الأصوليّات والإعلام والماكّارتية الجديدة تهديدات لحوار الحضارات في الولايات المتحدة

calendar icon 13 كانون الأول 2002 الكاتب:لوري كنغ عيراني

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر")

(الجلسة الثالثة)


يسعى الإيمان بأشكاله إلى هدف واحد: الحرب على من نصّب نفسه إلهًا على الأرض وعلى الطّغاة ومساندة المضطهدين وضحايا سوء المعاملة وهما وجهان لواقع واحد. حقّق الإيمان الانتصار وأصبح المضطهدون منتصرين فقط ليصابوا بصدمة عند رؤيتهم أنّ الطّغاة قد حكموا باسم الإيمان. وهذا من شأنه أن يزيد الفوضى بين المضطهدين ويوسّع الهوة، ممّا يطلق فوضى الأديان. والواقع أنّه عندما تتعرّض المصالح للخطر تظهر الاختلافات.

--سماحة الإمام موسى الصدر.

ما إن علمنا أنا وزوجي باصطدام الطائرات بالبرجين في مانهاتن والبنتاغون في واشنطن في العام الماضي حتى شعرنا بخوف يجتاحنا. وقال زوجي "ليكن الله في عوننا إن كان المسبِّب من الشرق الأوسط". وبعد أكثر من سنة، ما زلنا قلقين بشأن ترتّبات أحداث 11 أيلول (سبتمبر) المأساوية ونتائجها على الشرق الأوسط، وعلى الدين الإسلامي النبيل – وهو دين العدالة والرحمة، وعلى أصدقاءنا وعائلتنا في لبنان، وفلسطين وفي أماكن أخرى، وكذلك على أصدقائنا وزملائنا من أميركيين عرب ومسلمين في الولايات المتحدة.

خضع حوار الحضارات – الإسلامية والمسيحية، العربية والأميركية – لاختبارات صارمة خلال السنة الماضية واعتبر في الغالب ضعيفًا وهشًّا مع أن الزّعماء المسلمين عبر الولايات المتحدة سارعوا في إدانة اعتداءات 11 أيلول ورغم دعوات الرئيس بوش الدقيقة والمسؤولة إلى جميع الأميركيين ألاّ يسيئوا الحكم على جيرانهم المسلمين بعد الاعتداءات. وفي الأشهر الستّة الماضية اعتبر الرئيس بوش وكثيرون من مستشاريه المقرّبين أكثر فأكثر اقترابًا من الصهاينة الأصوليين المسيحيين واتفاقًا معهم. وربما صمت واشنطن حيال هذه التجاوزات لهذه الكتلة الناخبة (التي تتّسم بالاتهامات التي وجّهها القس بات روبرتسون والقس جيري فالول بأنّ النبي محمد (صلعم) كان "الإرهابي الأصليّ" وأنّ الإسلام هو دين الحقد والعنف) ناجم عن الضرورات السياسية التي يفترضها عام انتخابات أساسية – فانتخابات الكونغرس في منتصف العهد جرت في الشهر الماضي. ولم يقل الرئيس بوش شيئًا لانتقاد تصريحات فالول وروبرتسون أو ووصفها منذ انعقاد الانتخابات التي شهدت انتخاب ممثلين يمينيين عن الطائفة الإنجيلية في الكونغرس.

"بالله نؤمن" لكنّه الله لسنا متأكدين منه.

في 6 تشرين الأول (أوكتوبر)، توجّه الرئيس بوش إلى اجتماع للتحالف المسيحي اليميني المتطرّف في واشنطن بواسطة الاتصال عبر الفيديو فأربك بصورة خطرة الخطوط المقسّمة بين الكنيسة والدولة وأرسل أيضًا رسالة غامضة ومربكة حول نظرة إدارته الخاصة بالعلاقات ما بين الأديان وحقوق المسلمين الأميركيين بالعيش بدون خوف وضرر وقمع، وكذلك مواقف الحكومة الأميركية حيال العالم العربي الإسلامي عامة والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي بصورة خاصة. وقد شهدت الأشهر الثلاثة الماضية تطوّرات مقلقة أخرى : إطلاق موقع الإنرتنيت CampusWatch على يد الدكتور دانيال بايبس والدكتور مارتن كريمر وهما مدافعان علنيّان عن أسوأ تجاوزات الحكومة والجيش الإسرائيليين كما أنّهما مفكّران يمينيّان ذو نفوذ ويحظيان باهتمام وانتباه كبار صانعي السياسات في إدارة بوش لا سيما المدير الجديد لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي السيد إليوت أبرامز. وشاب سجلّ أبرامز السابق في الخدمة العامة كثير من الاتهامات التي أثبتت بسهولة بأنه كذب على الكونغرس لكي يدفع بفضيحة أيران والكونترا الغريبة في عهد ريغن. في مؤتمر أخير في واشنطن وبصفته رئيسًا للجنة الأميركية حول الحرية الدينية الدولية كان دور أبرامز أساسيًا في تحويل اتجاه اللجنة صوب البلدان المسلمة فيما طمس تقريرًا دقيقًا أصدره فريق متعدد الطوائف من مستقي الوقائع عن الظروف في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن الواضح أكثر فأكثر أن الإدارة الأميركية الحالية وخاصة فرعها الخاص بصنع السياسة الخارجية لا تحبّذ الممارسات العادلة أو مجالاً متوازنًا. فالعرب والمسلمون هم العدو الجديد في عاصمة يجدها الكثيرون مطبوعة بذكرى حقبة ماكّرثي. وجزئيًا ردًّا على مخاوف يمكن تفهّمها إثر أحداث 11 أيلول ولكن ربما أكثر كمحاولة للمكوث في الحكم عبر تكتيكات ديماغوجية، يبدو أن إدارة بوش ومؤيّديهم في وسائل الإعلام الأساسية يجدون المسلمين العرب موضع شكّ ومذنبين حتى إثبات براءتهم ورمزًا لكلّ ما يجب أن يخاف منه المواطنون في الولايات المتحدة ويراقبه ويعتبره مختلفًا كلّيًا وآخَرَ وغير مقترن بالقيم "اليهودية المسيحية" التي تتحلىّ بها السياسة والمجتمع في الولايات المتحدة.

وكثيرون من العاملين في إدارة بوش يحدّدون أنفسهم كمحافظين جدد يعتبرون في السجلّ العام مؤيّدين متشدّدين لإسرائيل وخاصة لحزب الليكود وأهدافه القصوى للحصول على أكبر قدر من الأراضي والمياه والموارد من فلسطين مع خفض عدد غير اليهوديين في تلك الأراضي بأي وسيلة ممكنة. وإن قاعدتهم الإنتخابية تتألف أساسًا من صهاينة إنجيليين مسيحيين الذين يعتمدون تفسيرًا حرفيًا جدًّا للعهد القديم والعهد الجديد. وإن هذا الميل اللاهوتي في مجتمع الولايات المتحدة لطالما نظر نظرة تعاطف إلى إسرائيل إذ رأى تأسيسها في العام 1948 كتحقيق لنبوءة التوراة ومؤشر لنهاية العالم.

المؤمنون الحقيقيون مقتنعون بأن نهاية العالم قريبة وبأن الحرب العتيدة في العراق هي الحرب التي جرى التنبّؤ بها في الكتاب المقدس وهي الحرب "على فاسقة بابل" وهم يعتقدون فعلاً أنّه عندَ مجيء نهاية العالم سيصعدون مباشرة إلى الجنّة ويعتنق اليهود جميعًا المسيحية أو يهلكون في نيران جهنّم، أمّا المسلمون فسوف يهلكون في جهنّم نهاية العالم. يبدو أن هؤلاء المسيحيين لا يفهمون أن إلههم وإله المسلمين واحد. ويظنّ الكثيرون منهم أنّ المسلمين يعبدون النبي محمد (صلعم). وما يدعو للسخرية ان هذا الشعور الداخلي من الأصولية المسيحية الأميركية يوازي ويعكس في آن أسوأ أنواع التجاوزات والفكر السام الذي ترتكز إليه مجموعات كالقاعدة. وبالفعل يتضمن الكتاب الشهير لطارق علي بعنوان "صراع الأصوليات" إعترافًا وتحليلا لنقاط المقارنة الغريبة القائمة بين الخطاب والترشيد السياسي والنظرة العالمية للتعبيرات الشوفينية الإنجيلية الأكثر تشددا لإدارة بوش من جهة والتشتت الذي يرتبط بأسامة بن لادن. وبالفعل فقد صور طارق علي الرئيس بوش على غلاف كتابه ملتحيا ومرتديا لفافة الطالبان بينما صور بن لادن على غلاف الكتاب الخلفي من دون لفافة ومرتديا بزة زرقاء وربطة عنق حمراء كالتي يرتديها الرئيس بوش في حفلات التوقيع وهو يعقد مؤتمرا صحافيا في البيت الأبيض. إن هاتين الصورتين كان يمكنهما أن تكونا طريفتين لولا انهما مثيرتان للرعب.

وفي أعقاب فظائع أحداث الحادي عشر من أيلول وكنتيجة للخوف والضرر والهستيريا الفعلية والمصطنعة التي تصدرت النشرات الأخبارية منذ ذلك التاريخ، اكتسب هؤلاء الأصوليون المسيحيون والمسلمون على حد سواء قوة ووجودا على الساحتين المحلية والدولية أكثر من أي وقت مضى. وحصل كل ذلك على حساب الديمقراطية والحوار والتسامح وحقوق الإنسان. ولعل أفضل من يؤكد ذلك أولئك الأميركيون العرب والمسلمون الذين تعرضوا لشتى أنواع التحقيقات الخاصة وتفتيش منازلهم والتوقيفات والاعتقالات من دون محاكمة وغالبا في حبس انفرادي من دون الحديث عن التصريحات العامة التي أدلى بها أشخاص نافذون من أصحاب السلطة يبررون ويشرعون فيها المعاملة التعسفية وغير العادلة تجاه المسلمين منذ أيلول 2001.

وفي فترة عيد الميلاد الماضي ركزت أكثر الكتب مبيعا على أحد الموضوعين التالين: الإسلام والأسلحة الكيميائية والبيولوجية. أما هذا العام، فإذا راجعنا على موقع الإنترنت الشهير Amazon.com لائحة الكتب الأكثر مبيعا مستخدمين عبارة "إسلام" لوجدنا كتبا ككتاب "الجهاد الأميركي: التهديد المسلم للولايات المتحدة" للكاتب ستيفن ايميرسون وكتاب "وجها الإسلام: بيت سعود من التقليد الى الرعب للكاتب ستيفن شوارتز وكتاب "ما الخطب؟: الصراع بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط للكاتب برنارد لويس والإسلام وأهل الذمة: حيث تصطدم الحضارات للكاتب بات يئور بالإضافة الى كتابي فؤاد عجمي ودانيال بايب. أما الترجمات الى الانكليزية او أي تعليقات على القرآن او حديث النبي محمد (صلعم) فلا وجود لها إطلاقا في لائحة الكتب العشرة الاوائل الاكثر مبيعا في هاتين المجموعتين.

إنّ بحثًا يستعمل الكلمات المفاتيح نفسها على موقع google.com محرّك البحث الأكثر شعبية على الإنترنت يحوي أكثر من 4 ملايين موقع ممكن. المواقع العشرون الأساسية هي مجموعات أخبار ومواقع إنترنت للمسلمين ومن المسلمين وليست مواقع تحاول تقديم الإسلام أوشرحه أو تفسيره إلى غير المسلمين. تلك ليست مواقع حوار مع أن غير المسلمين يمكنهم أن يزوروها ويزورونها فعلاً ليروا ما يقال ويناقش فيها. ومعروف أن الأف.بي.أي والسي.آي.أي يراقبان كلّ ما يقال ويُنقَل هناك في حملة الدفاع عن الوطن لتحديد كلّ مصادر الإرهاب والأعمال المعادية لأميركا الممكنة ونزع جذورها.

بشرى على صعيد السّواد الأعظم.

إذا انتقلنا من النظرة الكلّية للإنترنت ومبيعات وتسويق الكتاب على صعيد الأمة والتلفزيون المحلي الوحيد الاتجاه إلى مستوى السواد الأعظم، نجد عناصر كثيرة توحي بالأمل: حوار متزايد ما بين الأديان بين المسيحيين والمسلمين واليهود؛ الكنائس المسيحية التي استجابت بشجاعة ورحمة لتقارير لنساء مسلمات تعرّضن للتحرّش لارتدائهنّ الحجاب. وقرّرت نساء مسيحيات كثيرات أن يرتدين هنّ أيضًا الحجاب تعبيرًا عن تضامنهنّ مع أخواتهنّ المسلمات وتعاطفهنّ معهنّ. والمعارض الفنّية، والعروض في الصفوف، وعروض الأفلام الخاصة، والمحاضرات العامة عبر الولايات المتحدة وكندا حملت الرسالة القائلة بأن الحقد، وعدم التسامح، والتنميطات، والخوف هي ردود غير ملائمة في زمن الأزمات والمخاطر. وإن كان من الضروري أن تحصل الحوارات بين الحضارات فهي تحصل عندما يتواجه شخصان ويتشاطران أفكارهما وآمالهما ومخاوفهما وتطلّعاتهما. فهذا أمر يحصل فعلاً عبر الولايات المتحدة وكندا مع أنّه لا يعبّر عنه غالبًا في النشرات الأخبارية الموجَّهة.

وحتى على شاشات التلفزيون، يجب أن نقرّ بالمعروف حيثما يجب. وخصَّصت معظم شبكات الأخبار الكبرى برامج خاصة برمضان، والنبي محمد (صلعم) والإسلام منذ أحداث أيلول. ومعظم هذه الإنتاجات في درجة عالية من الاحتراف والعرض ومعبّرة عن الوقائع ومثيرة للاهتمام ومفيدة بالمعلومات. كما أن CNN, BBC, MSNBC, PBS, NBC, CBC وشبكات إعلامية أخرى تعرض أيضا صفحات خاصة تفاعلية على مواقعها على الإنترنت لتعريف المواطن العادي غير المسلم من شمال أمريكا على الإسلام وتاريخه وتعاليمه ومبادئه والمؤمنين والتقاليد.

ومع ان هذا التوجه مرحب به وقد بدد الكثير من الأنماط الموحدة والأكاذيب والتشهير وسوء الفهم حول الإسلام والمسلمين إلا انه يطرح إشكالية في إطار تغطية الأخبار الدولية. فعندما تقوم قوات الدفاع الإسرائيلية بقصف مبنى في غزة منتهكة بذلك القانون الإنساني الدولي والقوانين الأميركية التي تنص على الاستخدام المقبول لهباتها في مجال المساعدة العسكرية لا تقوم أي شبكة تلفزيونية أو أي مجلة إخبارية بتحضير مقاطع خاصة من الأخبار حول تاريخ اليهودية او المعتقدات اليهودية ردا على هذه الأفعال الإجرامية. كل ما يقدم كخلفية هو عادة تاريخ إسرائيل التي تصور على أنها دولة صغيرة شجاعة يقطنها ناجون أقوياء يتحدون كل الصعاب في إطار مواجهتهم العدائية غير المعقولة والشريرة أحيانا من قبل جيرانهم من اجل التمكن من العيش في الأرض المقدسة. إذا منذ البداية تختلف الروايات –واهم من ذلك السياق الذي تندرج ضمنه هذه الروايات. فالأفعال العربية والمسلمة تفسر ضمن نظرة شاملة وكاسحة للإسلام كديانة عالمية. أما الأفعال الإسرائيلية فينظر إليها ضمن سياق اكثر تخصصا (بمساعدة كبيرة من عدد من وسائل الإعلام التي أثيرت عاطفتها) - في إطار تاريخي خاص ولكن مشوّه سياسيًا: وهو إطار السنوات الستين الأخيرة من القرن العشرين. أما البرامج التلفزيونية، والأفلام الوثائقية، والصحف، ومواقع الانترنيت التي تحاول أن تضع أعمال العرب والمسلمين ومعتقداتهم وهمومهم وأهدافهم في النوع نفسه من الإطار السياسي والأخلاقي والتاريخي ليست معروفة جدًا. وإن عروضًا كهذه تتطلب تحليلاً أعمق وأكثر دقةً للتاريخ السياسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بما في ذلك احتساب دقيق للسياسة الأميركية الخارجية وكيف توضَع وتُنَفَّذ وأيّ آثار لها. ومنذ 11 أيلول، لا تحظى التقارير الانتقادية، والعميقة والصارمة بأي تشجيع أو ترحيب في وسائل الإعلام الموجَّهة في الولايات المتحدة. ومن يحاول ذلك يعتبر عديم الوطنية.

الإرهاب واستخداماته في "صدام الأصوليات".

قدّمت التراكمات الإحصائية السنوية التي أصدرتها الحكومة الأميركية حول الإرهاب الدولي لسنوات صورةً مختلفة جدًا عن تلك التي نراها في أخبار التلفزيون أو على شاشات السينما. وبعكس الاعتقاد الشعبي السائد، حصل معظم الإرهاب الدولي لسنوات عدة وهو محدَّد كهجومات أو تهديدات أو اعتداءات على المدنيين من أجل تحقيق أهداف سياسية، في مواقع كأميركا الوسطى والجنوبية وسريلانكا وأوروبا الغربية وأفريقيا. ولم تحتلّ الأعمال الإرهابية الشرق أوسطية أو الإسلامية المراتب الأولى إلاّ في العام 2001. إلاّ أن معظم الأميركيين ينسبون كلمة "إرهاب" للعرب والإسلام. فعندما يعلّم زوجي السياسة الشرق أوسطية يسأل طلاّبه أن يقولوا بصراحة وعفوية ما يرد إلى ذهنهم عندما يقول "إسلام" أو "عرب". ومع أنّ بعض الطلاّب يعطون أجوبة حيادية يقول عدد أكبر منهم "إرهاب" أو "جهاد" أو "كره الولايات المتحدة" و"الأصولية". وكما أشار جاك شاهين في كتابه "المليارديريون والمقاتلات والراقصات الشرقيات"، إن آراء الأميركيين عن العالمين العربي والإسلامي تصقلها بدقة ولكن بالتأكيد سلسلة من وسائل الإعلام: الكتب الساخرة، والأفلام، والموسيقى، والخيال، والمسلسلات، والبرامج الهزلية، والجمعيات الضمنية التي تدعوها وسائل الإعلام الموجَّهة. ويراود ذهني مثل أخير: ورد في الغلوب أند مايل في تورونتو الأسبوع الماضي خبر عن فضيحة تشيري بلير زوجة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير متورّطة فيها لشرائها عقارات من مجرم وغشّاش أسترالي تعرّفت عليه بواسطة صديقتها الجديدة الراقصة العارية السابقة التي تحوّلت إلى مستشارة. وقد تعرّضت السيدة بلير للانتقاد اللاذع بسبب انعدام حسّ الحكم لديها مع أنّها خبيرة قانونية محترمة ومتعلمة. وإذ حاولت المقالة أن تجد سلسلة من الزلاّت والتفكير الأخلاقي السيّئ، إنتهت بتذكير بأن السيدة بلير عبّرت عن تعاطف في نيسان الماضي مع الفلسطينيين فيما أعربت عن انذهالها من سلوك الحكومة الإسرائيلية حتى أنها قالت إن الناس سيستمرّون في القيام بعمليات تفجير إنتحارية إلاّ إذا نالوا الأمل والكرامة. وقد انتقدت على الفور على هذا التصريح العام وقد شجب تعليقها العلني هذا على الفور في ذاك الوقت كما أن المقالة الصحافية حول هفواته المالية انتهت بالتعبير عن أمل لحكمها العقلي وطباعها مع الإشارة إلى أنّها ربما قد أنكرت علنًا تعليقها.

عمليات اختطاف أخرى غير الظاهرة

اصبح من الواضح خلال العام المنصرم ان ما أختطف في الولايات المتحدة هو اكثر بكثير من أربع طائرات في أيلول 2001. فالأميركيون العرب والأميركيون المسلمون هم أفضل من يعرف ذلك. وما زالت حالات اختطاف أخرى تحصل بشكل دائم وقد تضاهي بخطورتها وضررها عمليات الاختطاف التي قام بها 19 شابا عربيا في أيلول الماضي. أما الوسائل المستخدمة في عمليات الاختطاف المستترة هذه فهي اكثر تطورا والتواء من قواطع الورق مثلا. ولكن بما ان عمليات الاختطاف هذه مستمرة ولم تنكشف نتائجها بعد لسوء حظ الملايين الا اننا قد نكون امام فرصة تخولنا استعادة السيطرة من بين أيدي الخاطفين وتغيير مسار الأمور.

لقد حصلت عملية الاختطاف الأولى قبل قرابة العام من تاريخ الحادي عشر من أيلول وذلك خلال الانتخابات الأخيرة. فالعملية الانتخابية لا سيما بالنسبة الى صناديق الاقتراع قد أديرت بأساليب متخلفة في فلوريدا حيث حصل باتريك بوشانان على رقم مفاجئ من أصوات الناخبين اليهود بينما أبعد الأميركيون الأفارقة عن مراكز الاقتراع بإعداد مرتفعة ومريبة. الا ان عملية الاختطاف الانتخابي لم يتجل بكل فظاعته والتوائه الفريدين الا في واشنطن حيث حكمت محكمة عليا مشكوك بحيادها بنتيجة الانتخابات أعلنت الفائز. (بما ان الخيار كان بين المرشحين الرائدين اللذين يطلق عليهما مزاحا اسما غاش وبور بمعنى يتفجّر ويمل وهذا خيار لا يفسح مجالا كبيرا للتحسر لذلك يمكن القول ان العملية الانتخابية قد اختطفت قبل انتخابات العام 2000 بأشهر ان لم نقل بسنين).

وبعد اتمام عملية الاختطاف هذه –والمفاجأة انها لم تثر الكثير من الاعتراضات او الشكاوى من قبل ركاب الطائرة الكبرى أميركا- قامت الإدارة الأميركية الجديدة بسلسلة من عمليات الاختطاف انطلاقا من هاجسها المتمثل بنظرة غير واقعية واحادية الأطراف حول العالم ومكانة أميركا فيه. وبالفعل فالعمليات الدولية أطر مواجهة أزمات كارتفاع حرارة الأرض وسباق التسلح وحقوق العدالة الدولية قد اختطفت وشتتت من قبل القوة العظيمة الوحيدة في العالم إذ ان نكرت بروتوكول كيوتو ألغت المعاهدة حول الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية وانسحبت من معاهدة روما التي أرست أسس المحكمة الجنائية الدولية.

وبصورة منحرفة وبفخر وبدون حياء، قدمت الولايات المتحدة عن نفسها صورة مشاكسة إلى العالم وهي صورة المناظر المتعجرف والغير مكترث بإرادة الشعب أكان أميركيًا أو من مواطني عالم يزداد ترابطه. "ما نقوله يسري! إعبثوا معنا فنعبث معكم. نحن الأوائل!"

لم يكن لأحداث 11 أيلول الرهيبة إلا أن تزيد من حدة ذاك الميل في السياسة الأميركية على الصعيدين المحلي والدولي. كما أن حلفاء الولايات المتحدة القديمين والجدد حذوا حذو الرئيس بوش، وزير الدفاع رامسفلد، المدّعي أشكروفت وعضوا مجلس الشيوخ جيسي هلمس وديك أرمي بأن حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والديموقراطية، واتفاقيات جينيف، واحترام الأقليات، والعملية القانونية والمبادئ العادلة يمكن نبذها والتخلّي عنها وسحقها حتى بخوف اقلّ من العواقب الطويلة الأمد مما كانت عليه الحال قبل 11 أيلول. بالتالي، نالت السياسات والممارسات الفاشية مساعدة ودعمًا في إسرائيل وباكستان وأوزبكستان وروسيا وغيرها أماكن كثيرة تلقّى فيها القانون الإنساني الدولي مؤخرًا ضربة قاسية. فمجرمو الحرب يرحّب بحرارة في البيت الأبيض كرجال سلام؛ وصفقات الأسلحة تعقد مع أنظمة أيديها ملطّخة بالدماء وكلّ هذا انتهاكًا للقوانين الأميركية كقانون المساعدة الخارجية الصادر في العام 1961.

والأكثر إحباطًا هو أن الأمم المتحدة سمحت لنفسها بالتعرّض للاختطاف للاستجابة لرغبات الأقوياء بدلاً من صون حاجات الضعفاء. من منّا ما زال مؤمنًا بقدرة تلك الهيئة العالمية على التوسّط في النزاعات، ووقف سفك الدماء، وتنفيذ إرادة الأسرة الدولية، ودعم ما هو عادل ومناسب، أو اتخاذ موقف مساند للقانون الدولي بعد انهيار الأمم المتحدة أمام رفض إسرائيل السماح بالتحقيقات بشأن أحداث جنين في نيسان الماضي؟

سنة كاملة بعد قيام 19 شابًا عربيًا ضائعًا ومسمّمًا بالحقد باختطاف المبدأ الإسلامي المعقد والدقيق والنبيل مبدأ الجهاد – الذي يتطلب معركة روحية لكل امرء مع شياطينه الداخليين الذاتيين – ليقتلوا آلاف الأبرياء، والعملية الديموقراطية، وحكم القانون، واحترام مبادئ العدالة ما زالت هذه الأمور يقودها يوميًا على الصعيدين المحلي والدولي خاطفون أكثر تعقيدًا بكثير. يستعملون الإعلام، وعمليات الهجوم الساحرة الخاصة بمجموعات التعبئة، وحملات العلاقات العامة، والخوف والديماغوجية ليسلبوا من الأميركيين تفكيرهم النقدي وإرادتهم السياسية. إنهم يقودون أميركا إلى اتجاه مجهول حتى الآن وعلى الأرجح مظلم. إنهم حاقدون، وغاضبون، وأنانيون، وعديمو النضج والحكمة وحسّ المنطق. يعدنا هؤلاء الخاطفون بـ"حرب بلا نهاية" – اليوم في أفغانستان، وغدًا في العراق، وفي العام المقبل في جنوب شرق آسيا. إنهم على وشك إطلاق حرب بدون حدود، أو أهداف أو حلّ، حرب لن تنتج إلاّ ضحايا من دون أسماء وأضرار ناتجة إضافية مع أرباح كبرى لمتعاقدي الدفاع.

من هم هؤلاء الخاطفون؟ هل يمثّلون فعلاً إرادة شعب الولايات المتحدة الأميركية؟ هل يعكسون الأهداف العزيزة على قلوب 300 مليون مواطن أميركي وآمالهم النبيلة؟ ربما لا يتجاوز عددهم 19 خاطفًا مختلاً مثّلوا فعلاً الرغبات الكبرى للأكثرية الساحقة من المليار المسلم في العالم في 11 أيلول الماضي.

من أجل حقوق الإنسان، والديموقراطية، والكرامة، والسلام، والحضارة، من الضروري أن يسعى المسيحيون والمسلمون الذي يخشون التحول الأصولي في قيادتهم ومنهج طوائفهم، عبر الارتباك، والحقد، والخوف، والتعجرف إلى التقدّم والمحافظة على حوار حضارات لا صراع أصوليات.

source