيقها حكم خارج من حرب اهلية طائفية مدمرة السعي الى إلغاء طائفية الاعلام او الحد منها او إغلاق المؤسسات ذات التاريخ المشهود بالتحريض الطائفي والمذهبي. لكن ما حدث هو العكس تماما، اي تثبيت شرعية هذه المؤسسات وايكال مهمة الترويج للسلام والوفاق اليها. وبدل ان يتغير المشهد الاعلامي في اتجاه بروز مؤسسات اعلامية وطنية التوجه والخطاب، وخاصة في مجال المرئي والمسموع، نجد ان طائفية الاعلام وفئويته قد تعززت وباتت شبه تامة.

هذه حقيقة يمكن التأكد من صحتها وبلا صعوبة تذكر. حتى المواطن العادي يدرك هذه الحقيقة ويتعامل مع هذه المؤسسات على اساسها . فلكل مؤسسة لون طائفي او مذهبي مميز يمكن تلمسه بسهولة عبر بعض المؤشرات، ومنها:

- الموقع الجغرافي للمؤسسة، وهو مخلفات الفرز الطائفي الجغرافي للحرب.

- هوية مالكها، وأعضاء مجالس ادارتها وتحريرها،

- هوية العاملين فيها

- مضمونها

- جمهورها.

ولو طبقنا هذه المؤشرات على المؤسسات الاعلامية لوجدنا خيطا سحريا سريا يصل ما بين المؤشر الاول والمؤشر الاخير. انه حبل السرة الطائفي غير المعلن دائما وان كان ساطع الوضوح في حالات كثيرة، باهتا في حالات اخرى. وتكاد لا تشذ وسيلة اعلامية واحدة عن هذا التصنيف وان لم تكن حلقاته دائما متكاملة بالضرورة. مثلا، ان المؤسسات الاعلامية ما تزال تعلن هويتها الطائفية من خلال وجودها على هذا الجانب من الخط الاخضر او ذاك. وهذا الاعلان غالبا ما يتمثل بهوية صاحبها المنسجمة مع موقعها، المنسجمة مع غالبية المسؤولين فيها، في الادارة كما في التحرير، كما في مضمونها ومفرداتها واهتمامها بمناطق اكثر من غيرها وبمناسبات اكثر من غيرها، كما تبدو منسجمة مع بريد قرائها، وحتى مع اعلاناتها المبوبة وزاوية الوفيات فيها، كما مع مناطق توزيعها او توزع مشاهديها. طبعا العملية ليست آلية وحاسمة كما قد تبدو ولكنها حقيقية الى حد بعيد. ان التلون الطائفي لوسائل الاعلام وخاصة السياسية منها واقع ملموس وليس تهمة. وهو لا يعني ابدا اتهام العاملين بهذه الصحيفة او تلك بالطائفية او التعصب الطائفي . ولكنه واقع يضع علامة استفهام كبيرة على قدرة مؤسسات كهذه على صياغة خطاب وطني جامع . فعندما تتكون" ذات" طائفية لوسيلة ما يصبح "الآخر" هو غير المنتمي الى هذه الطائفة او تلك. وعندما تتكون ذات طائفية لوسيلة ما يصبح التحريض الطائفي مسألة حدة في الخطاب ترتبط بحدة في الاوضاع والمواقف منها. وهكذا فإن الوجه الطائفي لهذه الوسيلة او تلك يخفت الى حد الاختفاء حينا، ثم يعود فيبرز بحدة متفاوتة امام اي مفترق.

هذا الواقع ينسحب على الغالبية الساحقة من المطبوعات السياسية، كما على المؤسسات التلفزيونية والاذاعية، مع فارق بسيط ،ولكنه ذو دلالات كبيرة، هو ان الدولة هي التي اختارت ورعت توزيع هذه المؤسسات على زعماء الطوائف بحيث يكون لكل طائفة اذا شاءت، حق محفوظ بمحطة اذاعية وبشاشة تلفزيونية ، وهي بذلك قد اعلنت خيارها ورؤيتها لأي اعلام تريد، حتى وان كان مخالفا لما اعلنته ولما وضعت من قوانين اعلامية.

ان تتطيف الاعلام هو عقبة فعلية امام دوره الوطني المرتقب، خاصة في واقع سياسي يقوم على مبدأ الوفاق والتوافق السياسي الذي لم يتحقق حتى الآن. وليس مستغربا ان تقدم هذه الوسيلة او تلك الخطاب الطائفي على حساب الخطاب الوطني، وان تتعامل مع الاحداث من منظار فئوي بدل المنظار الوطني الجامع. ولنا حول هذا الموضوع بالذات شواهد وامثلة كثيرة (.....)

2- غياب او تغييب الاعلام الرسمي:

اذا كان من مبرر للدولة العائدة بالرضوخ للضغوط السياسية والابقاء على وسائل الاعلام المرئية والمسموعة التي نشأت اثناء الحرب، فإنها كانت تملك فرصة للتعويض من خلال ممارسة حقها في الاعلام الرسمي ومن خلال المؤسسات الاعلامية الرسمية مثل الاذاعة والتلفزيون الرسميين والوكالة الوطنية للأنباء.

وفي هذا المجال جرت الامور بما لاتشتهي السفن ايضا، ولسببين : الاول هوعجز السلطة عن صياغة سياسة اعلامية رسمية حديثة، ووالثاني، سوء ممارستها لحقها في الاعلام مما افقد هذا الاعلام المصداقية والموضوعية والتعددية التي تطالب الاعلام الخاص بإحترامها.

ان ما يميز الاعلام الرسمي في الدول الديمقراطية هو اعتباره خدمة عامة، مما يفرض ان يكون "الاعلام الموضوعي الشامل والتعددي والمستقل عن السلطة نفسها اولا، وعن نفوذ المال من جهة اخرى"(2).

والثاني، هو عجزها حتى عن ادارة هذين المرفقين تقنيا واداريا وماليا واعلاميا، بحيث تحولا الى عبء على الدولة والناس معا.

والسبب الثالث وهو افتراضي، هو عدم رغبة الدولة في قيامة اعلام رسمي وطني، في مواجهة تلفزيونات واذاعات الطوائف، وبعضها ملك لأركان هذه السلطة بالذات. وهكذا تم تغييب الاعلام الرسمي من خلال تلفزيون لا يراه احد، واذاعة لا يسمعها احد.

3- عدم تطبيق القانون:

- اقتصاديات الاعلام:

رغم كل ذلك كان بالإمكان تصحيح الواقع الاعلامي لو قامت الدولة بالسهر على تطبيق القوانين التي وضعتها ان في قانون المطبوعات، ام في قانون الاعلام الاذاعي والمتلفز. وهنا نتوقف امام عدد من الملاحظات:

اولا، اقتصاديات المؤسسات الاعلامية: اذا كان صحيحا "ان لا حريات من دون حرية الصحافة" فالصحيح ايضا "ان لا صحافة حرة اذا لم تخضع لحرية السوق"(3) اي الى تأمين استمراريتها من خلال القارئ او المشاهد ومن خلال المعلن فقط. ان شفافية المؤسسة الاعلامية المالية هو شرط استقلالها، وتأمين ومراقبة هذه الشفافية هو من ابرز وظائف الدولة في انظمة الدول حتى الاكثر ليبرالية بينها.

يتميز الاعلام في لبنان ومنذ الاستقلال بالعدد الكبير لمطبوعاته مقارنة بعدد سكانه وبالموارد الاعلانية المتوافرة. وقد عمدت الدولة في الخمسينات الى تحديد عدد المطبوعات السياسية عبر المرسوم الاشتراعي رقم 74الصادر بتاريخ 13 نيسان 1953، ووضع مشروع لتشجيعها على الاندماج وذلك لسرعة تكاثرها من جهة، وربما لقناعة بعدم سلامة الاوضاع المالية لهذه الوسائل او لمعظمها على الاقل مما يجعلها رهينة المساعدات وبالتالي المصالح الداخلية او الخارجية على السواء من جهة أخرى.

وقد شهد لبنان منذ الخمسينات فورة اعلامية وانتشارا عربيا للصحافة اللبنانية، انتشارا ترافق مع دخول الرساميل العربية في السوق الاعلامي اللبناني، مما ضاعف من مخاوف السلطة من جرائه على مصالح لبنان وعلاقاته مع الدول العربية كما من الولاءآت المتعددة لإعلام كهذا ولو على حساب المصالح الوطنية العليا، خاصة ان الصراعات العربية –العربية ساهمت في اعطاء الصحافة اللبنانية دورا سياسيا غير عادي وحيث بدأت تتحول لتنطق بلسان الانظمة العربية المختلفة بل بلسان بعض الرؤساء والملوك العرب الذين سعوا الى اجتذاب الصحافة والصحافيين اللبنانيين اليهم" (4). وهذا الواقع شكل الخلفية الفعلية لإتهام الاعلام في لبنان بالتمهيد للحرب الاهلية واذكاء النزاعات فيه على خلفية الصراعات العربية العربية على الساحة اللبنانية.

وحاولت الدولة العائدة بعد حرب السنتين فرض رقابة صارمة على موارد الصحف عبر قانون المطبوعات الجديد لكن الضغوطات حالت ولم تزل تحول دون تنفيذه حتى الآن. واللافت ان المواد القانونية نفسها الوردة في قانون المطبوعات وغير المعمول بها، تم نسخها حرفيا في قانون الاعلام الاذاعي والتلفزيوني ولم يتم ايضا تطبيقها حتى الآن.

وهكذا بقيت موارد الصحف واقتصادياتها صندوقا اسود مجهول الموارد الحقيقية. يضاف الى ذلك صندوق اسود آخر، هو ارقام التوزيع الحقيقية للصحف. مما يضاعف الشكوك حول واقعها المالي. هذا الغموض لم يزل سائدا حتى اليوم، ويشمل اقتصاد المؤسسات المكتوبة والمرئية والمسموعة على حد سواء.

ان واقع الصحافة اللبنانية يجعلها اسيرة مشاكلها المالية ،وبالتالي اسيرة الدعم الذي تتلقاه من المتمولين والسياسيين، مما يعرقل تحولها الى مؤسسات اعلامية حديثة تحاول الاستمرار من خلال القارئ والمعلن.

ان الحديث عن الفساد الاعلامي بموازاة الحديث الدائم عن الفساد الاداري والسياسي هو حديث قديم. وينقل عن نقيب الصحافة الراحل رياض طه قوله ردا على هذا الاتهام "اذا كان ممثلو الشعب متهمين برشوة الناخبين وبقبول المساعدات من الاحتكارات المالية من خارج الحدود، فلا نستطيع ان ننظر الى الصحافة كوحدة مستقلة عن الواقع الذي تنبثق عنه وترتبط به وتعكسفضائله وعيوبه"(5). وهو كلام متجدد ايضا ففي سلسلة مقالات حول "الفساد في وسائل الاعم"، يقول الصحافي جهاد الزين" ان للقطاع الاعلامي حصته من الفساد مثل اي قطاع آخر من قطاعات الحياة العامة في البلاد". ويضيف "ليس من المنطق ان تحذر الصحافة من الفساد السياسي وتتستر على الفساد فيها" مشيرا الى ما اسماه فكرة "الصمت المتبادل" بين وسائل الاعلام والطبقة السياسية.(6)

وفي المجال نفسه يقول جورج كريمسكي ، الرئيس السابق للمركز الدولي للصحافيين الاجانب في واشنطن، والذي عمل في بيروت كمراسل بين عامي 1975و1978 يقول " لاعلام اللبناني هو الاكثر حرية وتعددية في الاعلام العربي ... والسيئ انه في الغالب جزء من مشكلة لبنان اكثر مما هو جزء من الحل لهذه المشكلة، لأن العديد من عوائق التقدم البارزة للعيان في القطاعات السياسية والاقتصادية موجودة في الصحافة اللبنانية، بل هي تتحصن بها وتتغذى عبرها. وهذا يشمل: الحزبية، الترويج للشائعات ، الرشوة والمحسوبية" (7) وربما بسبب هذا الفساد الذي تغض الدولة الطرف عنه عمدا كانت الصحافة اعجز عن لعب دور فاعل في كشف فساد السياسة والسياسيين.

المطبوعات السياسية:

صدر اول قانون بتحديد عدد المطبوعات السياسية عام 1953للأسباب الورادة سابقا وربما لتعزيز وعصرنة الاعلام ونقله من الحرفية والعائلية الى الاعلام الصناعي الحديث وارفق بمشروع للتشجيع على الدمج، وقد نصت المادة الاولى من هذا المرسوم انه "الى ان يصبح عدد المطبوعات الدورية السياسية في جميع الاراضي اللبنانية خمسا وعشرين مطبوعة سياسية يومية وعشرين مطبوعة سياسية موقوتة، يكون من مجموعها على الاقل خمس عشرة مطبوعة يومية عربية واثنتا عشرة موقوتة عربية، لا يعطى ترخيص باسم جديد لمطبوعة دورية سياسية يومية او موقوتة إلا لمن كان يملك صحيفتين من نوع الصحيفة المطلوب إصدارها تتوقفان نهائيا عن الصدور لقاء الترخيص المطلوب. وعندما يستقر عدد المطبوعات على الوجه المبين اعلاه لايعطى الترخيص إلا لمن يملك صحيفة واحدة تتوقف نهائيا عن الصدور". وكان عدد المطبوعات انذاك دون العدد المعترف به اليوم اي 110مطبوعة بين دورية وموقوتة وجرت وساطات لرفعه بإحياء عدد من المطبوعات التي لم تكن تصدر فعليا آنذاك (8). ولم يؤد هذا المشروع غايته كما مشروع الدمج الذي تلاه، بل تكفلت الحرب وانحسار الاهتمام العربي بالصحافة اللبنانية بإنقاص عدد المطبوعات السياسية الصادرة فعلا عن الحد الادنى المطلوب اي 45 مطبوعة سياسية بين يومية وموقوتة. لا بل بات عدد الصحف اليومية دون الحد الادنى المطلوب، اي 15 صحيفة يومية، وهذا ما لم يلحظه القانون. ومع ذلك لم يطرح الموضوع على النقاش، ولم تزل الامور على حالها بقدرة قادر، وذلك رغم ما ينص عليه قانون المطبوعات نفسه والمعمول به في المادة 29 منه "على وزير الارشاد والانباء والسياحة ان يسترد الرخصة بإصدار مطبوعة صحفية بعد انذارها بإسبوعين (...) اذا توقفت بعد صدورها مدة ثلاثة اشهر متتالية، إلا انه يجوز لوزير الارشاد والانباء والسياحة ان يمدد هذه المهلة بقرار معلل يتخذه بعد استشارة نقابة الصحافة"، ورغم ذلك فإن هذه المطبوعات الميتة عمليا منذ عقود لم تزل حية ترزق بالتنسيق ما بين وزارات الاعلام المتتالية ونقابة الصحافة واصحاب العلاقة وورثتهم. مما يفرض على من يريد اصدار مطبوعة سياسية جديدة تطبيقا لهذا القانون، شراء الامتياز من بين اسماء الصحف الواردة على هذا الجدول الصادر قبل خمسين عاما وبمبالغ كبيرة. ان استمرار العمل بهذا القانون الذي لا مثيل له في اي من الدول، يشكل عقبة غير مبررة امام دخول نادي الصحافة السياسية للمشاريع الشابة ولأصحاب الطروحات الجديدة.

شروط الترخيص للمؤسسات المرئية والمسموعة:

ان تطبيق قانون الاعلام المرئي والمسموع وما رافقه من استنسابية ادى الى إنشاء محطات تلفزيونية واذاعية طائف الطابع وفئوية سياسية، في الوقت الذي تحرص فيه مختلف انظمة الاعلام في الدول الديمقراطية على الاصرار على الطابع الوطني العام لهذه الوسائل. وهكذا بات لبنان ربما البلد الوحيد الذي تكاد تغيب فيه الصحافة الحزبية المطبوعة بينما تزدهر المحطات التلفزيونية الحزبية والطائفية.

لقد جهد القانون المذكور في التأكيد على منع الاحتكار وضمان التعددية في مجال المرئي والمسموع، بينما الخطر الحقيقي كان في التعددية الطائفية والتي لم يحل ربما عمدا دون تحققها. فالتأكيد على الطابع التعددي لهذه الوسائل الذي يؤكده القانون في أكثر من مادة تم احترامه ولو نسبيا، في مجال ملكية هذه المؤسسات أكثر منه في مضمون برامجها. والمقصود هنا التعدد الطائفي للمالكين. وقد ثبت هشاشة هذا التدبير الذي تم التحايل عيه عمليا، ولم يقدر على تغيير الطابع الفئوي الطائفي وحتى الشخصي لهذه المؤسسات. وفي المقابل تم التغاضي عن الطابع التعددي والوطني الذي يفترضه قانون الاعلام ودفاتر الشروط النموذجية، والذي لم يطبق حتى الآن. فالفقرة الثالثة من المادة السابعة من قانون الاعلام تنص على "التزام المؤسسة احترام الشخصية الانسانية وحرية الغير وحقوقهم والطابع التعددي للتعبير عن الافكار والآراء وموضوعية بث الاخبار والاحداث والمحافظة على النظام العام وحاجات الدفاع الوطني ومقتضيات المصلحة العامة " كأحد شروط الترخيص لها. كما ورد في باب الاحكام العامة في دفاتر الشروط النموذجية تأكيد على "عدم بث او نقل ما من شانه إثارة النعرات الطائفية او المذهبية او الحض عليها "وتأكيد على دور الاعلام في" تأمين التعبير عن مختلف الآراء"، او ما ورد في باب البرامج السياسية والتي تنص على "اعتماد الموضوعية واستبعاد الرأي الواحد".

ان هذه المواد لم يتم العمل بها دائما ان من جهة المحطات او من جهة وزارة الاعلام والمجلس الوطني للإعلام المكلف بمراقبة هذه المحطات إلا نادرا. وربما السبب في كون هذه المواد تبقى في دائرة العموميات بحيث يصعب عمليا التأكد من مدى احترامها بغياب الآلية العملية لذلك . وهنا نشير الى ما هو معمول به في الولايات المتحدة ،المعروفة بكونها الاكثر ليبرالية في مجال الاعلام ، لضمان التعددية والموضوعية في الاخبار والبرامج السياسية ومنها:

- مبدأ الوقت المتساوي للمرشحين في الحملات الانتخابية او ما يعرف بال" equal time rule " - ومبدأ الـ "fairness doctrine" التي تمنع الاقتصار على عرض رأي واحد اثناء طرح المواضيع العامة المثيرة للجدل.

- ومبدأ "personnal attack rule" التي تفرض على المحطات تزويد اللجنة الفيدرالية للإتصالات خلال ثمانية ايام لائحة بأسماء الذين تعرضوا اسميا للنقد خلال برامج سياسية على المحطة، حتى يتم افساح المجال امامهم للدفاع عن انفسهم.

- وأخيرا احترام حق الرد.

هذا اذا لم نشر الى ما هو مطبق في القنوات الخاصة الفرنسية التي استوحي قانون الاعلام عندنا منها، والتي تضع ضوابط اكثر دقة وتفصيلا بما يضمن موضوعية وتعددية الاعلام السياسي اثناء الحملات الانتخابية او في الاحوال العادية.

الاعلام الديني:

على الرغم من الطابع المتحيز لهذه المحطات ، والمخالف للقانون، فإن السلطة غضت الطرف عن مواد وردت في قانون الاعلام المرئي والمسموع والمتمثلة بتنظيم نقل المناسبات الدينية والبرامج الدينية.

وكما نعلم فإن ما تبثه محطة ما من برامج ذات طابع ديني محدد انما يخالف روح التعددية والشمولية التي يفترضها هذا القانون. وفي هذا المجال هناك فرز واضح بين المحطات التلفزيونية: الاسلامية والمسيحية. من خلال اقتصار بث البرامج او المناسبات الدينية على إحدى الطائفتين دون سواها . وهذا الامر مخالف لقانون الاعلام الذي ينظم هذا الموضوع من خلال اشارتين، الاولى تتعلق بمسألة النقل المباشر، وقد جاء فيها "يمكن النقل المباشر للمناسبات الدينية المحددة حصرا في المراسيم التي تعين الاعياد والمناسبات التي تعطل فيها الادارات والمؤسسات العامة والبلديات، وبصورة استثنائية لبعض المناسبات الدينية الخاصة وذلك بعد موافقة مجلس الوزراء".

وتحت عنوان البرامج الدينية جاء ما نصه: "يمكن للمؤسسات التلفزيونية بث واعادة بث البرامج الارشادية والتوجيهية الدينية خلال فترة المناسبات الدينية الرسمية على ان لا يتجاوز مجموع ساعات البث واعادة البث مجتمعة 52 ساعة سنويا، وعلى ان يراعى في توزيعها مبدأ المساواة وشرط المحافظة على مقتضيات النظام العام والمصلحة العامة". ( وهنا يحق لنا التساؤل عما تعنيه عبارة المساواة والمصلحة العامة .....)

عذرا اذا كنت قد اختصرت موضوع دور وسائل الاعلام من خلال مسألة واحدة تقريبا هي مسألة الخطاب الطائفي، بينما الموضوع يتسع لمسائل كثيرة لا تقل اهمية، لكن مبرر هذا الاختصار يعود الى موقف شخصي، او الى ثأر شخصي ضد الطائفية، لأنها دمرت وطني ويمكن بإسمها ان يعاد تدميره في اي لحظة جنون، ولأن التخفيف من الطائفية ان لم نقل الغاءها لا يمكن الا عبر وسيلتين مطروحتين للنقاش: تغيير النصوص، وهو متعذر الآن ولأمد بعيد، او تغيير ما في النفوس كشرط لتغيير النصوص. اذا كان المطلوب تغيير ما في النفوس، فهل أقدر من الاعلام على المساهمة بذلك؟

مراجع:

1- حسن كريم: تقويم دور وسائل الاعلام في زمن الحرب .مجلة "حريات"،العدد الخامس، 1966، ص:22

2- تقريرمنظمة اليونسكو عن الاعلام .الفصل الخامس : التلفزيونات الرسمية .ص:95

3- F.Balle:medias et societes. Ed. Montchrestien, paris,p:652

4- اسكندر الديك ومحمدالاسعد: دور الاتصال والاعلام في التنمية الشاملة .منشورات المؤسسة الجامعية- بيروت 1933- ص 121

5- المصدر نفسه، ص122

6- توفيق مشلاوي: الصحافة والفساد .مجلة الدراسات الصحافية العددالاول – ربيع2002

7- ابراهيم توتنجي : الصحافة الاستقصائية (بحث غير منشور)

8- يوسف خطار الحلو: واقع الاعلام المقروء- مجلة الصحافة اللبنانية –العدد15- حزيران 1993ص31

9- مجموعة قوانين المطبوعات

10- قانون الاعلام الاذاعي والمتلفز.

source