استراتيجيات الإعلام الأميركي بعد 11 أيلول إمبرياليـة الصوت والصورة

calendar icon 13 كانون الأول 2002 الكاتب:محمود حيدر

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر")

(الجلسة الثالثة)

كانت حرب الخليج الثانية توشك على النهاية حين كتب عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار مقالته الشهيرة بعنوان "حرب الخليج لن تقع". كان العنوان لافتاً في لامعقوليته. فالحرب وقعت وجرى ما جرى مما نعرف ومما بقي داخل صناديق الأسرار السوداء. لكن بودريار سيؤوِّل عاصفة الصحراء كما رآها وسمعها من مصادر الخبر المرئي والمسموع فقال: حين يراقب العالم الحرب على شاشة التلفزة يشعر أنَّ الحرب لا توجد في الواقع، بل فقط على تلك الشاشات. مضيفاً إننا " في خوفنا من أي شيء قد يبدو ممعناً في واقعيته، توصلنا إلى اختراع مكان تتمثَّل الحرب فيه، لأننا نفضِّل ما هو افتراضي على ما هو واقعي، أي على ذلك الواقع الذي أضحى التلفزيون مرآته الكونية". ثم يمضي بودريار في تأويله الفلسفي / السوسيولوجي للإعلام ليلاحظ أنَّ " التلفزيون أصبح أكثر من مرآة: لقد أصبح هو وأخباره ميدان المعركة نفسه".

من هذا التأويل إياه سوف ينبري عدد كبير من الخبراء فيما بعد ليقولوا إنَّ حرب الخليج الثانية حسمتها كاميرا الـ (سي.إن.إن) الأميركية التي زرعت جيشاً من المراسلين من واشنطن إلى بغداد مروراً بكل عاصمة ومدينة وناحية ذات صلة بما تجري وقائعه فوق رمال الصحراء اللاّهبة. لم يكن هؤلاء تبعاً لتأويلية بودريار الإعلامية يتحدثون عن الحرب الفعلية في ميادينها الجغرافية المتناهية وإنما في ما تتلقاه البشرية في أوطانها الممتدة على طول الكرة الأرضية وعرضها عبر الأثير اللاّمتناهي للإعلام الفضائي. فالحرب هنا تخطَّت أمكنتها المحدودة والواقعية ؛ لتصير حرباً بالصورة والصوت. ثم تفعل فعلها المدوّي في حركة الاستقطاب الدولي وفي تبديل التحالفات، وفي اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بالحرب والسلم.

لقد عاين الاستراتيجيون، والأميركيون على وجه الخصوص هذا الأمر بدقة. وعلى فهمه سيكون عليهم تعزيز وتعظيم هذه القوة الخفية المقتدرة. حتى أنَّ كثيرين منهم لم يتورعوا عن وضع سلاح الإعلام كسلاح موازٍ للسلاح النووي وأسلحة الحرب الإلكترونية وكذلك للأسلحة التكنو ـ اقتصادية بأحيازها المختلفة.

كيف تبدو أحوال الظاهرة الإعلامية التي أطلقتها ثورة المعلومات والاتصالات في خلال العقد المنصرم وخصوصاً لجهة دورها في تسعير النزاعات وإدارة الحروب وحجب الحقائق وترجيح موازين القوى..وإلى أي مدى سيكون لها أثرها الحاسم في صوغ الاستراتيجيات العليا الغربية والأميركية للقرن الحادي والعشرين؟

يميل الغرب السياسي منذ فترة غير قصيرة ، نحو تكثيف السجال في الاتجاه الذي تتخذه استراتيجيات السيطرة الجديدة إثر التحولات الكبرى التي حلَّت بالعالم بعد الحرب الباردة. ومَن عاين ما جرى في خلال عقد مضى ولا سيما بعد الحادي عشر من أيلول سيجد الأثر البيِّن، بل الحاسم، للظاهرة الإعلامية في صنع الحادث السياسي. وتحديد أبعاده الجيو ـ سياسية والاستراتيجية والنفسية.

لكن الإعلام، وهو يفعل في الزمن العالمي كل هذا الفعل، متصلٌ بجملة من التطورات الهائلة في المجال المالي والتكنو ـ اقتصادي والأمني والعسكري. بل جاز لنا أن نرى إلى ثورة الاتصالات والإعلام كتجلٍ لهذه التطورات التي ذاع أمرها تحت اسم العولمة.

وإذا كان لرأسمالية ما بعد الحرب الباردة أكوانها وقواها وفضاءاتها المترامية الأطراف، وحروبها المتكافئة، وغير المتكافئة، والسرية والمعلنة، فهي ظلَّت تحرص على وعد العالم بنبأ سعيد. لذا سيتم ظهورها بوسائل وألْبسة وسلوكات وطرائق وإغواءات شكَّلت على الجملة فلسفتها العملية من أجل السيطرة.

فعلى هذا السياق، سيبني بعض علماء الاجتماع في الغرب رؤيتهم للوظيفة التي أوكلت لمجتمع الإعلام العالمي. لقد وجدوا فيه الوسيلة الفضلى للسيطرة والاستحواذ كونه يوفِّر المكان النادر الذي لا يكون فيه المسيطِر كائناً مرئياً في مواجهة المسيطَر عليه. إذ بحسب هذه الرؤية سيكون أحد أفضل أنواع السيطرة هو ذلك النوع الذي يكون المسيطَر عليه غافلاً عما هو فيه.

بهذا التعيُّن تسقط خرافة الحياد الإعلامي. لتمضي القوى المهيمنة على المجتمع الإعلامي العالمي في حروب لا نهاية لها. تلك التي تتغيَّا عقول الناس وأنفسهم عبر الصورة والصوت. فسيتم لها ذلك عبر أثير هوىً محموم شاء صانعوه أن يصيروا به أسياد العالم الجدد. وذلك ما يسميه ناقدو " الميديا المعولمة" بـ" الإمبريالية الناعمة". تلك التي تعرج في الأثير اللاّمتناهي. فتتجاوز الحدود، وتنكث العهود، وتخرق سيادات الدول. حتى لتدخل البيوت من غير أبوابها. وسيتلقاها الجميع بطيبة خاطر كما لو كانت عضواً حميماً في الأسرة لا مناص من الاستئناس إليه في أي وقت. وسيمكن هذا الهابط إليك من علٍ أن يشاطرك سرَك وسَترك من دون إذن. يُسمِعَك ويُرِيَكَ ما ترغب وما لا ترغب. إلاَّ أنَّك وإن كشفت ستره ومبتغاه فلن تقدر على إقامة الحد عليه. فستكون وحدك إن اعتزلت الاستماع والمشاهدة، ما دام الجمهور على الجملة مأخوذين به وإن كذَّبوه.

لقد لاحظ مارشال ماكلوهان أستاذ الإعلام بجامعة تورنتو قوة استحواذ الصورة والصوت على الجمهور، وراح يشبِّه الناس بالأسماك الهائمة وسط طوفان الأخبار والمعلومات. فقال " أياً مَن كان قد اكتشف الماء إلاَّ أنَّه (أي المكتشف ـ بكسر الشين ـ) ليس السمك بالتأكيد". الجمهور برأي ماكلوهان يتلقّى سيل الماء العارم الذي يأتيه على صهوة اللغة والمشهد من دون أن تكون له القدرة على السباحة في الاتجاه الذي يريد. بل على العكس فغالباً ما وجدت المجتمعات المدنية نفسها وقوى الضغط التي تضمها، تنساق من حيث تشاء أو لا تشاء في استراتيجيات التأثير والتوجيه التي يمارسها مجتمع الإعلام العالمي.(1)

اثنتا عشرة سنة انقضت على النشوء الجديد لمجتمع الإعلام العالمي. وفي غضون هذه المسافة الزمنية سيظهر لنا كيف أن الغرب عموماً والولايات المتحدة الأميركية بخاصة سيأخذون بناصية الظاهرة الإعلامية ليجعلوها القوة الأكثر سحراً في إنجاز عمليات الامتداد والسيطرة. ومع أن للغرب الأوروبي قوامه الوزان في ثورة الاتصالات والمعلومات والإعلام، يظل المثال الأميركي حاضراً بقوة استثنائية في استخدام المجتمع الإعلامي وتوجيهه وفقاً لمقتضيات مصالحه واستراتيجياته العليا في العالم.

"الميديـا" كفلسفة أميركية
لم يكن الإعلام بأحيازه المختلفة، بما فيها الصناعة السينمائية، حالة عارضة على الأمن القومي الأميركي. فهو في الأساس يندرج ضمن أولويات الاستراتيجية العليا ثم لينحدر ويتوزع على استراتيجيات الحرب والاقتصاد والأمن والاجتماع الداخلي وأنظمة الأمن الإقليمية والدولية.
وإذا عدنا إلى الحرب الدعائية الأميركية في القرن العشرين وما بعده، فسنجد أنَّ صناعة الأفلام الأميركية لعبت فيها دوراً إلى جانب دور الصحافة، ولننظر إلى الدعاية التي يخلفها فيلم يشاهده مئات الملايين من البشر؟ مَن منا لم يسمع أو يقرأ كتاب فيل تايلور:" ذخائر العقل" والوصف الذي جاء فيه حول شن حملة دعايات واسعة عبر سلسلة أفلام أميركية أشرف عليها مكتب "الدعاية والمعلومات الحربية" الأميركي بعد أشهر قليلة من الهجوم الياباني على القوات الأميركية في ميناء بيرل هاربر عام 1941؟ كانت وزارة الدفاع الأميركية التي كان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم " وزارة الحرب" تنفق سنوياً مبلغ 50 مليون دولار ـ وهذا مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت ـ على إنتاج الأفلام أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل ترويج الدعايات الحربية التي ترغب بها المصالح الأميركية داخل الولايات المتحدة وخارجها. وقدم الإعلام والصحافة والنشر في ذلك الوقت ، كل خدماته لصالح تلك الحرب وأهدافها بشكل لم يسبق له مثيل.

وما عاد أمراً غير معروف القول إنَّ للولايات المتحدة ما يزيد على المئة عام من التجارب الواسعة في التسويق الإعلامي لسياسات إداراتها في الداخل والخارج.

وحسب البروفسورة نانسي سنو المتخصصة في علم الدعاية وإحدى أبرز الكوادر في وكالة المعلوماتية الاميركية أنه كان لدى الرئيس الأميركي وودرو ويلسون ووزير خارجيته جورج كريل واللجنة "الإعلامية العامة" برنامج لتدجين الشعب الأميركي لأجل قبول اشتراك أميركا في الحرب العالمية الأولى وترويج أميركا في الخارج. بل ان ويلسون نفسه ألقى خطاباً امام "كبار التجار الأميركيين" قال فيه:" اذهبوا إلى دول العالم لبيع البضائع الأميركية من أجل تغييرها وتوافقها مع المبادئ الأميركية". هذا كان عام 1916. الآن لم يختلف الأمر لكنه ازداد كثافة بسبب توفر التقنية التي تساعد على الإسراع بالجهود؛ وبسبب توفر حملة "الحرب على الإرهاب" واختلاقها كعدو جديد. وتتحدث فكتوريا دي غراتسيا الكاتبة في (نيويورك تايمز) عن الطريقة التي تعمل بموجبها جهود الدعاية الأميركية بالمقارنة مع الطرق والأشكال الأخرى فتقول:" إنَّ النشر والإعلان اللذين يدعمهما القطاع الخاص الأميركي كانا في خدمة حكومة تقدم نفسها بمظهر من يعارض التدخل الواسع الخارجي ومن يحاول تطويق وحصار قادة دول ترى أنهم ديكتاتوريون من أجل تصوير نفسها أمام الجمهور الأميركي بصورة من يحمل رسالة إنسانية عقلانية تجاه الجمهور الذي يحمل هذه الأفكار. وإذا كانت أنظمة دول أخرى قد تقوم بالدعاية لإيديولوجية متشددة وبشكل مباشر فإنَّ الديمقراطية الأميركية تفعل ذلك بشكل يستخدم المثل الرفيعة". وهذا القول يدل على أنَّ مؤسسات النشر والدعاية التي تعمل مع القطاع الخاص كانت خدماً للدعاية الأميركية وهذا بالضبط ما تقوله الشركات الدعائية الكبرى حين تصف وظيفة " وكالة المعلوماتية الأميركية" أثناء الحرب الباردة وما بعدها. والحقيقة هي أنه لا توجد أي دولة في العالم تشبه الولايات المتحدة في ميدان إنشاء صلات قريبة بين التجار (ترويج البيع) وبين أعمال الإدارة الأميركية (ترويج الدعاية السياسية). ومنذ الحرب العالمية الأولى اختلطت الإعلانات والدعايات بترويج الحرب والمساعدات الخارجية والتبادل الثقافي. وهذا ما خلق إشكالاً حقيقياً للإدارة الأميركية في عام 2002. وكان ثمة تساؤل عمّا إذا كانت الولايات المتحدة وهي الدولة التي تعتبر نفسها الأولى في فن الدعايات ستتجنب أن تتدخل في عملية يُخلط فيها بين الدعاية التجارية والجهود الحكومية لترويج المجتمع الأميركي. لا شك أنها لا يمكن أن تقوم بذلك، فنحن ـ والكلام لها ـ ما زلنا نواصل قراءة تقارير بين فترة وأخرى عن كيفية قيام مجلس العلاقات الخارجية الأميركي واللجنة الاستشارية الديبلوماسية، بإدخال أسنانها إلى برامج الإعلانات والدعايات الكبرى من أجل إعادة إبراز وجه أميركا في العالم بالمظهر المطلوب. وهذا ما ترغب أميركا أن تشكله للعالم: إنه مظهر البائع المطلق. ومثلما لا يستطيع النمر تغيير شكل خطوط جلده، فإنَّ أميركا أيضاً لا تستطيع أن تكون حالة ليست هي إياها. ذلك أنَّ أميركا تظهر أمام العالم على نحوٍ يشبه شركة بارنوم وبيلي العالمية، وللناس أن يتذكَّروا ما قاله "بي تي بارنوم" صاحب هذه الشركة:" إنَّ مصاص دماء يولد هنا في كل دقيقة". ولذلك نحن لا ينبغي أن نفاجأ حين يزداد عدد من يعادون أميركا سنة تلو أخرى بعد التعاطف العالمي الذي توجه نحونا في أعقاب أحداث 11 أيلول / سبتمبر. ومن المؤكَّد أنَّ اللغة الخطابية للرئيس بوش لا تقوم إلاَّ بتسعير لهيب وحماسة الكراهية نحو الولايات المتحدة.(2) وإذا كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان تملأ مفردات الخطاب السياسي الأميركي اليوم فذلك لأنَّها أوِّلت لتصبح سلاحاً إيديولوجياً منافقاً لتسويغ المنافع وتحقيق السيطرة. وهكذا لا نزال إلى اليوم نرى كيف أنَّ الديمقراطية الأميركية تزعم موت الإيديولوجيا في حين تحوَّلت هي نفسها إلى قوة إيديولوجية قاهرة. ولنا أن نتحرَّى ما يكتظ به الخطاب الإعلامي لنبلغ هذه الحقيقة.

العمارة الهندسية لـ"الإمبريالية الناعمة"
لم تنشأ الإمبراطورية الإعلامية الأميركية من فراغ. فهي تدخل دخولاً عميقاً في رؤية أميركا الشمولية لنفسها وللعالم الذي أمامها. ولذلك سيكون لمؤسسة الإعلام الأميركية دور يتعدَّى الجانب المهني ـ التجاري ليمضي بعيداً في التبشير الإيديولوجي بالبعد الرسالي لأميركا. والذين قرأوا الظاهرة الأميركية من قبل أن تتحول إلى صيغة الولايات المتحدة الحديثة وجدوا أن مفكِّريها ـ من أساتذة وكتّاب وكهنة ورجال دولة ـ لم يخفوا هدفهم الأخير: فرض نمط حيواتهم على العالم كله. فأميركا تعتقد نفسها وتريدها شمولية كلية لا تضاهى. وبهذه الصفة، لا تتصوَّر ذاتها إلاَّ متفوقة على مجمل المناطق التي يتحرَّك في داخلها أفراد وأمم، وترى أنَّ من واجبها احتواءها. تزعم الإيديولوجيا الأميركية أنَّ أميركا هي قائدة العالم ما دامت العناية الإلهية أمرت بذلك، وما دامت تجسِّد نصاب العالم المقبل وفقاً للخطط الإلهية. ومن المقدَّر ـ بحسب المفكرين الأوائل والمتأخرين ـ أن تقع على كاهل أميركا مسؤولية إملاء قانونها. القانون الذي شرَّعته السماء ليُفرض على الأمم والشعوب.(3)

لا ريب في أنَّ بعض هذه الشعوب والأمم اعتقد أيضاً، عبر التاريخ، أنَّه مكلَّف برسالة تحضيرية. لكنَّ ما تنفرد به أميركا، التي صارت الولايات المتحدة في ما بعد، هو أنَّ التقدير المشروع لوعي الذات، لشخصية فاردة، قد ارتدى عندها رداءً مَرَضيّاً. فإذا كان طبيعياً، على غرار كل جسم عضوي حي، أن تعربَ أمَّة ما عن رغبتها في تخليد ذاتها بلا مواربة، فإنَّ أميركا من جهة خصوصيتها، تستشعر بهذه الإرادة كأنها رغبة قوة لا حدود لها ما دامت تؤمن بأنَّ أصلها إلهي. فمنذ الأصل، يتجلَّى وعيُها لذاتها في صورة تقدير مُفرط لتفوُّق مطلق وفي صورة شخصية قومية مُصابة بجنون العظمة في آن.(...)

وسيبدو لنا الأمر بوضوح لو نحن قرأنا الحضور الأميركي في العالم منذ المنشأ وحتى بلوغ الذروة. ثمة ما ينبغي البحث عنه في تكوين النفس الأميركية. لقد قامت الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً ، انطلاقاً من نواة أيديولوجية ذات محورين: في المقام الأول، الاقتناع بأنها كانت مكلَّفة برسالة. وفي المقام الثاني، اليقين بأنَّ أداء الرسالة يستلزم استخدام كل الوسائل بلا تحريم. ومما يميِّز السياسة الأميركية منذ مولدها: الثبات في العمل على قدر الديمومة في متابعة الهدف، وكذلك مواصلة الجوهر الأيديولوجي المولِّد للعمل. إنَّ هذه السياسة بلغت ذروة قوّة تحقُّقها في فجر القرن الثامن عشر، وزادت أيضاً في مطلع القرن التاسع عشر. وتحت هذا السقف الأيديولوجي تنضوي كل الأحياز التي تزعم الثقافة السياسية الأميركية فرادتها وتفوقها، من التفوّق الفكري إلى التعليمي إلى اللغوي الإنكلو ـ أميركي إلى الاقتصادي وما فيه من فروع ناهيك بالعسكري بوصفه السوبرمان الذي سيخلِّص البشرية من شرور نفسها وخطاياها. لكن المسار العام للهيمنة سيجري على الإجمال ضمن شبكات الاتصال والإعلام.

في عرضه لمكونات وأسس الإمبراطورية الإعلامية الأميركية يسأل الباحث الفرنسي ميشال بوغنون: لماذا يمكن أن يشكِّل احتكار الاتصال امتيازاً أو كسباً حاسماً لمن يستطيع امتلاكه ؟ ويجيب: لأنّه، يغطّي كل وظائف البشر الروحية: ثم ينبري ليلاحظ أنَّ النجاح الأول لأميركا في مجال الاتصال، قام على مفارقة لافتة: فهي أمَّة قنّاصة، وشرسة، مسؤولة عن عدة تدخلات خارج حدودها الشرعية، منذ نهاية حرب الاستقلال، وهي من وجهٍ آخر موضوع كرهٍ من جانب شعوب كثيرة. ومع ذلك، توصَّلت الولايات المتحدة إلى خداع الشعوب بحكمٍ مسبقٍ، وذلك يعود إلى عوامل: خبرة طويلة في الإعلان، احتكار كبريات وكالات الصحافة الدولية، القوة المالية، وكذلك فالأميركيون يدينون لسلبية الأجهزة الإعلامية والمؤسسات التربوية والحكومات في مجمل العالم.

لقد أنبنت العمارة الإعلامية الأميركية على امتداد تاريخ طويل. ولقد مكّنتها الاستهدافات الرسالية والإيديولوجية متضافرة مع المجمعات الصناعية والعسكرية بالتوازي معها من التطور المطرد باتجاه السيطرة.

سنة 1848، وُلدت في الولايات المتحدة الوكالة الصحافية، "آسوشيتد برس"؛ تلتها سنة 1907، " يونيتد برس آسوسيشن"، و"الإنترناشيونال نيوز سرفيس"، سنة 1909، المجمّعة، سنة 1958، في وكالة " يونيتد برس إنترناشيونال". وإذا أضفنا وكالة " رويتر" (تسمَّى الآن "رويترز") التي تنتمي، اليوم، إلى صحافة بريطانيا العظمى وأوستراليا ونيوزيلندا، وتكتفي على غرار معظم الوكالات غير الأميركية في العالم، غالباً، بتكرار معلومات الوكالات الأميركية، فإننا نحصل على تكتلٍ قادرٍ على مراقبة 90% من الإعلام المبثوث.

ومع الصحف الكبرى التي بلغت جمهوراً عالمياً (نيويورك تايمز الصادرة سنة 185، ونيويورك هيرالد تريبيون)، والوريات (الريدرز دايجست، ناشيونال جيوغرافيك ماغازين، بلاي بوي، تايم، نيوزويك) ، وشبكات التلفزة NBC و ABC ، ومنذ 1980 CNN ، الشبكة العالمية الأولى)، صارت تملك الولايات المتحدة سلطاناً ذا مدى لا يُسبَر غوره، يسمح لها منذ عشرات السنين، بقولبة فكر بضعة مليارات من الأفراد. وعبر الصحافة والسينما والتلفزة والراديو، وجد الأميركيون طريقة لتصوُّر الثقافة والآداب والإعلام والسياسة واستعمال القوّة، والإملاء ولفظ اللغة الإنكليزيةـ ولاختراق الرؤوس.(4)

قصة الإمبراطوريات الخمس
تستند استراتيجية الدعاية الأميركية إلى ماكينة هائلة من المؤسسات الكبرى المنتجة والموجهة للصوت والصورة والخبر. وبحسب الخريطة المقروءة فإنَّ هذه الماكينة تتشكَّل من خمس إمبراطوريات يتسلَّط عليها متمولون يهود. هو ما يضفي على مبدأ السيطرة شغفاً استثنائياً يمكن تبيُّن علاماته الفارقة من انخراط هذه الإمبراطوريات في إطار خطط الهيمنة على المنطقة وعبر المشاركة في الحروب الإقليمية في آسيا والشرق الأوسط. أما هذه الإمبراطوريات فهي على الوجه التالي:

شركة " أميركا أون لاين" تُعد أكبر إمبراطورية إعلامية أميركية في الوقت الحاضر التي قامت مؤخَّراً بشراء وابتلاع شركة "تايم وورنر" بصفقة قيمتها 160 مليار دولار. وبموجب هذه الصفقة أصبح رئيس شركة تايم وورنر، اليهودي جيرالد ليفين كبير المديرين التنفيذيين لشركة أميركا أون لاين. وبذلك يكون أمام اليهود الذين كانوا يسيطرون على شركة تايم وورنر فرصة السيطرة على سوق خدمات "الإنترنت" حيث تعتبر شركة أميركا أون لاين أكبر مجهز لخدمة الإنترنت في الولايات المتحدة، بل في أميركا الشمالية عموماً.أما ثاني أكبر مجموعة إعلامية فهي شركة وولت ديزني التي بلغت وارداتها عام 1997 ثلاثة وعشرين مليار دولار، ورئيسها وكبير مديريها التنفيذيين هو اليهودي مايكل أيزنر. الذي تصفه بعض وسائل الإعلام بأنَّه " مهووس بالسيطرة". وتتبع شركة ديزني مجموعة من الشركات المتخصصة بالإنتاج التلفزيوني مثل وولت ديزني تيليفجن، وتاتشستون تيليفجن،وبوينا فيستا تيليفجن، بالإضافة إلى شبكات الكيبل التي بلغ مشتركوها أكثر من مئة مليون مشترك.

أما ما يخص إنتاج الأفلام السينمائية فهناك عدة شركات تابعة لمجموعة وولت ديزني للأفلام السينمائية، منها وولت ديزني بيكتشرز، وتاتشستون بيكتشرز، وهوليوود بيكتشرز، وكارافان بيكتشرز. ويرأس هذه المجموعة اليهودي جوزيف روث الذي أسس عام 1993 شركة كارافان بيكتشرز(التي يرأسها الآن زميله اليهودي روجر بيرنباوم). كما تتبع لشركة وولت ديزني شبكة إيه إس بي إن، ورئيسها هو اليهودي ستيفن بورنشتاين. ولهذه الشركة أيضاً سلسلة من قنوات الكيبل. والإذاعات التي تغطي جميع أنحاء الولايات المتحدة.كما تمتلك الشركة مؤسسة فير تشايلد بابليكيشن للنشر التي تقود بإصدار العديد من المجلات المتخصصة.

الإمبراطورية الإعلامية الثالثة في الولايات المتحدة هي مجموعة فياكوم التي يترأسها (ويملك 76 بالمئة من أسهمها) اليهودي سومنر ريدستون. وتمتلك هذه المجموعة 13 قناة تلفزيونية، 12 محطة إذاعية ، وتنتج برامج تلفزيونية للشركات الأخرى.. كما تقوم بإنتاج الأفلام السينمائية عبر شركة باراماونت بيكتشرز التي ترأسها اليهودية شيري لانسينج. وتضم الشركة أقساماً للنشر، وتقوم بتوزيع الفيديو عبر أربعة آلاف محل في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى العديد من الاختصاصات الأخرى المشابهة. ولكن شهرة مجموعة فياكوم تأتي من كونها أكبر شركة للبرامج عبر الكيبل. وتتبع لها شركات مثل شوتايم، وإم تي في، وشبكة نيكلودين المخصصة للأطفال، وتتمتع هذه الأخيرة بأكبر نسبة من المشاهدين الأطفال وتحوز على أكثر من 65 مليون مشترك في الولايات المتحدة، وهي تتوسع بسرعة باتجاه أوروبا.

أما رابع إمبراطورية إعلامية أميركية فيترأسها اليهودي إدغار برونفمان (الابن) رئيس وكبير مديري شركة سيجرام للخمور. وإدغار هذا هو ابن رئيس المؤتمر اليهودي العالمي إدغار برونفمان (الأب). ويمتلك الابن شركتي إنتاج ضخمتين هما إم سي إيه، ويونيفرسال بيكتشرز (وقد اندمجتا الآن تحت اسم يونيفرسال ستوديوز). وقد أصبح برونفمان أكبر عمالقة التسجيلات عندما قام سنة 1998 بشراء شركة بوليجرام ـ عملاقة التسجيلات الأوروبية ـ بعد أن دفع 10,6 مليار دولار لشركة الإلكترونيات الهولندية فيليبس.

وتمتلك شركة بوليجرام أيضاً شركات جراموفون الهولندية، وديكا لندن، وفيليبس، وجميعها شركات تسجيلات. ويبلغ دخلها السنوي نحواَ من 12 مليار دولار. وتعتبر شركات التسجيلات التابعة لهذه المجموعة أول من ابتكر تلك الموسيقى الزنجية التي تسمّى موسيقى "الراب"، والتي تتميّز أغانيها بحض السود على العنف والعدوانية وانتهاك الاعراض، وفق نظرية تقول إنَّ السود ميالون عرقياً لمثل هذه النزعات.أما خامس إمبراطورية في مجال الإعلام المرئي فهي إمبراطورية الأسترالي روبرت مردوخ، التي تضم شركات فوكس تيليفجن نيتوورك، وتوينتيث سينتري فيلمز، وفوكس 2000، وبلغت وارداتها عام 1997 أكثر من 11 مليار دولار. وتشرف مجموعة فوكس على كل الأنشطة السينمائية والتلفزيونية والخاصة بالنشر ضمن الولايات المتحدة. ويترأس هذه المجموعة اليهودي بيتر تشيرنين، الذي هو في الوقت ذاته كبير مديريها التنفيذيين. وتحت إمرة تشيرنين تعمل اليهودية لاورا زيسكين رئيسة لشركة توينتيث سينتري فوكس. كما يعمل في إمرة تشيرنين اليهودي بيتر روث كرئيس لشركة فوكس إنترتينمنت. ومن المعروف عن تشيرنين قوله:" إنني أريد السيطرة على الأفلام التي تعرض في كل أنحاء العالم… ما الذي يمكن أن يكون أمتع من ذلك ؟".(5)

إلى الإمبراطوريات الخمس المشار إليها تأتي الفضائيات لتضيف إلى مجتمع الإعلام العالمي نكهة أميركية زائدة. ثم لتتحول إلى مجال الاستخدام السياسي والاستراتيجي للإدارة الأميركية. وقد كانت أهم ثلاث قنوات تلفزيونية أميركية فيما مضى هي إيه سي ، وسي بي إس، وإن بي سي.. وذلك قبل أن تعزز الإمبراطوريات الإعلامية قبضتها على هذه السوق وتبتلع تلك القنوات.. ولكن عندما كانت تلك الشبكات مستقلة كان يسيطر عليها جميعاً اليهود، منذ إنشائها.. إذ سيطر على إيه بي سي ليونارد غولدينسون، وسيطر على إن بي سي ويليام بالي، ثم لورنس تيش ، وكلاهما يهوديان كما أسلفنا. وخلال عقود من عمل هذه الشبكات كانت تمتلئ باليهود من الصحفيين والإداريين والفنيين، وعندما تمّ ابتلاع هذه الشبكات من قبل إمبراطوريات أكبر حجماً، انتقل هذا الثقل اليهودي إلى الإمبراطوريات نفسها، التي كان يسيطر عليها اليهود أساساً.

مكاتب لـ " التأثير الاستراتيجي"
الأخطر من قضية ملكية يهود لمعظم هذه الإمبراطوريات هو ما أوردته نانسي سنو في كتابها "حرب المعلومات" الذي سبقت الإشارة إليه. فلقد تمكَّنت البروفسور’ الأميركية من خلال وجودها على مقربة من مواقع القرار السياسي المعني بالإعلام من إنجاز مجموعة دراسات (ـ تؤلف مادة الكتاب ـ) تسعى إلى إلقاء الضوء على المناطق المعتمة وتلك المسكوت عنها في العلاقة الخفية التي تربط القلعة الإعلامية بالبيت الأبيض والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية الـ(سي.آي.إي). تقول: إنَّ كتابها يطرق مواضيع تتعلَّق بالدعاية التي بدأت تسود في الولايات المتحدة والعالم، الذي بدأ يتشكَّل فيه وضع جديد قبيل غزو أفغانستان، وعلى الوضع الذي تحول فيه دونالد رامسفيلد وزير الدفاع إلى أكبر مروِّج دعايات للمتشدِّدين في إدارة بوش.

كما يتضمَّن هذا الكتاب دراسة حول العمل الدعائي الذي تقوم به شارلوت بيرز التي تتولى منصب المدير التنفيذي العام للدعاية في وزارة الخارجية الأميركية والتي تشتهر بلقب "ملكة الترويج الدعائي" والخادم الكبير الذي يوظفه "العم سام" لمصلحة تحسين صورته في "حملة الحرب على الإرهاب". وفي هذا الكتاب تحاول المؤلفة أيضاً تسليط الضوء على مستقبل مهام "مكتب التأثير الاستراتيجي" (OSI) (أو.أس.آي) الذي تشكَّل داخل مكتب لا يقل خطورة عنه وهو " مكتب الاتصالات العالمية" الذي أعلن عن تأسيسه في تموز 2001 ومارس مهامه في خريف العام 2002. ويبدو أنه من الصعوبة الآن معرفة ما يمكن أن يقوم به هذا المكتب الجديد.فهو من ناحية المظهر الخارجي لا يبدو سوى نسخة حكومية طبق الأصل للمهام التي يفترض بوزارة الخارجية الأميركية القيام بها من أجل مصالح الشعب الأميركي على الصعيد الديبلوماسي العام، أو بعبارة أخرى تجميل الوجه الأميركي الديبلوماسي الرسمي على المستوى العالمي عسكرياً واقتصادياً. غير أنَّ إلقاء نظرة عميقة على "مكتب الاتصالات العالمية" يتبيَّن لنا أنه أنشئ ليكون أداة البيت الأبيض في السيطرة على المعلومات التي لا تنسجم مع الترويج المعلوماتي الدعائي الذي تقوم به وزارة الخارجية.

فمن المعروف أنَّ وزارة الخارجية تتولى مهمة إدارة سياسة ديبلوماسية متدرجة التسلسل، في حين أنَّ البيت الأبيض يتبع سياسة تدفع وتحض على القيام بالغزو والهجوم وتوجيه الضربة العسكرية الوقائية. وبالإضافة إلى هذا الموضوع أتحدث عن "لغة الحرب الجديدة" والطرق التي يستخدمها رجال بوش في إطلاق التسميات وإعادة توصيف الأشياء من جديد، وفي هذا تعييناً إشارة ذات دلالة عميقة إلى الخطأ اللغوي الذي وقع فيه الرئيس بوش حين أطلق على "حملة الحرب ضد الإرهاب وأطلق " صفة " الحرب المقدسة المسيحية" ضد طالبان الإسلامية ثم عاد وتخلّى عن هذه الصفة ووضع مكانها عبارة خطابية ذات لون إيديولوجي عام وهي:" حرب تحقيق العدالة المطلقة" ثم عاد وأطلق عليها بعد ذلك "حرب الحفاظ على الحرية".(6)

أطروحتان متوازيتان: الإرهاب والإعلام
ليست أطروحة الإرهاب من فعل فاعل منفرد. والذي أنتجه زلزال مانهاتن في الحادي عشر من أيلول 2001 يفضي إلى التوازي بين فاعلين. أميركا والإرهاب. فكيف يقوم مثل هذا الديالكتيك الذي سيحوِّل الضحية الرمزية إلى مخزون هائل لإنتاج الضحايا؟ لكن الصورة لا تتوضَّح على النحو الذي يوصلنا إلى اليقين إلاَّ إذا تسنّى لنا الاطلاع على الآليات التي استخدمتها الإمبراطورية الإعلامية في عمليات التحويل وإعادة تشكيل المزاج العام في الولايات المتحدة والعالم.

غداة صدمة الحادي عشر من أيلول دخل الأميركيون عموماً، ومراكز القرار في البيت الأبيض والبنتاغون والكونغرس في ما يشبه "رُهاب اليوم التالي". وصار الكلام المعلن على السلام النووي وأسلحة الدمار الشامل هاجس الساعات الأميركية المتصلة. هكذا لم تجد عالمة النفس إميلي شتاين التي بحثت في تأثيرات الإرهاب على الأميركيين إلاَّ هذه الكلمات لتعكس السايكولوجيا الأميركية بعد انهيار برجي نيويورك :" لم أشاهد في حياتي مثل هذا العدد الكبير من الناس البؤساء. الجميع يشكون من "غيمة سوداء" تهددهم من أعلى"…

ثمة إذن شيء مما يمكن وصفه بـ"رُهاب الأميركيين النووي" أو رُهاب أسلحة الدمار الشامل الذي يمكن أن يكونوا ضحاياه في أية لحظة.لكن مجلة " نيوز " النمساوية ستمضي في أحد تحقيقاتها إلى القول إنَّ الأميركيين باتوا شعباً مكتئباً وحزيناً وخائفاً.. بينما تقول دراسة استندت إليها المجلة المذكورة وأعدّها معهد "ترايانغيل) في كارولينا الشمالية إنَّ ملايين الأميركيين "صاروا يعانون من الاضطراب النفسي فقط لأنهم شاهدوا ما جرى على شاشات التلفزيون (…)" وتضيف: إنَّ الأميركيين العاديين يعالجون توترهم عن طريق الانهماك في استهلاك السجائر والكحول والماريجوانا، أما على مستوى مراكز القرار فثمة حال من الاضطراب يجري التعويض عن الفراغات التي يحدثها، من خلال الدفع بمنطق الحرب وإنتاج بؤر التوتر في العالم إلى مستواها الأقصى.

وعلى الجملة فقد سيطر على الولايات المتحدة مزاج التباهي العسكري والثقة المفرطة بالذات. وإذ العالم بأسره ـ على الأقل في هذا الوقت بالذات ـ لا يتستّر على إعجابه الشديد بالسطوة العسكرية الأميركية. فقد كان من نتيجة هذا كله أن تضخّمت قوى كبار العاملين في إدارة بوش من الذين يعتقدون أنَّ قضايا العالم لا تُذلَّل ولا تُحل بالديبلوماسية وإنما بالقوة العسكرية السافرة. لقد دفعت "حرب الولايات المتحدة على الإرهاب" بالأسلحة البيولوجية وسائر أسلحة الدمار الشامل إلى صدارة الاهتمام الدولي. وبدل أن تحدَّ من انتشار هذه الأسلحة سلكت في التعامل مع الجيوبوليتيكا النووية سلوكاً يشجِّع الدول والمنظمات على اقتنائها والسعي إلى استخدامها. وهو ما ظهر بوضوح من سيرورة سباق السلاح النووي بين الهند وباكستان، إلى درجة أنَّ وزير الخارجية الهندي جورج فرنانديز أطلق تصريحاً لافتاً مؤدّاه :" قبل أن يفكِّر أحد بتحدي الولايات المتحدة يجب أن يمتلك أسلحة نووية أولاً…".(7)

لم تغفل إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش لحظة عما في الخبر والصورة السابحين في الفضاء اللاّمتناهي من قوة استنقاذ للموقف. كان عليها أن (تدق النفير) للحرب. وعلى كل كلمة وصورة أن تغدوا مكوِّناً من مكوِّنات الحملة المضادة على الإرهاب. لذا سيحتل الإعلام موقع الممارس الأكثر شراسة للعنف الرمزي في المجتمع الأميركي بل على مساحة العالم كله. سوف تسعى الإمبراطورية الإعلامية تحت قيادة مواقع القرار الأساسية في الولايات المتحدة إلى التأسيس لحروب شاملة مفتوحة وإعطائها المسوغات "الأخلاقية" والثقافية والقانونية.

لقد ذهب مفكِّرون وخبراء إلى توصيف آليات إنتاج العنف فأقَّروا إنَّ انهيار برجي المركز العالمي للتجارة أمر يفوق الخيال، غير أنَّهم بيَّنوا أنَّ هذا لا يكفي لكي نجعل منه حدثاً واقعياً. إنَّ قدراً زائداً من العنف لا يكفي للإطلالة على الواقع. ذلك أنَّ الواقع هو مبدأ، وهذا المبدأ أولاً هو فتنة الصورة (أما العواقب المبهجة أو الكارثية فهي متخيلة إلى حد بعيد، انطلاقاً من الصورة).

في هذه الحالة إذاً ينضاف الواقع إلى الصورة بوصفه جائزة رعب، بوصفه رعشة إضافية. ليس مُرعباً وحسب، بل هو واقعي أيضاً. وعوض أن يكون عنف الواقع ماثلاً أولاً، ثم تنضاف إليه رعشة الصورة، تكون الصورة ماثلة أولاً، ثم تنضاف إليها رعشة الواقع.(…)

إنَّ "الإرهاب ليس شيئاً يذكر من دون وسائل إعلام". هذه الأطروحة يصر عليها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار(8)، فوسائل الإعلام برأيه، هي جزء لا يتجزّأ من الحدث، ومن الرعب، وقد تؤدي دورها في هذا الاتجاه أو ذاك. وبالتالي فإنَّ الفعل القمعي يسلك المسار غير المرتقب نفسه الذي يسلكه الفعل الإرهابي، ولا أحد يعلم عند أي حد سيتوقف، والانقلابات التي ستليه. ما من تمييز ممكن، على مستوى الصور والإعلام، بين المشهدي والرمزي، ما من تمييز ممكن بين " الجريمة" والقمع. وانطلاقة هذا الارتكاس الخارجة عن أي سيطرة هي الانتصار الفعلي للإرهاب. وهو انتصار ظاهر في تشعبات الحدث وتسرباته الخفية ـ ليس فقط في الركود المباشر، في الاقتصاد والسياسة والبورصة والمال، للسستام بمجمله، وفي الركود الأخلاقي والسيكولوجي الذي ينجم عنه، بل أيضاً في ركود نظام القيم، وإيديولوجية الحركة بأكملها، والتداول الحر… إلخ، التي طالما كانت مفخرة العالم الغربي، وهي المرتكزات القيمية ـ الأخلاقية التي تسلح بها هذا العالم لممارسة هيمنته على الأرجاء المتبقية من العالم. ولقد تفاقم الأمر إلى حد بدأت معه فكرة الحرية ، وهي فكرة حديثة العهد، بالاختفاء من العادات والضمائر، وبدأت العولمة الليبرالية بالتحقُّق في شكلٍ معاكس في شكل عولمة بوليسية، ومراقبة كلية، وترهيب أمني. إنَّ الانفلات ينتهي إلى حد أقصى من ضوابط القسر والتقييد يساوي ضوابط المجتمع الأصولي.

تراجع في الإنتاج، في الاستهلاك، في المضاربات، في النمو ( ولكن ليس في الفساد طبعاً): فكل شيء يشير إلى أنَّ السستام العالمي يتبنى انكفاء استراتيجيا، ويجري مراجعة أليمة لقيمه ـ كرد فعل دفاعي، على ما يبدو حيال صدمة الإرهاب، ولكنها تستجيب في العمق إلى إيعازاته المضمرة ـ تنظيم قسري ناجم عن الفوضى المطلقة، لكنه يفرضه على نفسه، مستبطناً، على نحوٍ ما هزيمته الخاصة.

وفي سياق تأويله لمقولة الإرهاب المركَّب (الرمزي / الواقعي) يبيِّن العالم الفرنسي وجهاً آخر للإرهاب دفع به الإعلام الأميركي الموجَّه بوسائله الكثيرة والكبيرة إلى أن يتحوَّل من مجرد صوت وصورة إلى باعث لزمن وواقع جديدين. هذا الوجه الآخر للإرهاب يكمن في أنَّ كل الأشكال الأخرى للعنف وزعزعة استقرار النظام تتضافر لصالحه: إرهاب معلوماتي، إرهاب بيولوجي، إرهاب الإنتراكس والشائعة، هذه كلها تنسب إلى بن لادن، حتى إنَّه صار بإمكانه أن يعلن مسؤوليته عن الكوارث الطبيعية. كل أشكال اللاّتنظيم والتداول الشاذ مفيدة له. وحتى بنية التبادل العالمي المعمم تخدم التبادل المستحيل. كأنها الكتابة الآلية للإرهاب يرفدها باستمرار الإرهاب (غير المتعمد) لإعلام، وبكل ما يتوجب عليها من تبعات الهلع: فإذا كانت الإصابة، في قضية الإنتراكس هذه كلها، تتم من تلقائها عبر التبلور الآني، على غرار محلول كيميائي، إذ يمس، مساً، إحدى الخلايا، فهذا يعني أنَّ السستام بأسره قد بلغ كتلة حرجة تجعله عرضة لأي اعتداء.

ما من حل لهذا الوضع الحدي. خصوصاً بالحرب التي لا تقدم سوى موقف مسبوق وتمَّ اختباره سابقاً، بتدفق القوى العسكرية، والإعلام الشعبي، والإلحاح الإعلامي الذي لا طائل تحته، والخطب المواربة والمؤثرة، وبسط القدرات التكنولوجية حتى الإدمان. أي، باختصار، على غرار حرب الخليج، التي كانت هي اللاحدث ، أو الحدث الذي لم يحدث.(9)

إنَّه الرعب مقابل الرعب. الإرهاب مقابل الإرهاب، كما يقول بودريار، الذي خلع عليه خصومه صفة " فيلسوف الإرهاب بامتياز" بسبب من خروجه على مؤديات وشعائر نظام الخطاب الإعلامي الأميركي بعد الحادي عشر من أيلول. لكن الرجل سيمضي في تفكيك الظاهرة وهي في حمأة صعودها ليقرِّر أنَّه عندما يكون الموقف مُحتكراً، على هذا النحو، من قبل القوة العالمية(أميركا)، وعندما نكون حيال هذا التركيز المذهل لكل وظائف الآلية التكنوقراطية والفكر الأحادي، فأي سبيل آخر يمكن سلوكه غير التحويل الإرهابي للموقف ؟ إنَّ السستام نفسه هو الذي ولَّد الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف المباغت. فباستئثاره بكل الأوراق، يُرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة ضارية. لأنَّ الرهان ضار؛ إنَّ الإرهاب هو الفعل الذي ينشئ خصوصية لا راد لها في لب مناخ من التبادل المعمم. الإرهاب كالفيروس ، ماثل في كل مكان، هناك حقن عالمي متواصل للإرهاب الذي هو كالظل الملازم لكل نظام سيطرة. مهيأ، أينما كان، لأن يصحو كعامل مزدوج، لم يعد هناك خط فاصل كفيل بالإحاطة به، إنَّه في لب هذه الثقافة التي تحاربه، والشرخ المرئي (والحقد) الذي يجعل على المستوى العالمي، المستغلين والمتخلفين في مواجهة العالم الغربي يرفد، سراً، الشرخ الداخلي في السستام المسيطر.باستطاعة هذا الأخير أن يجبه كل تضاد مرئي. ولكن ماذا عن الآخر، ذي البنية الحموية (الفيروسية) ـ كأن كل جهاز سيطرة يعزز الجهازية المضادة له، ضد هذا الشكل من الارتكاس شبه الآلي لقوته الخاصة، لا يستطيع السستام أن يفعل شيئاً. والإرهاب هو الذبذبة الصادمة لهذا الارتكاس الصامت.(10)

في الخطاب الثقافي الأميركي سنجد ما يكشف عن هذه الذبذبة في آليات السيطرة على جموح الذات نحو توليد المجابهة المرئية مع الخصم المفترض. فالإرهاب بهذا المدلول صار حالة حالَّة في نظام السلوك العام. ذلك النظام الذي لا يرى في حروب البلقان وأفغانستان والعراق إلاَّ أمراً ضرورياً للاستمرار. حيث تسعى الماكينة الإعلامية إلى تسويقه ومنحه طابعاً حقَّانياً لا شوب فيه. هذا ما سوف يلاحظه مفكِّرون أميركيون في كثير من المرارة حيث سيصل الأمر بهم إلى الكلام عن ظاهرة اسمها " أميركا ضد أميركا ". وهي ظاهرة تنمو وتترعرع بين مناطق القوة والضعف التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية بين نهاية الحرب الباردة وزلزال الحادي عشر من أيلول.

في كتابه "مفارقة القوة الأميركية" (The Paradox of American) يسعى المفكِّر الأميركي البروفسور جوزيف ناي إلى ضرب من المعالجات تتعدى الرؤى المسطحة لتنقد حال أميركا بعد الحادي عشر من أيلول. لكن ما يضفي على هذه الرؤى النقدية جدواها، وحرارتها الخاصة، أنَّها تصدر عن شخصية أميركية شاركت في صنع وصياغة القرارات الاستراتيجية. فقد عمل جوزيف ناي مساعداً لوزير الدفاع خلال عهد الرئيس السابق بل كلينتون كما شغل قبلها منصب رئيس مجلس المخابرات القومي فضلاً عن كونه اليوم عميداً لكلية كينيدي بجامعة هارفرد.

الأسئلة التي يرسلها الكاتب ويمضي في الإجابة عليها هي أسئلة تتعلق بمفاهيم كبرى طفقت تتحول لترسم مستقبل أميركا ودورها. منها: ما الدور الذي يجب على أميركا أن تلعبه في عالم متغيِّر. حيث أصبحت الأرض كلها تمور باضطرابات سياسية وجيو ـ استراتيجية وأمنية يستحيل على الولايات المتحدة الاستمرار طويلاً في ضبطها أو إدارتها أو احتوائها ؟.

ما هي عوامل التحدي ومصادر التهديد التي ستواجهها أميركا في القرن الواحد والعشرين ، وهل يمكن لها المواجهة بمفردها فيما تقود العالم اليوم بمفردها ؟

جل فكرة جوزيف ناي تؤول إلى إظهار قلق وجودي أخذ يجتاح " الأمة الأميركية" منذ ما قبل السقوط المدوّي لبرجي نيويورك. واللاّفت أن ناي يلجأ إلى تقديم مَثَلٍ جزئي وطريف ليدلَّ على ما بلغه تفكير النخبة الأميركية من شعور بسوء العاقبة:" في عام 2000 أطلق شاب من الفليبين ما سمي في حينه فيروس المحبة الشهير من جهاز حاسوبه المتواضع. فكان أن عَبَر الفيروس أجواز الإنترنت ليصل إلى أخطر الدوائر الاستراتجية والعسكرية في الولايات المتحدة الأميركية. وبلغت تكاليف التصدي له والأضرار الناجمة عنه 15 مليار دولار". ثم يعلِّق على هذا الحادث فيقول:" صحيح أنَّه كان تصرفاً سلبياً وربما كان تخريبياً ولكنه كان برهاناً جديداً على أنَّ بإمكان فرد موهوب وشبه مجهول، حتى في بلاد العالم الثالث أن ينال من استحكامات الدولة الأعظم في كرة الأرض ، وأن يحوِّلها في لحظة ما إلى كيان مستضعف أمام قوة التمكين المستمدة من ثورة المعلومات".

" الفاشيـة الودودة "
كانت أميركا فيما سبق متوحشة في الخارج ودودة وديمقراطية في الداخل. لقد انطوى هذا الاعتقاد المفارق لدى نخب واسعة جداً في اليسار الماركسي الأوروبي، بل حتى لدى كثيرين من قوميي وماركسيي العالم العربي. ومع أنَّ "المكارثية" في الخمسينات قدَّمت نموذجها الشبيه جداً بـ" توتاليتاريات " العالم الثالث فلم يهتز الاعتقاد بهذه المفارقة. سوف يُكتب الكثير مما يخالف ذلك، حتى في أميركا نفسها. ومع ذلك ظلَّ المسكوت عليه أقوى مما يشيعه الخبر الرسمي المحمول على صورة الإمبراطورية الإعلامية الهائلة. قبل سنوات كتب المؤلف المعروف بيرترام كروس أنَّ الفاشية ستأتي إلى الولايات المتحدة بوجه ودود: من دون محاكمات نورنبورغ، أو مبادئ التفوق العنصري، من دون أحزاب ممنوعة رسمياً، أو إبطال للدستور، وإزالة الفروع الثلاثة للحكومة، لكن بنفس الحماس القومي، والقوانين الدكتاتورية الاعتباطية، والغزوات العسكرية العنيفة.(11)

بعد الحادي عشر من أيلول ظهرت أميركا من داخل فبدت كمياه راكدة سقطت عليها صخرة ضخمة. كل شيء راح ينكشف على الملأ بعدما لم تعد القيادة السياسية العليا تملك الزمن الذي يمكِّنها من استعادة " مقولة القلعة الآمنة " بالسرعة القياسية المطلوبة لدولة عظمى كأميركا.

الحاصل بعد سقوط برجي نيويورك أنَّ تنبؤات كروس لم تخب. وسيبيِّن الكاتب الأميركي جيمس بيترارس أنَّ علامات دولة البوليس والولايات المتحدة واضحة في كل مكان. وإنَّ صفة الدولة الشمولية التي يتحول فيها المجتمع المدني إلى شبكة من المخبرين السريين، هي صفة أميركية بامتياز. ولعل أبرز المعلومات التي استعصت على شبكة الإعلام الأميركي الموجَّه، أنَّ مكتب التحقيقات الفدرالي (F.B.I) حضَّ كل مواطن أميركي على التبليغ عن أي سلوك مريب يقوم به أصدقاء وجيران أو أقرباء ومعارف غرباء. والحصيلة أنَّ ما بين أيلول وتشرين الثاني 2001 تمَّ تسجيل ما يقارب سبعمائة ألف اتهام لآلاف الشرق أوسطيين من الجيران وأصحاب المحلات التجارية المحلية والموظفين وُجِّهت إليهم التهم، مثلما حدث مع العديد من المواطنين الأميركيين الآخرين. لم تقد أي من هذه التهم إلى أي معتقل أو حتى إلى معلومات متعلقة بـ11 أيلول. وعلى مدى الشهور التالية على الحادث قامت الشرطة الفيدرالية بالتحقيق مع مئات وآلاف من الأشخاص الأبرياء ومضايقتهم. عشرات الملايين من الأميركيين أصيبوا بهوس الخوف من " الإرهاب " في عملهم اليومي، وأثناء التسوق وخلال فترات الراحة. لقد أحجم الناس عن نقد الحرب أو الحكومة، حتى لو كان بألطف العبارات، خوفاً من أن يوصموا بمؤيدي الإرهاب، أو أن تكتب التقارير بحقهم، أو أن يتعرضوا للتحقيق، أو أن يفقدوا عملهم. ولكي يعيد فرقاء البيت الأبيض والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية والـ إف بي آي (الوجه الودود) للتوتاليتارية الداخلية جرى إلقاء المسؤولية والتركيز على العرب خصوصاً المسلمين بوجه عام. وبحسب جيمس بيترارس إنَّ الفاشية " الودودة" مارست لعبة مزدوجة حيال هؤلاء " الغرباء":هي تعتقلهم وتحقِّق معهم وتتهمهم وتستهدفهم ـ بينما ينادي خطابها الشعبي بفضائل التسامح والتعددية. ليست مبادئ التمييز العنصري واضحة للعيان، لكن التصوير العنصري لـ"الشرق أوسطيين " هو نهج عملي ثابت ومقبول تقوم به الشرطة الفيدرالية، والحكومية، والمحلية. إنَّ الكثافة العالية للجماعات العربية، كما هي الحال في ديربورن، وميتشيغان، يظهر كأنهم يعيشون في غيتو، بانتظار مذبحة تدبر لهم وتحل بهم. ويعتبر رئيس مكتب التحقيق الفيدرالي أنَّ جميع الجمعيات العربية الخيرية والأهلية وغيرها تدعم الإرهاب، وهي موضوع تحقيق وأعضاؤها أهداف للاعتقال. لقد خلقت الحملات العنيفة لمداهمة بيوت ومخازن ومكاتب الجماعات الأهلية عقلية حصار، وأثارت حملة رجال الشرطة أشد الغرائز عنصرية وحرَّضت اندفاع الإهانات والعداوات الأهلية 12).

الإرهاب عائداً إلى بيت أبيه
أكثر من خمسة عشر شهراً انقضت على الجدل السري بين مواقع القرار في الإدارة الأميركية حول وجوب تشكيل لجنة تحقيق في أحداث أيلول. وإلى أن اتخذ الرئيس بوش قراره بتشكيل لجنة برئاسة وزير الخارجية الأسبق هنري كسينجر كانت الإمبراطورية الإعلامية تتجاهل على الإجمال واحدة من أهم وأخطر بديهيات المهنة. أي إثارة الوجه القضائي للهجمات على مانهاتن وواشنطن. لكن السجال سيعود ليشتعل من الداخل، لتنطرح الأسئلة وإشارات الاستفهام حول مسؤولية القيادة السياسية والعسكرية وأجهزة الأمن والاستخبارات في خلال الفترة الواقعة بين الهجمات وتشكيل اللجنة أمسكت وسائل الإعلام عن إثارة القضية. لكنها بدلاً من ذلك سوف تتولى الدفاع عن الإدارة في وجه أولئك الذين يثيرون التضليل ويشيعون الفتنة في نفوس الأميركيين.

وبعد 11 أيلول امتلأت وسائل الإعلام الأميركية بالإدانة المتسرعة لـمن أسمتهم "أصحاب نظرية المؤامرة" الذين لا وطنية لهم والذين يسهل على وسائل الإعلام عادة أن تضر بسمعتهم، لأنَّه من الأمور المفروغ منها أنَّه ليس ثمة مؤامرة في الحياة الأميركية.

ولا شك في أنَّ سلوك الرئيس جورج دبليو بوش في 11 سبتمبر يدعو إلى إثارة كثير من الشكوك غير الطبيعية. ويتساءل المفكِّر الأميركي جورفيدال(13)عمّا إذا كان باستطاعته أن يتصور رئيساً لدولة حديثة أخرى كان يمكن أن يستمر في الوقوف أمام عدسات المصوِّرين لالتقاط صور " دافئة " له وهو يستمع إلى تلميذة صغيرة تروي له حكايات عن عنزتها التي تربيها، بينما كانت الطائرات المخطوفة ترتطم بالمباني الثلاثة الشهيرة، وبمقتضى الدستور، فإنَّ بوش ليس مجرد رئيس للدولة، بل هو أيضاً القائد الأعلى للقوات المسلحة. والمعتاد في مثل هذه الأوقات أن يتجه القائد الأعلى مباشرة إلى مقر القيادة، ويوجِّه العمليات ويتلقّى آخر المعلومات. وهذا ما فعله بوش بالضبط أو لم يفعله وفقاً لما قال به ستان جوف، وهو ضابط متقاعد في الجيش الأميركي قام بتدريس العلوم السياسية في قاعدة ويست بوينت. كتب جوف في رسالة بعنوان "الدليل المزعوم حكاية كاذبة": لست أدري لماذا لا يسأل الناس أسئلة محددة للغاية عن تصرفات بوش وشركاه في يوم وقوع الهجمات ؟ فقد تمَّ اختطاف أربع طائرات وأخرجت من خط طيرانها المقرر، وكل ذلك ظاهر على رادارات سلاح الجو الأميركي.(14)

كان جور فيدال أحد أوائل مَن نبَّه إلى أنَّ إلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفياتي وتدميره لن يجلبا السلام إلى العالم لأنَّ طبيعة القوة المنتصرة تحتاج إلى عدو يبرِّر استثمارها في أسباب القوة… وإذا لم يكن هذا العدو موجوداً سيوجدونه. ويومذاك حدَّد فيدال الأعداء المحتملين بالإسلام. غير غافلٍ عن القوتين الأكبر في الشرق الأقصى، والبؤر الحساسة.. كمصادر النفط في الشرق الأوسط، والمياه الدافئة على تخوم روسيا، وكل ما يمكن ن يمثل مناخات قد تكون مناوئة للنظام الجديد.. وكثيراً ما يصدم فيدال المؤسسة الأميركية بتصريحاته المثيرة للجدل. فهو يتهم الحكومة الأميركية ووسائل الإعلام بتضليل الرأي العام معتبراً أنَّ: "أميركا تضم ربع مليار نسمة مضلَّلين تماماً ومغيَّبين من جانب حكومتهم" وكان قد انتقد الرئيس بوش، قائلاً إنَّه يريد ن تستمر الحرب ضد الإرهاب إلى الأبد ، وأشار إلى أنَّ بعض الأميركيين يشعر بالسعادة لأنَّ هجمات 11 سبتمبر، حددت المسلمين على أنهم الأعداء الجدد.

ينبِّه جور فيدال إلى الأثر الفظيع الذي يمارس أميركياً في إخفاء الحقائق. وإذا كانت "عادة الإخفاء والتضليل "سمة استراتيجية في السلوك السياسي والأمني للإدارات اميركية المتعاقبة ، فإنَّها سمة استثنائية لإدارة جورج دبليو بوش وفريقه. وفي مقارنة بين واقعة بيرل هاربور في الحرب العالمية الثانية وواقعة أيلول الأخيرة تظهر وحدة المنطق الداخلي بين الواقعتين كما تكشف ما يتوارى خلف الغيمة السوداء من حقائق وأضاليل حيث كان لأسلحة الدمار الشامل الإعلامية اليد الطولى في إنتاجها.

بعد واقعة بيرل هاربور، بدأ الكونجرس يتحرى السبب في أنَّ القائدين العسكريين في هاواي، الجنرال شورت والأميرال كيمبل، لم يتوقعا الهجوم الياباني، ولكن الرئيس روزفلت أوقف ذلك التحقيق عن طريق القيام بتحقيق أجراه بنفسه، وقد دين شورت وكيمبل بعدم الكفاءة، وما زالت " الحقيقة " خافية حتى اليوم.

واقعة بيرل هاربور دُرست دراسة واسعة ، أما أحداث 11 سبتمبر فبدا أنه لن يدور تحقيق بشأنها إذا ترك الأمر لجورج بوش ولا الضغط الوازن من القضاء لما عزم على تشكيل لجنة كسينجر المشار إليها.. ففي يناير 2002 ذكرت محطة CNN أنَّ " بوش شخصياً طلب من توم داشيل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تضييق نطاق تحقيقات الكونجرس في أحداث 11 سبتمبر.. وقد قدَّم هذا الطلب في لقاء خاص مع زعماء الكونجرس.. وقالت المصادر أنَّ الرئيس هو الذي بدأ الحديث في الموضوع.. وطلب بوش ألاَّ يطّلع أحد غير لجنتي المخابرات في مجلسي النواب والشيوخ على جوانب الضعف المحتملة لدى الهيئات الفيدرالية والتي سمحت بحدوث هجمات الإرهابيين، وألاَّ يمتد التحقيق ليشمل جوانب أوسع من ذلك.. وقد جاءت مناقشة يوم الثلاثاء بعد واحدة من المكالمات القليلة التي أجراها ديك تشيني نائب الرئيس يوم الجمعة السابق وقدَّم فيها نفس المطالب…".

وكان العذر المقدَّم ـ وفق ما ذكره داشيل ـ هو أنَّ " المصادر والأشخاص سينشغلون عن الحرب على الإرهاب في حالة حدوث تحقيق أوسع نطاقاً. وهكذا، فلأسباب يجب ألاَّ نعرفها، ينبغي إلقاء اللوم في ذلك الإخفاق على عدم الكفاءة. وأما إذا لم تكن المسألة راجعة إلى عدم الكفاءة بل إلى أوامر بعدم التحقيق، فذلك شيء لا يجوز لنا أن نتصدى له. ومن المؤكَّد أنَّ مرور ساعة كاملة وعشرين دقيقة دون أن تنطلق الطائرات المقاتلة إلى الجو، لا يمكن أن يكون راجعاً إلى عدم الكفاءة في كل وحدات سلاح الطيران على طول الساحل الشرقي. لقد طلب إيقاف الإجراءات المعتادة الإلزامية وعدم تطبيقها.(15)

وفي غضون ذلك كلفت وسائل الإعلام بمهمتها المعتادة وهي إثارة الرأي العام ضد بن لادن ، دون أن يكون هناك دليل قاطع على أنَّه مدبِّر العملية وهذه الحملات الدعائية كثيراً ما تتشابه مع الحيل التي يلجأ إليها الساحر عند تقديم ألعابه: فبينما تنصبّ أنظار المشاهدين على الألوان البرّاقة لمناديله الحريرية في إحدى اليدين يكون قد وضع الأرنب باليد الأخرى في جيب حد المتفرجين. وقد أكَّدوا لنا باستعجال أنَّ العائلة الكبيرة التي ينتمي إليها أسامة وصاحبة الثروة الهائلة قد قطعت علاقتها به، كما فعلت الأسرة الحاكمة في بلده الأصلي: المملكة العربية السعودية، وأقسمت الـ CIA وقد وضعت يدها على قلبها بأنَّ أسامة لم يكن يعمل لحسابها في الحرب ضد السوفياتي لأفغانستان. وأخيراً، فإنَّ الشائعات التي ترددت عن أنَّ أسرة بوش قد استفادت بأي شكل من مشاركتها لأسرة بن لادن على امتداد سنوات طويلة كانت مجرد خطأ في الاختيار.. وماذا يمكن أن تكون غير ذلك؟

لكن مشاركة بوش الصغير ترجع إلى سنة 1979 على الأقل، عندما أدّت محاولته الفاشلة الأولى لأن يصبح أحد اللاعبين في رابطة البترول الكبيرة في تكساس. إلى التقائه برجل يدعى جيمس باث من هيوستن، وهو من أصدقاء الأسرة، وأعطى بوش الصغير 50 ألف دولار ليشتري بها حصة تبلغ 5 بالمائة في مؤسسة بوش المسماة آربوستو إنرجي. وفي هذا الوقت، كما يقول واين ماتسن (كتاب " في تلك الأيام" الذي يحمل رقم 25 بين مطبوعات معهد الشؤون العامة) كان باث رجل الأعمال الأميركي الوحيد الذي يمثل سالم بن لادن، رئيس الأسرة وشقيق ( واحد من 17) لأسامة بن لادن.. وفي بيان صدر بعد وقت قصير من هجمات 11 سبتمبر أنكر البيت الأبيض بشدة تلك العلاقة مؤكِّداً أنَّ باث كان يستثمر أمواله الخاصة وليست أموال سالم بن لادن في شركة آربوستو. وفي أقوال متضاربة، أنكر بوش في البداية أنَّه عرف باث في أي وقت، ثم اعترف بحصته في آربوستو وبأنَّه كان يعرف أنَّ باث يمثِّل مصالح سعودية.. وبعد عدة تحولات تغيَّر اسم آربوستو وظهرت في 1986 تحت اسم شركة هاركن للطاقة .

وكان وراء بوش الصغير بوش الكبير، الذي عمل مقابل مبلغ كبير لصالح مجموعة كارلايل التي لها رؤوس أموال في عدد لا يقل عن 164 شركة في أنحاء العالم، مما أثار إعجاب تلك الجريدة الصديقة للأغنياء، جريدة " وول ستريت جورنال " التي ذكرت في وقت مبكر يرجع إلى 27 سبتمبر 2001 أنَّه:" إذا عمدت الولايات المتحدة إلى زيادة اتفاقها العسكري سعياً لإيقاق أنشطة أسامة بن لادن الإرهابية المزعومة، فقد يكون هناك مستفيد واحد غير متوقع: هم المستثمرون في مؤسسة أنشأتها مجموعة كارلايل، وهي بنك تجاري له اتصالات قوية في واشنطن ومتخصص في شراء الشركات المشتغلة بشؤون الدفاع والطيران.. وأسامة هو واحد من أكثر من 50 من أبناء محمد بن لادن الذي أنشأ أعمال الأسرة والتي بلغت 5 مليارات دولار".(16)

الإعلام كواسطة لإمبريالية مفتوحة
هكذا بدا باليقين أنَّ الوجه الإعلامي للتطور الأميركي شكَّل الآلية المتقدمة لظهور الإمبريالية المفتوحة. وكان بديهياً أن تؤدي الشبكة الإعلامية الهائلة مهمتها الكبرى في تفكيك أنظمة القيم في العالم. وإذا كانت مجتمعات الأطراف أو ما يصطلح عليها بالدول النامية، آثرت خيار التلقي والامتثال عموماً للهيمنة الإعلامية والثقافية الأميركية فذلك ما لم يحصل على الإجمال في المجتمعات الغربية. فكان أن انفجرت في وجه الزحف الإعلامي الأميركي تيارات وازنة في المجتمع المدني الأوروبي تطالب بضرورة الممانعة والمواجهة . حتى أنَّ الحكومة الكندية استشعرت هذا الخطر وأعلنت على لسان السيدة شيلا كوبس النائبة السابقة لرئيس الوزراء ووزير المالية لعام 1997، وجوب مواجهة ما أسمته بـ " الإمبريالية الثقافية الأميركية" وأكَّدت أنَّه إذا أصرَّ الأميركيون على فرض هيمنتهم على المجتمع الثقافي العالمي باستخدام الأدوات المتاحة لهم فإنَّ عليهم أن يتوقعوا إجراءات مضادة.

المسألة بالنسبة للمؤسسة السياسية الأميركية لا تتعلق بالأخلاقيات المجردة وإنما أساساً وقبل أي شيء بملاءمة النشاط الإعلامي والثقافات المنتجة في سياقه مع الدرجة التي بلغها تطور شبكات المصالح والنفوذ في العالم. لذا فإنَّ الآليات الإعلامية تقصد بشكل منهجي ومعمق إعادة تشكيل الوعي الجماعي العالمي وتكييفه على نحو يناسب حاجات الإمبريالية المفتوحة. فثورة التكنولوجيا الإعلامية كما يؤكِّد الكاتب الفرنسي أجناسيو رامونيه تتطلع لإحلال الحاسوب محل العقل البشري . وتتسارع هذه العقلنة العامة لأدوات الإنتاج بفعل التوسع الكبير في الشبكة الجديدة للاتصالات وبذلك ينشط الإنتاج وتختفي بعض المواد وتتفجَّر موجة البطالة والعمل المؤقت(…). أما في الميدان الاقتصادي فالسائد هو ظاهرة العولمة. أي الارتباط المتزايد والوثيق بين اقتصادات بلدان متعددة. وتهم هذه العولمة أساساً القطاع المالي الذي يهيمن من بعيد على الأجواء الاقتصادية. وتعمل الأسواق المالية طبقاً لقواعد وضعتها لنفسها بنفسها. وباتت من الآن فصاعداً تفرض قوانينها الخاصة على الدول ذاتها. وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية أحدثت ثورتا الإعلام والاقتصاد أزمة في مفهوم السلطة . فبعد أن كانت هذه حتى عهد قريب عمودية أبوية مهيمنة. باتت الآن تزداد أفقية وفق تركيب شبكي (بفضل تقنيات الاستقلال الإعلامي) وتوافقي. وفي ذلك تغيير جذري لهوية السلطة السياسية وممارساتها.

لم تكن التكنولوجيا التي أنجبتها العقلانية الأميركية في أي يوم بريئة من غاياتها السياسية. كذلك لن تكون ثورة المعلومات التي اختتمت القرن العشرين بريئة من داء التسييس.

وحين يذهب الإعلام المسيطر ليسوِّغ ثورته المدهشة فلا يفعل هذا إلاَّ لخدمة طبقة سياسية تتصدر عرش العولمة وشركاتها الكبرى.

وعلى امتداد هذه الملحمة الفظيعة تلقي إمبريالية الصورة والصوت بظلالها فوق عالم يترنَّح ، وإنسان يواجه مصيره بعقلانية صارمة.

إحــالات ومصــادر
(1) TODD GITLIN . MEDIA UNLIMITED : How the Torrent of Images and Sounds over Whelms our Lives.

(2) نانسي سنو، من حديثها مع شبكة "غوريللا" الإلكترونية للأنباء حول كتابها الجديد "حرب المعلومات: الدعاية الأميركية والسيطرة على الرأي العام ووضع حرية الرأي بعد 11 أيلول. أنظر أيضاً " المحرر العربي".

(3) راجع: ميشال بوغنون ـ موردان: أميركا التوتاليتارية ـ الولايات المتحدة والعالم إلى أين ـ قدَّم له: بيار سالينجر ـ تعريب خليل أحمد خليل ـ دار الساقي ـ لندن ـ بيروت 2002 ـ ص245ـ246.

(4) بوغنون ـ أميركا التوتاليتارية ، ص189.

(5) نبيل عبد القادر ـ صاغة العقل الجمعي الأميركي ـ "الاتحاد " ـ أبو ظبي 9/8/2000.

(6) نانسي سنو ـ مصدر سبق ذكره. أنظر أيضاً " المحرر العربي " العدد (373) 5/12/2002.

(7) محمود حيدر ـ غيمة سوداء فوق أميركا ـ "النقّاد " العدد (132) 4/11/2002.

(8) جان بودريار ـ ماذا يفعل الغرب ضد الذين يقاتلونه بموتهم ـ (لوموند) 3/11/2001 ـ "نوافذ " ترجمة بسام حجّار 11/11/2001

(9) جان بودريار ـ مصدر سبق ذكره.

(10) جان بودريار ـ مصدر سبق ذكره.

(12) جيمس بترارس ـ حراك دولة البوليس في كل مكان ـ "النهار" 12/6/2002. نقلها إلى العربية ناصر ونوس عن مجلة ( زد ) الأميركية الشهرية.

(12) جيمس بترارس ـ مصدر سبق ذكره.

(13) " وجهات نظر " ـ العدد السابع والأربعون ـ كانون أول 2002.

(14) Dreaming War : blood for oil and the cheney – Bush.

(الحلم بالحرب: الدم من أجل البترول وعصبة تشيني ـ بوش ).

Gore Vidal : Thunder’s Mouth Press , 108PP, 4 9.56, 2002.

(15) جور فيدال ـ مسؤولية الإدارة الأميركية عن 11/9 ـ العدو من داخل ـ "وجهات نظر" العدد نفسه. وقد نشرت بترتيب خاص مع The Observer Review .

(16) جور فيدال ـ أميركا من داخل ـ مصدر سبق ذكره.

source