الدين والعلم

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
calendar icon 19 كانون الأول 1967 الكاتب:موسى الصدر
مقدّمة لكتاب "العلوم الطبيعية في القرآن الكريم" للدكتور يوسف مروة (19-12-67)، ونُشرت في "منبر ومحراب" في 31/8/1981.

1- حكاية العلم والدين:
حكاية العلم والدين بدأت مع بدء الإنسان، إنها حكاية طريفة:
1- خلَق الله الإنسان وخلَق معه الدين والعلم معاً جناحين له، فالدين "فطرة الله التي فطَر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" (كما يعلن القرآن الكريم)، والدين "ناموس" في رأي العهد الجديد، وقد كُتب (على حد تعبير العهد القديم) بإصبع الله على ذات الإنسان.
والدين حسب رأي كبار علماء التاريخ الأديان في القرن الأخير "طبيعة أصيلة في الإنسان"، وليس عقدة نفسية حصلت لخوف الإنسان أو عجزه أو ضعفه أو عوامل أخرى، بل تؤكد دراسات تاريخية وأثرية أنّ الشعور الديني يعمّ المجتمعات البشرية على مختلف أنواعها ويمتد الى أسبق تجمعات الإنسان منذ تكوين هذه التجمعات.
ثم إنّ منطق القائلين بوجود الدين نتيجة للعوامل الطارئة لا يجيب عن سؤال أساسي هو أنّ الإنسان البدائي لو لم يكن يعرف الدين بذاته كيف تمكن أن يلجأ إليه أو يفسّر به الأحداث أو يستعين به؟
فالدين في رأي منابع الدين وُلد بولادة الإنسان، ويؤكد هذا الرأي التاريخُ والآثار والبرهان العلمي.
أما العلم فبإمكاننا أن نشهد ولادته مع ولادة الطفل، حيث نشاهده في رغبة ملحّة الى المعرفة، تبدو في عيونه ونظراته الفاحصة ثم في أسئلته اللا محدودة عن كل ما حوله، وهكذا نأتي الى نهاية الفصل الأول من حكاية الدين والعلم، ووجدناهما وُلِدَا ونبتا مع ولادة الإنسان بصورة بدائية وساذجة ولدا مرتبطين في الخلق بالإنسان.
2- خلق الله العلم والدين توأمين حينما خلق الإنسان
لأنّ بين العلم والدين ربط مصيري وهما يقرران مصير الإنسان وكماله، فالعلم دون تكلف فلسفي أو تحديد منطقي هو ضياء لكشف الواقع ولمعرفة الحقيقة. والحقيقة هي فِعل الله وأمره، فالعلم طريق طبيعي لرؤية آثار الخالق، وتزداد معرفة الإنسان للخالق بازدياد العلم.
العلم أيضاً بمعناه العام (أي بما يشمل الفلسفة) أداة لكشف حقيقة الكون وحقيقة الإنسان وارتباط الإنسان بالكون وبالموجودات ودور الإنسان في العالم وفي الحياة وفي الكون.
والدين يكشف بصورة قاطعة عن هذا الدور ويدعو إلى قيام الإنسان بدوره الكوني، بل أنّ الدين في تفسير بعض العلماء هو ربط الإنسان بالكون، وهذا التفسير يتفق مع تفسير الدين الذي يربط الإنسان بخالق الكون، حيث أنّ الأدوار الكونية هي من تخطيط خالق الكون، فربط الإنسان بالكون هو بعينه الدور الذي عيّنه خالق الكون، وهو بعينه ربط الإنسان بخالق الكون.
ونصل هنا الى النتيجة: إنّ العلم هو الطريق الى معرفة الله، وهو الجهد البشري لإدراك الدور المفوض له الذي هو الدين، وكلما ازداد العلم يزداد الدين ، ومقابل هذه الخدمة يقدّم الدين للعلم خدمات مصيرية، حيث يجعل العلم سبيلاً وحيداً للوصول الى مقام خلافة الله في الأرض ، ثم يحاول الدين أن يحطّم الأصنام والعوائق التي تقف أمام سير العلم وينشّطه ويجعله فضيلةً وعبادةً وكمالاً للإنسان .
3- وفي أيام الصبا ودور الطفولة كان للدين والعلم مصيراً مشتركاً كالولادة، فقد ابتلي الدين والعلم بأمراض مشابهة.
فالإنسان البدائي انحنى أمام العجز والجهل والمرض، وأخافته العوامل الكونية، وسيطرت عليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وبالنتيجة تغلّبت هذه العوامل على ذات الإنسان المؤمن بفطرته والمشتاق الى معرفة الحقيقة، وفرضت عليه أوهاماً عاشت معه ورافقت علمه ودينه في عصور الجاهلية الأولى عهد الأساطير والخرافات، وانحرف الإنسان المصاب في علمه ودينه، فضلّ في متاهات الجهل وصحاري الضياع..
فكانت مظاهر دينه التوسل بالتمائم والسجود أمام الموجودات الطبيعية والعكوف عند التماثيل التي لا تملك نفعاً ولا ضرا، وكان يعبد أحياناً بني نوعه، وكان يضع جميع مجهولاته وجميع ما يعجز عنه في حساب دينه وتحت سيطرة الإرادة العينية.
وكان نشاطه العلمي مشابهاً تماماً لوضعه الديني، فكان يعالج بالطلاسم ويكافح الجدب بدفن إنسان في الأرض، وكان يتغلب على الطوفان بإغراق شخص في البحر، وكان يطبّب الصداع بنفخ الساحر في أذن المصاب لكي تعود إليه روحه المتوارية في الغابة والتي اصطادها الساحر وجعلها في الصندوق.
وكان يفهم الخسوف والكسوف بغضب من الشمس والقمر أو غضب متجاوز عليهما، وكان ينجدهما بدق الطبول، وكان وكان.. مما ملأ تاريخ الإنسان بالمآسي.
ابتلى العلم والدين في دور الطفولة وأيام الصبا بمرض مشترك: "الأساطير والخرافات".
4- بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس ولكي ينقذ الإنسان من هذا الليل المظلم ويطلق سراحه من السجن الضيّق الذي صنعه بنفسه لنفسه وسجَن فيه دينه وعلمه أيضاً.
فالأنبياء دعوا الناس الى التوحيد: الى عبادة الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، والأنبياء نزّهوه عن الصلات الخاصة مع الموجودات سلبية وإيجابية، وبذلك أعلنوا عدم النحوسة والقداسة في الأشخاص والأشياء والأوضاع.
وأكّد رسل الله هذه المبادئ في تعاليمهم بمختلف حقولها الإيمانية والعملية والثقافية والخلقية، فحرروا الإنسان من أوهـامه وتفاسـيره الخاطئة عن الكون والحياة، وحطّموا أصنامه الطبيعية التي كانت تملأ جوانبه، وأوثانه المصنوعة التي كانت تكرّس حقارته وتجرح كرامته، فاهتدى الى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، فكان الدين كله لله ولا معبود سواه مهما كان نوعه.
(وفكّ) الحصار عن العلم المسجون، وانطلق بجرأة دون تعقيد أو تخوف في السير في الآفاق والأنفس وفي اقتحام الموجودات وإجراء التجارب فيها ومعرفتها وإخضاعها له.
5- ولكي لا أمرّ على هذه النقطة بالذات مروراً عاطفياً دون دليل، أنقل نصاً من كتاب "جورج سارتون"، وهو أفضل كتاب حسب معرفتي في تاريخ العلم. يقول سارتون:
"إنّ الأسس العلمية التي بُنيت عليها صروح العلم الشامخة والحضارة القائمة وُلدت أولاً في مصر وبين النهرين وإيران وعند الإغريق بين القرن الثامن والقرن السادس قبل ميلاد المسيح"، وفي "هذا الوقت بالذات هو عصر انتشار دعوة الأنبياء الكبار وتوسعها في فلسطين بواسطة عاموس وهوشع وبيكاه وأشعيا وأرميا وفاحوم وبعد اشتهار الأسفار الخمسة في العهد القديم وبعد تأثر الإنسان الشرقي بدعوة إبراهيم وبتنقلاته في فلسطين والحجاز وبين النهرين وبعد ظهور زرادشت عند الفرس وبوذا في الهند.." "ثم إنّ الصلات الحضارية التي كانت بين فلسطين ومصر مع الأيون مهد الحضارة الإغريقية وأسفار السفن الصغيرة ورحلاتها من الفرات الى ميناء ميلتوس تفسّر لنا بوضوح التشابه الموجود بين آثار هوميروس وبين آثار الأنبياء المذكورين وتفسّر لنا التفاعلات الفنية بين هذه الشعوب كالنقوش المصرية القديمة على العاج والتي نجد مثلها في سامراء المركز السومري القديم". انتهى كلام سارتون.
وهنا نصل الى دليل قاطع لما قلنا في الرقم 4، حيث نجد تلاقياً تاريخياً وجغرافياً عجيباً بين انطلاق العلم وانتشار دين الله ودعوة الأنبياء، حيث أنّ مركز العلوم ومنبع الحضارات هو مشرق الأديان، وعهد العلم هو زمان الدين، وهل يمكن لنا تفسير هذا اللقاء العجيب بالصدفة والاتفاق؟.
6- مضت مدة، وقضي حين من الدهر، ثم جاءت أيام المحنة، محنة الظلم من الأخ لشقيقه، وظلم ذوي القربى أشد ضراوة. جاء دور طغيان الدين، وبتعبير أدق "طغيان أهل الدين"، حيث استغلوا الدين لتجميد العلم وإخضاعه لسلطانهم الواسع وحصره بما كتب القدامى التي أكسبها القِدم قداسةً.
قالوا إنّ حقائق الكون كلّها قد اكتُشفت بواسطة السلف، وإنّ كل جديد انحراف وضلالة، قالوا إنّ القول بكروية الأرض أو حركتها كفر وإلحاد، وإنّ الاعتراف بالجراثيم وتأثيرها في خلق الأمراض سفه وجرأة على الله وتحدٍّ لفعاليته المطلقة، وإنّ الإيمان بقانون العلية العامة لا يصح حيث أنه يتنافى مع القضاء والقدر.
قالوا إنّ السعي لمعرفة القوى الكونية الخفية مثل الكهرباء والجاذبية اتصال وتأثر بالجن والعفاريت، وأنه سحر وحرام وتضليل للعباد.
قالوا هذه ونظائرها، وكفّروا رجال العلم. وأحرقوهم. واستتابوهم بعد المحاكمة والتعذيب. إنهم تجاوزوا حدودهم، وخلقوا جموداً في أشرف إنتاج للإنسان، وأوقفوا سير التاريخ ما أمكن أن يقف التاريخ.
إنّ العهد كان يحمل طغياناً منهم على العلم وعلى كل شيء، وقد ظلموا الدين أيضاً حيث جمّدوه ومنعوا أي إنتاج ديني جديد.
7- ثم عادت الكرة وانعكست المأساة، فما إن وصلت القرون الوسطى الى قرب نهايتها حتى بدا في الأفق علائم الانتقام والتعدّي المعاكس و"الثأر".
ثار العلم وثأر لكرامته المجروحة، فحطّم أبواب السجن الذي صُنع له بإسم الدين، وبدأ يعتز بنفسه ويحتقر الدين جذلان مسرورا، سكران من خمرة الانتصار على شقيقه ومكمّله. انتقم العلم من الدين، وتنكّر له وتجاهل دوره إطلاقاً في الحياة، واعتبره سداً يمنع التقدم وقيداً يجب كسره وصنماً من الضروري تحطيمه (على حد تعبير "بيكون").
وقد بلغ به الغرور درجة تظهر في مكالمة جرت بين نابليون وبين أحد معاصريه من العلماء، فقد قال له نابليون سائلاً: "هل بقي في أقطار الأرض وآفاق السماء نقطة مجهولة لا يمكن تفسيرها إلا باعتماد القوى الغيبية؟"، فنسمع العالِم يقول بكل كبرياء: "لا" معتبرين أنّ دور الدين هو تفسير الأحداث الكونية ووضع قوانين مقابل العلم ومنافسته في كشف مجهولات الكون.
تنكروا للدين، فاعتبروه أيضاً عدواً لكل ثورة اجتماعية ولكل تغيير عميق في حياة الإنسان، واتهموه بحماية المكاسب الظالمة والثراء غير المشروع وبتهدئة المظلومين ومنعهم من ممارسة حقوقهم. ولا تزال المأساة بصورتها الجزئية قائمة في بعض أفكارنا الاجتماعية والفلسفية وحتى التربوية.
والحقيقة إنّ هذا الرد العنيف من العلم كان مستنداً الى وضع ديني قائم خاصةً في أوروبا، وكان مستمَداً من الأعصاب الثائرة من جهة ومن الأوضاع الفاسدة من جهة أخرى.
8- جاء القرن العشرون، وهدأت أعصاب العلم، ازدادت تجربته، فاصطدم أكثر من ذي قبل بالحقيقة، شعَر بالعجز عن إسعاد البشر وحده، أحسّ بالغربة، وصل الى نتائج لم يكن يحسبها، تجلّت بوضوح مظاهر الشقاء للإنسان، وامتلأ العالم بمآسي الحروب والظلم والانحراف، فمدّ العلم بعد ذلك يده الى شقيقه الدين وأصبح يفتّش عن الإيمان الضائع لكي يعيش معه ويتعاون معه في إصلاح أمر ما فسد في الماضي.
يقول العقّاد في كتابه (عقائد المفكرين في القرن العشرين): "إنّ ظاهرة القرن العشرين هي أنّ أكثر المفكرين فيه مؤمنون بالله بعدما كانت الظاهرة في القرن التاسع عشر هي الإلحاد عند المفكرين أو عند أغلبهم".
بدأ العلم يدرك حقيقة الدين، فآمن به وقدّره واعتمد عليه، وأهل الدين أيضاً بدأوا يدركون خدمات العلم لهم ولبني الإنسان، فأيدوه واعترفوا به، فبدأت الأمور تتجلى وتُرجع المياه الى مجاريها.
9- بدأنا نسمع نغمات موزونة تزداد يوماً بعد يوم في سمفونية متوافقة متناغمة من الدين والعلم، فكلٌ يضرب على وتره ويؤدي دوره دون تعدّ أو تجاوز، فيتناجيان ويملآن الكون نوراً وسرورا. نحن الآن في أول هذه الطريق، وفي أفقنا فجر صادق يبشّر بطلوع الحضارة الحقّة وبظهور نهار مشرق للإنسانية، يعيش الإنسان فيه بكل وجوده وبكل أفراده وبكل كفاءته.
توزيع الصلاحيات:
10- العلم بعدما سما وارتفع، تبيّن له مدى صلاحياته وغاية إمكاناته، فهو دون شك أو تعقيد ضياء لمعرفة الحقيقة ووسيلة حقة لرؤية الواقع في مختلف جوانب الواقع وتنوع حقول الحقيقة، إنه يكشف الحقيقة أمام الإنسان، ولكن العلم ليس محرّكاً للإنسان في حياته ولا دافعاً له في تكامله، بل يقتصر على كشف الحياة وتوضيح التكامل.
والمحرّك الحقيقي للإنسان هو طبيعته وغرائزه وميوله، فالإنسان خُلق طموحاً ساعياً نحو هدف محبوب له متحركاً نحو ما يراه الأفضل من الحال، ويأنف الوقوف والجمود، ولكن الاندفاع الطبيعي للإنسان ليس نابعاً من مؤثر واحد، فقد يتحرك لدوافع شخصية أو نوعية، أو قد يندفع لأسباب فورية سطحية، وقد يلاحظ العواقب، وقد تؤثّر فيه عوامل مادية أو معنوية، وقد يحرّكه شعور يختلف عن شعور آخر سمواً وانخفاضا، وهذه الألوان من دوافع الإنسان في سيره، وهي مشهودة لجميعنا نعيشها بوضوح.
فالعلم ينير الطريق، والدوافع النفسية البشرية للحركة في هذا الطريق مختلفة، وهنا نصل الى الشعور بالحاجة الملحّة الى غربلة هذه الدوافع واختيار أصلحها للإنسان.
وهكذا، تتجلى بعض صلاحيات الدين حيث يختار الدافع الأفضل والمحرك الأصلح ويحاول تنميته وإبرازه ومساعدته على بقية الدوافع، ولأجل إيضاح هذا المدعى، علينا أن نتفق على أنّ الدافع الأفضل لسير الإنسان في حياته هو الدافع الذي يؤمّن نمو الإنسان من جميع جوانب وجوده لكي يكون سيره متكاملاً.
الإنسان الذي خُلق ذو إرادة وحرية بخلاف بقية الموجودات، والإرادة هذه تشكّل جانباً من جوانب وجوده، وهناك جانب آخر من وجوده لا يمكن تجاهله، وهو الجانب الاجتماعي، فالإنسان في وعيه وتجاربه وفي حياته وماضيه ومستقبله وفي أكله وشربه ولبسه وصحته، في كل هذا ليس الإنسان إلا جزءاً من المجموعة البشرية، ولا ينفصل عنها أبداً.
وله جانب ثالث، وهو الجانب الكوني، فالإنسان في تكوينه وبقائه هو جزء من الأرض والهواء وما يحيط به، ولا ينفك أبداً من هذا الكون.
فالكمال الحقيقي للإنسان ذي الاستقلال في الإرادة والاجتماع الكوني، الكمال الحقيقي له هو سيره ونموّه في جميع هذه الجوانب، ولو نما وتكامل في جانب واحد فقد انحرف وهنا نصل الى النقطة الأساسية، وهي أنّ الإنسان لو تحرك بدافع الجانب الأول فقط فهو أناني مغرور وليس منسجماً مع واقعه. كما أنه إذا ذاب في الجانب الاجتماعي دون رعاية شخصيته الخاصة فقد حرم المجتمع والوجود من لونه الأصيل وكفاءاته الخاصة، وهكذا: لو سار في سبيل كونيته ووجوديته على حد التعبير الحديث فقد ظلم نفسه وظلم عالمه حيث فقد ميزته الإنسانية.
فالخط المفضّل للإنسان هو الخط الخاص به الموازي لخط الآخرين في مجتمعه والمتوازي أيضاً مع سير الموجودات الأخرى، والإنسان في سيره في هذا الخط يشكّل نغمةً خاصة منسجمة مع الأنغام البشرية التي تشكّل بمجموعها المصالح الاجتماعية العالية، وإنّ اجتماعيته هي بحق وليدة الكون، والسير في هذا الخط هو سير نحو الكمال المطلق، أي: نحو الله غاية السير ودافعه ومبدأه، فهو أي الله الذي خلق الكون في حركة دائمة هادفة، وخلَق الإنسان الذي هو جزء ممتاز من الكون في طموح وتطلع دائم نحو الكمال.
فحركة الفرد الذي هو جزء من الجماعة هي حركة منسجمة مع حركة الجماعة، وفي نفس الوقت لها لون خاص وطابع مميز. وهكذا حركة الإنسان الفرد والجماعة، الإنسان الذي هو جزء من الكون هي حركة منسجمة مع حركة الكون كله، وفي نفس الوقت لها طابعها الإنساني الخاص، طابع قيادة الكون.
والنتيجة أنّ الدافع للإنسان في نموّه المتكامل يجب أن يكون منسّقاً مع دافع زملائه وأبناء مجتمعه ومع محرّك الكون كلّه نحو الحركة التي يسمّيها الدين سجوداً.
وهذا الدافع هو إيمانه بالله وبما رُسم له من الدور الكوني المنسّق مع سائر الأدوار.
وهكذا يبدو أنّ الجانب الإلهي من الإنسان هو في المكان العلي من الجوانب الثلاثة الأُوَل، أي أنّ هذا الجانب علة للجوانب الأخرى ومنسجم معها تمام الانسجام.
فلنلخص الحديث لكي نقول: إنّ العلم قد كشَف الطريق ووضَع النقاط على الحروف. والإنسان انطلق في الخط بدافع من ذاته، ولكن الدوافع كثيرة، والدافع المفضّل هو الذي يحرّكه في خطه المتكامل وفي نموّه في جميع جوانب وجوده، وهذا الدافع هو إيمانه بالله، هو دينه، والانطلاق الإنساني الصادر عن إيمانه بالله هو الانطلاق المنسجم مع المجتمع ومع الكون كلّه، لا الانطلاق الأناني الذي يسمّي القرآن دافعه بـ"النفس الأمّارة بالسوء"، ولا الانطلاق الاجتماعي مع تجاهل شخصيته، ذلك الانطلاق الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بكتابة لطيفة في الجزء الثاني من الآية الكريمة: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً﴾ [الإسراء: 29]، ولا الانطلاق الكوني الذي يكون فيه تجاهل لإنسانيته ولطابعه الخاص: الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بمقام خلافة الله في الأرض.
فتسليم القيادة الى الدين وغربلة الدوافع هو السبيل لاكتمال دور العلم واغتنام جهد العلم، وهذا الدور أي: دور القيادة وخلق الحياة الحقيقية للإنسان يذكره القرآن الكريم: ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون﴾ [الأنفال:24]. لاحظ كلمة الله يحول بين المرء وقلبه التي هي تعبير كنائي عن مصدر الحركة في الإنسان، فدعوة الرسول حسب رأي القرآن هي قيادة الله وتوجيه قلبه وحركاته وغربلة دوافعه، ثم إنّ الغاية والمنتهى هو الله.
وهكذا نصل الى آخر التحديد الأول لصلاحيات كل من الدين والعلم، فالعلم يكشف الطريق، والدين يحرّك حركة قيادية ويوجّه الدوافع المحرّكة للإنسان في حياته.
11- وهناك ناحية مهمة جداً في حقل توزيع الصلاحيات بين العلم والدين، ولكنها تتجاوز العلم وتبلغ جميع إنتاج البشر من الفلسفة والصناعة والقوانين الوضعية والأخلاق والآداب أيضاً.
هذه الناحية تقسّم الصلاحيات بصورة أوضح وأدق من التوزيع السابق المذكور في رقم 10، فالإنتاج البشري في جميع حقوله الفكرية والجسدية والعاطفية يتكامل تدريجياً ويكتمل نتيجةً لنشاط الإنسان وتجاربه وتفكيره، ونتيجةً لمعنى التكامل والتغيّر.
فالفلسفة والعلوم والصناعة والحقوق والآداب وغيرها من ثمار نشاطات البشر كلها متغيّرة ومتزلزلة لأنها متكاملة، ولهذا لا يمكن حصول الاستقرار النفسي والطمأنينة للبشر إذا استند عليها واعتمد مهما ارتفع وعيه وازدادت تجاربه وتقدّم تفكيره وإنتاجه.
إنّ الاستقرار الكامل المطلق لا يحصل بالاستناد الى غير المطلق، أي الى المتغير، بل بالاطمئنان الى المطلق ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ [الرعد:28]، وبتعبير أدق بالغيب والإيمان به فقط يمكن جعل الإنسان مستقراً بعيداً عن القلق والاضطراب.
إنّ العلوم وفروعها هي مخلوقة للإنسان، ولا يمكن لها أن تصبح خالقة للإنسان، فمهما تقدمت وازدهرت وتفاعلت مع الإنسان لا يمكن للإنسان الذي صنع العلم والفلسفة والحقوق والأخلاق أن يسجد أمامها بعد الصنع، ولا أن يركن إليها ويعبدها من دون الله، فالعلم ونظائره وسائل وآلات بيد الإنسان: تبدأ من الإنسان وتنبع من الإنسان وتستند على الإنسان.
يبدأ الإنسان من الله والدين والغَيب، ويعتمد الإنسان على الله، وهذا الاعتماد الذي يبدو ضرورياً في حياة الإنسان لكي ينجو من القلق والاضطراب، هذا الاعتماد يتم حيث أنّ المطلق هو صانع الإنسان، وحيث أنّ الغيب لا المحسوس هو المتغير النسبي، ويدخل الإنسان المعتمد على الله معترك الحياة بثقة كاملة، حيث لا يفارقه سنده أبداً ولا يتركه في حال ولا آن، وهكذا يتحول الإنسان الى طاقة كبيرة تتحرك دون وقوف وتُنتج دون تردد في الخط السليم.
وحينما اتضح المكان الثابت للدين في حياة الإنسان، ذلك المكان الذي لا يمكن للعلم ولا للفلسفة ولا للحقوق ولا للأخلاق أن تحل محله مهما عظم شأنها ومهما تقدمت، حينما اتضح ذلك نكتشف حقيقة أخرى: وهي أنّ حركة الإنسان بصورة عامة غيبية الدافع وإلهية الباعث، ولكنها في داخل هذا الإطار الغيبي إنسانية الصنع.
وهكذا نرى أنّ الدين لا يكتفي بتعبئة الإنسان وتحضيره للانطلاق، بل يحاول صيانة الإنتاج البشري في حقل العلم ونظائره في إطار مقدس، فيعطيه القداسة والاحترام دون أن يجعل منه مطلقاً جديداً وإلهاً يُعبد وكاملاً يُحمد. وهذا الإطار المقدس حول الإنتاج البشري يبدو كالخطوط العريضة في حياة الإنسان، ويتجاوز تأثيره عن التنشيط والتقديس، بل يهيئ أيضاً فضاءً لا نهائياً أمام الإنسان يتناسب مع طموحه اللانهائي ومع حركته الدائمة.
وهذه التهيئة تجمع بين الاكتفاء الذاتي والارتضاء النفسي وبين الحركة والسعي، وتجعل التلاقي بين الثبات والتغيّر، بين الإطلاق والنسبية.
التلاقي:
12- ونجد بين الدين والعلم، على الرغم من تحديد الصلاحيات تلاقياً عجيباً وتناجياً دقيقاً نعتبره لطفاً على حد تعبير الفقهاء، ونعدّه توجيهاً ومساعدة من الدين للعلم، وفي نفس الوقت هو تأييد وشهادة حق من العلم للدين. فلنذكر بعض الشواهد والأمثلة، ونكتفي بذكر مثال واحد في كل من حقول الثقافة والعقيدة والتشريع والحقوق والاجتماع والعلم.
أولاً- في حقل الثقافة، يقول الدين ﴿ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس﴾ [الحج: 18]. ويقول أيضاً: ﴿يسبّح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم﴾ [الجمعة:1]، ويقول أيضاً: ﴿ألم تر أن الله يسبّح له من في السموات والأرض والطير صافات كلٌ قد علِم صلاته وتسبيحه﴾ [النور: 41].
وهذه النظرة العامة الى الكون تعطي صورة خاصة عن الوجود. فالكون على هذا التفسير محراب لسجود جميع الموجودات وتسبيحها وصلاتها، وهذا التفسير يفرض الرؤية الخاصة للكون المتحرك دائماً، الواحد فعلاً، المنظّم بدقة المتجه اتجاهاً واحداً نحو الله.
وهذا تعبير آخر عما يكتشفه العلم وتعترف به الفلسفة من أنّ كل جزء من أجزاء الكون يؤدي دوره بكل دقة وتنظيم، ومن أنّ الكون مجموعة يرتبط كل جزء منه بأجزائه الأخرى ارتباطاً في التكوين والبقاء والعمل والتفاعل، فالكون موجود واحد متحرك منظّم، والنتائج التربوية لهذا التفسير الكوني غير خاف على البصير، حيث يجد الإنسان نفسه أمام عالم كله حركة وحياة وتنظيم واتجاه نحو الله.
ويزيد في هذه النتيجة التربوية تعبير: "من في الأرض" الذي يقصد الجانب الأرضي الجسماني من الإنسان والتأكيد على سجوده، حيث أنّ الإنسان صاحب الإرادة يجد الانسجام مع نفسه ويقتضي الحركة والحياة والتنظيم والاتجاه نحو الله.
ثانياً: في حقل العقيدة يعتبر الدين عقيدة التوحيد كمال للإنسان وتجنيد للطاقة البشرية نحو اتجاه واحد، مما يخلق قوة خلاّقة عظيمة، ويُعتبر الشرك وهو الإيمان بتعدد الآلهة تجزئة للإنسان وتقسيمأ لطاقاته وتحطيماً لشخصيته.
والعلوم الإنسانية، وعلم النفس بالذات يعرف هذه الحقيقة ويدرس النتائج الإيجابية والسلبية في كل من التوحيد والشرك في الحقل الإنساني.
ثالثاً: وفي حقل التشريع والاعتماد الديني على أسلوب الحلال والحرام وتصنيف الموجودات يقف العلم لكي يؤيد بصراحة أخطار بعض المحرمات ونتائج المباحات ولزوم الواجبات، ولا ينفي بصورة قاطعة صحة هذا التقسيم في الأمور المجهولة له.
وتأييد الفكر البشري لموقف الدين في اعتماد أسلوب الحرام والحلال يتجاوز هذا الحد ويصل الى بحث أوسع وأشمل. حيث أنّ خضوع الإنسان المطلق لرغباته وحاجاته يؤدي الى ذوبان شخصيته في الطبيعة وإلى القيادة وتبعيته لها، لكنه إذا اتخذ ميزاناً أرفع من الرغبة أو الحاجة وقاس كل موقف برضى الله أو عدم رضاه فلبّى حاجاته إذا انطبقت على مرضاة الله، فقد ترفّع عن الطبيعة وتمكن من القيام بدور القيادة للطبيعة والكون، فيكون فاعلاً في العالم لا منفعلاً، قائداً لا منقاداً. وهكذا نجد الحلال والحرام مدارج لصعود الإنسان وعدم انغماسه في العالم ولعدم تحوله الى جزء حقير من العالم.
رابعاً: في حقل الحقوق، هذا الحقل الوسيع، نكتفي بالإشارة الى أنّ الفقه الإسلامي أدى دوراً كبيراً في تنظيم المجتمعات على أساس علمي متين، وكان مصدر إلهام لكثير من القوانين الوضعية في العالم، وهو الآن ينافس الفقه المعاصر ويفرض نفسه في كثير من المواد على علم الحقوق في الأحوال الشخصية وفي القوانين المدنية وحتى في المبادئ العامة والأصول الموضوعية.
خامساً: في حقل الاجتماع، نجد المفهوم المعاصر العلمي متجلياً في المبادئ الدينية، ولأجل المثال نقرأ آية الإنفاق التي تأمر بالانفاق وتعقبه فوراً بقولها: ﴿ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة﴾ [البقرة: 195]، وفي آية قرآنية أخرى: ﴿وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تُظلمون﴾ [البقرة: 272]
فمفهوم المجتمع وتأثير تنشـيط الطبقـات الضعيفة وإشراكها في بناء المجتمع الذي يعود تطوره وازدهاره بالنفع للجميع وللذي ينفق، ثم أخطار الإمساك عن الإنفاق ونتائجه المهلكة من الاضطرابات والتعقيدات، هذه المعاني العلمية الحديثة تُقرأ من مطاوي الأحكام الدينية.
وأخيراً، في حقل العلوم، ذلك الحقل الذي يهتم به كتابنا الحاضر، فقد بحَثَ عدد كبير من الباحثين في التقاء الدين والعلوم الطبيعية، ولهذا فسوف أنقل مثالاً تاريخياً للالتقاء الديني العلمي ، إنك ترى القرآن يتحدث عن فراعنة مصر القدامى وكأنه يحيط بتاريخهم العلمي الدقيق بالرغم من أنّ وسيلة دراسة تاريخ الفراعنة في أيام محمد (ص) ومئات السنين قبله وبعده ما توفرت لأحد من المؤرخين، وكان اتصالهم بذلك التاريخ المدفون في رمال الصحراء عن طريق التوراة أو الأساطير الشائعة.
فالقرآن مثلاً يؤكد أنّ جسد الفرعون المعاصر لموسى عليه السلام بقي في البحر الأحمر خلافاً لنقل التوراة وخلافاً لنقل الشائعات، فيقول القرآن .. ﴿فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية﴾ [يونس، 92]، ويشير بذلك الى نجاة بدن فرعون، وبذلك يلتقي بصورة حتمية مع ما اكتُشف من تاريخ الفراعنة وأجسادهم، ذلك التاريخ الذي لا يسجّل أبداً اختفاء فرعون المعاصر للنبي موسى عليه السلام.
وكذلك يسمّي القرآن مستشار الحاكم المعاصر ليوسف (ع) في مصر، يسمّيه "العزيز"، وبهذا الموقف يعبّر بأدق ما يمكن أن يعبّر عن كلمة putifaro التي يترجمها الأب vigoureux بعد بحث دقيق بـ"عزيز الإله شمس"، وقد اختار القرآن الكريم تعويض "أل" عن المضاف إليه، فقال: "العزيز" انسجاماً مع روح التوحيد.
هذا الكتاب:
وفي سلسلة هذا التلاقي نجد هذا الكتاب أدق محاولة قرأت وسمعت طيلة مطالعاتي، ولهذا فقد أكبرت واحترمت هذا الإنتاج السخي من مؤلفه الشاب الباحث الأستاذ يوسف مروة، ودعوت له بالتوفيق، وسوف أضع كتابه دائماً بين الكتب التي هي أمامي وفي عقلي وقلبي، حيث أنّ أجواء الدعوة الدينية في يومنا العصيب هذا بحاجة الى هذا المنطق العلمي العزيز، فلله درّه وعليه أجره، ولا أشك أنه يكسب بذلك شرف نيل رضا نبيّه العظيم، فهنيئاً له، ودعاء للمزيد من توفيقه. ويجب عليّ صيانةً للحق وأداءً لمسؤولية التقديم أن أذكر بعض ما خطر لي بالبال من النقد على مواضيع الكتاب:
1- ما كنت أرتضي للأخ يوسف مروة أن يساير الدكتور العظم في تحميل علماء الدين مسؤولية عدم تفسير النصوص القرآنية والسنن المطهرة على ضوء العلوم الحديثة، حيث أنّ الاطلاع على ظروف علماء الدين الإسلامي يكشف أنهم بذلوا أضعاف إمكاناتهم في سبيل هذه الغاية الشريفة وقدّموا عشرات الكتب بهذا الصدد، حتى أنّ بعضهم ألّفوا كتباً من خواص العلوم التجريبية زائداً على تأليف كتب تحاول عرض النصوص والأحكام الدينية بصورة علمية دقيقة في حقول الفلسفة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والحقوق وغيرها، ولكن القيام بهذا الدور ليس واجباً أصلياً على الفقهاء والمفسرين بمقدار ما هو واجب أمثال الأستاذ يوسف مروة من المتخرجين من معاهد العلوم العليا والمطلعين على القرآن الكريم والسنّة المطهّرة، وقد بدأ هؤلاء بالفعل بالقيام بواجبهم الديني، وأخص هنا بالذكر محاولة الأستاذ أحمد أمين الموفقة في كتابه "التكامل في الإسلام" المطبوع في النجف.
2- يحاول كتابنا هذا تفسير الأمور المجردة والروح والأيام الربوبية تفسيراً مادياً، حيث يحسب سرعة الحركة التي تفوق سرعة النور والتي تستخرج من الآيات القرآنية التي تجعل يوماً عند الله كألف أو خمسين ألف سنة، يحسب هذه السرعة ثم يؤكد أنّ لمثل هذه الحركة آثارها الغريبة التي لا تشبه الآثار المادية للأجسام والطاقات، وهذا التفسير وإن كان ينطبق على رأي كبار المحدّثين من علماء الشيعة مثل المحقق محمد باقر المجلسي، ولكنه لا ينسجم مع رأي جميع الفلاسفة المسلمين تقريباً ولا مع آراء أكثر علماء الشريعة، فإنهم يعتبرون التجرد صفة تختلف بصورة أساسية عن صفة المادية، فالحركة والتغير والتدرّج والتكامل والبداية والنهاية والمكان والزمان كلها من آثار المادة، ولا تعرض على المتجرّد كالروح وأمثالها من المجرّدات.
3- كنت أتمنى أن يُكثر المؤلف الكريم من توضيح نقطة أساسية هي بمثابة تحديد خط عام للغاية من مثل هذا الكتاب من الإنتاج الفكري العلمي الديني. وهذه النقطة هي أنّ القرآن الكريم كتاب دين وهداية وليس من مهمته الأبحاث العلمية وذكر القوانين التجريبية أو وضع أسس للإنتاج الثقافي البشري. فالقرآن الكريم يحاول أن يضع الإنسان الكامل الذي هو مبدأ العلوم وغايتها ويتقن هذه المحاولة بأحكامه الفردية والاجتماعية وتعاليمه المقدسة.
وفي بعض الموارد يأتي الكتاب العزيز (القرآن) بصدد ذكر الأمثال تكثيراً للعبرة وتأكيداً للتربية، وهذه الأمثال تتناول الظواهر الكونية أو الأحداث الطبيعية أو زوايا تاريخية. ويمتاز القرآن الكريم بأنّ الأمثال هذه لا تتناقض مع العلوم الثابتة وإن كان ذكرها في القرآن يأتي عفوياً، فالقرآن يقول: ﴿وترى الجبال تحسبها جامدة﴾ [النحل: 88] ، ولكنه يستخلص من هذا القول نتيجة تربوية، ويضيف: ﴿صنع الله الذي أتقن كل شيء﴾ [النحل: 88]، ونحن نقدر أن نقول بكل ثقة واعتزاز أنّ جميع الأمثال القرآنية مؤيَّدة من العلم الحديث دون استثناء، وهذا يدل على أن ألفاظ القرآن الكريم وحي إلهي مثل معانيها وليست من تأليف شخص يتحدد مستوى ثقافته بعصره مهما ارتفع هذا المستوى.
أعود لأؤكد أنّ تناول القرآن لهذه المباحث هو استطراد ذكر وأمثال، وليس من مهمة القرآن وضع الأسس ونقل القوانين العلمية شأن الكتب العلمية.
4- أما مطالبة د. العظم إياي أن أبحث حول التحليل العلمي عن تطورات النطفة وتطبيق المراحل المذكورة في الآية القرآنية الكريمة على الآراء العلمية الحديثة، إنّ مطالبته إياي هذا التحليل في محاضرة كانت مخصصة لعرض زاوية من الرأي الإسلامي حول الإنسان وهذه الزاوية هي كرامة الإنسان، أقول إنّ هذه المطالبة قد تبدو غريبة وفيها خروج عن الموضوع الذي لا يمكن معالجته إطلاقاً في دراسات نظرية بل في أبحاث تجريبية لم تكن ضمن موضوع المحاضرة.
source