الأسرة قيم وبناء

calendar icon 04 تشرين الثاني 1997 الكاتب:مار نصرالله بطرس صفير

مثله المطران بولس مطر- رئيس أساقفة بيروت

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الاقتتاح)

ايها الأخوة
يشرفنا أن نلقي أمامكم للعام الثاني على التوالي، بصفتنا ممثلاً لنيافة أبينا الكاردينال البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبي، كلمة باسمه في مناسبة افتتاح المؤتمر الذي ينظمه مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، وهو لهذه السنة بعنوان: "الأسرة واقع ومرتجى".

وفيما نهنئ القيمين على هذا المركز الرائد في مجال الدارسات الفكرية والإنسانية لاختيارهم الأسرة في واقعها ومرتجاها موضوعاً لبحثهم في خلال المؤتمر الذي يعقدونه ضمن نشاطهم الثقافي الخير بهذا العام، نتمنى لهم باسم صاحب الغبطة والنيافة حسن التوفيق ودوامه، وان تتكلل مساعيهم الحميدة بالنجاح، وإننا لنسأل المولى عز وجل، ان يهدينا جميعاً سواء السبيل لنقول ونعمل ما يجنب الأسرة في كل مكان مزالق الوهن والتفكك والضياع.

وقبل أن نسلط بعض الأضواء الأولية، وفي مجال كلمة افتتاحية حول هذا الموضوع الذي سيتناوله المؤتمرون الكرام لمدة يومين، ويسعونه دراسة وتحليلاً، نتمنى ان نزيد على النقطتين المفصلتين في عنوان المؤتمر بالذات، أي على مفهومنا لواقع الأسرة ولمرتجاها، نقطة أولية تتناول ماهية العائلة ودورها وقيمتها الأساسية في بناء الإنسان والمجتمعات والأوطان. وذلك على هدي من الأنوار السماوية التي عليها نتوكل لمعرفة كل حقيقة جوهرية في تساميها وفي الأعماق.

يؤمن المسلمون "ان الخلق كلهم عيال الله"، وما هذه الكلمات التي تعبر عن إيمان عظيم، سوى دلالة ما للأسرة من دور في تكوين المجتمع، بحسب مشيئة الله المرسومة له منذ الأزل. والمسيحية تعلم كما يعلم الإسلام، ان العائلة أي الأسرة هي المؤسسة الأولى التي خلقها الله بالذات، ورسمها لتكون الإطار الذي يحيا فيه الإنسان أول معرفة لربه ولذاته ولذويه كما للآخرين. ألم يقل الكتاب المقدس في العهد القديم بعد خلق الله للأبوين الأولين: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته ويكون كلاهما جسداً واحداً؟ (تكوين 2، 24).

من الأسرة إذن يبدأ المجتمع، ومن الأسرة الصالحة ينطلق المجتمع الصالح، لذلك، فإن الكنيسة المسيحية ترى أدواراً أربعة للأسرة تنبع من طبيعتها ومن هويتها الأساسية التي أرادها لها الله الخالق.

إنها أولاً: شركة أشخاص تبنى على الحب والتعاون. ويصل بولس الرسول، وهو الشارح الأول للإنجيل في تاريخ الكنيسة، إلى حد المقارنة بين العلاقة التي للرجل مع امرأته، والعلاقة التي للمسيح مع كنيسته، وفي كلتا العلاقتين حب مطلق يصل إلى حد افتداء الآخر، وهو حب لا شروط فيه ولا عودة عنه.

والأسرة ثانياً هي خادمة للحياة بإذن الله وإرادته.

وهي ثالثاً: مساهمة في تطوير المجتمع، وبخاصة عندما تضفي عليها روحها العائلية فتخفف من حدة المصالح المتضاربة بين أفراده وتعطيهم مسحة أكثر إنسانية وأكثر طراوة في التعامل وفي الحياة والأسرة.

رابعاً وأخيرا: تشارك في حياة الإنسانية كلها.

وفي هذا الإعلام عود إلى بدء. فمن الأفضل بكثير ان نرى في الخلق عيالاً لله من ان نراه شعوباً وأمماً وقبائل تتناحر. فالعائلة بطبيعتها هي مصدر طمأنينة وسلام، وفيها قبل سواها يعرف الإنسان الدفء والراحة والحب والحنان.

اما واقع الأسرة في بلادنا ومن حولنا، فهو الحمد لله يبعث بصورة عامة إلى الاطمئنان أكثر مما يثير القلق في النفوس، كما هي الحال، ويا للآسف، عند غيرنا من الشعوب. ولقد سبق واشرنا في كلمتنا لعام الماضي وفي إطار المؤتمر الذي عقده هذا المركز الزاهد للإمام الصدر. وكان بعنوان "كلمة سواء"، إلى أخطار التفكك المحدقة بالأسرة في العالم الغربي, وذلك بفعل تخلي العديد من أفراده عن القيم الدينية الحق، عن الأمانة والتضحية والحب الذي لا يعرف الحدود. ولقد عقد قداسة الحبر الأعظم لقاء عالمياً لأبناء الكنيسة الكاثوليكية، واختار له مكاناً في مطلع تشرين الأول الماضي في مدينة ريو دي جانيرو على ارض البرازيل، اي حيث بلغ التهتك مدى غير مقبول على الإطلاق. ودعا أبناءه، وكل الناس من ذوي الإرادة الصالحة في العالم، إلى العودة لتطبيق مقاصد الله في العائلة، لان فيها وبها درب الخلاص، ليس للعائلة المسيحية وحسب، بل للمجتمعات الإنسانية برمتها. وكان قداسة البابا قد أشار في رسالة وجهها إلى المؤمنين في إطار السنة العالمية للأسرة العام 1994، إلى الأخطار الفكرية والإيديولوجية المعاصرة التي تهدد الأسرة في كيانها تهديداً مباشراً وقوياً حين قال: الخيار يجب ان يكون حاسماً ومحسوماً بين حضارة المحبة في العالم وحضارة النفعية والإنتاج. "فالنفعية حضارة الإنتاج والإمتاع، حضارة الأشياء لا حضارة الأشخاص، حضارة يُستخدم فيها الأشخاص كما تستخدم الأشياء. ففي حضارة الإمتاع قد تصبح المرأة أداة والأبناء مجلبة إزعاج للوالدين، والأسرة مؤسسة معرقلة لحرية أفرادها. ولتيقن هذا الأمر يكفي تتبع بعض مناهج التربية الجنسية التي أدخلت على المدارس ومن غير رضى الأهل أحياناً، بل مع اعتراض الكثيرين منهم، أو الميل إلى تشجيع الإجهاض الذي يتستر عبثاً "بستار حق الاختيار" من قبل الزوجين ولا سيما المرأة".

الأسرة إذن مستهدفة ثقافياً، في عالمنا المعاصر، وهذا أخطر استهداف تتعرض له ولقد بات هذا الخطر يدق على أبوابنا، فلا ندعه يتغلغل إلى أفكارنا وإلى تصرفاتنا الفردية والجماعية وإننا لنلفت هنا باعتزاز إلى التضامن الرائع الذي ظهر في مؤتمر التنمية والسكان الذي عقد منذ ثلاث سنوات في القاهرة بين وفد الكرسي الرسولي القادم من الفاتيكان, ومجمل الدول الإسلامية التي وقفت معه دفاعاً عن كرامة الإنسان، ووقف التلاعب في قضية إيقاف عدد سكان الأرض عند حدود رفاهية بعض الدول، التي لا ترى في الكون إلا رفاهيتها، على ما كان ينادي به في المؤتمر عينه وفد الولايات المتحدة الأميركية. وكان النصر بإذن الله، ولو معنوياً وأخلاقياً، حليف القوى الروحية الحقة، المسيحية والإسلامية معاً وفي صراع واحد.

من هنا الواقع يبدأ المرتجى لعائلاتنا ولكل العائلات في العام. وما يهمنا بصورة أولى في بلادنا هو الحفاظ على تراثنا وصون عائلاتنا من الضياع، لا لأنها تتأثر ثقافياً بعالم معاصر يٌفرز أخطاء فكرية وقاتلة. بل لأنها توجد اليوم في حالة فقرأ فرزتها الحرب الأخيرة مما بات يهدد مصيرها ومصير اودلاها، إن على تقصير في سياسة الإسكان في بلادنا وفي مجال تأمين التعليم أولادنا والطبابة لمرضانا، وفي مساعدة الأهلين على مواجهة مشاكل الحياة ومصاعبها، سوف يؤدي، ولقد بات يؤدي، إلى التقليل من تأسيس العائلات إلى تفكك بعض ما تأسس منها، وإلى العيش الصعب لمن بقى صامداً مع معتقداته ومستلزمات إيمانه القديم.

ان الأمر جلل أيها السادة إذا ما هدِّد مجتمعنا بعائلاته. وكأن البيت الذي هو بيتنا جميعاً بات معرضاً، ليس في سقفه ولا في نوافذه، وجدرانه، بل في أساه والدعائم التي يقوم عليها بالذات.

فشكراً لكم ايها المؤتمرون المنظمون لهذا المؤتمر تسلطون الضوء على ما يهدد كياننا أكبر تهديد وما ينقذنا أكبر إنقاذ من خطر داهم وشر مبين، لذلك فإننا ندعو لكم بالتوفيق في ما تقومون به، والله من وراء القصد وشكراً لكم جميعاً.

source