الإمام الحسين مصباح الهدى

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

يتناول الإمام الصدر في هذه المحاضرة العالم الحسيني وما يحويه من مصابيح لا زالت حتى وقتنا الراهن تضيء طُرُق الأمة للهداية والعِبرة. وبمناسبة ذكرى أربعين استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء نستعرض النصّ الكامل:

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، عليك مني سلام الله أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منا لزيارتك. السلام على الحسين وعلى عليّ ابن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حسينٌ مصباح الهدى وسفينة النجاة. أما سفينة النجاة، فالحسين من أهل البيت الذين هم أحد الثقلين اللذين تركهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمته قائلًا: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
ولكن للحسين اختصاص يريد أن يشبّه الطريق، طريق الهداية، بأنه طريق مظلم ويحتاج إلى سراج ونور، فالحسين ذلك السراج وذلك النور.
معناه واضح، ولكن، أحاول في هذا اليوم المبارك الذي يجمعنا بأجسادنا وبقلوبنا في هذا المكان الرحب الضيق بوجود المخلصين من موالي الحسين (عليه السلام)، يتحملون مشقة طول المجلس وضيق المكان لكي يشتركوا في تعظيم هذه الشعيرة المباركة. أغتنم هذه الفرصة لكي أطبق هذا المعنى الواضح على حياتنا العادية، لكي نرى ما معنى "مصباحية" الحسين للهدى ومعنى إنارة الحسين للطريق.
أذكر لكم مقدمة صغيرة: الإنسان بحسب طبعه يتعود ويتعمق في سِيَره. فالعمل الصالح أو العمل الطالح حينما يصدر من الإنسان لأول مرة يكون صعبًا ومنافيًا لعادته، يأخذ جهدًا ويحمّل صعوبة، ولكن نفس العمل للمرة الثانية يكون أسهل، وللمرة الثالثة يكون أسهل بكثير. وهكذا حتى يتعود الناس على هذا العمل الصالح أو الطالح، وحينئذ يصبح جزءًا من حياة الإنسان من الصعب تركه.
المثل العادي، السيارة حينما تنزل من مكان مرتفع... فأنتم تعلمون أن السيارة حينما تبدأ بالنزول من المكان المرتفع، في اللحظات الأولى تمشي بهدوء وإيقافها سهل، ولكن كلّما مشت وانطلقت تسرع وتقوى على السير والمشي والإسراع، يكون إيقافها أصعب بكثير حتى تصل السيارة نتيجة لمواصلة السير وكثرة السرعة إلى درجة من المستحيل إيقافها. وإذا حاول السائق أن يوقفها تتدهور وتشكل الخطر الكبير كما تعلمون، ولعلكم مجربين هذه الحالة.
هذا المثل الصغير الواضح يعطينا فكرة عن كيفية حياتنا العادية، فالإنسان أمام أي عمل من الأعمال وأمام أي خير أو شر، حينما يرتكب للمرة الأولى هذا العمل يجده صعبًا عليه، ولكن بالتدريج يسهل ويصبح جزءًا من حياته، في عاداته. لعل الكثير منا حينما بدأ لأول مرة بشرب الدخان كان يتثاقل من شربه ويكرهه ويشعر بالمرارة، ولكن بالتدريج أصبح هذا الموجود المضرّ الخطر المرّ جزءًا لا ينفك من عاداتنا ومن حياتنا.
العادة –والتعود- أمر طبيعي ملموس في حياة الإنسان، ومثال هندسي في الموضوع، كما يقولون أن الإنسان حينما يسلك في خط، إذا انحرف بمقدار مقدار قليل، بمقدار خطوة من هذا الخط المستقيم، طبعًا ينحرف. يبتعد في اللحظات الأولى خطوات عن الطريق المستقيم الصحيح، ولكن كلما سلك الخط المنحرف يبتعد عن الخط المستقيم أكثر. أليس هذا مثلًا واضحًا؟
الإنسان حينما يسلك إذا انحرف في اللحظات الأولى، بُعده عن الطريق الصحيح كم خطوة؟ في الدقائق الأولى وفي الساعة الأولى افرض كيلومترًا أو أربعة أو خمسة أو ستة أو عشرين، ولكن إذا سلك طريق الانحراف مدة عشر ساعات أو مدة النهار يصبح بعيدًا عن الطريق الصحيح مسافات هائلة، وحينئذٍ من الصعب جدًا عودته إلى الطريق الصحيح.
هذه طبيعة الحياة التي نعيشها، كل واحد منا يعيشها. هنا يأتي دور الهداية للواعظ وللموجه وللخطيب. فلعل الكثير منّا حينما يرتكبون بعض الأعمال وبعض المعاصي، الكثير منا حينما يقف أمام حق صغير أو يتنكر لحقّ صغير يجد نفسه غير مذنب. لماذا؟ لأنه يقول ما ذنبي؟ أنا عصيتُ معصية صغيرة، أنا حرمتُ إنسانًا من حقّه الذي يعادل ليرة مثلًا، أنا ظلمتُ فلانًا بمسبة أو بإهانة صغيرة، ولكن حينما يمتد هذا العمل ويتفاعل مع الإنسان ويستمر الإنسان في هذا الخطّ، إذا انتبهنا إلى الأصلي والأولي نجد الخطورة والصعوبة البالغتين.
اليوم، أنا أتنكر لحق صغير. مثلًا، لفلان على ذمتي ليرة أنكرها، لفلان عندي وفي أرضي نصف دونم أو عشرة أمتار أنكرها، وأقول هذا شيء بسيط. ولكن هذا الشيء البسيط، حينما حصلتُ عليه يعني حينما ارتكبتُ هذا الخطأ، هذا الانحراف الجزئي، في اللحظة التالية يصبح ارتكاب ظلم أعظم أسهل، يعني مثل السيارة التي تسرع كلّما مشت. أنا في المرة الأولى أخذت عشرة أمتار من أرض الغير، المرة الثانية آخذ خمسة عشر مترًا، وفي المرة الثالثة دونمًا أو هكتارًا، وهكذا أنفعل بعادتي وبسيري حتى ما شاء الله.
أنا حينما أرتكب بعض هذه المعاصي لا أنتبه إلى نتائجها وإلى أين سوف أصل. ولكن الموجِّه العاقل مصباح الهدى يتمكن أن يرى نتيجة هذا الخطّ، وأن هذا الانحراف الذي بدأ اليوم بخطوة أو بعشرة أمتار أو بدونم من الأرض، غدًا يصبح مئات وملايين وقتل وسفك وأشياء كثيرة. هنا يأتي دور القائد أو دور الموجِّه أو دور مصباح الهدى.
وهكذا الظلم والجريمة واغتصاب حق الآخرين ليس بالعمل الإيجابي. ليس فقط بأن آخذ مال الناس من دون حقّ وآكل أموال الناس بالباطل، ليس فقط بضرب أحد أو بإهانة أحد أو بإنكار أحد، ليس فقط بشهادة الزور، ليس فقط بإعطاء الشيء لغير المستحق، بل الظلم أيضًا يحصل بالسكوت عن الحقّ، كما سمعتم: الساكت عن الحق شيطان أخرس.
الذي يقف أمام الظلم وبسكوته يترك المجال للظالم أن يغلب، هذا في الحقيقة نوع آخر من تأييد الظلم ومن مسايرة الظالم ومن خذلان المظلوم.
هذان النوعان الإيجابي والسلبي في حياة الأمم ربما لا يبرزان بشكلٍ واضح، ولكن هناك أحداث تكشف هذه الحقيقة بشكلٍ واضح.
نرجع إلى واقعة كربلاء وخروج الحسين (سلام الله عليه) مصباح الهدى حتى نرى كيف أنار الحسين الطريق حتى عرف الناس حقيقتهم هم. أنتم تعرفون أن الحسين قُتِل، وأهل بيته سُبيوا، وأصحابه وأولاده وإخوته قُتلوا... أنتم تعلمون أنه ارتُكِبَتْ في كربلاء أفظع جريمة وأشد مصيبة، وأشد ما يمكن أن يرتكبه الظالم. ظلم يوم كربلاء لا يعادله ظلم. ولكن من عمله؟ أي شخص ارتكب هذا الظلم؟
هناك من أَمَر وهو يزيد، وهناك من كان أميرًا وقائدًا وهو ابن زياد، وهناك من قاد جيشًا وجاء بهم إلى كربلاء وهو عمر بن سعد، وهناك من نفَّذ ورمى بالسهم أو بالحجارة أو قتل الحسين مباشرة وهو الشمر وأنصاره وجماعة كربلاء.
ولكن السؤال، هل كان من الممكن أن يُقتل الحسين بالشكل الذي قُتِل فيه ويبقى في الميدان ابن زياد ويزيد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن، وكم شخص من هذا النوع، لو كانوا هؤلاء عشرين أو خمسين، كانوا يتمكنون أن يرتكبوا هذه الجريمة؟ حتمًا لا.
فإذًا، كيف تمكنوا من ارتكاب هذه الجريمة؟ تمكنوا من أمر الآمر وتنفيذ المنفِّذ وتأييد المؤيد وسكوت الساكت. يعني الأمة نتمكن أن نقول إنها قد أجمعت على قتل الحسين، الأمة بأجمعها، بقولها وفعلها، بسكوتها ورضاها، بخوفها وسمعها قد أجمعت على واقعة كربلاء، إلا النادر منهم.
هذه الحقيقة متى انكشفت للناس؟ بعد وقوع الواقعة، لأن كل فرد من أفراد الكوفة... عدد أفراد الكوفة، كم كان؟ مئات الألوف، لأن الكوفة كانت من كبرى عواصم العالم الإسلامي في وقتها. هؤلاء المئات من الألوف، كل واحد منهم فكَّر أنه لو كان هو لا يسكت ويخرج لنصرة الحسين، لما كان الحسين يُقتل لأن المجموعة تتكون من الأفراد، كما أن ثلاثين شخصًا في ليلة عاشوراء التحقوا بصفوف الحسين، لو كان ألف شخص أو خمسة آلاف شخص أو أربعة آلاف شخص يلتحقون بصفوف الحسين لما كان ما كان.
فإذًا، الحسين (سلام الله عليه) في الحقيقة أخذ المجهر بدمه، يعني حينما قُتِل... أخذ المجهر ووضعه أمام أعين الناس ونبّههم لمسؤولياتهم ولنتائج أعمالهم، بأنه أنتم اليوم تسكتون، أو تأخذون درهمًا، أو تجلسون في بيوتكم، أو كلّ واحد منكم يأخذ ابنه الخارج إلى الشارع خوفًا من القتل ويعيده إلى البيت. ولكن ما هي نتيجة هذه الأعمال؟ نتيجة هذه الأعمال في نهاية الطريق قتل الحسين (سلام الله عليه).
الحسين قُتِل، وقَتْل الحسين ليس واقعة بنت ساعتها، وإنما هي نتيجة حتمية من سلسلة أحداث بدأت بعد رسول الله، من سلسلة أحداث ظهرت منذ أن حكم معاوية وأدت إلى مقتل الحسين بن عليّ. الانحراف في أول الخط كان انحرافًا جزئيًا، كان سكوتًا، أو تخوفًا، أو أخذ دينار، أو أخذ درهم، أو أخذ عشرة أو خمسة عشر ليرة، أو أخذ متر من الأرض... الجريمة بدأت هكذا، ولكن انطلقت وأسرعت وتكاملت وتجسّدت، وكثُر الانحراف حتى بلغ الأمر إلى درجة قُتِل ابن بنت رسول الله بهذا الشكل الفجيع ولا من متكلم، والكلّ سكتوا.
فإذًا، الحسين كشف الحقيقة، يعني قال: أيها الظالم لحق الناس قيد شعرة، أمامك طريق سوف تصل أن تظلم الناس في حياتهم، وأعراضهم ودينهم.
أيها المنحرف عن الطريق خطوة، سوف تصل إلى مكان ترضى بقتل ابن بنت رسول الله أو تساهم في قتله.
أيّها الشخص الذي لا تبالي بما جرى أمامك وتسكت عن الحق المضيع أمامك، أنت أمامك مستقبل يُهتك [فيه] الأعراض والحرمات ويُباح الدماء وأنت ترضى أو تنفِّذ وتسكت.
ليس هناك من تفاوت ولا فرق ولا طريق معتدل: إما طريق الهداية وإما طرق الضلال وما أكثرها!
فالذي يجلس في مجلس الحسين يفكِّر لحظة، لعل الكثير منا يقول: يا ليتنا كنا معك فنفوز فوزًا عظيما. كثيرون منا يقولون إنه لو كنّا نحن في كربلاء لكنا ننصر الحسين (عليه السلام) من دون شك، أليس حضوركم في هذا المكان هذا معناه بأننا لو كنا في كربلاء لكنا ننصر الحسين! ولكن، بينك وبين الله، إذا تريد أن تحكم على الذين قتلوا الحسين يجب أن تنظر إلى الظروف الموضوعية التي أحيطت بالجماعة، وأوصلتها إلى هذه الدرجات. ذنب الأمة في قتل الحسين ليس فقط في أن يخرج أحدهم إلى كربلاء فيرمي سهمًا، ويستعمل سيفًا، ويضرب بحجارة أو يشترك في قتله. لا، ليس هؤلاء فقط هم المذنبون والمسؤولون. الأم التي كانت في الكوفة أو في الطريق ووجدت وسمعت بأن الحسين خرج، ثم فتحت الباب، وقالت لابنها: ادْخل في البيت حتى لا تقع في فتنة، فالفتنة آتية فيجب عليك أن تتحرز، هذه الأم أيضًا شريكة في قتل الحسين.
هذه الحقيقة أليست واضحة بعد قتل الحسين؟! كيف هذا؟
أنتم الآن بكل سهولة تقولون لو كان الحسين أمامنا كنا ندافع عنه. ما كنا نسمح للناس أن يقتلوه. لماذا هذه الكلمة ألم يقولوها أيام الحسين؟ ألم يكن واجبًا عليهم أن يحولوا دون استشهاد الحسين؟ هذا النفر القليل من صحابة الحسين الذين حاربوا قبل الحسين، كل واحد منهم كان يعرف أنه سوف ينتهي ويموت ويبقى الحسين بين يدي الأعداء. كلهم كانوا يعرفون، لكن لماذا كانوا يتسابقون على جهاد الأنفس؟ لأي سبب؟ هؤلاء كان لهم أمل واحد بأن يتأخر موت الحسين واستشهاد الحسين خمس دقائق، يعني كانوا يفدون خمس دقائق من حياة الحسين بكل وجودهم وحياتهم. لماذا؟ لأنهم كانوا يفتكرون لعل قتل هؤلاء، لعلّ استشهاد هؤلاء يؤثِّر في تلك القلوب القاسية، فقسم منهم يرجع عن غيِّه، ويصبح الحسين منتصرًا في المعركة. يفتكرون بهذا الشكل أو بشكل آخر. على كل حال، كل واحد كان يؤدي دوره في هذا السبيل.
ونحن حينما ننظر إلى هذه اللوحة، إلى هذا السراج المنير الذي أضاءه الحسين أمام أمته في عصره وفي كل العصور، ننتبه إلى هذه الحقيقة؛ لأن الحق صغيره حق وكبيره حق، الظلم صغيره وكبيره، الطريق المنحرف أوله وآخره، كل هؤلاء امتداد لشيء واحد. الحق الصغير ينمو ويكبر: ضرب كف على وجه اليتيم يؤدي إلى قتل الحسين؛ أخذ ذرة من مال الحرام يؤدي إلى موقف ابن سعد بأخذ ملك الري والخروج لقتل الحسين؛ هتك حرمة امرأة محترمة باللسان وبالكلام وبالنظر يؤدي إلى هتك الحرمات وسبي النساء.
هذه الحقيقة التي تنكشف أمامنا أيها الإخوان، ولا يمكن ولا يمكن أن الإنسان يكون بعد انتهاء مرحلة من الانحراف، تراجعه يكون أسهل من أول يوم، اليوم الأول أسهل من اليوم الثاني، واليوم الثاني أسهل من اليوم الثالث وهكذا...
وفي هذه المناسبة أحب أن أرجع في عصرنا هذا، لأننا سمعنا كلمات حول ما جرى في معركتنا الأخيرة مع اليهود لأقول هذه الكلمة. حسبما أفهم، أن واقعة الخامس من حزيران ما كانت نكسة، ولا كانت هزيمة، ولا كانت تضافر القوى ولا كانت خيانة. واقعة الخامس حزيران كانت انكشاف لواقع هذه الأمة. تبين واقعنا، خنّا، خان واحد منا، استعنا بالأجنبي، استعان واحد منّا، هربنا، هرب واحد منّا، اختلفنا، اختلف جماعة منّا. ما كنّا متعودين على الحرب، نحن ما كنّا متعودين... لا أحد فرض علينا شيئًا. نحن السبب الأصيل الأول والأخير لهذه الواقعة، هو السير الطبيعي لحياتنا العادية. الآن انظر إلى نفسك يا أخي وانظر إلى حياتك العادية، اجعل نفسك محل الذين كانوا في المعركة، هلّا تجد أن هذا السير الذي نحن نمشيه، هو بطبيعته، لو حصلت واقعة ثانية لظهرت نفس النتائج؟
نحن على أي أساس نعتقد أننا تراجعنا؟ نحن على أي أساس نعتقد أننا خُدعنا؟ من المخدوع إلا نحن؟ من الخائن إلا نحن؟ إلا أبناء هذه الأمة؟ لماذا نحمّل المسؤولية للآخرين؟ لماذا نحمِّل المسؤولية للزعماء والقادة؟
كل فردٍ من أفراد هذه الأمة يستأهل المجد والعز، كل فردٍ من أبناء هذه الأمة يستحق أن يكون منتصرًا في هذا العصر، عصر العلم والتضحية والإخلاص. نحن سيرنا من الأساس مثل المنحرف الذي يبدأ خطوة منحرفة ثم نستمرّ في الخطّ فنبتعد، في هذه الأثناء وقعت واقعة انكشفنا. هذا واقعنا، ولا يمكن أن نرجع إلّا إذا غيّرنا واقعنا: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد، 11].
أيّها الإخوة،
انظروا في الأمور، صغارها قبل كبارها، انظروا إلى مواقفي ومواقفك في الأمور المحلية قبل الأمور الإقليمية، وفي الأمور الإقليمية قبل الأمور العامة والدولية. انظر نفسك في قريتك، في بيتك، في حيّك، في بلدك، في وطنك، ما هو موقفك؟ موقفك موقف سامٍ، موقف التضحية... هلّا تُدخل المصالح الخاصة في الصغيرة؟ هلّا ندخل...
أضمُّ نفسي إليكم وأعتذر منكم وأكلمكم باسم الحسين حتى لا تزعلوا، هل نحن لا نفضل المصالح الصغيرة ونلعب بهذه المصالح الصغيرة مع مقدرات الأمة والمواقف العامة؟ فإذًا، ما دام نحن في الخطّ الأول، وفي الموقف الصغير الداخلي هذا موقفنا، فكيف موقفنا بالمواقف العامة؟
المواقف العامة امتداد لهذه المواقف الخاصة، والانحراف الكلّي سير للانحراف الجزئي، وقتل الحسين امتداد لضرب كف للناس. كله مثل بعض، الباطل باطل والحقّ حقّ.
متى ننتصر على إسرائيل؟ وعلى صانع إسرائيل؟ حينما يكون ولينا الله. حينما نحن، كل واحد منا لا تقول أنا، لا تقول رئيسًا. لا، كل فرد من أفرادنا، كل واحد من أفراد الأمة إذا كان بالفعل هو أسمى من غاياته الخاصة ومنافعه الجزئية الصغيرة، يعني إذا تمكنت أنك في محاربتك مع نفسك ومع مصالحك في موقف صغير تنتصر على نفسك وعلى شهواتك وعلى الشيطان، فَثِقْ بأنك تنتصر في معركتك الكبرى على جنود الشيطان في هذه الأيام وفي هذا العصر، هذا وذاك شيء واحد.
فإذًا، يجب أن نبدأ من جديد، يجب أن نكوّن أنفسنا من جديد. بينك وبين الله، أي شيء في حياتنا ينجو من مصالحنا الخاصة، في أي شيء من حياتنا لا نُدخل منافعنا الخاصة: في سلامنا وكلامنا وبيعنا وشرائنا، في زياراتنا، في عيدنا، في كل شيء نحن ننظر إلى المصلحة الخاصة، يعني: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية، 23].
طبعًا حين يكون الصنم الأكبر هو أنا، كل شخص صنمه يكون شخصه ومصالحه هو الذي يسيّره في كل زمان وكل مكان وكل موقف، لا خير في هذه الأمة.
متى نتمكن أن نغيِّر واقع الأمة؟
حينما نغيِّر أنفسنا، حينما نجعل إلهنا الله لا هوانا، حينما تصطدم مصلحة أخي مع الحق، أفضِّل الحق عليه؛ إذا اصطدمت مصلحتي مع الحقّ، أفضِّل الحق على نفسي؛ إذا اصطدمت مصلحتنا مع مصلحة غيرنا، وكان الحق معهم نسلك سبيل الحق، ونصبح جزءًا من بحار الحق... هذا الصغير إذا قاد إلى موقف يكون لنا الكبير.
فإذًا، على هذا الأساس، نحن بإمكاننا أن نحاسب أنفسنا من اليوم في كل مواقفنا، في كل أعمالنا، في بيعنا وشرائنا، في اتصالاتنا مع الناس، تصور ما هذا الواقع الذي نحن نعيش فيه! أنا إذا اختلفت مع أخي أختلف، وإذا اختلفنا مع شخص درجة أبعد، تتحكم الأخوّة. فالأخوّة نفضلها على الحق؛ إذا اختلفنا نحن وأولاد عمنا مع الآخرين، العائلية تتحكم في الموضوع، وهكذا وهكذا. أغطية... وتوالد الأنا تتحكم فينا في كل مجال وفي كل ميدان. هذا الخط نهايته إلى قتل الحسين، نهايته إلى هذه الوقائع وأشد وأشد، ولا تفتكر أنه سيكون أشد؟ ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم، 41]. هذا الذي ذقناه بعض الذي عملنا، وإذا ما رجعنا نذوق أكثر وأكثر. إذا ما أصلحنا شأننا على من تعتمد أيها الإنسان؟ كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته. كل إنسان في حقله، في بيته، بين زبائنه، بين أصدقائه، بين رفقائه، بين جماعته، في مدرسته، في مكانه، في مؤسسته، إذا كان طريقه إلى الله ومن الله هذا معناه تغيير، وإلا على أي أساس نعتمد؟ على السلاح؟
ذكرت عدة مناسبات هذه الكلمة وأريد أن أذكِّر في هذا اليوم، يوم عاشوراء: مئة مليون شخص، مئات الألوف من الأسلحة، عشرات من القادات القادة العسكريين وغير العسكريين هذا واقعهم... خمسمئة أو ستمئة شابًا فدائيًا كيف هزّوا هذه البلاد وهذه المناطق. كم واحد؟ كل واحد منهم يعادل مئة مليون، كما سمعتم ليس الحق بالعدد. شخص واحد، كل واحد منا ليس أقل منهم، كلّ فرد منا ليس أقل منهم لا قوةً ولا جسدًا ولا تفكيرًا ولا صحةً؛ ولهذا، نحن هنا، ومن منبر الحسين نحييهم ونتمنى لهم التوفيق وزيادة العدد والعدة والانتصار، أخذ الله بيدهم ووفقهم لهذا الخطّ الذي هو الخطّ الحسيني.
فإذًا، البدء يجب أن يكون منا ونحن لسنا فقراء ولسنا صغارًا. كل واحد منا عبدًا كما سمعتم إذا كنا عبيدًا لشهواتنا، من تركَ الشهوات كان حرًّا؛ أما الحر هو الذي يتحرر من نفسه. نعم، إذا نحن كنا عبيدًا لمطامعنا وشهواتنا فمئات منّا وألوف منا عبيد نخضع لأمره... أمر الشيطان. وإذا كنا أحرار، كل واحد منا يصبح الحسين الصغير في حياته، ويتمكن أن يقف في وجه دولة بني أمية بقضهم وقضيضهم، بجيشهم وسلاحهم ومالهم وكل شيء.
فلنبدأ من أنفسنا أيها الإخوان، نحن في هذا اليوم حينما نرى في ضوء مصباح الحسين الحقيقة انكشفت، وطريق الحق ومصير أصحاب الحق، وطريق الباطل ومسيرة قافلة الباطل والظالمين، انكشف أمامنا بأن الإنسان المنحرف يصل إلى مقام ابن سعد الذي يجد أمره مخيرًا بين أمرين: بين قتل الحسين ومُلْك الري. هكذا مصير الحق، مصير الأصحاب الطيبين الذي بذلوا كل مهجهم لتأخير الموت عن الحسين دقائق.
وليس من الصعب، أيها الإخوة، الالتحاق بالصف الحسيني. في هذا اليوم بالذات التحق جماعة بالحسين، كانوا من أعداء الحسين، الحر (عليه السلام ورضوان الله عليه)، كما سمعتم، إلى صبيحة هذا اليوم كان من أعداء الحسين، أكثر من هذا، كان من أشد أعداء الحسين، هو الذي أوقف الحسين. لو ما كان الحر يوقف الحسين في الطريق لعل الحسين كان له مصير آخر غير هذا المصير الذي لاقاه في هذا اليوم. فـالحر لم يكن رجلًا عاديًا، كان في قمة الضلال ونهاية المطاف، ولكن في هذا اليوم عزم عزمته الرجولية دفعة واحدة، قفز دفعةً واحدة من نهاية الضلال إلى صميم الحق، فخرج وركض وقال: يا أبا عبد الله هل لي من توبة؟ ونحن في هذا اليوم يا أبا عبد الله نقول لك هل لنا من توبة؟
في هذا اليوم نحن نخاطبه وبإمكاننا أن نتوب لأنه يقبلنا؛ هو حتمًا لا يرفض طلبنا إذا كنا نوَينا بالفعل على توبتنا وعودتنا، وتوبتنا تظهر في صغيرنا وكبيرنا، في تصرفاتنا.
أنت تعرف أن الحسين قُتِلَ لأجل أهداف، إذا هو قُتِلَ، فأهدافه قائمة بيننا وموجودة بيننا. أهدافه الحق، الدين، أهدافه الصلاة، أهدافه الإصلاح، أهدافه معاونة الضعفاء، أهدافه نصرة المظلومين، أهدافه المطالبة بالحق والسعي وراء الحق، أهدافه معروفة. فالحسين (سلام الله عليه)، اليوم وبعد ألف وثلاثمئة سنة ضياء مصباحه الذي أُضيء بدمائه، زيته كان من دمه، مضاء أمامنا بدليل هذا اللقاء، ماذا يجمعنا في هذه الساعة، في هذه المدة غير الحسين (عليه السلام)؟
فإذًا، نحن جئنا إلى هذا النادي على ضوء من مصباح الحسين حتى نراه في ذهننا وفي عقولنا وفي قلوبنا، ونبايعه، ونتوب إلى الله عنده أن نعود في هذا اليوم ونبدأ صفحة جديدة في حياتنا، حياة كريمة تتناسب معنا... وغير الحر، زهير بن القين أيضًا وغيرهما أشخاص آخرين أيضًا. فنحن بكل سهولة، أيها الإخوان، بإمكاننا أن نرجع إلى الحسين.
أيّها المذنبون،
وأخاطب نفسي قبلكم لا تيأسوا من رحمة الله. لكم مجال من هذا المنبر، من هذا المكان، من هذه الساعة المباركة، لكل واحد منكم مجال أن ترجعوا، لكل واحد منكم مجال أن تنصروا الحسين. أكرر كل عاشوراء، لو اكتفينا بالبكاء والحزن، البكاء والحزن شغل الأعصاب، شغل الجسد، لا يغني عن الحقّ شيئًا. أول من بكى هو عمر بن سعد، خرجت زينب (سلام الله عليها) ووضعت يديها على رأسها ونادت: يا ابن سعد أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ كانت تتعجب من هذا. طبعًا، الرجل تأثّر وبكى ثم أدار وجهه وقال: أجهزوا على الحسين.
فإذا اكتفينا بالبكاء والحزن فقط وما نصرنا الحسين... لا أريد أن أقول نحن ننصر أعداء الحسين، نحن في مآسينا، نحن في مخازينا، نحن في سكوتنا، نحن في تخاذلنا، نحن في تركنا لتربية أولادنا أن نؤيد أعداء الحسين لأنه كما سمعتم لا ثالث... حقّ وباطل. فإذا بكينا وحزنّا وخرجنا من هذا النادي دون أثر فقد كنا، لا سمح الله، من أصحاب عمر ابن سعد، أما في هذه الساعة وفي هذه اللحظة إذا عزمنا على نصرة واحدة، لا أقول لك ولنفسي إننا ننتقل دفعة واحدة من أقصى الضلال إلى أقصى الهداية، لا نقول نعمل مثلما عمل الحر (سلام الله عليه)، وإذا تمكنا فهذه سعادة كبرى، ولكن أقول إذا ما تمكنا أن نكون دفعة واحدة مثل الحر فلننصر الحسين في هدف واحد.
نأتي بيد الحسين وجيش الحسين، سلاحًا واحدًا. سلاح واحد، هيئ بارودة واحدة، هيئ سكينة واحدة، زوِّد جيش الحسين بأي وسيلة بالبارودة والسكينة؟ لا، بشيء من هذا النوع، أي نصرة للحقّ. أي خلاف وجدتَ وأصلحت، أي منكر رأيتَ فأنكرت، أيّ معروف وجدت فشجَّعت، أيّ مظلوم رأيتَ فنصرت، أي ظالم وجدتَ فحاربت، أي حق مضيع رأيتَ فأيَّدت، أي صلاة متروكة رأيتَ فأقمت، وهكذا واحد واحد.
إذا أنت في هذه الساعة نويت عملًا واحدًا، خذْ من يوم عاشوراء مبدأ وثِقْ بأنك إذا عزمت اليوم على عملٍ واحد مهما كان صغيرًا... اخطُ خطوة واحدة، نحن مع الأسف في أقصى الضلال، إذا خطوة واحدة انحرفنا، ذرّة واحدة نحو الحق، فثِقْ بأنك سوف تصل إلى الحقّ ببركة الحسين لأنه مصباح الهدى وسفينة النجاة.
وأنا لا أشك بأن هذه العاطفة الكبيرة التي نعبِّر عنها في هذا اللقاء وبهذا البكاء والدموع التي تدل على عاطفتنا الصادقة لا نترك الحسين بين أعدائه وحده، لا نترك دين الحسين بين الأعداء وحده، ننصر الحسين وننصر دين الحسين بإذن الله ولو بخطوة واحدة.
لا أحب أن أترك لأن التفاعل كثير والشعور بالواجب كبير، ولكن أترك المجال لكي نعتبر بالتفكير في حياة الحسين، وبالشعور بواجبنا تجاه الحسين وأهداف الحسين.
والله سبحانه وتعالى من وراء القصد.
والسلام عليكم.

source
عدد مرات التشغيل : 4