مثل مفتي الجمهورية في المؤتمر السنوي لمركز الإمام الصدر للدراسات المفتي الصابونجي: الأسرة في لبنان يتهددها خطر التغيير في القيم واسقاطها من المنظومة الدينية مشروع الزواج المدني يعرّض الإستقرار العام للإهتزاز ولن يمر مهما كان الثمن

calendar icon 07 تشرين الثاني 1997

أكد صاحب السماحة مفتي طرابلس والشمال الشيخ د. طه الصابونجي ان الدعوة إلى الزواج المدني هي سلخ للأحوال الشخصية عن شريعة الله وإخضاعها للأهواء والتقلبات. وأن هذا المشروع سيعّرض الإستقرار العام للإهتزاز الخطير. ووعد أنه لن يمرّ مهما كان الثمن.
كما أكد سماحته أن الأسرة في لبنان تتهددها مخاطر وينبغي التصدي لهذه المخاطر قبل أن يسقطوها من المنظومة الدينية.

ورأى بأن العولمة طمست أعين الناس. وحملت اليهم الخيانة وفساد القيم وخراب الذمم..
كان ذلك في الكلمة التي ألقاها في حفل افتتاح المؤتمر الثاني لمركز الإمام الصدر للدراسات حول "الأسرة واقع ومرتجى" ممثلاً مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ الدكتور محمد رشيد قباني. وفي ما يلي نص كلمة المفتي الصابونجي:
الحمد لله. والصلاة والسلام على رسل الله على خاتمهم محمد بن عبد الله.

أيها السادة.
من حق البشرية، وهي تودّع قرناً حافلاً بالمنجزات والأزمات، أن تراجع رصيدها من القضايا الإنسانية، وما أكسب مسيرتها من تقدم، وما أعقب تجاربها من نكسات، ففي تلك المراجعة حكم صائب على المواقف ونتائجها، وشهادة ناطق بالحق، على مختلف التيارات الثقافية التي اصطدمت وفتنت الناس بضجيجها ورواجها، وعلى التوجهات الإجتماعية التي صبغت تحدياتها بطلاء الحرية لتتمكن من اتهام ما عداها بتهم التخلف والرجعية.

وفي تلك المراجعة أيضاً دعوة للجماعات الشاردة لكي تتواضع في قبول الحقيقة، وتترفع عن حمية الغزو، وتتراجع عن تأليه الأهواء، وتكفّ عن الإصرار والإستكبار، من بعدما تبين لها عجزها عن الإحاطة بكل الحقائق، وفشلها في تحديد الغاية الكبرى من حكمة الحياة..

ولعلّ من أهم القضايا الإنسانية وأعلاها وأشرفها، قضية الأسرة في مفهومها ونظامها، وفي أسرارها وآثارها، وفي مكارمها ومعالمها، وفي آدابها وواجباتها، ومن كل ما يرتبط بها ويصدر عنها، وفي كل ما يعود عليها وما يرتجى منها.

وقد تكلفت العناية الإلهية بالإفصاح عن كرامة الإنسان وقيمته، وعن متقلبه ومثواه، وعن بدايته ومنتهاه، وعن فطرته وما يعليها، وعن قدراته وما يجليها، وعن حاجاته وما يشبعها، وعن أشواقه وما يرفعها، وعن حريته وما ينظمها، وعن حقوقه وما يقوّمها، وعن رسالته وما يسددها، وعن كل صغيرة وكبيرة تقربه من شاطىء السلامة، وتوفر له حياة طاهرة طيبة، وتحفظ له ميزان التعادل بين نسبيه السماوي والترابي، وعنصريه الروحي والمادي، ووجوديه الدنيوي والأخروي، ومحوريه الفردي والجماعي.

الشرائع ليست قيداً
العولمة استوقدنا من نورها ونارها فطمست أعين الناس بظلام الضمائر
واكتملت هذه العناية بربط الحركة الإنسانية بالحقيقة الإيمانية، ليبقى الإنسان في دائرة التنامي، ويرقى في معراج التسامي، ويسلم من أسباب التخلف والتدني، ومن كل ما يهين انسانيته، أو يغضّ من مكانته العليا بين الخلائق، أو يعود عليه بالعناء والشقاء.

فلم تكن الشرائع الإلهية قيداً لأفكاره، وكبتاً لمشاعره، وحجراً على حريته، ولجماً لأشواقه وطموحاته، بل كانت النور الذي يهدي بصيرته، والصراط الذي يقيه العثرات ويبلغه مأمنه. فالإنسان في نفسه وفي أسرته، وفي مجتمعه وفي عالمه، محل العناية الإلهية بما ساقت إليه من توجيهات، ووضعت له من ضمانات، ورتبت عليه من تبعات، فكان فوزه الأسنى بمحبة الله له، فيما شرع الله له من أحكام، وفتح أمامه من مغاليق، وأسبغ عليه من نعم، وأنزل عليه من وحي، واتخذه طرف محاكاة، وفي ذلك مبلغ التكريم، وغاية الخلق في أحسن تقويم، فالذين يستشرفون هذا المرتقى، يستشعرون لطف الله بهم بما شرعه لهم، ويزدادون شكراً لله على ما آتاهم من بيّنات الهدى، كما يزدادون تعلقاً والتزاماً بما أنزل من الحق.

أما الذين ارتابت قلوبهم، وغرّتهم أنفسهم، فينصرفون عن شرع الله، لأنهم لم يلتمسوا النور الذي فيه، ولم تأخذهم مداركهم القاصرة إلى مشارق الأنوار في أقباس التجليات، فهم أكثر الناس اغتراراً بجهلهم، وأكثر الناس تسفيهاً لأنفسهم، لأنه فقدوا رأس الحكمة، ونأوا عن مناهل العرفان، وتلك مأساة واهية من مآسي القرن العشرين، قرن المعارف والعلوم والتجوال بين الكواكب، والغوص في جينات الوراثة، حيث كان ينبغي ان يكون قرن الإيمان اليقيني، والترقي الإنساني فاستعلى الغرور، واستنسر الباطل، واستقوى الظلم، وتمدد الفساد، واستطال الإلحاد، وأطفئت سرج العقل، وشموع الرجاء، برياح الفتنة العقيم.

الأسرة صمام الأمان
فماذا حصدنا من عواصف هوج مزقت أشرعة سفن كانت تجري بريح طيبة، تنقل الخير إلى كل ثغر، وتخفق بأنسام السكينة فوق كل المسكونة؟
وماذا جنينا من غرس مرّ، في أرض صلد، اقتلعت من أجله أشجار الرياض التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟
وماذا ورثنا من عولمة مهتاجة بزهوها، ذهبنا نستوقد من نورها ونارها، فلما أضاءت ما حولها طمست أعين الناس بظلام الضمائر، وخداع الوعود، وخيانة العدالة، وفساد القيم، وخراب الذمم؟
وماذا دهانا في عصر سطت فيه المادية الوثنية، والإلحادية الشموس، والوجودية الزائفة، والبراغمارية الوصولية، والعلمانية البائسة، والتقت كلها على مغاضبة الله، وعلى استرقاق الإنسان بسلاسل براقة، وبأنياب من ذهب، ومخالب من فضة، فاخترقت عقله وقلبه، وتخطت عصور الإسترقاق التي كانت تكتفي باستعباد الأجساد وما تملك؟
.. وماذا أساءت الأسرة التي كانت صمام الأمان، ومهد العواطف النبيلة، ومحضن النفوس، وعافية المجتمعات، حتى أصبحت هدفاً لمرمى السهام من تلك الفلسفات التي اجتاحت الفطر السليمة، وتنكرت لمكارم الإنسانية، ولوثت سمعة الأسرة، وهدمت كيانها، وشوهت نشأتها ورسالتها، ومزقت وحدتها، وأنكرت روابطها التكاملية، وواجباتها التبادلية، فانفصمت العرى، وقست الطباع، وفشت العقد، وبرزت الأنانية، وفقدت الأسرة قاعدتها الإيمانية، ووشائجها الإنسانية، ومضامينها التربوية، ورسالتها الإجتماعية، وحقيقتها التأصيلية في نمو الحياة وطهارتها، وارتباطها بمشيئة الله وارادته.
وإذا كان الإسلام الذي ختم الله به وحيه، قد ضع للأسرة نظامها الكامل، في حكمتها ومقاصدها، وفي قيامها واستقرارها، فإنه حرص على أن يرتقي الإنسان بذلك إلى مستوى ما شرعه الله، فهماً وإدراكاً والتزاماً، وبخاصة حين تتفتح أمامه أبواب المعرفة، وتتسع في نظره آفاق الحرية، فيرتقي إذ ذاك وعيه، ويستمسك بشرع الله على هدى وبصيرة ويقين.

الأسرة اللبنانية والخطر الداهم
أيها السادة.
والأسرة اليوم في لبنان يتهددها خطران، أما أولهما فهو التغيير الذي يطرأ على قيمها وتقاليدها، والذي وفد إلينا من خارج محيطنا الثقافي، مستغلاً رغبة التقليد للآخرين ومدللاً على وجوب اتباعه بموجات الحرية التي توفر لكل عضو في الأسرة ما يتشهاه من استقلالية ولو كان ذلك على حساب الروابط التي تشد الأسرة إلى وحدة جامعة، أو كان ذلك على حساب التربية التي تتولاها الأسرة، أو على حساب الضوابط الوجدانية والخلقية التي تعصم كل أفراد الأسرة.
فالأسرة اليوم خرجت على قواعدها التي كانت تقوم عليها، وتتسلل إليها وافدات من أفكار وتصورات غريبة عن أصالتنا، وعن مناهج حياتنا، وعن مواريثنا الدينية والثقافية التي حصنت مجتمعاتنا وشعوبنا من الفوضى والإنحدار.
وأما الخطر الآخر فهو السعي لإسقاط الأسرة من المنظومة الدينية التي تضع لها أسس قيامها، وتجعل لها أفقاً يرفعها عن بقية التصرفات والممارسات المعتادة من شؤون الناس. فالدعوة إلى الزواج المدني هي سلخ للأحوال الشخصية عن شريعة الله، وإخضاعها للأهواء والتقلبات، وإلحاقها بدائرة الأزمات الغريبة عن مجتمعاتنا وثقافتنا، وعدوانية صارخة على شريعة الإسلام التي وضعت للأحوال الشخصية قواعد كلية، وأخرى تفصيلية، لا يجوز الخروج عليها، وإلا كان هذا الخروج مروقاً من الدين نفسه.
لقد تعددت الشعارات التي يرفعها البعض لتمرير الزواج المدني، وكلما تهافت شعار أردفوه بآخر، فتارة يكون التذرع بضرورة انصهار المجتمع، وتارة من أجل توحيد القوانين، وتارة أخرى دفاعاً عن الحرية الشخصية، وأخيراً الإختباء وراء الديمقراطية.
ولقد سبق القول بإجهاض هذه الذرائع ولم يبق إلا أن يحتكم دعاتها إلى الحق، وأن يلتزم الجميع بحدود الشرع، وان يتوقف هذا المشروع الذي سيعرض الإستقرار العام لاهتزاز خطير، ولن يمرّ مهما كان الثمن.
أيها السادة
بوركت جهودكم التي تنصب لخدمة الأسرة. وبوركت ضمائركم التي حركتها الغيرة على قداسة الأسرة وعلى رسالتها فكان هذا الملتقى ليعطي أفضل الثمار، ويخط أقوم طريق، ويفوز بمرضاة الله.
والسلام عليكم ورحمة الله.

source