الاعلام الغربي والاستراتيجية العليا للدولة

calendar icon 13 كانون الأول 2002 الكاتب:منير شفيق

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر")

(الجلسة الثالثة)

1:أ- لعل من الاخطاء التي يقع فيها القلقون من انحياز الاعلام الغربي عموماً، والاميركي خصوصاً، ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين هو تصورهم ان الاعلام السائد – شبه الرسمي، كما المعبر عن الاحزاب التي تتداول على السلطة، اي الاحزاب الرسمية عمليا، يمكن ان يكون غير التعبير، من خلال الادوات الاعلامية، عن الاستراتيجية العليا التي تتبناها الدولة، سواء اكان على مستوى علاقاتها وسياستها الخارجية ام كان على مستوى ثوابت النظام في البلد المعني.

هذه القاعدة يُقبل بها ويُسلم لها عند تناول الاعلام في البلدان الشمولية التي لا تعرف التعددية، وحرية التعبير، والصحافة، واليوم الانترنت والقنوات الفضائية. ولكنها تغيب عندما يأتي الموضوع إلى البلدان الغربية التي تتسم بالديمقراطية والتعددية فيظن ان الاتجاه السائد في الاعلام ينطلق عن خيارات حرة من قبل المسيطرين عليه أو العاملين فيه وليس من تحكم لا يقل من جهة سيطرة الاستراتيجية العليا للدولة، خارجيا وداخلياً، عليه من سيطرة الدول الشمولية. ولعل الفارق الاساسي الذي يشغب على رؤية هذه الحقيقة تأتي مما يظهر في الاعلام الغربي من تعددية، وخلافيات وصراعات قد يخوضها ضد رئيس معين، أو مسؤولين محددين. ولكن هذه تظل تحت سقف الاستراتيجية العليا للدولة. فمن يتابع الاعلام السائد في دول الغرب خلال مرحلة الحرب الباردة يجده ضمن خطوط الاستراتيجية العليا في مكافحة الشيوعية ومواجهة الكتلة الاشتراكية. واذا كان هنالك من اختراق يحدث لسبب من الاسباب فسرعان ما يهمش ويخرج من السائد في الاعلام.

الذي يراد ابرازه هنا ان المشكلة مع الاعلام الغربي، والاميركي منه على الخصوص، تبدأ وتنتهي بالاشكالية مع الاستراتيجية العليا للدولة. فعلى سبيل المثال ما دام زرع الكيان الصهيوني في فلسطين وتمكينه فيها وفي المنطقة جزءاً من الاستراتيجية العليا فالاعلام بعمومه، والمتنفذ منه بخاصة، لا يمكنه الا ان يكون في خدمة تلك الاستراتيجية.

ولهذا من التبسيطية المخلة التصور ان بالامكان ان نؤثر في الاعلام ان لم نؤثر في الاستراتيجية العليا نفسها. فهي الاصل وهو الفرع وليس العكس. ومن ثم ان ما نراه من نفوذ صهيوني في الاعلام الغربي جاء، أولاً وقبل كل شيء، منسجماً مع استراتيجية عليا ارادته، وسمحت به، ومازالت، وقد اعتبرته جزءاً من معادلتها الداخلية والخارجية. ولكن من بعد ذلك يمكن ان يُسجل الدور الخاص الذاتي للمنظمات الصهيونية والرأسماليين اليهود في توسيع ذلك النفوذ واحكام وجوده وقبضته حتى اصبح جزءاً مشاركا في القرار الاستراتيجي نفسه وفي لعبة الصراع الديمقراطي نفسها. وقد مضى ذلك بموازاة مع توسيع النفوذ في الهيئات التنفيذية

والتشريعية والحياة الاقتصادية والثقافية. واذا سبق في مجال ما فسرعان ما ستلحق به المجالات الاخرى، وقد كان تمهيداً لها كذلك.

على ان من المهم هنا الا تفهم العلاقة بين الاستراتيجيا العليا للدولة والاعلام ومختلف النشاطات والمجالات الاخرى فهماً ميكانيكياً آليا اذ لا بد من ان تبقى هنالك تداخلات واختراقات وتعقيدات ما دامت العلائق مركّبة وليست بسيطة. الا ان الدخول في التفاصيل يوجب ان يبقى التركيز على الموضوعة الاساس وهي تبعية الاعلام السائد للاستراتيجية العليا للدولة. اما وجود اعلام ثانوي أو مهمش يعكس معارضة ثانوية أو مهمشة فليس ببعيد عن الاستراتيجية العليا التي تسمح به.

1:ب- ان قوة الاعلام وأثره في مجتمع ما أو على نطاق عالمي يرتبط بالاستراتيجية وما ينبع منها من سياسات وما يكون لها من مرجعية وصدقية وتأييد أكثر مما يرتبط بقوة الاعلام نفسه وامكاناته وتقنياته. ولهذا كثيراً ما نرى الاعلام السائد في هذا البلد أو ذاك في واد والرأى العام الداخلي في واد آخر. ويمكن ان يرى مثل هذا التناقض والهوة مميزين إلى الرأى العام في المنطقة من حوله وفي العالم. وهنا تجد البعض يعزو هذا الخلل لاسباب تتعلق بالاعلام نفسه: تقنياته، امكاناته أو اساليب تقديمه من دون ان تعطي الاولية للخلل في الاستراتيجية ومدى صحتها ومعقولية السياسات التي يروج لها، أو يدافع عنها، قبل الحديث عن الامكانات والتقنيات والاساليب.

هذه الاشكالية لا تتخبط فيها دول من العالم الثالث التي قامت هوة بين استراتيجياتها وشعوبها فحسب، وانما ايضاً، ها نحن اولاً نرى الولايات المتحدة الاميركية، في المرحلة الراهنة، تقع في الفخ نفسه على نطاق عالمي. فهي تحسب ان وضع استراتيجية عالمية لاعلامها خصوصا، الموجه إلى الشعوب الاسلامية تحقق الاهداف المنشودة من خلال ما يمكن ان يخصص لها من امكانات مالية وتقنية وكوادر ومثقفين مع التطوير المستمر للاساليب وما شابه. وبهذا يصبح الفرع أهم من الاصل، وهو المسؤول عن النتائج السالبة أو الموجبة في موقف الشعوب من اميركا وكرهها والعداء لها على حد تعبيرهم. انهم يريدون من خلال الدعاية الاعلامية تغيير الحقائق ورؤية الناس، أو الاقناع بالتخلي عن مصالح يستمسك بها الرأي العام المعني من خلال اعلام مضاد لها يسعى في تزويرها.

ولهذا فان كل بحث في الاعلام يجب ان يبدأ في بحث السياسة والممارسة والوقائع التي يراد منه ان يجلّيها، ويعلي من شانها ويقنع بها. ومن ثم بعد ذلك يعطى دور بقدر مناسب للإعلام واثره اكان على مستوى محلي أم عالمي باعتباره تابعا للسياسة يستمد قوته أو ضعفه، نجاحه أو فشله، منها أكثر من اي شيء آخر.

1:ج- البعض الكثير يتعاطى مع الاعلام كأنه قلم يكتب على صفحة بيضاء، أو ازميل ينحت حجراً اصم يستجيب لضرباته، فيظن ان بالامكان للاعلام ان يشكل الرأي العام على هواه. وبهذا يقلل من اهمية العوامل الاخرى التي اسهمت أو تسهم في تشكيل الرأي العام، مثل المخزون التاريخي والوعي المتوارث، او مثل الأزمات السياسية والاقتصادية وخصوصاً القومية والدينية والاثنية، او ما يمكن ان يكون قد ترسخ من فهم لمصالح الجمهور وما عبر عنها من انحيازات. فالاعلام لا يلعب في ميدان خال له وحده وانما هو يتعاطى مع وضع معقد من الوعي خصوصاً اذا كان يحمل مشروعاً يسبح ضد التيار السائد، او اذا كان يريد اعادة البناء باتجاه معين وليس الهدم والتشويش حيث الحالة الاولى اصعب عليه من الثانية، ولكل منهما شروطهما نجاحاً وفشلاً. والشروط، كما سبق واشير اليه، لا تقتصر على الاعلام وامكاناته وتقنياته واساليبه.





2:أ- ان الوصول إلى الرأى العام في الغرب سواء أكان بهدف تحسين صورة العربي والمسلم والاسلام بعامة أم كان من اجل الاقناع بعدالة القضية الفلسطينية، او هذه او تلك من القضايا العربية، أم كان يراد فضح الممارسات والسياسات الاسرائيلية والضغط على الحكومات الغربية، يطلق مجموعة من الاسئلة التي لا بد من الإجابة عنها. ولعل اولها هل اي من هذه الاهداف ممكن؟ وهل الامكان جزئى ام اكثر من جزئى؟ ام غير ممكن؟ اذا ما تأملنا جيداً في الموضوعات المشار اليها اعلاه حول علاقة الاعلام الذي يراد التحرك من خلاله بالاستراتيجية العليا للغرب عموماً، او في الاقل، بالنسبة إلى الاستراتيجية العليا الاميركية التي راحت تتخلى بعد حرب افغانستان عن تبني استراتيجية غربية عامة فسنجد ان كبار الاعلاميين والمنظرين اخذوا ينقسمون إلى موقفين يمسان الاستراتيجية الاميركية العليا التي عرضها الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش في 20/9/2002 تحت عنوان "استراتيجية الامن القومي الاميركي". وهذا يحدث لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانطلاق الحرب الباردة.

لو عدنا لمراجعة الاعلام الاميركي السائد خلال الحرب الباردة لوجدناه يقف شبه مجمع وراء استراتيجية الردع الشامل، والاحتواء، والتحالف الاطلسي مع كندا واوروبا الغربية والتحالف الاسيوي الاميركي – الياباني. ولم يكن ليحدث انقسام في الاعلام السائد إلا ازاء سياسة خارجية بعينها (مثلا أواخر حرب فيتنام) عندما تكون مراكز القرار الاستراتيجي اخذت تراجع موقفها أو يظهر خلاف داخل صفوفها. اما على المستوى الداخلي فكانت الانقسامات تعكس خلافات الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول سياسات اقتصادية أو اجتماعية معينة، أو عندما يكون الخلاف الداخلي اخذ يمس شخص الرئيس. مما يستدعي تحريك الصحافة ودعمها من قبل بعض مراكز القرار الاستراتيجي لاثارة فضيحة ما او ردها.

2:ب- اما في المرحلة الراهنة فان ما يعكسه الاعلام الاميركي في صحف رئيسة مثل النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست أو الهيرالد تربيون وغيرها فقد تحول إلى نقاش حول الاستراتيجية العليا نفسها. فهنالك تيار الادارة الذي يؤيدها في ما طرحته من استراتيجية بما في ذلك اصرارها على الحرب ضد العراق. ويشن هجوماً على فرنسا والمانيا مقللاً من اهميتهما، ومشدداً على ان معارضتهما للسياسات الاميركية نابعة من غرور لا اساس له في حقيقة قوتهما ونفوذهما. ويفسر تبني اوروبا لفلسفة "كانت" في العلاقات الدولية والقائمة على التفاوض والمساومات والحلول الوسط نابعاً من ضعفها، وهو الذي لم تطبقه في الماضي عندما فرضت استعمارها على العالم.

اما من جهة اخرى فاصحاب هذا الاتجاه المؤيد للادارة فيروج لفلسفة "هوبز" التي ترى العالم غابة وحوش لا يضبط، ويقام النظام فيه، إلا بالقوة المسلحة.

على ان التيار الثاني في الإعلام الاميركي فيدافع عن الاستراتيجية الاميركية خلال الحرب الباردة .. استراتيجية الردع الشامل، والاحتواء، والتحالف مع اوروبا واليابان وعشرات الدول الاخرى في العالم الثالث. ويحذر من مغبة العزلة والانفراد أو الاستهتار باهمية المحافظة على هيئة الإمم ومراعاة القانون الدولي، بالرغم من اعترافه انه في تاريخ اميركا، القديم والحديث، سلسلة من سياسات العزلة والمقرارات المنفردة، وتجاوز القوانين الدولية وهيئة الأمم المتحدة، الا ان هذا لم يكن الاستراتيجية من حيث الاساس. ولم تقم سياساتها العامة عليه. فان هو الا استثناءات في حين حولت الادارة الحالية ذلك إلى استراتيجية ثابتة وسياسات عامة. وبدهي ان في هذا خطراً محدقاً بالمصالح الاميركية ودورها القيادي في العالم بالرغم من قوتها العسكرية المتفوقة.

لقد اصبح وجود هذين التيارين وجوداً يومياً في الصحافة والاقنية الفضائية والندوات وما راح يظهر من كتب جديدة بالعشرات. ويجب ان يلحظ هنا ان تجلي الخلاف في موضوع الحرب ضد العراق ينطلق من اتفاق في العداء للنظام العراقي ولكن يفترق في كيفية مواجهته، خصوصاً من جهة التعامل مع اوروبا وهيئة الامم المتحدة.

2:ج- الخلاف بين التيارين داخليا اخذ ينتقل إلى مناقشة سياسات الادارة الاميركية التي راحت تسن قوانين وتعطي صلاحيات للاجهزة الامنية تحت ذريعة مكافحة الارهاب مما طفق يتهدد الدستور والحريات الاساسية ويعطي صلاحيات "امبراطورية" للرئيس. وبهذا اصبح الخلاف الداخلي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي خلافاً يخرق الحزبين عمودياً في الان نفسه، ويتعدى التمايز حول الضرائب والخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية. وهو خلاف انتقل إلى الاعلام الذي راح يعكس الخلافيات حول الاستراتيجية العليا داخليا.

2:د- إلى هنا يجب ان يشار إلى ان الموقف من السياسات الاميركية ازاء الدولة العبرية والقضية الفلسطينية وانتفاضة الشعب الفلسطيني ومقاومته لم يواجه انقساماً موازياً لا على مستوى الاستراتيجية ولا على مستوى الاعلام. ويرجع ذلك إلى علاقة التيارين باللوبي الصهيوني كما إلى موقفهما الاستراتيجي المشترك من هذه المسألة. ولعل الائتلاف بين الليكود والعمل والذي كان سائداً في الشهور الماضية كان سبباً هاماً في عدم انتقال الخلافية حول الاستراتيجية العليا إلى الموضوع الفلسطيني ولو جزئياً. ومن ثم يمكن القول ان بعض جوانب تلك الخلافية قد يُشهد في المرحلة القادمة اذا تبلور الصراع بين العمل والليكود، في عهد رئاسة عمرام ميتسناع الجديدة لحزب العمل وان كان انعكاس ذلك قد يكون اقوى في المواقف الاوروبية المتعاطفة أكثر مع "العمل" تاريخياً.

2:هـ- ومن هنا ينشأ السؤال كيف يمكن ان يُؤثر في الاعلام الاميركي في المرحلة الراهنة من جانب الفلسطينيين والعرب والمسلمين؟ الجواب ببساطة، وانسجاماً مع ما تقدم من ملحوظات حول علاقة الاعلام السائد بالاستراتيجية العليا، ان انقساماً حاداً على مستوى الموقف من الاستراتيجية العليا خارجيا وداخليا سيستدعي انقساماً موازياً في الاعلام كما الرأي العام. هنا يمكن التأثير اذا ما وجد الطرف الاضعف نفسه محتاجاً إلى المؤازرة فعندها يمكن ان تفتح بعض الثغرات للتدخل الاعلامي في مصلحة بعض المواقف الفلسطينية والعربية. وقد ظهر هذا منذ الآن من خلال بروز اصوات اعلامية وسياسية اميركية تنتقد الحملات التي راحت تشنها الجهات الاعلامية المؤيدة لادارة بوش ضد السعودية ومصر والدول العربية والاسلامية بعامة. مما يفتح المجال لدور اعلامي واسلامي اكبر نسبياً وحتى لدور انتخابي اكبر من جانب الجالية العربية – الاسلامية في الولايات المتحدة الاميركية.

اما التصور ان بالامكان الدخول في اللعبة الاعلامية في الغرب في ظل استراتيجية عليا تحظى باجماع وطني من خلال القوى الاساسية (اهل العقد والحل) فيه، فإنه ضرب من الوهم قد يضيع كثيراً من المال والجهود يمكن الافادة منهما في مجالات أخرى.

2:و- وتبقى نقطة تستحق وقفة هنا تقول انه من غير الممكن تغيير اتجاه الاعلام المعادي لنا ان لم نغير من انفسنا واوضاعنا سياسيا واجتماعياً وثقافياً حيث يركز على ان الاعلام المعادي يجد مادة خصبة من خلال ما تعانيه بلادنا من دكتاتورية وهدر لحقوق الانسان، وحقوق المرأة،والتعددية، ومن فساد وتخلف وما شابه. وهذا الاتجاه وان تناول جانباً يحتاج فعلاً إلى معالجة ويشكل ثغره واسعة يستطيع الاعلام المعادي الدخول منها يصل الامر به احياناً إلى التوهم ان سبب العداء يرجع إلى تلك الثغرات وليس إلى استراتيجية عليا تحمل اهدافا لاعلاقة لها بما نعانيه (مما ذكر) من سلبيات. ولهذا ما ينبغي لنا ان نخلط بين الامرين بداية، وإلا محونا الحدود الفاصلة بين المعتدي والمعتدى عليه، أو بين الظالم والمظلوم.

واذا كان من الضروري ان نعالج سلبياتنا "ونحسن صورتنا" من خلال ذلك فيجب ان يكون المنطلق لاسباب تتعلق بنا، ولاهداف نحن الاشد حرصاً عليها، وليس من اجل توقي حملات اعلامية ستجد الثغرات التي تنتشر حتى في أكثر الاوضاع مثالية، اذا ما من دولة أو مجتمع في العالم شرقاً وغرباً الا ويعج بالسلبيات التي تصلح مادة اعلامية ضده، خصوصاً، اذا كانت، كان، الاضعف في ميزان القوى والامكانات الاقتصادية والمالية والسياسية والاعلامية.

source