الاعلام العربي والآخر

calendar icon 13 كانون الأول 2002 الكاتب:رفيق نصرالله

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر")

(الجلسة الرابعة)

اصبح الاعلام شريكاً مباشراً في صناعة القرار السياسي تحت مظلة التحول الاستراتيجي ضمن منظومة العولمة، ودخل الاعلام كعنصر من عناصر تكوين ميزان القوى.

ولعلنا لا نغالي اذا قلنا انه احد القدرات الاستراتيجية التي باتت في جوانب منها توازي الامكانات العسكرية او هي استكمال لها .

ولدينا تجارب عديدة لمعظم حروب نهايات القرن الماضي حيث باتت هذه الحروب في جوانب منها حروباً اعلامية بأدوات عسكرية .

هذه الحروب التي لها صورتها ولغتها واهدافها وعناصر تكوينها المرئية بحيث نشأت العلاقة بين الآلة العسكرية واللغة المشهدية الاخبارية ، وباتت هذه العناصر التقنية المتقدمة جزءاً من التحولات، وصناعة القرارورسم الخرائط وحتى تحديد الشروط المسبقة لأي حرب .

ولا نغالي ايضاً اذا قلنا ان صناعة القرار السياسي وحتى الاستراتيجي هي نتاج لما يقوم به سلاح الاعلام ...

أين نحن من كل ذلك ...

هل ان التحول الذي طرأ على اعلامنا العربي هو تحول واعٍ وارادي ينطلق من هذه المفاهيم خاصة واننا نواجه استحقاقات كبيرة ولدينا قضية تملك كل هذا الصخب العالمي والاقليمي والمصيري والوجودي كالقضية الفلسطينية وقضايا اخرى ليست اقل خطورة وأهمية.

هل ان التحول الذي طرأ على بعض اعلامنا العربي امتلك عناصر الرؤية الاستراتيجية، ام انه مجرد انعكاس فرضه انكشاف الفضاءات العربية امام الآتي من الخارج...

هل امتلكنا الارادة الذاتية الواعية للتغيير، ام ان الآخر بكل مقومات التحول التقني هو الذي يدفعنا لتغيير لا نملك ارادة ذاتية واعية لتحديد مساراته .

كيف نقيم اعلاماً متقدماً ، متطوراً ، منفتحاً ليتبنى قضية قومية كبيرة ... كالقضية الفلسطينية مثلاً، وهي جوهر قضايانا ...فيما الامة تزداد تجزءاً وتمحوراً وانهياراً سياسياً في الموقف، وانكساراً في المواجهة ، وغياباً لأي خطة واضحة في المواجهة التي نفقد قدرة تحديد خياراتنا الواضحة حيالها .

كيف يقوى هذا الاعلام فيما الموقف السياسي يضعف !

كيف نخاطب الآخر ... ولماذا لا نزال ضمن الغرفة الاعلامية العربية الضيقة ؟ ...

كيف يكون هذا الاعلام شريكاً يثبت حضوره في عالم تضيق مسافاته ، فيما نحن لسنا شركاء في هذا العالم بالمستوى السياسي والانساني التفاعلي ...

كيف نتفق على اعلام عربي موحد الرؤيا ... ليتبنى قضية فلسطين فيما نحن نختلف على فلسطين ...

ولكل واحد منا فلسطينه ورؤيته ولغته ... ولكل واحد منا بالنهاية اعلامه .

كيف يمكن ان يكون الاعلام جزءاً من سلاح المواجهة ونحن لا ننفق جميعاً كعرب اكثر من 15 بالمئة مما تنفقه أي دولة متقدمة على اعلامها .

بل أي مؤسسة واحدة ...

لا تشكل ميزانيتنا الاعلامية رغم كل هذا الحشد ربما ميزانية محطة عالمية من هذه المحطات التي كشفت فضاءاتنا، وصارت شريكة في حضورها في خرائطنا .

ومع هذا ... ورغم الاسئلة الصعبة والمرة احياناً وما اكثرها ، لا بد من ان نعترف بأن تحولاً لافتاً وهاماً شهده الاعلام العربي نسبياً وتحديداً المرئي منه خلال السنوات الخمس الماضية ، وان نعترف بأن بعض هذا التحول قد لعب دوراً متقدماً نسبياً على مستوى دعم قضايانا ومنها قضية الشعب الفلسطيني وصار جزءاً من المواجهة ، وجزءاً من القضية ... وان كان دون مستوى ما نطمح ، لكنه فعل شيئاً ... ويكاد يكون الفعل العربي الاساس .

ان بعض اعلامنا العربي ... فعلاً ... يعيش حالة انقلابية على كل النمط الذي كان سائداً ... ليكون اعلاماً مباشراً ... وان يكون جزءاً من الحركية السياسية للقضية الفلسطينية اذا اخذناها كنموذج ...

وان نسلم فعلاً بأن اعلامنا العربي يلامس حركة التغيير وربما جاءت يوميات القضية الفلسطينية لتساعد في تسريع التحول ...

او هي خلقت ظروفاً ميدانية لهذا التحول ، الى جانب اسباب اخرى ...

ولكن ... لنتفق اولاًُ ... على ان الاعلام العربي ليس اعلاماً موحداً ... ولا هو في بنيويته اعلام مشروط في التوحد ... بمعنى ان مؤسساتنا الاعلامية لم تؤسس لتكون موحدة وواحدة او تحمل بذور التوحد بقدر ما حملت بذوراً مكانية قطرية .

هذا ما يقوله الواقع وتقوله التجربة والممارسة .

انه اعلام النماذج المتحركة حول القضية ... ولكل نموذج خصوصية .

وهو اعلام يأتي من نتاج سياسي سائد وقائم ...

وكما هو الواقع السياسي المجزأ في حركته ، المتأطر حول عنوان القضية في جدليتها ... كذلك هو الاعلام العربي الآن نتاج لواقع منفصل نحو ذاتيته ... له الخصوصية والمحورية .

في العناوين :

هو اعلام في الطموح والوجدان والنوايا ... يملك فعلاً صفة جامعة أي ما نتفق على تسميته بالاعلام العربي ... لكن في الواقع هو اعلام لمؤسسات ... عربية تحت مظلة الانتماء ويجب ان ننظر لهذا الواقع بجدية وواقعية دون ان نذهب بعيداً في الرهان على انه سيكون غير ذلك. لهذا هو اعلام ضيق في مناطقيته ... ضعيف في عالميته .

في الواقع هواعلام عربي نطمح لأن تكون لـه هويته ودوره واغراضه تماماً كالشعار السياسي العربي العام الذي تحتضنه مؤسسة جامعة الدول العربية ... اعلام موحد الرؤية كما في توصيات مجلس وزراء الاعلام العرب التي نرددها كل عام ...

لكنه في جغرافية الواقع اعلام انعكاسي للجغرافية السياسية العربية في كل تجزءاتها ... يتمايز ويتأطر ، ويدور في فلكية خاصة وفق تجارب متناقضة احياناً.

وهو تطور ضمن هذه المنظومة في حلقات لا يمكن ان تتحول الى حلقة واحدة تماماً الا في الاطار العام خاصة حيال القضية الفلسطينية .

ان لدينا اكثر من اعلام عربي ... واكثر من هوية اعلامية عربية ... واكثر من تجربة اعلامية عربية واكثر من خيار ... واكثر من لغة اعلامية عربية ...

ونكاد نقول انه داخل كل محطة او وسيلة اعلامية لدينا اكثر من قضية فلسطينية واحدة ... انه الخطاب الاعلامي المتشظي في هويته. وفي تناولنا لتعاطي هذا الواقع الاعلامي العربي مع القضية الفلسطينية.

- حسم الخيارات –

ان الاعلام العربي في واقعه الان ... هو اعلام التجارب التي لم تحسم خياراتها بعد ... واعلام لم يحسم العلاقة النهائية بين رسميته وخصوصيته ، بين انعتاقه من النمطية التي نشأ عليها منذ مطلع الخمسينات في القرن الماضي الى هذا التمرد الذي يمارسه بعض اعلامنا العربي على هذه النمطية في حركة قد تكون زلزالية فعلاً في سياق البحث عن الانماط الجديدة المتأثرة بكل ما يجري حولنا من تجارب.

هو اعلام يتحول ... ولم تنته بعد مرحلة التحول ... لهذا لا يمكن الحكم عليه لا لجهة انه بات كياناً متكاملاً يمكن توصيفه وتحديد مساراته خاصة في علاقته بالقضية الفلسطينية ، ولا هو خرج نهائياً من السائد الموروث في لغته وهويته السياسية في هواجسه ومخاوفه وقيوده . انها حالة مخاض مبررة في سياق التحولات التي نمر بها .

ان القضية الفلسطينية ... قضية حيّة في وجدان كل عربي ... وقضية انتماء ... وقضية تطال الهوية القومية والوطنية ... وقضية الانتماء الثقافي والجدلي ، والعقائدي ... هي قضية يومية للانسان العربي، وبالتالي هي قضية اساسية في الخطاب الاعلامي العربي في كافة مواقعه .

لهذا نقول انه وكما ان القضية الفلسطينية هي جوهر قضايانا القومية والوطنية ، كانت هذه القضية ومنذ بداياتها في الاربعينات قضية الاعلام العربي مع تعددية الخطاب الاعلامي العربي ، مع نسبية نجاح هذا الخطاب ام فشله .

لقد كان الخطاب الاعلامي العربي وحتى الثمانينات هو خطاب المقالة والاذاعة خطاب الموقف السياسي الذي تعكسه الوسائل الاعلامية العربية ، بكل رسميته ورقابته وتبعيته وانغلاقه وانفعالاته وعواطفه وحماسته احياناً ... كان خطاب تعلّبه وتعده الاجهزة ويتلقاه الفرد العربي كما تشتهي السلطة ...

كانت المسافة بعيدة بين الوسيلة الاعلامية والفرد العربي .

ولا اريد الغوص في خلفية تاريخية عن تلك المرحلة ، لكن اذكر هنا على انه ورغم كل التناقضات وعشوائية الخطاب الاعلامي العربي وكل التناقض الذي كان يحكم تلك المرحلة، الا ان القضية الفلسطينية كانت حية في الذاكرة الاعلامية العربية . هي القضية التي يتمحور حولها النبض السياسي والاعلامي والعقائدي .

الاعلام العربي في مرحلة الستينات ، ورغم كل التناقضات السياسية العربية ، ورغم كل المرارات ، ورغم الانغلاق، ورغم انه كان اعلاماً موجهاً ... كان اعلاماً حاضناً للقضية ورغم انه كان لكل موقع اعلامي عربي طريقته واسلوبه ، وتوجهاته وتوجيهاته ومحوريته، ولكل اعلام فلسطينه ... وبعض هذا الواقع لا يزال سائداً ...

كانت القضية حيّة فيه وان بدا انهماك هذا الاعلام الرسمي بالشخص والنظام والمحاور والخلافات ... لكن فلسطين كانت المفصل دائماً وهذه ميزة لا يمكن اغفالها.

لم تغب فلسطين عن الاذن العربية في تلك المرحلة وعن الوجدان ، وربما لعبت الصحيفة دوراً هاماً في ذلك الى جانب الاذاعة وانسحب هذا الواقع حتى الثمانينات تلفزيونياً لكن كانت بوادر تحول تقترب من الخارطة الاعلامية العربية .

لقد تربينا على العلاقة مع القضية من خلال اذاعات عربية في القاهرة وغيرها ومن خلال الصحيفة العربية عبر مقالات لرموز الصحافة اليومية . لم تمت هذه القضية ... ظلت حيّة في اعلامنا وان كانت غير ذلك في الموقف السياسي .

الوضع اختلف مع اختلاف المعطيات ومع التقدم التكنولوجي والتأثر بالتجارب الخارجية وقيام جيل اعلامي جديد ، وتبدل الانماط والاساليب والمراحل والاستحقاقات مع بدء استخدام الاقمار الصناعية ، مع تطلع جيل عربي يبحث عن حرية التعبير والرأي .

الاعلام العربي في مرحلة الثمانينات والتسعينات بدأ يبحث عن اجوبة صعبة وحائرة في ظل تحولات كان يتحسس في التعاطي معها او الاقتراب منها سابقاً .

لقد احدثت استحقاقات كبيرة صدمة لدى بعض المواقع الاعلامية العربية التي وفر لها ان تخرج من طوق رسمية هذا الاعلام ، وربما بعد التغطية الاعلامية لحرب الخليج ، صار من الصعب الاستمرار في الحفاظ على ايقاع الخطاب الاعلامي العربي على ما كان عليه .

صارت أي حرب بمتناول اليد ، صار المشاهد شريكاً في الميدان ... قريباً من القرار ... من العقل وردات الفعل . لقد حدث الزلزال فعلاً .

- ملامسة التحول -

لقد حصل اهتزاز ليس لدى الاعلاميين العرب بل لدى الرأي العام العربي الذي بدأ يضغط باتجاه احداث التحول، وجاءت استحقاقات كبيرة كتنامي الانتفاضة لتحدث التحول فعلاً ، في وقت كنا نشهد فيه غزواً فضائياً عالمياً لكل بيت عربي ... ولم يعد فيه احد قادر على ان يبقي المكبوت السياسي لدى الفرد العربي على ما هو عليه ... بدأت النواة تكبر، فيما كان الوطن العربي يشهد استحقاقات كبيرة خاصة على مستوى القضية الفلسطينية.

صارت الانتفاضة مادة يومية في وسائلنا الاعلامية اريد لها ان تبحث عن عناصر تميزها .

بدأ الانعتاق من صورة الآخر التي كان يبثها لنا ... من تقرير الآخر الذي كانت تنقله الوكالات العالمية والاقليمية .

وجاءت تجربة تصوير عمليات المقاومة في جنوب لبنان لتؤكد القدرة على التميز، في وقت ارتفعت فيه اصوات جريئة في عواصم عربية بدأت تبحث عن مستوى معين من حرية الاعلام العربي ... من حرية التعبير ...

من محاولة الانعتاق من رتابة النشرات ورتابة اخبار النظام والرموز ...

وخرجت طليعة ولو محدودة خاضت غمار التجربة الصعبة ولعب بعض الاعلام الخاص دوراً في تعزيز الجرأة على اجتياز التجربة وعلى احراج الاعلام الرسمي الذي كان عليه ان يحسم خياراته .

وكل هذا كان يتمحور حول القضية الفلسطينية بكل تجلياتها ...

ولأن القضية الفلسطينية هي الجوهر، ساعد الانتماء للقضية على ان نجتاز المرحلة الصعبة .

فجأة ومع تنامي مقومات هذه المحطة او تلك ، مع تنامي التنافس المبرر ، مع تنامي الامكانيات، مع تزايد استخدام الاقمار الصناعية، مع تنامي اهتمام الرأي العام العربي ، تبلورت ملامح التجربة التي لا نزال فيها ، خرج الصوت الفلسطيني الذي يذهب ليرمي حجراً على دبابة او جندي ...

صار مادة حية نابضة ويومية في الشاشة العربية ، باتت اصوات الصبية متداولة كفارس عوده ، محمد الدره ، ايمان ، وغيرهم ...

فجأة نشأت علاقة مباشرة ما بين الشارع الفلسطيني والشارع العربي متجاوزاً العوائق الرسمية العربية التي كانت تحول دون هذا التواصل .

لقد خاض بعض الاعلام العربي تجربة البحث عن تجددية تفرضها التبدلات المتأثرة بثورة التقنيات وتبعات العولمة وغزو الآخر ، وكل هذا الصخب الذي يضغط بكل اتجاه ساعدنا على الانعتاق من واقع اعلامي مكبوت تماماً كما هو الواقع السياسي المكبوت والذي ما زال بعضه قائماً.

- تجاوز الواقع السياسي -

اعلامنا العربي في تعاطيه مع القضية الفلسطينية تحديداً ... تجاوز الواقع السياسي العربي ... وهذه ظاهرة ملفتة ... تمرد في بعض الاحيان على السقف السياسي العربي، على المحظور السياسي العربي ... رغم عشوائية بعض التجارب وعفويتها وشبهة البعض ايضاً، كان اقرب الى لغة الشارع وانفعالاته وما يريد ...

هذا الشارع اكثر ما هو اقرب من النظام السياسي حتى في بعض المؤسسات التي لا تزال مملوكة رسمياً ... اننا لا نزال نلحظ مسافة واضحة بين الموقف الرسمي السياسي لهذه العاصمة او تلك وبين اللغة الاعلامية والدور الاعلامي لهذه المحطة او تلك والتي تبث من نفس العاصمة ...

اننا في استحقاقات وفي مراحل الانتفاضة ومنها (الجدار الواقي) كانت بعض المحطات العربية محطات فلسطينية بحتة ... تجاوزت في ادائها حكماً التلفزيون الفلسطيني الذي لا يملك امكانيات هذه المحطات وتلك التي خصصت جهداً مادياً لافتاً .

في نهاية التسعينات ... يمكن ان نقول ان بعض اعلامنا العربي اقترب من بعض الواقعية ومن البحث عن موقع اكثر اقتراباً من قضية الفرد ... لقد القت بعض التجارب قنابل صوتية تركت صداها في الشارع العربي الذي وجد في بعض التجارب ما يخاطب المكبوت فيه .

لكن في النهاية هو يخوض تجربة التحول ...

المواطن العربي بات على مقربة من مرجعية بعض اعلامنا العربي في تعاطيه مع القضية الفلسطينية بما يتجاوز تعاطي النظام السياسي العربي او الخطابي او الموقف السياسي العربي مع هذه القضية .

تقاربت الشوارع العربية ... تشابهت الشعارات ، والمظاهرات ... صارت المحطات شريكة في الانتفاضة ألم تقلق الاسرائيليين وحتى الاميركيين ... والا لماذا سارعوا الى انشاء محطات عربية الآن ... يريدون انقلاب الصورة ... صورة ما هو قائم بعدما كشف الاعلام العربي الصورة عن قرب ...

ان اهم ما قام به بعض اعلامنا العربي انه كشف فلسطين امامنا ... صرنا شركاء في كل شارع ومخيم ... ودخلنا البيوت والسيارات، وصرنا اقارب .

ان بعض الاعلام العربي ... هو الذي بدأ يصنع لغة الشارع العربي ... وربما حركية الشارع العربي ...

صار هو المحرض ، صارت الصورة المباشرة هي البيان السياسي الذي يحرك هذا الشارع ويحرض قواه ، وربما الخطاب السياسي لبعض قوى الشارع العربي التي وجدت نفسها قادرة على ان تخرج للعلن ، وتمارس كل هذا الصخب الاعلامي – السياسي عن قصد او غير قصد، وهي التي كانت مكبوته في الماضي ضمن مساحات التعبير الضيقة.

تجاربنا الاعلامية العربية ، ومنذ منتصف التسعينات ... تمردت على ذاتها ... خرجت من

محظوراتها ... صارت اكثر اقتراباً من حاجات الفرد ... من مخاطبة المكبوت السياسي لدى الفرد العربي بكل تجلياته ...

تجاربنا الاعلامية العربية الجديدة كسرت عنق الرقابة .. رقابة النظام السياسي ... ورقابة الخوف فينا من هذا النظام ... كسرت المحظور ... وما اكثر المحظورات ...

تجاربنا الاعلامية العربية الجديدة ، انشأت جيلاً جديداً من الاعلاميين الميدانيين ... وهذا كله برأيي بفضل قوة الحدث الفلسطيني الذي صار في مرحلة من المراحل هو مادة حيّة ربما في حجمها هي اكبر من قدرة بعض المحطات على استيعابها .

لقد سقط مفهوم الاعلام الموجه من وراء المكاتب ، ومن تعاميم الاجهزة الرقابية والمخابراتية التي كانت تعمم مفاهيم سياسية محددة حتى حيال القضية الفلسطينية.

سقطت مفاهيم الاعتماد على الوكالات الاجنبية بما تبثه وتلقّنه .

وسقطت مفاهيم الرموز الاعلامية ، او النجوم الاعلاميين الكبار، صار المراسل الميداني هو النجم الحقيقي ... للمحطة وللحدث .

وبقدر ما تملك هذه المحطة او تلك مصداقية في حضورها عبر هذه الطليعة الميدانية البشرية والقدرات التقنية والرؤيا ... بقدر ما هي حاضرة الآن على الخارطة ...

ولكن ... ولكن كل هذا لم يرق الى مستوى العالمية لماذا ؟

ليس اعلامنا العربي بحضوره الدولي طموحاً لدى النظام السياسي العربي ...

ليست ثقافة الانظمة السياسية العربية ولا حتى ثقافة القوى السياسية العربية بمستوى توظيف الامكانيات المالية الكبيرة في تثبيت حضور اعلامي دولي .

تأخرنا في حجز أماكن لنا في خارطة البث الفضائي العالمي باتجاه اوروبا او حتى بالولايات المتحدة الاميركية وغيرها، فيما كانت الصهيونية بكل ما تملك تجتاح هذه الخارطة .

لم نشكل نواة اعلاميين بإمكانهم مخاطبة الآخر بلغة ترقى الى مستوى الجدل ومستوى الاقناع.

لا يمكن لصاحب قضية لا يقاتل من اجلها ان يصنع كذبة اعلامية عالمية مقنعة .

فشلت المنظمات العربية عالمياً في ان تمتلك مؤسسات اعلامية في الخارج بمستوى التحدي سواء على مستوى الصحيفة او الاذاعة او المحطة التلفزيونية .

ليست الوسائل الاعلامية هاجساً عند اصحاب رؤوس الاموال العرب في الخارج ، فيما هي في الداخل العربي هاجس نرجسي لهذا او ذاك خدمة لموقع سياسي ضيق وليست لقضية كبيرة كما هو الحال عند الآخر .

ما زلنا في اسس ثقافتنا الاعلامية نعاني من تبعية الآخر . والذي يفرض علينا نهجاً واسلوباً وادوات ، ونعاني من عدم مصداقية وسائلنا ...

ان الاسرائيلي داهمنا ليس فقط عبر محطات الآخر بل عبرنا نحن .

ان الاسرائيي لا يزال يقاتلنا اعلامياً بامكانيات عالية ، فيما نحن نواجهه بامكانيات متواضعة (البحث عن 15 مليون دولار في مجلس وزراء الاعلام العرب ) .

الاسرائيلي ومعه الغرب يملك حيزاً كبيراً من وسائل اعلام مؤثرة في العالم ، نحن نختلف وعلى الورق على هوية وشكل وادارة محطة عالمية نطمح لقيامها ولم تقم بعد .

ان الآخر وزع حضوره في نسيج كل المحطات العالمية المؤثرة ، فيما نحن نعاني من غياب كامل .

لم نسع الى شراء وكالات عالمية او توظيف المال العربي فيها .

ان لغة اعلامية عربية جديدة لم تنشأ بعد لتواكب التقدم التقني الذي بدأت تمتلكه محطات عربية ، والدور الذي تقوم به لخدمة التغطية . وكأن التقنيات داهمتنا وروح المنافسة استدرجتنا فانزلقنا اليها وامتلكنا الامكانيات ، لكن لم نسارع الى مواكبة ذلك بلغة اعلامية عربية جديدة .

ان كمّاً كبيراً من المراسلين الميدانيين وتحديداً على الساحة الفلسطينية يستخدم لغة واحدة متشابهة وتكاد تكون استنساخية في الكثير من الاحيان، فيما الواقع يحتاج الى لغة حيّة جديدة .

ان وهم المنافسة اوقع الكثيرين في منزلقات سياسية خطيرة كان الاسرائيليون وراء تسريبات بعضها والامثلة كثيرة. وهذا يعني انه لا بد من سد هذه الثغرة بالوعي السياسي وحصانة عدم الانزلاق تحت وهم المنافسة الى ان يكون بعض ما نعرضه يخدم العدو عن غير قصد .

ان الاسرائيلي الذي يظهر في بعض شاشاتنا يتحدث بلغة واحدة مدروسة وهدف مدروس ، فيما يكون خطاب الفلسطيني الذي يظهر في شاشاتنا خطاباً متناقضاً، انفعالياً، عشوائياً ... وفي بعض الاحيان يسيء الى القضية اكثر مما يفيدها ... وهذا يعود لعشوائية الاختيار لدى هذه المحطة او تلك .

وعايشنا هذا الواقع منذ بداية خطة الجدار الواقي وحتى الآن .

ان تجاربنا دلت على ان مفهومنا وتعاطينا مع كل تطورات القضية الفلسطينية هو تعاطي اخباري فقط يشدنا الخبر ولا ندخل في نسيج ومفاصل القضية .

القضية ليست فقط في كم الشهداء الذين يغتالون اليوم ، في الحصار فقط ... في الاشتباك فقط...

هناك مفاصل اخرى ... يجب على الاعلام العربي لتبقى قضيتنا حيّة ، ان يلج اليها تماماً مثل الاعلام الصهيوني الذي دخل في نسيج كل وسائل البث في الغرب حتى في السينما والصحيفة وحتى في وكالات الاعلان .

فلسطين مثلاً ... قضية كاملة ، ويجب ان تكون عناصرنا الاعلامية مع هكذا قضية كاملة ايضاً .

اين قضية الاسرى الفلسطينيين ، الواقع الاجتماعي الفلسطيني ، الواقع الثقافي ، الطفل الفلسطيني ، التحولات الاجتماعية والديمغرافية ، فلسطينيو الشتات وما يعانون ... العديد من الملفات الاخرى .

اين الوثائقي ... اين البعد الانساني ... اين توظيف كل ذلك في برامجنا ... في كل ما نبثه عبر شاشاتنا ...

لماذا لا تظهر فلسطين الا في نشراتنا ... خبراً دامياً او عملية عاجلة وانتهى .

ان اعلامنا العربي الراهن ... لا يزال اعلام الغرفة العربية الضيقة ... هو ابقى جزءاً من القضية الفلسطينية حياً مع اقترابه من نبضها ... لكنه لم يخرج من هذه الغرفة التي نغطيها عبر الاقمار الصناعية ليكون اعلاماً عالمياً .

ان اعلامنا العربي هو اعلام مرحلي آني في مراحل معينة... يستفزه الحدث ليستنهض نفسه واحياناً في عشوائية واضحة غير مدروسة ، ثم يخبو عندما يفقد الخبر الفلسطيني بريقه .

وكان مشهد الموت الفلسطيني احياناً هو الذي يشد هذا الاعلام الذي يصمت احياناً بلا أي مبرر .

- لا توجد خطة اعلامية عربية حاضنة رغم النوايا المؤسساتية الرسمية العربية التي تدعو لذلك ، وتترجم الدعوة لمقررات رسمية تظل كما هو واقع المقررات التي تصدر عن جامعة الدول العربية . يظل هذا التناقض قائماً بين عناوين النوايا ومقرراتها ، وبين تقصير الواقع وتناقضاته، وهذا ما يجعلنا نقول ان الرهان يبقى على تجارب البعض مما يخوض المغامرة .

ولعل هذا يفسر فشل كل الدعوات الرسمية العربية لانشاء محطة عربية دولية او محطات موجهة باتجاه الآخر ، او الدخول على خط البث نحو مواقع عالمية لا نزال بعيدين عنها .

إعلام قلق :

- لدينا نقص في معرفة العدو ولا يغطي هذا النقص في سماع صوت الآخر عبرنا ، بل في محاولة كشف الآخر ليكون هذا الكشف جزءاً من المواجهة امام حركة النضال السياسي والمقاومات للجانب العربي .

تنقصنا احصاءات ورصد للآخر ... تنقصنا محاولات قراءة الآخر تماماً كما يفعل اعلام الآخر في خرائطنا .

لماذا لا يتحدث الاعلام العربي الآن عن حجم الهجرة اليهودية ، مثلاً لماذا تصب كل برامجنا السياسية والوثائقية اهتمامها على نبش واقعنا بمراراته دون ان تتأطر وتتطور الى محاولة كشف الكثير من تناقضات الجانب الاسرائيلي.

التناقض في المجتمع الاسرائيلي بين يهود شرقيين وغربيين ، بين التناقض الاجتماعي الواضح ، ابراز نزعات التطرف، محاولات الاختراق ...

سأعطي مثالاً خلال المراحل الاخيرة للانتفاضة. 165 مؤسسة سياحية اقفلت ابوابها في اسرائيل ، ازمات اقتصادية متعددة هجرة يهودية تقلصت بل صارت معاكسة ...

لماذا لا نقترب من هذه الجوانب .

لماذا وقعت برامجنا السياسية في كمين حوار النقائض مما زاد امسياتنا العربية احباطاً وتركنا الآخر .

لماذا هذه القطيعة بين الاعلام العربي ومؤسسات وجمعيات الروابط التي تدعو للمقاطعة مثلاً في عالمنا العربي ...

لماذا التقصير في اثارة جرائم الحرب ... نحن نغطي الخبر ... الخبر بعد قليل لا يصير خبراً ... ينطفىء وينطفىء معه اهتمامنا .

بعض اعلامنا قصير النفس ... لانه ينقصنا البحث، جدية البحث . نحن اخباريون فقط حتى الآن .

تحرر الاعلام العربي من تبعية مصدر الخبر ... بل مصدر الصورة احياناً ، وتحرر من بعض لغة الآخر الاخبارية ، لكن ذلك يتم احياناً بصورة نسبية وهناك جيل من الاخباريين العرب الجدد ما زال اسير نمطية الآخر تحت حجّة الواقعية . او الاعجاب بتجربة الآخر .

بعضنا وبحجة الواقعية او البحث عن دور يتعاطى بحيادية وكأن يسعى لان يكون مرجعاً اعلامياً لدى غير العرب ، وهذه عقدة نقص واضحة لان الآخر لن يعتمد على وسائلنا قبل ان تمتلك عناصر العالمية ، وهذا يحتاج الى تحولات كبيرة .

لم يرق بعض ابناء جيل الاخباريين وخاصة في محطات التلفزة العربية الى لغتهم الخاصة ، وان كنت لا اعني ان نستمر في لغة الستينات التي تعودناها .

لكن كان من المفترض ونحن نشهد التحولات التقنية بكل تجلياتها ان نواكب هذه التحولات لصالح ايجاد لغة اخبارية عربية جديدة.

ان التجربة واضحة هنا في التعاطي الاخباري اليومي مع تطورات القضية الفلسطينية .

ان صورة جديدة بات الاعلام العربي يبثها من الواقع الميداني ، لكن هذه الصورة في مضمونها لم تحرر تماماً من صورة الآخر ... لم نصل بعد الى الخصوصية ، والى لغة اخبارية مميزة، وان كنا نلحظ محاولات تتلمس حالة التغيير التي قد تتبلور خلال اعوام قليلة .

ثمة محطات تعاني من اشكالية الهوية ... تعاني من عدم القدرة على حسم الخيارات ... ربما لانها نتاج لحالة نظامية عربية معينة .

ربما لانها نتاج لحالة اقليمية معينة .

ربما لانه اريد لها ان تلعب دوراً معيناً لمراحل معينة .

نعاني من قلة الاحتراف احياناً .

ان الفرق شاسع بين طبقة الاعلاميين العرب في الستينات ، في الصحافة والاذاعة وحتى التلفزيون ، وهم يتعاطون مع القضية الفلسطينية وطبقة الاعلاميين الجدد ... لجهة حجم الوعي السياسي ...

الآن هناك تدني بالاحتراف المهني والسياسي ، هذا ما نشعر به جميعاً ، تدني بالوعي .

هناك خلل بين مقومات الامكانيات التكنولوجية وبين مقومات الرؤى السياسية بهذه المحطات في هذه العاصمة او تلك .

بعض اعلامنا يلعب دوراً تحريضياً ... في مراحل متقطعة ، لكنه ليس دوراً يستند على رؤى متكاملة تتقاطع مع مفاهيم استراتيجية .

تهاوت الوكالات العربية امام التلفزة .

تراجع دور الصحيفة، لم يعد قلم الرمز الصحفي محركاً . لم يعد لدينا كاتب كبير للقضية .

وقعنا في كمين بين تقليد الآخر ... والقدرة على مواكبة الآخر .

بين منطق الحيادية ... وتناسي الدور القومي .

لم نأخذ بعين الاعتبار ان الانسان العربي لا يزال

انسان هذه القضية ويريد الاعلام ان يكون مرتبطاً بها ارتباطاً وثيقاً .

ربما نحن نؤخذ على عجل نحو شيطان التقنية التي تذهلنا احياناً ... وتتجاوز رؤانا السياسية ورؤانا الاعلامية التي كانت سائدة .

ألم يفاجئنا محمد الدره على عجل فقلب كل برامجنا ، ونشراتنا ، واحدث زلزالاً ... سارعنا الى مواكبة اهتزازاته .

ألم تبدو كل الاحداث انها دائماً تأتي على عجل ... فنجد انفسنا اننا بحاجة الى المسارعة والمنافسة والتقاط الخطة والتقاط الامكانيات .

الاعلام العربي فلسطينياً ...

ليس اعلاماً تعبوياً بالكامل ...

هو بالمقتضى الايدولوجي ... يحمل عنوان القضية لكنه ربما في حركية الواقع لا يمتلك رؤاه الكامل للعب الدور الكامل .

الاعلام العربي في بعض جوانبه في تعاطيه مع مفهوم الصراع ضد الاعلام الاسرائيلي، لا يصل الى حدود امتلاك مقومات البعد الانثروبولوجي في الولوج الى نسيج عناصر المواجهة، أي الغوص في الجوانب اللا اخبارية فقط ...

المتلقي العربي الآن من نتاج خارطة الراهن الاعلامي تائه بين محاولات استحداثية تدعيها محطات تضع عنواناً لحرية تريدها ، وبين استلافية لا يزال منطق الصراع يجذرها في ذاكرة هذا المتلقي .

لا يمكن ان تنشىء كياناً اعلامياً ، مركزياً ، متطوراً ، واعياً ، لـه كل مقومات التواصل والحركة والمخاطبة ، ونحن نعاني من شرذمة كياننا السياسي .

تبدو مشكلة الفلسطيني معنا كعرب وهو جزء منا ... اننا ننظر الى قضيته أي قضيتنا ... من خمسين او مئة او ألف عين ، نتحدث بخمسين او مئة او ألف لغة ... عنه .. وعنا .

ننفعل على عجل ثم نخبو ... نكاد نقفز من شاشاتنا لنقاتل معه ثم ننكفىء ... فيما السياسي فينا هو الذي يحجم الاعلامي والمسافة الصعبة يجب ان نجتازها.

ولهذا يبدو الوصول الى العالمية ... الى مخاطبة الآخر ، الى استخدام الاعلام كمقوم استراتيجي في الصراع صعب ... وصعب جداً ، وعلينا ان نخوض حرباً حقيقية مع انفسنا اولاً ... مع ادوات صراعنا ، أي مع مواقع قرارنا السياسي لتوظيف كماً كبيراً من الامكانيات في انشاء مواقع اعلامية متقدمة ليكون الاعلام خياراً في المواجهة بمستوى الخيار المقاوم، والخيار المواجه فعلاً وليس مجرد اعلام للنظام السياسي وان كان يدعي الآن تمايزاً.

source