أي إعلام نريد؟ هل من إمكانية لإعلام عربي فاعل؟

calendar icon 13 كانون الأول 2002 الكاتب:محمد المشنوق

اولاً المقدمة:
مما لا شك فيه ان لوسائل الإعلام العربية تأثيرها على لبنان ومناطق الانتشار في الدول العربية والعالم، فالمحطات الفضائية اللبنانية كانت الأولى في اعتماد مبادئ التواصل المباشر والتفاعل الإعلامي من خلال تجهيزاتها وبرامجها. وقد تمكّن المجلس الوطني للإعلام من وضع خطط للنهوض بقطاع الإعلام صحافة وكتاباً وإعلاماً مرئياً ومسموعاً. وقد تمكنت هذه الإستراتيجية من الإفساح أمام عشر محطاتٍ تلفزيونية فضائية ان تتكامل في شبكات برامجها وتنوع ما تقدمه لكل الأذواق اللبنانية والعربية، وفي معالجتها للمشاكل الفعلية التي يعيشها الإنسان في الوطن العربي وفي العالم. لقد تطور هذا الإنتاج بحيث بات قادراً على التفاعل مع الإنتاج العالمي. وتحققت صيغ تعاونٍ عربية ودولية مكّنت الإعلام والثقافة العربية في لبنان من ان تتحول حجر الزاوية في المنطقة، وضمن التنوع الإعلامي العالمي.

ومن لبنان، بلد الإعلام والثقافة، بلد الخدمات بلا حدود، بلد الإنسانية في التنوع والتعدد ضمن الوطن الواحد والهوية العربية الواحدة، يتحقق التحدي الذي يناقشه المؤتمر اليوم حول الحفاظ على الهوية وإنتاج الاعلام والثقافة العربية ضمن الشروط:

أولاً: إن ادوات النقاش والحوار المستقبلية هي ما يمكن ان يحقق فهماً أفضل للمشكلات. ويضع الحلول الحقيقية.

ثانياً: إن الحلول تحتاج إلى زمن لتتحول إلى حقائق. كما إن التغييرات بحاجة إلى وقت لمعرفة ما إذ كانت تؤسس للمتغيرات الجديدة أم للثوابت نسبياً.

ثالثا: إن طبيعة التطور في الموجات المستقبلية، تحتم التوقف في كل حين، للتأكد من أننا لا نحمل من هذه الموجات رواسب كثيرة قد تعيق المسيرة. بل نحمل ما يعزز الإنطلاقة الجديدة على دروب المستقبل.

رابعاً: إن الإنسان في كل ذلك قادر على وضع معايير ومقاييس اعلامية وثقافية قد تختلف عما ورثه في تاريخه، ومما قد يؤثر على ثقافته وتراثه وقيمه، ولكنه في ذلك لا يتجاوز إنسانيته، ولكنه يعود إليها بأشكال جديدة.

خامساً: ان الفردية في حوار المستقبل لا يتحقق إلا من خلال صيغ تتسع لحوار واسع يضم البشرية في مجموعاتها، وشرط الحوار ليس فرض صيغة واحدة للتطور.
ولكن ما يستطيعه العقل البشري في ظروف المكان والزمان والمجتمع الذي يحمل سماته وخصائصه.

ثانيا: هل من امكانية لاعلام عربي فاعل:
يعترف المسؤولون عن اجهزة الاعلام العربية أن الاختلاف في التوجه الإعلامي العربي في الصراع العربي الاسرائيلي يؤدي إلى خسارة فرص يمكن الإفادة منها في دفع قيادات الرأي العام الأميركي، وأوساط صنع القرار الدولي إلى مواقف أكثر اعتدالاً مما هي عليه اليوم. ويعترف هؤلاء ان هناك ضرورة لنظرة واقعية، بل وبراغماتية من الجانب العربي لمسألة المقاومة والانتفاضة بحيث يمكن اختيار نقاط الضعف والدخول عبرها إلى تحقيق تغيير تدريجي لدى الرأي العام الغربي بصورة عامة من المواقف الاسرائيلية الرافضة تطبيق قرارات الامم المتحدة ... وحتى الاتفاقات المعقودة مع القيادة الفلسطينية.

وأمام الواقع العربي وواقع الإعلام العربي الموجه إلى الرأي العام الغربي في موضوع الانتفاضة الفلسطينية البطلة والمواجهة الرافضة للامر الواقع الاسرائيلي. وأمام ضغط الحاجة إلى الوقوف في وجه اللاهثين وراء السلام بأي ثمن. لا بد من تحقيق مجموعة شروط لتجاوز هذه المشاكل وصياغة إعلام عربي قادر على إحداث تغيير إيجابي لدى الرأي العام الغربي، وفي العالم بصورة عامة:

أ- عقد لقاءات دورية بين القوى الاعلامية العربية لصياغة موقف مشترك يتجاوز الحد الأدنى ويكون قادراً على التحرك بمرونة بمواجهة الأحداث والتطورات. ويقتضي ذلك صياغة برامج للتعاون الوثيق بين هذه الأطراف وتأمين وسائل لتبادل المعلومات واختيار التوقيت الضروري لإعلان المواقف وإطلاق الحملات الإعلامية على المستوى العربي من جهة، وعلى المستوى الدولي. وباتجاه الرأي العام الغربي بصورة خاصة. ولعل المدخل إلى ذلك الالتزام بمقررات القمة العربية التي انعقدت في بيروت في ربيع 2002 والتي رفضت الاستمرار في سياسات التخاذل العربي على حساب المصالح والقضايا العربية المحقة.

وقد يكون من الأفضل ان تبدأ هذه اللقاءات بين الأطراف ذات التشابه التخصصي في الهيئات والنقابات والاتحادات على ان تتوسع إلى مؤتمرات على المستوى العربي الشامل انطلاقاً من أرضية مشتركة وفهم محدد للمقاومة والانتفاضة مع التنبه الشديد للظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال الاسرائيلي.

ب- تبدو الهيئات الاعلامية وقياداتها النقابية بصورة خاصة متقدمة في مواقفها على الحكومات. ولعل هذا ما يحتم إيجاد وسائل لصياغة خطاب مشترك بين القيادات العربية وبين هذه الهيئات. وصياغة ثوابت لمفهوم السلام السياسي الموعود. مع تحديد سقف عربي واضح في ربط السلام بالتخلي عن الأراضي المحتلة واقامة الدولة الفلسطينية وإعادة الحقوق العربية كاملة وتحديد مبدأ المساواة في أي إنماء إقليمي أو دولي.

إن هذا التوجه سيؤدي عملياً إلى تضييق رقعة المرونة التي اتقنها بعض الاعلام العربي في تهربه من الالتزام بمسألة المواجهة مع اسرائيل، وفي محاولته استباق أي سلام من خلال اضعاف الموقف العربي المقاوم والرافض لكل انواع التطبيع قبل السلام وبعده.

ج- ضرورة صياغة جديدة للفكر النهضوي العربي يكون هو الخلفية الفكرية والوطنية حرصاً على إيجاد تماسك عربي في الفكر والهوية والقيم والثوابت الإنسانية فلا تتمكن اسرائيل أو الإعلام الغربي من شق الصفوف العربية واعتماد سياسة التفريق وصولاً إلى جذب القوى العربية بشعارات اقتصادية أو ثقافية أو ضمن مقولات تبدأ بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومقاومة الإرهاب وتنتهي عند ضرورة القضاء على الانتفاضة الفلسطينية وعلى الحالة القومية التي تشكل الضمانة الوحيدة لهذا التماسك العربي.

إن هذه الشروط تبدو ضرورية اليوم إذا أردنا تحصين الإعلام العربي في مسألة تعزيز الانتفاضة ومقاومة المد المهرول نحو ما بعد السلام. واذا اردنا إعداداً مسبقاً يتجاوز التناقضات الاعلامية الراهنة نحو صياغة اعلامية جديدة تنسج في المستقبل ضميراً قاسياً لدى كل مواطن في أمتنا العربية، ولعل هذا هو ما نطمح إليه في تجاوز سقوط بعض الاعلام العربي، والانطلاق إلى فرض إرادة عربية سياسية واعلامية قادرة على صناعة المستقبل.

ثالثا: ما هو التصدي المطلوب:
كيف يمكن مواجهة التأثيرات الاعلامية والثقافية والإنتقال إلى مرحلة التصدي وإنتاج الاعلام والثقافة الوطنية والقومية رغم غزو العولمة؟

- تخصيص موازنات لإنتاج برامج إعلامية اخبارية ووثائقية ذات طابع عالمي من منظارٍ وطني وقومي عربي. ونحن لا نغفل هنا ان الشركات الدولية لا تكترث عادة بالبرامج ذات الطابع الدعائي أو الهادفة لتسويق المفاهيم الوطنية أو القومية. ولذلك فمن المنتظر ان تكون البرامج قادرة على التأقلم مع الواقع في الإنتاج الإعلامي الثقافي في محاولةٍ ذكية لإقامة نسيج يجسد مفهومنا الثقافي والحضاري. ويمكن ان يبرز ذلك من معالجة لقضايا إجتماعية وثقافية في مناطق جغرافية كنماذج للصراع الثقافي أو الإجتماعي في العالم، دون أن تنتهي بأي غلبة في البداية على الأقل.

- تكثيف الإنتاج الإعلامي والبرامج الثقافية وفق معايير المطالب والحاجات الوطنية والقومية، وانطلاقاً من مفاهيم التراث والحضارة العربية. إن هذا الأمر يرتبط إلى درجة كبيرة بمقدار فهمنا لمشاكل مجتمعاتنا والخصوصيات المحلية لشعوبها. وإلا فإننا سنقع في محظور تقليد ما يردنا في التدفق الاعلامي العالمي. بسبب ما قد يراه المنتجون من رواجٍ لقضايا اجتماعية معينة قد يرون فيها ما يتناسب مع الطرح المحلّي.

رابعاً: منع فرض الثقافة بالقوة:
إن حماية هذا الإنتاج الاعلامي تفترض بعض المعطيات – الشروط كما يلي:

• منع فرض الاعلام والثقافة بالقوة من خلال إنتاج معلب تفرضه الأنظمة. ويطبق فوقياً على المواطن دون أن يكون متفهماً للواقع الاجتماعي ولظروف المواطن الحقيقية.
إن مثل هذا التوجه في فرض مفاهيم اعلامية / ثقافية بالقوة انعكس في السابق بصورة سلبية. واضطرت مؤسسات إعلامية رسمية في الوطن العربي لوقف في الإنتاج وتغيير السياسة المتعبة.

• اعتماد مبدأ الثقافة الشعبية والإبتعاد قدر الامكان عن التوجه إلى النخبة نظراً لأن المشاهد هو مواطن يحتاج إلى تبسيط الأمور لا ليفهمها فقط، بل وليتجاوب معها من ضمن قدراته على سلوك طرق تترجم مشاعره فعلاً، وليس قياساً على ما تريده النخبة له.
• تجاوز مفهوم إبداعات الفرد وإخفاق المجموع، وهو مفهوم اعلامي درجت عليه الوسائل الإعلامية في الانتاج الثقافي بهدف إقامة مُثل عليا للناس يقتدون بها، ويعتبرونها مترجمة لطموحاتهم.

• إعتماد مفاهيم الفنون على أنواعها، كتجسيد فعلي لعمق الإعلام الجديد. فالأغنية والموسيقى والمسرحية والرسوم وغيرها تتكامل مع المواد الاخرى وتفترض تجاوباً مع صيغة الإنتاج المحلي. فمن الصعب ان يتعلق الإنسان بمفاهيم متناقضة. ويؤكد خبراء التسويق الاجتماعي ان التكامل بين العناصر التي تكوّن الشخصية الإنسانية، شرط لنجاح التسويق الاجتماعي وشرط حتماً لتعزيز الخصوصية القومية في وجه التدفق الإعلامي الثقافي من الخارج.

• تحديد الحرية الثقافية كمبدأ في مجتمع متعدد. وهذه الحرية تبدو أكثر إنطباقاً على لبنان بسبب تكوينه السكاني. إلا أنها تنطبق كذلك على مجموعة من الدول العربية حيث توجد الأقليات. وحيث لهذه الأقليات جذور ثقافية لا يمكن طمسها أو تغييبها. إن التأكيد على هذه الحرية هو شرط لحماية الإنتاج المحلي. خوفاً من أن يتحول البعض من الأقليات إلى البحث عن مناهل أخرى من الخارج. فيربط مفاهيمه بالاعلام وبالثقافة العالمية بحجة التطور والإلتحاق بالركب العالمي، ويصبح في الوقت نفسه عائقاً في سبيل إنتاج الشخصية القومية والخصوصية الثقافية الواحدة في الوطن. لقد لمسنا وعلى مستويات مختلفة مجموعات تحاول ان تقفز من خلال رفض الآخرين للتعددية إلى الجنوح نحو العالمية كغطاء أوسع. ولعلنا نعي هذا الجانب فنحقق من حرية الحوار الثقافي ما ينتج مفهوماً واحداً يظل، ولو تعددت الأجوبة فيه، مرتبطاً بواقعنا وخصوصيات شعبنا، ولا يصل إلى حد نكران الثقافة القومية.

• إقامة نظام للتسويق الاجتماعي. ويفترض هذا النظام مجموعة عناصر تتناول الإعلام والتربية والثقافة والمفاهيم الإقتصادية المعتمدة. وتنهل من المصادر المحلية ومن المصادر العالمية المتنوعة. إن هذا النظام يبدو برأينا الأكثر دقة عند التطبيق خوفاٍ من ان يكون ترجمة لقرار واحد. فيتحول من صيغة غسل ادمغة المواطنين، وصيغة تزييف ثقافي بشعارات وطنية أو قومية خادعة.

خامساً: مفاهيم الثوابت الاعلامية والثقافية:
إن مفهوم التسويق الإجتماعي جديد على وطننا العربي، وحتى على لبنان، حيث يبرز بعض هذا التسويق بصورة غير مباشرة من خلال التنافس حول البرامج التلفزيونية المستوردة. ولذلك فإن مفاهيم هذا التسويق، ولا سيما عند التوجه إلى العالم العربي، يجب ان تلحظ الكثير مما هو مقبول في مجتمعنا مع التركيز بصورة خاصة على ثوابت نود المحافظة عليها ونحرص على عدم هدم القناعات حولها.

من هذه الثوابت:
• اللغة العربية، ومفهومنا هنا يتجاوز اللهجات المحكية والتصنع الفصيح حتى التقعير. إذ المطلوب التبسيط بحيث تظل هذه اللغة مجسدة لمشاعرنا وعواطفنا وقوميتنا، وبحيث تظل قادرة على ترجمة حاجاتنا اليومية المهنية منها والثقافية والاجتماعية.

• الهوية القومية مقابل الضغط باتجاه الهوية العالمية. فقد برزت من خلال التدفق الإعلامي الغربي محاولة لتكريس هوية عالمية يكون الفرد في حريته مقياساً لها، ويكون الإطار الغربي لحركته الذاتية السياسية حدوداً لها.

• إن هذه الهوية تظل هاجس الوطن العربي في مواجته للتطورات على جبهتي الإنغلاق الوطني حتى الإنعزال، والانفتاح خارج القومية حتى الذوبان في العالمية.

• العقل العربي، إن العقل العربي كما المجتمعات العربية، ليس واحداً في فهمه للمعطيات الثقافية والإعلامية. والمطلوب محاولة صياغة عقلية واحدة بمواجهة التطورات في النظام الإعلامي العالي الجديد. وفي تأثير الثقافة العالمية على خصوصيات الإنسان العربي. إن مثل هذه الصياغة ستمكن من ايجاد لحمة بين المواطنين العرب في كل مكان، مما يؤدي إلى تحصين للخصوصية القومية والثقافية. ومما يعزز المناعة والحد من الإنجراف العفوي في سلوكنا الإعلامي والثقافي باتجاه القوالب العالمية.

وأخيراً لنعترف ان هذه المواجهة تحتاج إلى تغييرات اساسية في البنية الفكرية والاعلامية والثقافية لدى المواطن العربي والقيادات في الدول لأن فيها الضمانة الحقيقية للمحافظة على الخصوصية القومية، ولأن الإنسان القادر فكرياً وثقافياً يستطيع أن يرفض إعلامياً ما يراه مسيئاً له كما يستطيع ان يرفض التغيير التدريجي في حالة اللاوعي على الصعيدين الثقافي والإعلامي. ويستطيع ان يضبط ما يتعرض له أبناؤنا والأجيال القادمة من تزايد في هذا التدفق في الإعلام والثقافة تحت عنوان العالمية.

source