الأسرة غاية في حكمة الحياة

calendar icon 04 تشرين الثاني 1997 الكاتب:محمد رشيد قباني

مثله الشيخ طه الصابونجي - مفتي طرابلس والشمال

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الاقتتاح)

الحمد لله. والصلاة والسلام على رسل الله وعلى خاتمهم محمد بن عبد الله.

أيها السادة.
من حق البشرية، وهي تودع قرناً حافلاً بالمنجزات والأزمات، أن تراجع رصيدها من القضايا الإنسانية، وما أكسب مسيرتها من تقدم، وما أعقب تجاربها من نكسات، ففي تلك المراجعة حكم صائب على المواقف ونتائجها، وشهادة ناطقة بالحق، على مختلف التيارات الثقافية التي اصطرعت وفتنت الناس بضجيجها ورواجها. وعلى التوجهات الاجتماعية التي صبغت تحدياتها بطلاء الحرية، لتتمكن من اتهام ما عداها بتهم التخلف والرجعية. وفي تلك ايضاً دعوة للجماعات الشاردة لكي تتواضع في قبول الحقيقة، وتترفع عن حميّة الغرور، وتتراجع عن تأليه الأهواء، وتكف عن الإصرار والاستكبار، من بعد ما تبين لها عجزها عن الإحاطة بكل الحقائق، وفشلها في تحديد الغاية الكبرى من حكمة الحياة..

ولعل من أهم القضايا والإنسانية وأعلاها وأشرفها، قضية الأسرة في مفهومها ونظامها، وفي أسرارها وآثارها، وفي مكارمها ومعالمها، وفي آدابها وواجباتها، ومن كل ما يرتبط بها ويصدر عنها، وفي كل ما يعود عليها وما يرتجى منها.

وقد تكفلت العناية الإلهية بالإفصاح عن كرامة الإنسان وقيمته، وعن متقلبه ومثواه، عن بدايته ومنتهاه، وعن فطرته وما يعليها، وعن قدراته وما يجليها، وعن حاجاته وما يشبعها، وعن أشواقه وما يرفعها، وعن حريته وما ينظمها، وعن حقوقه وما يقومها، وعن رسالته وما يسددها، وعن كل صغيرة وكبيرة تقربه من شاطئ السلامة، وتوفر له حياة طاهرة طيبة، وتحفظ له ميزان التبادل بين نسبية السماوي والترابي، وعنصرية الروحي والمادي، ووجودية الدنيوي والأخروي، ومحوريه الفردي والجماعي.

واكتملت هذه العناية بربط الحركة الإنسانية بالحقيقة الإيمانية، يبقى الإنسان في دائرة التنامي، ويرقى في معراج التسامي، ويسلم من أسباب التخلف والتدني، ومن كل ما يهين إنسانيته، أو يُنَقِّضُ من مكانته العليا بين الخلائق، أو يعود عليه بالعناء والشقاء.

فلم تكن الشرائع الإلهية قيداً لأفكاره، وكبتاً لمشاعره، ومجزءاً على حريته، ولجماً لأشواقه وطموحاته، بل كانت النور الذي يهدي بصيرته، والصراط الذي يقيه التراث ويبلغه مأمنه.

فالإنسان في نفسه وفي أسرته، وفي مجتمعه وفي عالمه، محل العناية الإلهية بما ساقت إليه من توجهات، ووضعت له من ضمانات، ورتبت عليه من تبعات، فكان فوزه الأسمى بمحبة الله له، فيما شرع الله له من أحكام، وفتح أمامه من مغاليق، وأسبغ عليه من نعم، وأنزل عليه من وحي، واتخذه طرف محاكاة، وفي ذلك مبلغ التكريم، وغاية الخلق في أحسن تقويم.

فالذين يستشرفون هذا المرتقى، يستشعرون لطف الله بهم بما شرعه لهم، ويزدادون شكراً لله على ما آتاهم من بينات الهدى، كما يزدادون تعلقاً والتزاماً بما أنزل من الحق.

أما الذين ارتابت قلوبهم، وغرتهم أنفسهم، فيصرفون عن شرع الله، لأنهم لم يلتمسوا النور الذي فيه، ولم تأخذهم مداركهم القاصرة إلى مشارق الأنوار في أقباس التجليات، فهم أكثر الناس اعتزازا بجهلهم، وأكثر الناس تسفيهاً لأنفسهم، لأنهم فقدوا رأس الحكمة، ونأوا عن مناهل العرفان. وتلك مأساة واهية من مآسي القرن العشرين، قرن المعارف والعلوم والتجوال بين الكواكب، والغوص في جينات الوارثة، حيث كان ينبغي ان يكون قرن الإيمان اليقيني، والترقي الإنساني، فاستعلى الغرور، واستتر الباطل، واستقوى الظلم، وتمدد الفساد، واستطال الإلحاد، وأطفئت سرج العقل، وشموع الرجاء، برياح الفتنة العقيم.

فماذا حصدنا من عواصف هوج مزقت أشرعة سفن كانت تجري بريح طيبة، تنقل الخير إلى كل ثغر، وتخفق بأقسام السكينة فوق كل المسكونة؟

وماذا جنينا من غرس مرّ، في أرض صلد، اقتلعت من أجله أشجار الرياض التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟

وماذا ورثنا من عولمة مهتاجة بزهوها، ذهبنا نستوقد من نورها ونارها، فلما أضاءت ما حولها طمست أعين الناس بظلام الضمائر، وخداع الوعود، وخيانة العدالة، وفساد القيم، وخراب الذمم؟

وماذا دهانا في عصر سطت فيه المادية الوثنية، والإلحادية الشموس، والوجودية الزائفة، والبراغماتية الوصولية، العلمانية البائسة، والتقت كلها على مغاضبة الله، وعلى استرقاق الإنسان بسلاسل براقة، وبأنياب من ذهب، ومخالب من فضة، فاخترقت عقله وقلبه، وتخطت عصور الاسترقاق التي كانت تكتفي باستعباد الأجساد وما تملك؟

وماذا أساءت الأسرة التي كانت صمام الأمان، ومهد العواصف النبيلة، ومحضن النفوس، وعافية المجتمعات، حتى أصبحت هدفاً لمرمى السهام من تلك الفلسفات التي اجتاحت الفطر السليمة، وتنكرت لمكارم الإنسانية، ولوثت سمعة الأسرة، وهدمت كيانها، وشوهت نشأتها ورسالتها، ومزقا وحدتها، وأنكرت روابطها التكاملية، وواجباتها التبادلية، فانفصمت العرى، وقسمت الطباع، وفشت العقد، وبرزت الأنانية، وفقدت الأسرة قاعدتها الإيمانية، ووشائجها الإنسانية، ومضامينها التربوية ورسالتها الاجتماعية، وحقيقتها التأصيلية في نمو الحياة وطهارتها، وارتباطها بمشيئة الله وإرادته.

واذا كان الإسلام الذي ختم الله به وحيه، قد وضع للأسرة نظامها الكامل، في حكمتها ومقاصدها، وفي قيامها واستقرارها، فإنه حرص على أن يرتقي الإنسان بذلك إلى مستوى ما شرعه الله، فهما وإدراكا والتزاماً، وبخاصة حين تتفتح امام أبواب المعرفة، وتتسع في نظره آفاق الحرية، فيرتقي إذ ذاك وعيه، ويستمسك بشرع الله على هدى وبصيرة ويقين.

أيها السادة:
والأسرة اليوم في لبنان يتهددها خطران، أما أولهما فهو التغيير الذي يطرأ على قيمها وتقاليدها، والذي وفد إلينا من خارج محيطنا الثقافي، مستغلاً رغبة التقليد للآخرين ومدللاً على وجوب إتباعه بموجات الحرية التي توفر لكل عضو في الأسرة ما يتشهاه من استقلالية، ولو كان ذلك على حساب الروابط التي تشد الأسرة إلى وحدة جامعة، أو الضوابط الوجدانية والخلقية التي تعصم كل أفراد الأسرة.

فالأسرة اليوم خرجت على قواعدها التي كانت تقوم عليها، وتتسلل إليها وافدات من أفكار وتصورات غريبة عن أصالتنا، وعن مناهج حياتنا، وعن مواريثنا الدينية والثقافية التي حصنت مجتمعاتنا وشعوبنا من الفوضى والانحدار.

وأما الخطر الآخر فهو السعي لإسقاط الأسرة من المنظومة الدينية التي تضع لها أسس قيامها، وتجعل لها أفقاً يرفعها عن بقية التصرفات والممارسات المعتادة من شؤون الناس ... فالدعوة إلى الزواج المدني هي سلخ للأحوال الشخصية عن شريعة الله، وإخضاعها للأهواء والتقلبات، وإلحاقها بدائرة الأزمات الغريبة عن مجتمعاتنا وثقافتنا، وعدوانية صارخة على شريعة الإسلام التي وضعت للأحوال الشخصية قواعد كلية، وأخرى تفصيلية، لا يجوز الخروج عليها، وإلا كان هذا الخروج مروقاً من الدين نفسه.

لقد تعددت الشعارات التي يرفعها البعض لتمرير الزواج المدني، وكلما تهافت شعار أردفوه بآخر، فتارة يكون التذرع بضرورة انصهار المجتمع وتارة من اجل توحيد القوانين، وتارة أخرى دفاعاً عن الحرية الشخصية، وأخيراً الاختباء وراء الديمقراطية.

ولقد سبق القول بإجهاض هذه الذرائع ولم يبق إلا أن يحتكم دعاتها إلى الحق، وان يلتزم الجميع بحدود الشرع، وأن يتوقف هذا المشروع الذي سيعرض الإستقرار العام لاهتزاز ولن يمر مهما كان الثمن.

أيها السادة
بوركت جهودكم التي تنصب لخدمة الأسرة. بوركت ضمائركم التي حركتها الغيرة على قداسة الأسرة وعلى رسالتها فكان هذا الملتقى ليعطي أفضل الثمار، ويخط أقوم طريقة، ويفوز بمرضاة الله.

source