الاعلام والانتفاضة/ قراءة غربية

calendar icon 12 كانون الأول 2002 الكاتب:غسان العزي

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر")
(الجلسة الثانية)

يصعب الادعاء في هذه العجالة بالقدرة على تقديم دراسة علمية حقيقية عن موقف الاعلام الغربي من القضية الفلسطينية وتحديداً من انتفاضة الأقصى بعد نيف وسنتين على اندلاعها. فالأمر يفترض رصد وسائل الاعلام الأساسية المقروؤة والمرئية والمسموعة في خمس أو ست دول غربية كبرى على الأقل، بحسب انتماء هذه الوسائل السياسي والايديولوجي ونفوذها لدى السلطات السياسية والرأي العام المحلي والوطني وحتى الدولي في بعض الأحيان. وهذا ما يتطلب جهداً حثيثاً يمتد لسنوات. لذلك فإن جل ما تطمح إليه هذه الورقة هو تقديم انطباع باحث وأستاذ جامعي متابع للاعلام الغربي، عن تطور موقف هذا الاعلام من الانتفاضة طيلة عامين على الأقل. هذا الانطباع تختلط فيه موضوعية الباحث وتفكيره الأكاديمي بعواطفه وانتمائه كلبناني عربي مؤيد للحق الفلسطيني ومناهض للظلم والاحتلال.

لذلك ستنقسم هذه الورقة إلى قسمين: الأول يرصد الوجه السلبي في موقف الاعلام الغربي عموماً، من دون التركيز على ما يعتريه من تمايزات واختلافات، حيال الانتفاضة، والثاني يحاول قراءة إيجابيات المتابعة الاعلامية لموضوع الانتفاضة رغم تحيز هذه المتابعة لطرف على حساب طرف آخر.

في الوجه السلبي يلاحظ المراقب هيمنة واضحة وأكيدة للأحكام المسبقة السياسية والثقافية على نصوص وسائل الاعلام الغربية المقروؤة والمسموعة والمرئية. فالراصد للجانب التقني لعمل هذه الوسائل من جهة عرض الموضوع الرئيسي وصياغة عنوان الخبر والمقدمة الإخبارية ومصادر الأخبار وتحليلها والتعليق عليها والوقت المعطى للصورة والصوت والحركة والألوان والمقابلات ورسائل المراسلين والرموز والمفردات السائدة ... الخ. الراصد لكل ذلك وغيره ينتبه إلى التميز في المعاملة بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني.

من المعروف انه من الأسهل للصحافي الولوج إلى مصادر الأخبار الرسمية، وفي هذه الحال فان المصادر الاكثر حضوراً ونفوذاً هي المصادر الاسرائيلية الحكومية والأميركية. ويتم عرض بيانات الجيش والحكومة الإسرائيليين بالتفصيل وبطريقة تجعلها تنفذ إلى عقول الناس وقناعاتهم وعندما يجري تكذيبها أو انتقادها ويتم عرض ذلك بطريقة سريعة واهية لا تترك أثراً بعيداً.

قد يقول قائل ان ثمة صعوبة في الوصول إلى اسلاميي الجهاد أو حماس أو غيرهم. لكن عندما تجري مقابلات مع هؤلاء فطريقة الأسئلة وصياغة الأجوبة كثيراً ما تتم بطريقة تشوه مضمون كلام هؤلاء. وعلى العكس من ذلك تماماً عندما تجري مقابلات مع مسؤولين وعسكريين اسرائيليين أو قريبين منهم في واشنطن مثلاً.

إن معظم وسائل الاعلام الغربية يملكها أو يديرها مؤيدون لاسرائيل وذلك لأسباب باتت معروفة وفي طليعتها هيمنة اللوبي الصهيوني على القطاعات الحساسة في معظم الدول الغربية، وملكية الوسيلة الاعلامية أو ادارتها لا بد وان تلعب دوراً كبيراً في توجهاتها السياسية.

كذلك يلاحظ المراقب تأثراً لوسائل الاعلام بالسياسة الخارجية للبلد الذي تنتمي إليه. الصحافة الفرنسية تتأثر كثيراً بالكيدورسية والأميركية بالبنتاغون ليس فقط لأسباب تتعلق بمصادر الأخبار والتحليلات والتوقعات المستقبلية والسبق الصحافي ولكن ايضاً بسبب العلاقات الشخصية المباشرة التي يسعى الصحافيون بدافع من مهنتهم لاقامتها مع أصحاب القرار والعارفين بالخفايا في البلد. ورغم التمايز الواضح في الكثير من القضايا الخارجية بين ضفتي الاطلسي فان السياسات الخارجية الغربيةِ تنظر إلى الشرق الأوسط وفلسطين والعالم الاسلامي عموماً من منظور أمني وهو منظور الخوف على وجود وأمن اسرائيل أو في أحسن الأحوال القلق من "العنفين" الفلسطيني والاسرائيلي وما يمكن أن يؤديا إليه من عدم استقرار واسع قد يطال أمن الدول الغربية نفسها.

ومن المعروف أن الخارجية الأميركية قد وضعت المنظمات التي تقاوم اسرائيل مثل حزب الله وحماس والجهاد وكتائب الأقصى – على لائحة الارهاب والدول المعادية لها كإيران والعراق أعضاء في "محور الشر" ودول أخرى وصفتها بالمارقة وهذه تسميات تترك صداها في وسائل الاعلام الأميركي بشكل واضح وفي نظيراتها الأوروبية بشكل أكثر تحفظاً وأقل وضوحاً لأن الدول الأوروبية، وخصوصاً فرنسا والمانيا مثلاً – لم تتبنى بشكل كامل هذه الطروحات الأميركية.

ولا بد من التمييز هنا بين مرحلتين، مرحلة ما قبل 11 ايلول 2001 ومرحلة ما بعدها. بعد هذا التاريخ نلاحظ اقتراباً ما بين وسائل الاعلام في ضفتي الاطلسي من حيث الاتفاق خصوصاً على اعتبار العمليات الاستشهادية الفلسطينية أعمالاً إرهابية مدانة. الحدث الأميركي الكبير قلّص الفروقات ما بين الأوروبيين والأميركيين على حساب المقاومة الفلسطينية. فما عدا اصوات نادرة جداً يتفق كل الصحافيين والمراقبين والمحللين الغربيين على ان هذه العمليات غير مبررة اخلاقياً وغير مفيدة سياسياً. وقد وفرت الفرصة للموالين لاسرائيل كي يقوموا بهجوم مضاد ضد المتعاطفين في الغرب مع القضية الفلسطينية. ونلاحظ ان وسائل الاعلام الغربية تجند كل "عبقرياتها" التقنية، في مجال الصوت والصورة والحركة والعنوان والنص وغيرهم، لتشويه صورة الفلسطينيين والمسلمين بمناسبة هذه العمليات في مقابل تلميع صورة الهيمنة اليهودية الاسرائيلية والتذكير بجرائم الحقبة النازية وربطها بالحدث الراهن بغية استعادة عطف الرأي العام الغربي على الدولة اليهودية.

ولا بد هنا من الاشارة إلى هيمنة الثقافة المسماة باليهو-مسيحية في الغرب والتي تنظر إلى "الآخر" الغريب عنها وتحديداً المسلم والعربي على أنه متخلف متعصب معادي للغرب وللسامية. من هنا هيمنة مثل هذه المصطلحات السلبية على المضمون الاعلامي وتكرارها اليومي المستمر إلى حين جعلها بديهية وقابعة في أعماق الوعي واللاوعي لدى الرأي العام: أصولية اسلامية، بربرية، تخلف، إرهاب، عدائية، معاداة للسامية ....الخ.

وهكذا فان صحيفة مثل اللوموند الفرنسية الاكثر إتزاناً وقرباً من الموقف الرسمي الفرنسي لا تتردد مثلاً في وضع عنوان على صفحتها الأولى مثل: تساهال (الجيش الاسرائيلي) يستعد لضرب الارهاب الفلسطيني في غزه. وهكذا لا يحتاج القارئ لقراءة الجريدة فالعنوان يكفي ليترك عنده الانطباع بأن اسرائيل مظلومة وتدافع عن نفسها ضد الارهاب الفلسطيني المتحصن في غزه، وبالتالي فان العملية العسكرية الاسرائيلية المنتظرة مبررة سلفاً.

هناك رموز وقيم ثقافية راسخة في الغرب وقوالب تفكير جاهزة سلبية عموماً حيال العرب وايجابية حيال اليهود واسرائيل يصعب على الصحافي الغربي التخلص منها ولو أراد وقام بالمحاولة. وهذا يبدو في التعريفات السائدة للمقاومة والمقاومين والمصطلحات المنتشرة والسلبية حيال الفلسطينيين حتى في التعليقات التي تريد الدفاع عنهم. والمعروف ان الرأي العام يمكن فبركته قطعة قطعة مع الوقت عبر ضخ المصطلحات في لغته المتداولة. والاعلام آلة دعاية تهيمن عليها النخب والسلطات السياسية لتقوم بخدمتها. والموالون لاسرائيل من لوبيات وجماعات ضاغطة تعمل في هذا المضمار منذ عقود طويلة في قلب الرأي العام الغربي. وهناك خبراء كبار معروفون في مجال التسويق أو الماركتنغ السياسي والانتخابي يطلق عليهم اسم "صُناع الزعماء" (مثل جاك سيفيلا الفرنسي الذي يُقال بأنه صنع فرانسوا متيران نفسه) لا يتوانون لحظة عن صياغة الخطط الاعلامية الهادفة إلى تلميع صورة اسرائيل عندما تحتاج إلى ذلك (مثلاً غداة مجزرة صبرا وشاتيلا بعد حصار بيروت في صيف 1982) أو تبرير أعمال تقوم بها يدينها الرأي العام (مثلاً غداة اجتياح الضفة الغربية في نيسان 2002 ومجازر جنين وطولكرم ونابلس..) وفي المقابل من المؤسف ملاحظة فراغ هائل من الجانب العربي أو غياب لوبي اعلامي عربي في الدول الغربية يوازن أو يناهض اللوبي الصهيوني.

هذا عن الجانب السلبي باختصار شديد لكن ثمة ناحية ايجابية يجب عدم اغفالها فالحقل الاعلامي – السياسي معروف بتلاوينه المتنوعة واستحالة هيمنة اللون الواحد عليه أو الرأي الواحد أو الايديولوجيا الواحدة، مما يترك مجالاً للنسبية وتعددية الاحتمالات.

في الحقيقة أكان مؤيداً لاسرائيل أو معارضاً للعرب والفلسطينيين لا يستطيع الصحافي، بحكم مهنته على الأقل وسعيه للبروز واستجلاب العدد الأكبر من القراء أو المستمعين أو المشاهدين.

لا يستطيع تجاهل ما يحدث في منطقة بأهمية الشرق الأوسط. وكلما تكلم عن الحدث كلما ساهم في استنفار الرأي العام ودفعه للاهتمام بهذا الحدث. وبطريقة معكوسة أيضاً إذ يمكن التساؤل ما إذا كان الصحافي يمارس النفوذ على الرأي العام أو ان هذا الأخير هو الذي يدفعه في هذا الاتجاه أو ذاك، وحتى هذه المعادلة تبقى سطحية وضيقة وينبغي توسيعها عبر إضافة عناصر أخرى.

الصحافي المؤيد لاسرائيل يحاول تبرير ما تفعله والمعارض لها يندد بما تفعله. والاثنان، مباشرة أو مداورة، عبر كلامها المستمر واستنفارها الدائم للرأي العام يصبحان لاعباً مضمراً في النزاع، لاعباً منقسماً على نفسه لكنه يملك وسائل بل اسلحة فاعلة آلات تصوير، ريبورتاجات، شهادات، مقابلات، صور ... الخ) تسعى وراء هدف اساسي هو تغطية الحدث بأدق وأشمل طريقة ممكنة.

هذه التغطية الاعلامية، بحد ذاتها، ليست في صالح الدولة العبرية لأنه، فيما يتخطى الفروقات الظاهرة بين عناصر الحقل الصحافي (الاعلام، الرأي، يسار/يمين، مؤيد للفلسطينيين أو مناهض لهم ... الخ) فان الصحافيين والمراسلين اتفقوا على الاقل بأن الانتفاضة تشكل حدثاً يستحق الصفحة الأولى و"صدر" الأخبار الدولية. هذه الحقائق بمعزل عن التحليل السياسي المؤيد أو المعارض لأحد الطرفين، تساهم في تظهير صورة في الوعي واللاوعي الجماعي للرأي العام (قراء، مستمعين، مشاهدين) هي صورة الجيش الاسرائيلي في وضع المعتدين (بيوت فلسطينيين مهدمة، معتقلين، جنازات ..) وهذه الصورة تدخل إلى كل بيت في العالم بأسره بفضل الفضائيات ولأنترنت وغيرها.

هذه الصور الآتية من رام الله والبيرة وطولكرم وجنين ونابلس وغزة وغيرها باتت يومية، مما يساهم في اضعاف قدرة اسرائيل على استغلال صورتها التقليدية: داوود الضعيف في مواجهة غوليان الضخم الشرير وهي صورة استغرق زرعها في الوعي واللاوعي الجماعي الغربي عقود طويلة. لقد حدث نوع من تقاسم التعاطف العالمي ما بين الاسرائيليين والفلسطينيين بعدما كانت اسرائيل تستأثر بمفردها بهذا التعاطف. هذا الأمر خلق بلبلة في صفوف الدياسبورا اليهودية في العالم والتي بدورها انقسمت على نفسها أمام عنف الجيش الاسرائيلي الذي انتقده بعض اليهود علناً وصارت اسرائيل عبئاً على الدياسبورا كما صارت المستوطنات عبئاً على الاسرائيليين في الداخل وعلى مؤيديهم في الخارج.

لقد أججت الانتفاضة فضولية الكثيرين من الغرب الذين راحوا يهتمون بما يجري في الشرق الأوسط وصارت الكتب المختصة بموضوع الانتفاضة على رأس المبيعات، والفضل في ذلك للاعلام، ولو أن عدداً من هذه الكتب هي مجرد مرافعات تدافع عن السياسات الاسرائيلية.

في جميع الأحوال نلاحظ بأن فكرة فلسطين والدولة الفلسطينية التي يحاربها الاسرائيليون في الأصل، صارت رائجة ومعترفاً بها بل بديهية من فرط تكرارها في الأخبار والتحليلات. كذلك فكرة أن القضية الفلسطينية هي مفتاح الحرب والسلم في الشرق الأوسط. وهناك إجماع تقريباً على عدم شرعية المستوطنات وعلى انحياز الولايات المتحدة للحليف الاسرائيلي المدلل على حساب العراق وفلسطين والعرب بشكل عام. كذلك زالت تقريباً فكرة عرفت رواجاً طيلة عقود طويلة وهي أن الدول العربية تشكل تهديداً عسكرياً لاسرائيل، ذلك أن مواقف هذه الدول خلال عامي الانتفاضة، برهنت عن ضعف وهوان لفت انظار المراقبين والرأي العام بشكل واضح.

عن قصد أو غير قصد أعادت وسائل الاعلام الغربية اكتشاف الفلسطينيين كمجتمع وشعب وقضية واسرائيل كدولة محتلة تملك أقوى الجيوش في العالم ولا تتردد في قتل أولاد يحملون الحجارة أو يختبئون في احضان آبائهم المذعورين (محمد الدرة).

لقد عادت النازية مجدداً إلى التداول سواء لمقارنة هتلر بعرفات أو بشارون، وعاد اليهود ليتكلموا مجدداً عن معاداة السامية في بعض الدول الغربية (فرنسا مثلاً).

وقام الموالون لاسرائيل بهجوم منظم على زملائهم الصحافيين والكتاب الذين راحوا ينقدون التصرفات الاسرائيلية، متهمين إياهم بالانزلاق إلى العنصرية والوقوع في فخ اللاسامية، أو على الأقل بالمبالغة والافراط. حتى ان البعض راح ينتقد كل البنية الاعلامية الغربية القائمة على الانفعالية والسعي وراء السبق الصحافي والتي تقود إلى المبالغة في عرض الحقائق وأحياناً إلى الكذب والتشويه. وقد رد البعض، ومن بينهم يهود، على هؤلاء بالدعوة إلى وقف المتاجرة بدم ضحايا الهولوكوست والتذرع بالجرائم النازية، لتبرير نازية شارونيه من نوع جديد ضد الفلسطينيين. وقد احتجت اسرائيل لدى الحكومة الفرنسية مثلاً على مواقف بعض وسائل الاعلام الفرنسية، كذلك تمت مقاطعة بعض الصحف ومنها المعروفة بتأييدها لاسرائيل مثل نيويورك تايمز والواشنطن بوست وحتى محطة CNN التي اضطر صاحبها للاعتذار عبر عرض شريط مطول عن حياة الاسرائيليين من ضحايا العمليات الاستشهادية الفلسطينية.

لقد تصدرت حوادث الضفة الغربية وغزة الصفحات الأولى في كل وسائل الاعلام الغربية عدداً كبيراً جداً من الأيام واحتلت الحيز الاكبر من الصفحات الدولية وصفحات الرأي OP-ED منذ اندلاع الانتفاضة في 28 ايلول 2000 إلى يومنا هذا. حتى وسائل الاعلام المحلية غير الوطنية وهي كثيرة في البلدان الغربية لم تستطع تجاهل الموضوع الفلسطيني. وهذا بحد ذاته وفي جميع الأحوال لا يخدم المصلحة الإسرائيلية إذا علمنا بأن اسرائيل منذ قيامها تعمل على إنكار وجود شيء اسمه شعب فلسطيني وحقه في تقرير المصير.

يبقى ان نأسف لغياب النفوذ العربي، لأسباب يضيق المجال هنا لعرضها ومناقشتها، في الساحة الاعلامية – السياسية الغربية، وهو غياب يترك لأنصار اسرائيل حرية الحركة والخيار وللعرب مجرد المراهنة على أخطاء الاسرائيليين وهفواتهم وعلى الدم الفلسطيني المسفوك في عالم يُعجَبُ بالمتفوقين الأقوياء ويزدري المتخاذلين الضعفاء.

source