المستقبل رهن إرادتنا

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
calendar icon 08 آب 1977 الكاتب:موسى الصدر

مع تزامن انتقال السيدة مريم العذراء (عليها السلام) وحلول شهر رمضان المبارك تحدث الإمام الصدر عن المعاني التي يجب على اللبنانيين إدراكها من هاتين المناسبتين للتعالي على الجروح وإنقاذ الوطن.
وبمناسبة عيد انتقال سيدة النساء مريم (عليها السلام) نستعيد هذا النصّ:

* تسجيل مرئي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، بمناسبة شهر رمضان وانتقال السيدة العذراء منشور في جريدة السفير بتاريخ 18 آب 1977.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيّها اللبنانيون،
في ليلنا الكئيب الرهيب الذي لبث طويلًا وتجاوز كل حدّ، يطلع فجر أمل جديد، يكشف الطريق ويكتب على جبين الأفق أبعاد المحنة، وسبل الخلاص، وتفاصيل الوسائل. فلقد أقبل علينا شهر الله، رمضان المبارك، حاملًا معه فرص التأمل والرؤية الواضحة وطرق الانتصار للإرادة الخيِّرة ولتقرير المصير، ويقدِّم بذكرياته المشرقات شواهد وتجارب من التاريخ القريب والبعيد.
وفي هذه السنة تقترن بداية رمضان بذكرى عظيمة مؤثرة في حياتنا هي عيد انتقال العذراء مريم سيدة النساء. تقترن البداية بعيد الانتقال حتى يضاعف الشهر هداياه إلى الوطن المعذَّب بتقديم مقارنة سماوية تعكس اقترانًا وطنيًا على الأرض.
ولَكَمْ كان الوطن بحاجة إلى رمضان يكون محطة في طريق المستقبل، ومنعطفًا يطوي صفحات الماضي القريب وذيولها ليضعها في عالم التجارب والعبر.
فالمواطن يتطلع إلى الآفاق ويراها مغطاة بالضباب المكثف الذي يحول دون رؤية المستقبل السعيد وإشراقته. وينتقل المواطن إلى الأنفس ويشعر بالجروح الدامية، ويتذكر المفاجآت الفاجعة. ثم يعود إلى ما حوله ليرى في مجتمعه ركودًا وهولًا وآلامًا من شدة الوقع، وقع التآمر الذي عصف به.
ويشاهد المواطن أن محاولات مضنية تجري من قبل قادته المخلصين، وأن الليل والنهار يتواصلان في مكاتبهم. ثم يرى أأن الشاعر العربي عبَّر هذا الوضع إذ قال:
فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم
وهكذا يمضي المواطن أيامه بين الآلام والمصائب وبين الحيرة والقلق يراوح في مكانه وتذوب آماله وتبيض عيناه من التطلع والانتظار.
ثم يقبل شهر رمضان يضمه بحنانه ويخصه بكرامة الله ويضعه أمام فرصة كبرى جديدة من نفحات الدهر عليه أن يغتنمها ويتعرض لها.
أيّها الإخوة المواطنون،
حرب سياسية عشناها عشرات السنوات وحرب عسكرية سيطرت على بلدنا مدة سنتين أو أكثر. وحرب إعلامية لا تزال تستمر.
وفي محاسبة النتائج نجد أيادينا فارغة إلا من الآلام والخسائر، وإلا من تلمس حقيقة واحدة وهي استحالة الانتصار، وأن العالم القريب والغريب لا يسمح بتغيير المعادلات.
وعندما نشاهد تجارب وقف إطلاق النار عشرات المرات وتجارب نقل المعارك من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان وتجارب عض الأصابع، وعندما نشاهد هذه وغيرها من التجارب لا نجد أن النتيجة كانت أفضل.
وها نحن قضينا حوالي سنة والحرب انتقلت من هذه المناطق وكان المطلوب في كل لحظة ان نبدأ بالبناء، ولا نزال نبحث في الحوار وفي الوفاق وفي المصالحة وفي اللقاءات وفي الجبهة العريضة وفي... ولا نزال نحس بالآلام والمصائب ونشعر بالقلق والحيرة.
ونعود إلى القواسم المشتركة وفي المعادلات السابقة وندرسها بالرؤى السابقة ونضيف إليها أسوأ ما أفرزته الحرب هو تراكم آثار الحرب السياسية والعسكرية والإعلامية على الأفكار وعلى الرجال والمواقف وبخاصة على الجسور والأوتاد التي كانت تمسك أطراف الوطن التي كانت رموز الوحدة في محيط الكثرة.
وفي هذا الخضم ننتقل إلى شهر رمضان، شهر الوحي الإلهي والصيام والابتهال شهر الذكريات المجيدة في بدر وحنين وفتح مكة والدخول في القدس، شهر القدر وبناء المصير، شهر المعاناة المشتركة والمؤاساة المباشرة.
فرص كله، ومع كل فرصة يمكننا علاج مشكلة وتضميد جرح.
فمع الصيام، وما يستتبع الصيام من انفتاح في القلب والعقل، نعيد النظر في الأحداث والأشخاص والمواقف فنحظى برؤية واضحة لتقييم الماضي، ولتخطيط المستقبل. المستقبل الذي لا يمكننا الفرار من مواجهته، ولا تأجيل البحث فيه، ولا إهماله والتساهل في أمره.
ومع استعراض الذكريات تعود الثقة إلى النفوس وإلى السعي، ونلمس معاني الآية الكريمة: ﴿ولا يحسبنَّ الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون * وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾ [الأنفال، 59-60].
سيّما وأن الصيام يهيئ الأسباب، فيعلمنا الصبر والجلد، ويعمق الشعور بالمسؤولية الجماعية وتحسس آلام الإخوة، أولئك الذين أُبعدوا من ديارهم بغير حق، الذين لا يزالون يحترقون رغم نهاية الحرب، بنار الجوع والمرض والتشرد والسلاح.
ومع حلول القدر ندرك أن مصير المستقبل رهن إرادتنا، وأن ما نعانيه مهما كان قاسيًا فإنه قابل للتغيير إذا أردنا.
ويدعم هذا الإدراك معاني انتقال العذراء حيث أن اللانهائية في الكمال وفي الطموح تصبح ممكنة بالجهد والتفاني والإخلاص.
أيّها اللبنانيون،
لن يحصل الخلاص إذا لم تبادروا بالسعي نحو الخلاص. ولن تعثروا على وطنكم إذا لم ترتفعوا فوق جروحكم ومصالحكم ووجهات نظركم.
لا الشقيق ولا الصديق... لا يمكنه أن ينوب عنكم فيمارس عملية الإنقاذ. بل إنه المساعد والملبي إذا أردتم، وإذا طلبتم، وحتى الله ينصركم عندما تنصروه.
وها فرصة الشهر العظيم، وقد تعاظمت إرادة الخير، وتوفرت شروط الخلاص، وتزوِّد الكثير منكم بعقول منفتحة وقلوب صابرة متحسسة، ومعكم الله سبحانه.
هبوا للإنقاذ،
للالتفات حول القيادة المسؤولة الشرعية،
للتسامي وللقاء،
لتجاوز العقبات،
للنظر في الماضي والمستقبل برؤية مخلصة وجديدة،
ولبناء الوطن من جديد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تلفزيون لبنان، قناة