"كلمة سواء" ... والمستقبل الديمقراطي

calendar icon 27 تشرين الثاني 2000 الكاتب:غسان تويني

أولًا, وبادىء ذي بدء, وقبل أي قول آخر:
كلمة شكر, بل آيات من الشكر إلى الرئيس الأستاذ نبيه بري على "مبادرته الديمقراطية" الكبيرة الكبيرة التي أكد بالكثير من الثقة بالذات أنه ماض فيها رغم إدراكه أن ثمة عملية "إطلاق نار" (والكلمة لدولته) قد استهدفتها!

هل هو بحاجة إلى أن نشهد معه بأن "تاريخية" المبادرة تحصنها ضد كل "المتاريس"؟... سواء أكان مطلقو النار من هذه المتاريس يجرجرون في نفوسهم بقايا الأخلاق الميليشيوية, أم كانوا من مدمني فضلات الكلام التقسيمي الصبياني الفارغ...

أم تراهم – مطلقو النار – من المتضررين؟
لا هم... ولا تبال يا رئيس!

ستدخل تاريخ لبنان, بفاعلية لا ترد ولا تقهر, تلك الدقائق العشر التي أعلنت خلالها, بأسلوب دراماتيكي نادر, الحقائق الدستورية المقدسة التي هي الوديعة الكبرى في عهدة مجلس النواب:
إن وطن نهائي لكل أبنائه, وان لا شرعية لأي كلام يخرج على الميثاق الوطني, وأن ديمقراطية الميثاق تضمن حقوق كل اللبنانيين, أقليتهم كأكثريتهم, وان لبنان لا ُيحكم بقوانين وتصرفات (و"تسلطنات") تقهر الحريات أو حتى تتجاهلها.

وقد تعهدت, يا دولة الرئيس, باسم السلطة التي ترأس مؤسستها...والعهد سيكون مسؤولًا.
يعزز عهدك هذا ويزيد في وزنه ووقعه أنه توقّت زمن يستذكر لبنان رسالة الإمام موسى الصدر في مؤتمر عنوانه "كلمة سواء"... يفتقد الإمام وحجم الشهادة التي جعلها بمثابة القدر للطائفة الشيعية إذ قال:
"لبنان أفضل للشيعة وهم أفضل وأحرى لهذا البلد. لا يريدون الهدم, بل صيانة هذا الوطن عن طريق العدل (...) نريد لبنان متكاملًا يسوده العدل ويكون فيه كل مواطن مكرمًا (...) لا نريد هدمًا ولا تخريبًا, نريد الصلاح في أمتنا".

فعسى أن يفهم الآخرون الرسالة!
أما أنت, فقد نطقت بالأمس, وفي بكركي الصرح البطريركي بالذات... نطقت كمن يتكلم باسم الإمام الذي وقف مرة, كما لم يحصل من قبله في التاريخ, يعظ المؤمنين المسيحيين في صيامهم, من منصة في ظل الصليب!

فليخرس الجهلة, ولينكفىء المتاجرون بالأديان, وليهبط عن عروشهم الكرتونية قناصة السلطة المتغطرسون, الناطقون بالكفر الدستوري دفاعًا عن هياكل الظلم المتداعية.

ستعود الأزمنة التاريخية الزاهية, أيام كانت تهتف جماهير المصلين الخارجين من جوامع دمشق, داعية إلى الجهاد الحق: "لا إله إلا الله والبطريرك حبيب الله!".

...وإنها تلك الأيام, لعائدة, فليطمئن الأحرار.
إذ كيف بغير ذلك, نفسر انفتاح دمشق الرئيس السوري بشار الأسد الداعي إلى التغيير؟...
كيف نفسر الإنفتاح على الحواريين الديمقراطيين, من الرئيس الياس الهراوي (بالذات في يوم الإستقلال اللبناني... أي يوم كانت السلطة الرسمية تهرطق في حديثها عن الديمقراطية) وصولًا إلى الرئيس حسين الحسيني, وخصوصًا خصوصًا بعد دعوة فؤاد بطرس وجان عبيد وميشال سماحة (رفيق نسيب لحود) وربما آخرين كذلك.

ومن, من تراه يمثل سوريا المستقبلية الحقيقية, الرئيس الفاتح بابه – وعقله وقلبه – للحوار مع أهل ديمقراطية الحوار اللبناني؟...
أم... أم؟...

غريب أمر وزير الخارجية السوري الذي يحترمه لبنان – كوزير للشؤون الخارجية... – السيد فاروق الشرع, وقد بدا (نقول: بدا, فقط...) كأنه يغلق أبواب الحوار بما لا يخلو من روح العنف عندما ترك نفسه يقول – أو هي "الوكالات" قولته؟ - ان "إعادة تمركز القوات السورية في لبنان أمر يجري الإتفاق عليه بين الحكومتين اللبنانية والسورية وليس لأي طرف ثالث أي علاقة بالأمر"...

والغريب في هذا الكلام أنه جاء إستشهادًا بما ورد في إتفاق الطائف, مشفوعًا بما يشبه التهديد لكل من يحاول مخالفة الإتفاق إياه أو تجاوز نصوصه بحرفيتها...

وبالطبع, بالطبع – والنصوص طوع يد الوزير كمثل بقية النصوص الكيفية التفسير... لم يتفضل سيادته بالقول لماذا سوريا (وحكوماتها اللبنانية المتعاقبة) لم تنفذ هي الإتفاق بالنص الحرفي لجهة إعادة الإنتشار في الموعد المحدد, حرفيًا...

وبالطبع, بالطبع, لم يناقش الوزير أحد, في الحشد الدمشقي الذي صوره التلفزيون, لأن الحشد... كان في دمشق, ولا ديمقراطية هناك بعد, ولا بعد من يناقشون أو يسألون!

وينتظر الوزير, بعد هذا المنظر, ان نأخذ كلامه وكأنه منزل؟
لا, لا...لا نصدق, لا نريد أن نصدق ان الوزير الشرع (و"اسمه" لا بد ان يكون إلا "على كسمه"!) يصف السلطة "التشريعية" بأنها "طرف ثالث"... أو أنه يظن أن قضية مصيرية كمستقبل العلاقات السورية – اللبنانية يمكن ان تحصر معالجتها "شرعًا" بالحكومتين... بأية حكومتين, أو بأي واحدة منهما, وخصوصًا خصوصًا "في زمن التغيير"!

وعندنا ان في استشهاد الوزير الشرع إستشهادًا مجتزًا بإتفاق الطائف (يعامله كإتفاق بين حكومتين) خير دليل على عدم جواز ما يقول...

أوليس "اتفاق الطائف" بمثابة الوثيقة "الشرعية", الدستورية الأبعاد, والتي جرى إقرارها لا "بين حكومتين" (إذ لم تكن ثمة حكومة لبنانية شرعية آنذاك!!!) بل من جانب أعضاء الهيئة النيابية, أي السلطة التشريعية (التي كان يرأسها آنذاك السيد حسن الحسيني, ويرأسها اليوم الأستاذ نبيه بري, وكلاهما في طليعة "الحواريين") وفي رعاية عربية متعددة الأطراف, كانت سوريا, لا حكومتها, طرفًا في "الحوار" معها, ولم تكن لا شريكًا في المناقشة ولا في الإقرار؟

فهل في متناول وزير, بل هل في متناول رئيس, أي رئيس, ان يختزل إتفاقًا دوليًا – دستوريًا – تشريعيًا – ميثاقيًا... ان يختزل إتفاقًا كهذا, بل ميثاقًا كهذا, بـ إتفاق بين الحكومتين ليس لأي طرف ثالث علاقة به؟...".

ومع ذلك... معاذ الله ان يختزل بدورنا قضية العلاقات السورية – اللبنانية, واقعها ومستقبلها, بجدل "شرعي", أو بما هو أسوأ وأدنى مستوى: مقارنة حسابية بين "تضحيات" سوريا في لبنان و"منافعها" من وجود جيشها فيه... وهذا ما كاد يستدرجنا إليه الكلام المنسوب إلى الوزير الشرع في النبأ الذي وزعته وكالات الأنباء!!!

جوابنا عن ذلك كله بسيط, ومباشر نرجو الا يحمل على غير محمله. وهو ينطلق من الإشارة إلى اختبار شخصي ليبلغ الأفق التاريخي.

شخصيًا, ندعو الوزير الشرع إلى ان يفتح عقله – كما فتح قلبه – على واقع النظام اللبناني المبني على الحريات... من الحرية في مناقشة كل شيء, وطلب المشاركة العامة (لا السلطوية) في اتخاذ كل قرار... إلى الحرية في البحث الأكاديمي وتطوير العلوم والممارسات الطبية بتحرر كلي من "حكومية" الأنظمة والقرارات.

وإذا أراد الوزير مزيدًا من الإفصاح, لقلنا ان لبنان ما كان يحظى, مثلًا, بثقة الوزير بالعلم اللبناني لو كان الإجتهاد العلمي, كالإجتهاد الإشتراعي, خاضعًا في لبنان لتسلط القرارت الحكومية, تفرض هي على المسارات اللبنانية خياراتها وتطورها ومصيرها... بدل ان تكون الحكومات مسيرة بالإجتهاد الحر, في العلوم (والطب) والخلق الفكري والإلتزام الأكاديمي وصولًا إلى التطلع الضميري والروحاني...

تمامَا كما في الحياة السياسية وجوهرة النظام السياسي – أي نظام الحياة والحكم – بالديمقراطية التعددية وليس بالعقائدية التوتاليتارية التي تحجر قرارت الرئاسات والحكومات وتمنعها من التغير وفق التطور الحر وحوار أهل الرأي والرؤى!!!
هذا, من المنظار الشخصي... والمعذرة!

أما في المنظار التاريخي, فلنتصارح أكثر, لأن ذلك يكون سر استقامة العلاقات وتوثقها.

ان لبنان الحقيقي, غير المنافق ولا المستضعف ولا المستزلم, يتمنى (ويصلي) ان تستعجل سوريا الشقيقة مسيرتها على طريق التغيير الديمقراطي فتشرع أبواب الحريات التي بها وحدها تزدهر قدراتها الخلاقة, وتتعزز مناعتها القومية ويشتد انطلاقها القيادي التحرري, عربيًا ودوليًا...

وكيف لا نستبشر, في لبنان, وقد قرر الرئيس بشار الأسد إقفال سجن المزة الرهيب وإطلاق السجناء وتحويل "المزة" إلى معهد للدراسات التاريخية؟!

لبنان الناظر هكذا إلى سوريا بكثير من الأمل, يستغرب ولا يمكن أن يتقبل قيام تيار في لبنان (وتتجاوب معه مراجع سورية ولو فقط "وزارية", وبشيء من الخفر والتحفظ) يعيدنا إلى أجواء الديكتاتوريات البالية, الزائلة في كل مكان آخر... إلى زمن الظن ان كل معارضة هي كفر, وكل أقلية هي خيانة, وكل اجتهاد هو تآمر!!!

ولعل قمة الخيانة التاريخية ان يتجرأ لبنانيون, ومسؤولون, على القول, وبمباهاة, ان اللبنانيين إما ان يكونوا مع سوريا, فيكونون على حق... وإما لا, فهم مع إسرائيل يخدمونها, ويكونون هكذا خونة!!!

ترى: أليس في لبنان, الذي تدعون حكمه هكذا يا أيها السادة, لبنانيون مع لبنان؟...
مع لبنان, فقط لا غير؟

وهم, من منطلقهم اللبناني, أشقاء للسوريين وعرب اقحاح, أعداء لإسرائيل...
إنما فقط لأنهم لبنانيون, ولا حاجة بهم إلى شهادات حسن سلوك وطني من أحد!... إنهم هم المعيار.

source