الأسرة ... مركز التحولات الإجتماعية

calendar icon 04 تشرين الثاني 1997 الكاتب:محمد خاتمي

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الاقتتاح)

رسالة سيادة رئيس جمهورية إيران الإسلامية
الدكتور السيد محمد خاتمي إلى المؤتمر

بسم الله الرحمن الرحيم
يسرّني جداً وبمناسبة مؤتمر "الأسرة، واقع ومرتجى"، أن يكون أحد أهم وأكثر موضوعات المجتمع والعالم المعاصر أساسيّةً، مدار الحوار في لبنان بين المفكرين وأصحاب الرأي الأجلاّء، في العالم الإسلامي.

إنني أقدّر، ومن صميم القلب، عزيمة وهمّة السيدة رباب الصدر وجميع القائمين على هذا التجمّع القيّم والمساهمين فيه، وأرجو أن تتفتّح في ضوء هذه المساعي آفاق جديدة حيال النظرة إلى قضايا الساعة في المجتمع والعالم. لقد كان لبنان مركزاً يشعّ بالأمل لمثل هذه الأفكار والجهود المتجددّة والمؤثرة على الأصعدة الدينية والثقافية والسياسية. كما كان دور المفكّر المناضل وذي العقل النيّر الإمام السيد موسى الصدر دوراً بارزاً في هذه المجالات, وهو العزيز الذي يُعدّ غيابه المؤلم، في هذا الظرف الحساس عن الساحة السياسية والدينية والاجتماعية للعالم الإسلامي والعربي، خسارة لا يُعوَّض عنها، وكلّي أملُ أن يتمّ، في ضوء الفكر والإرادة للمفكّرين والملتزمين الواعين والواقفين على مقتضيات العصر، التوصّل إلى تعامل حديث ووجهات نظر جديدة بشأن تأمين مختلف متطلبات المسلمين والمحرومين ومواجهة الجشع والعدوان في عالمنا اليوم، وأن يكون هذا التجمع خطوة كبرى على هذا الطريق.

إنّ العالم المتحوّل الحالي بحاجة أكثر من أي وقتٍ مضى، إلى مبادئ ثابتة تمكّنه من الحد من الصدمات الفردية والاجتماعية التي يُعاني منها الإنسان في مواجهة قضايا العالم الصناعي الحديث وتعقيداته. من هنا، فإن الرجوع إلى الدين والمبادئ الأخلاقية العامة والشاملة، يُعدّ على أعتاب القرن الواحد والعشرين الميلادي ضرورة عالمية في سبيل الحفاظ على حياة الإنسان والمجتمع وبقائهما. فتزلزل الأسرة، وتفكّك العلاقات الإنسانيّة البنّاءة، وتغلغل الفقر والظلم والجور في كل مجالات الحياة الفردية والجماعية، وكذلك العنف والهيمنة وتجاوز حدود الحياة العامة والخاصة، كل هذه تحدّيات خطرة تهدّد الجميع. والمجتمع الحالي، والعالم المعاصر بحاجة إلى استقرارٍ وتوازنٍ جديدين. وفي هذا الظرف الحسّاس، بمستطاع أتباع الديانات الكبرى، ومن واجبهم أيضاً، البحث عن السبل الكفيلة باستقرار وإعادة خلق القيم والمؤسسات الدينية والمعنوية والإنسانية والاجتماعية الأصيلة والمؤثرة، والتأكيد على مساهمة الأديان الإلهية. وتعميق التفاهم والحوار بين الأديان، إنمّا هو من عوامل النجاح في توخّي الحل المنشود في هذا النطاق، ويمكن من خلال ذلك دعم المقوّمات والعناصر التوليفية في مواجهة مظاهر التصدّع المتزايدة في علمنا الراهن. فالدين هو الأساس والبناء لأكثر المعايير والقيم والقواعد ثباتاً وديناميكيةً، وفي ظلّ الأديان الإلهية يمكن وضع لُبنة المؤسسات الإجتماعية الفاعلة النابضة بالحياة ودعمها.

و"الأسرة" هي مؤسسة اجتماعية كانت دوماً موضع احترام وتقديس خاص من قبل الأديان الإلهية، على اعتبار أنها مضمار النمو والتكامل والازدهار، إمّا للفرد أو للمجتمع، ولهذا السبب كانت دائماً الموضوع الرئيسي في سياق الحقوق والواجبات الدينية. وبالتصدّع الثقافي والاجتماعي الراهن والناجم عن فقدان التوازن بين التنمية في العديد من المجتمعات ووجود الفوارق في العالم، يُعد الاهتمام المتضافر بتحكيم وتدعيم دور الأسرة، وإعادة صياغة هذا الدور في الظروف المستجدّة في مختلف المجتمعات، ضرورة لا بدّ منها. ولا يتسنى هذا الأمر الهامّ إلاّ من خلال جهودٍ جبّارة، معمقة ومتجددة في التعريف بالمفهوم الديني للأسرة، وإيضاحه وتكريسه وتعميمه على النطاقات القانونية والعُرفية والمؤسسات المدنيّة.

ينبغي علينا تقدير الأسرة حق قدرها واعتبارها في مركز التحولات الاجتماعية. فالرجل والمرأة والطفل والشاب والشابةّ هم أجزاء من الأسرة، لهم حالياً تواجدهم النشط والبارز على مستوى المجتمع والتطورات الاجتماعية. وحتى في الماضي كان للأسرة مكانتها، لكن وجود المرأة والطفل والناشئة في الأسرة، كان وقتذاك يعني تواجدهم على الهامش اجتماعيا. أما اليوم فالمرأة مدار الأسرة، والابن أو البنت موضوعها على صعيد المجتمع الآخذ في التحول السريع. ولا يمكن اليوم النظر في موضوع ثبات الأسرة، دون التدبير لتواجد المرأة الواسع النطاق جنباً إلى جنب مع الرجال النشطين في المجتمع، ومن دون أن يمس ذلك كيان الأسرة وبنيانها. ويتعين علينا اليوم النظر إلى الأسرة المتماسكة على اعتبار ان المرأة فيها هي المديرة والمدار والأم، وليست القابعة في المنزل ولا غير. فهي بالإضافة إلى وعيها الكامل ومسؤولياتها الاجتماعية تقوم بتدبير وتنظيم شؤون هذا الكيان، ولا يشذّ الأعضاء الآخرون عن هذه القاعدة. فالطفل والناشئ والشاب هم روافد حياة الأسرة ورأسمال المجتمع في نفس الوقت. وعليه فإن التوصل إلى استراتيجيات تطبيقية بشأن إقامة العلاقة بين الأسرة والمجتمع، هو الواجب الرئيسي للمفكرين والمخططين ومديري العصر الحديث.

وبناءاً على الرؤية الإسلامية، فإن للأسرة منزلة هامة ومصيرية في المجتمع الإنساني السلم. والمهم هو أن نعرف عالمنا بموضوعية ونعرف الإسلام كذلك بصورة صائبة، وأن نتذكّر دائماً أن الجمود والتحجّر من جهة، والإباحية والتحلّل من القيود من جهة أخرى، هما آفتانِ كُبريان يحولان دون تفهمنا للعصر، واستشرافنا بحكمة للإسلام بصورة خاصة، وللديانة بشكل عام. من هنا، ينبغي عرض وشرح هذه المفاهيم من منطلق الفهم العميق والمتطور للمبادئ الدينية ومقتضيات العصر والمجتمع. وفي هذه الحالة، وبالالتزام بالإسلام، يمكن استجلاء أفق جديد ومضيء في النظرة إلى المكانة السامية للمرأة ودورها في المجتمع.

وفي هذا العصر، حيث أصبح الحوار بين الحضارات والثقافات ضرورةً من أجل الرُّقي بمستوى التفاهم بين المجتمعات، وحيث أضحى التعايش والتواصل الفكري بين المذاهب والأديان الإلهية في مقدمة هذه الضرورات، آمل أن تكون مساعي وإجراءات هؤلاء المفكرين والمناضلين المسلمين، وبخاصة الأخوة والأخوات في لبنان، وقدوةً مُثلى على هذه الطريق.

إنّ التواصل في لبنان بين تعايش القوميّات والطوائف مع بعضها البعض من جهة ومقاومة العدة المحتل من جهة أخرى، مدعاة للاستلهام والتأمل بالنسبة لعالمنا اليوم فالمجتمع الذي بإمكانه رغم تنوع المذاهب والقوميّات المضي قُدُماً نحو تحقيق هدفه الديني والإنساني والتحرري والاستقلالي الأمثل، وكذلك التصدي لجشع المستعمرين وعدوان الصهاينة، لهو جديرِّ بالاحترام والتقدير دوماً وفي كل مكان.

وإنّ حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران إذ تُشيد بالتصدي الفعلي للاحتلال والهيمنة، تعتبر كل المحاولات الفكرية الرامية إلى فتح وتثبيت باب ثقافة الحوار بين المفكّرين وأصحاب الرأي خطوةً نحو السلام الحقيقي في عالمنا المضطرب الراهن.

مرةً أخرى أذكر ُ بإجلال العزيز الغائب عن الساحة سماحة الإمام موسى الصدر سائلاً العلي القدير أن يمنّ على الجميع بالتوفيق في مواصلة طريقة وتنفيذ المسؤوليات العظمى التي تقع على عاتقنا جميعاً.

source