أي إعلام نريد؟ هل من إمكانية لإعلام عربي فاعل؟

calendar icon 13 كانون الأول 2002 الكاتب:حسن فضل الله

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر"

(الجلسة الرابعة)


يجمعنا الإمام السيد موسى الصدر تحت عباءته في هذا الملتقى الإعلامي –الفكري لنرى ذاتنا والآخر في الإعلام المعاصر , وهو الإمام الذي أرسى دعائم للحوار، وأعطى للآخر في عقولنا موقعاً لا تزحزحه ازدحام الأفكار والمفاهيم والرؤى، ما دام الآخر يتوّسل الكلمة طريقاً للحوار، والحقيقة سبيلاً للمعرفة، يقارع الحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق.

الحوار شعار حمله الإمام الصدر وكرسه كوسيلة للتخاطب بين اللبنانيين والعرب، وعلى مقلب آخر أرسى معان أخرى للتحدي والمواجهة والمقاومة، عندما يكون الآخر شراً مطلقاً اسمه ًإسرائيلً. لا لغة يخاطب بها إلا لغة المقاومة شعارٌ آخر رفعه كي لا يلتبس الأمر على أحد فيختبئ خلف كلمة الحوار ليبرر لقاءً مع عدوه ولو بالواسطة يستفيد منه هذا العدو ليُثَبِتَ احتلاله وقهره وقمعه.

من معين هذا الإمام الذي أطلق فكرة المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني في لبنان، والذي يعود إليه الفضل في استنهاض اللبنانيين لمواجهة الخطر الصهيوني, نستلهم الكثير من الرؤى والأفكار التي لا تزال تصلح لمجتمعنا وأُمَتنا، ما دام منبعها أصيلا يحاكي قضايا هذه الأمة، ويتطلع إلى استنقاذها مما هي فيه, وللإعلام في هذا المجال دوره الطليعي في جعل هذه الأفكار وقائع في حياتنا اليومية .

يجمعنا الإمام الصدر في هذا الملتقى لنحدد أي إعلام نريد؟ وهل ثمة إمكانية لإعلام عربي فاعل؟ وربما اسمح لنفسي بطرح السؤال بصيغة أخرى هل نملك الإرادة لتحديد هوية إعلامنا؟ وهل ثمة إعلام عربي واحد ؟ أم نحن أمام وسائل إعلامية لكلٍ مشربها وسياستها, وان جمعتها لغة عربية واحدة, أليس الإعلام انعكاس لحال الأمّة في انقسامها على نفسها؟ فقبل الحديث عن فاعلية الإعلام العربي لنتفق أولاً أننا بحاجة لتأسيس هذا الإعلام وإعادة بنائه من جديد.

إن إحدى التوصيفات الحديثة لمفهوم الإعلام هي اعتباره وسيلة لتشكيل السياسات من خلال تشكيله للرأي العام الناخب والمؤثر في حركة المسوؤلين وقراراتهم أي من دون رأي عام مشارك في صنع القرار وتحديد السياسات لن يكون لدينا إعلام مؤثر وفاعل.

إننا نحتاج لثلاثة عناصر في أي إعلام فاعل وهي:

1-أن يمتلك الإعلام القدرة على التأثير وأهم عنصر في التأثير هو إمتلاكه لقوة المعلومات.

2-أن يكون هناك رأي عام يمتلك حق التعبير والتغيير.

3-أن تكون هناك أنظمة تحترم هذا التعبير وتأخذ به.

نستطيع القول هنا إن الإعلام يشكل اليوم المصدر الأساسي للمعلومات فضلاً عن كونه قناة اتصال بين العمل السياسي وقوى الرأي العام، وتكمن قوة وسائل الإعلام من قوة تأثيرها في المجتمعات التي تعطي للرأي العام موقعه ودوره في الحياة السياسية، وحين يفتقد المجتمع لمثل هذا الموقع والدور، تصبح وسائل الإعلام قوى ضغط بيد السلطات وليست قوى ضاغطة على السلطات.

وما دمنا نتحدث عن قوة الإعلام علينا إيجاد مقارنة ربما هي مع وسائل الإعلام الغربية التي تأخذ دورها من قوة تأثيرها في داخل مجتمعاتها لكن بالمقابل عندما تتحوّل إلى قضايا الخارج تنقلب على مفاهيمها وتصبح أدوات في معارك الحكومات بدل أن تظل أمينة على رسالتها.

فالإعلام الغربي وبالتحديد الأميركي تحوّل إلى وسيلة تابعة تعكس السياسات الرسمية,

تخلى عن كثير من طروحاته لمصلحة أولوية أهداف سياسة بلاده,كاشفا بذلك عن إزدواجية في ما يطرحه تجاه الآخر وما يبثه لمصلحة أولويات حكومته.ولئن كان هذا الإعلام قبل الحادي عشر من أيلول إعلاماً مغلّفاً بالاستقلالية والحرية فإن انقلابه على نفسه حوّله إعلاماً تحريضياً اغمض عينيه عما يسميه الحقائق لمصلحة ما اعتبره ردّ جرح الكرامة والكبرياء.

لم يكن التحريض أو التضليل وليد الحادي عشر من أيلول إنما هو سياسة درج عليها الإعلام الأميركي عندما تكون الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في أي صراع, يقول إيناسيو رامونية في كتابه طغيان الاتصال (La TYrnannie de la communicatio) الصادر في باريس إن 84% من الصحافيين يعتقدون انهم ضللوا في حرب الخليج الثانية التضليل مصدره هنا السياسة الأميركية وجزء من هذا التضليل مارسه الإعلام الأميركي عن قصد,لقد خيضت الحرب بالإعلام وهي تستمر ضد عالمنا العربي بالطريقة ذاتها,حتى لم تتورع الإدارة الأميركية عن إنشاء مكتب خاص مهمته خوض الحروب بالدعاية والتحريض.ما أريد الإشارة إليه هنا انه يجب أن لا يسلبنا إعلام الآخرين القدرة على التميز فنسقط في تقليد أعمى, هم لهم أولوياتهم وقيمهم وثقافتهم ولمجتمعنا قضاياه وقيمه. وعندما يتعلق الأمر بقضاياهم ومصالحهم مستعدون لخوض حروب بكل وسائل الدعاية مجرّدين من أي مصداقية أو موضوعية.

التمايز إذا سيبدو واضحاً أن الإعلام في مجتمعاتنا لا يشكل السياسات الداخلية أو الخارجية إنما يتشكل أداؤه وخطابه وفقاً لسياسات الدول، وهذا ما يفقده أهم ميزاته أي القدرة على التأثير على قرارات الحكومات,فضلا عن محاولته الخروج من قضاياه الحيوية ما دامت خارج سياق السياسات الرسمية ليقع في مطب آخر هو مطب التلقّي والتقليد لسيل المعلومات الغربية.

لئن طرحنا السؤال الأساسي في البداية أي إعلام نريد؟ فان توصيفنا لمفهوم الإعلام باعتباره ناتج حضاري لمجتمع يحمل قيماً ومبادئ وأهداف,يؤدي بنا ذلك إلى تحديد الإجابة الواضحة، فالأمر مرتبط هنا بما تحتاجه مجتمعاتنا التي لديها الكثير من القضايا والهموم على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية. فنحن نمتلك مخزوناً ثقافياً وروحياً وقيماً أخلاقية ودينية, قادرون على تجسيدها عملاً إعلامياً إبداعياً سواء على المستوى الفني في الصوت والصورة أو على مستوى النص لنقدم لجمهورنا بالدرجة الأولى مادة حيّة قادرة على مخاطبة عقله ووجدانه ومشاعره ، فلا يبقى أسيراً لمادة دعائية مكثفة تنهال عليه من كل حدب وصوب,ولنقدم أيضاً العرب للعالم كأمة تمتلك حضارة وثقافة تضاهي بها الأمم، وللأسف يغرق بعض إعلامنا العربي في تقليد أعمى أو في استيلاد خطاب إعلامي هو وليد بيئة أخرى يحاول تعميها على جمهوره المغاير في الثقافة السياسية وفي أولوياته وقضاياه ، خطاب يستدرج المنفعة والربح على حساب القيم والمبادئ والأولويات. صحيح أننا نمتلك بعض المقاربات لقضايانا وإننا نشهد تطور مضطرداً في أدائنا الإعلامي.لكن علينا أن نتعاطى مع تلك القضايا ليس كأحداث سياسية أو أمنية وإنما كإلتزام أخلاقي ووطني، لذلك قد يجد القارئ أو المشاهد أحياناً ضالته في إعلام آخر غير إعلامه العربي، ما دام كثير من إعلامنا مشغول بأولويات أخرى إذ قد تكون أحياناً الخضوع لأولويات الإعلان التجاري وليس أولويات الأمة وقضاياها.

الإعلام الذي نريد هو الإعلام القادر على تشكيل وعي سياسي وتوجيه وتصويب السياسات العربية وتقديم العرب للعالم على صورتهم الحقيقة، الصورة التي شوهتها آلة الدعاية الإسرائيلية المغطاة بعناوين إعلامية غربية، وشوهها بعض إعلامنا العربي عندما تغافل عن الحقيقة فكان مرآة للنظام الرسمي العربي.بل صار هذا الإعلام يتعامل مع قضايا أمته من منظار الإعلام الغربي لكي يصبح مقبولاً أو معترفاً به فصار الاستشهاد انتحاراً والعمليات أحداث عنف. الإعلام الذي نريد هو الإعلام القادر على ترتيب الأولويات وفق حاجات الأمة فلا يثير الفتن وينبش الخلافات ويتلطّى بستار الحرية ليقتل الحرية في مهدها عندما يجعل همه كيف يفرق بين الناس، أو ليأتينا بأعدائنا إلى منازلنا يبررون جرائمهم ضد شعب مظلوم محتلة أرضه في فلسطين.

عندما نتحدث عن مفهوم الإعلام باعتباره وسيلة لتثقيف الجمهور، أو لبث الوعي السياسي والثقافي، أو لتزويد المتلقين بالمعارف والمعلومات، فإن ذلك يجب أن يستظل بالواقعية والحقيقة من دون مبالغة أو تشويه فنقول عن الخسارة خسارة وعن النصر نصر وعن الشهادة شهادة وعن المجزرة مجزرة، إذ لا يمكن للفاعلية أن تتأتى من التضليل والمبالغة والتشويه خصوصاً في عالمنا العربي الذي لا يزال يتعرض لحملة إعلامية منظمة تريد هدم ما تبقى من أسس بنيانه الثقافي والفكري. ومسؤولية الإعلام أن يقف بصلابة لمواجهة مثل هذه الحملة وليس الإختباء وراء شعارات زائفة.

لقد كانت لنا تجربة حيّة في اعتماد مثل هذا الإعلام والذي اثبت أن العرب قادرون على توظيف الإعلام في معركتهم ضد عدوهم الأول أي الكيان الصهيوني، ففي الحرب النفسية التي خاضتها المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان تمكنت من قلب الصورة وتقديمها وفق وقائعها وحقائقها فإذا غَلبت في مراحل سابقة الدعاية الإسرائيلية وهيمنت على العقل العربي فإن دخول إعلام المقاومة الحرب قدم العرب والمسلمين على صورتهم التي هم عليها,وليس وفق ما رسمها العدو, لقد تمكنت دعاية العدو من تحوير الوقائع وتبديل الحقائق التاريخية، فظهر الجيش الإسرائيلي في أعين العرب أسطورة لا تقهر، والعربي إرهابي خائف يترقب كما صوّرته آلة الدعاية الصهيونية وتعيد تظهيره اليوم بالصورة ذاتها للعالم بأسره, وبالمقابل كانت تجربة إعلام المقاومة تنطلق من ثوابت وحقائق ووقائع، صحيح أن لا مجال للمقارنة بين ما تمتلكه أجهزة الدعاية الإسرائيلية وما توفر لإعلام المقاومة, لكن الفرق هنا يسقط أمام التصميم والإرادة والتحدي، فما ميّز إعلام المقاومة إن دعايته كانت واقعية, صورها مستمدّة من أرض المعركة, وتقنياتها هي وقائع المواجهة اليومية, وهذان كفيلان بإحداث تغييرات وتأثيرات أصابت المجتمع الإسرائيلي بالإحباط وأعادت للمجتمع العربي شعوره بالكرامة، لقد خرجت من دعاية الحرب المركبات الإعلامية الخيالية، والترويج الممل والمبالغة وتغيير الحقائق ، فقدمت تلك الدعاية الواقع كما هو فكانت الحرب هي الدعاية الإعلامية، وليست الدعاية هي الحرب، إنتقلت المعركة إلى كل بيت إسرائيلي حتى اضطرت معها حكومة العدو إلى استحداث أجهزة إعلامية مهمتها مواكبة حركة الجيش ضد المقاومة، ومواجهة حرب نفسية بالغة التأثير.

كانت الكاميرا شريكة البندقية منذ أن أدخلتها المقاومة ساحة المواجهة وظلّت رفيقة المقاومين إلى أيام التحرير عندما كان حزب الله وفق التعبير الإسرائيلي يقوم بعملية اقتحام واستيلاء بدون إطلاق نار وهذا الاقتحام يتمثل بألات التصوير التلفزيونية، وتغطية قصف كلامي هائل فحزب الله انتصر في الصراع على القاطع الأوسط بواسطة المدفع الذي يقذف أقوى القذائف إلا وهو مدفع التلفاز وفق القول الإسرائيلي, وبعد الانسحاب إضطرت القيادة الإسرائيلية للاعتراف بأن إحدى مواضع الخلل كانت السياسة الإعلامية أي بمعنى آخر الفشل في مجابهة إعلام المقاومة الذي شكل ركيزة أساسية يمكن التأسيس عليها لبناء إعلام عربي فاعل موّجه بالدرجة الأولى إلى القضية المركزية أي قضية الجمهور العربي الواسع وهي قضية فلسطين .

إذا كنا نبحث عن جمهور واسع فهو جمهور فلسطين، ولنا في هذا الميدان تجربة مستمرة، تثبت أن الإعلام الفاعل هو الذي يرتكز على أولويات المجتمع وقضاياه، وليس الباحث عن الإثارة والكسب غير المشروع ولو على دماء الناس وقضاياهم.

أي قضية اليوم أهم من الإنتفاضة, ومن مظلومية الشعب الفلسطيني ليثبت فيها إعلامنا أنه فاعل في تبنيها وشرحها للعالم وفي جَبه حملة التحريض الواسعة التي تشن عليه من السياسة والإعلام والدعاية الصهيونية-الأمريكية المشتركة.

source