لإنقاذ الأسرة من تلوث حضاري

calendar icon 04 تشرين الثاني 1997 الكاتب:بهجت غيث

شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الاقتتاح)

بسمه تعالى، نبدأ في أول السطور وإليه نعود في جميع الأمور والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أصحاب السماحة والسيادة والسعادة والفصيلة سلام عليكم وعلى كل أخوة الإيمان من جميع الطوائف والمذاهب والأديان في كل مكان. سلام توحيدي من لبنان الذي يبقى وطن الحرية والمحبة والأخوة والاجتماع على الكلمة السواء التي كانت منذ البدء التكويني للخلق وستعود بأمر مكونها في وعده الحق في كتابة العزيز كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا حقاً إنا كنا فاعلين.

وتبقى سير الصالحين، ونفحات أنفاسهم العطرة، ومبادئهم وأفكارهم النيرة، وإشراقات وجوههم الخيرة، وإن غابت، حضارة في أذهان الأجيال الواعية كأنها لم تغب، وتبقى ذكراهم تتجدد وآثارهم ومآثرهم تتجسد في مقتفي مبادئهم ومتابعي مسيرتهم ومخلدي نهجهم وسيرتهم، وهذا ما يجمعنا في هذه المناسبة التي أعد لها وهيأها مركز الإمام الصدر للبحوث والدراسات، مناسبة الاهتمام بالأسرة "واقع ومرتجى" لهذه السنة في سياق متابعة مسيرة البناء والعطاء كما هيأ في السنة الماضية مؤتمر "كلمة سواء". وما أحوج إنسان هذا العصر للرجوع إلى رشده وحقيقته والصحوة من غفلته ورقدته على أسرة الركون والاستسلام لشهوات نفسه الأمارة بالسوء، في زمن تحطم القيم والفضائل وعلو الباطل، وهجوم الكوارث والحروب والمحن وكثرة النزاعات والمآسي والشرور والفتن في كل مكان من هذا العالم المضطرب المترنح على بوابة عبور الألفين، وفي ظل سراب وضباب حضارة القرن العشرين التي سجلت نجاحات واكتشافات في معظم الميادين والمجالات الأرضية والفضائية، مما جعل كوكبنا الذي نعيش عليه كقرية صغيرة، لا يخفى عن أهلها في كل جانب وناحية، ما يحدث في الجانب الآخر، وأصبحت العائلة الآدمية الكونية بأسرها كأسرة بشرية واحدة، بكل دولها وأممها وشعوبها وطوائفها وأديانها ومذاهبها، شديدة القرب والتأثر ببعضها البعض، وكثيرة التبادل والاختلاط والتفاعل والتماس مع بعضها البعض، وبالتالي أصبح إنسانها كثير الظلم والجور والاعتداء والخطر على أخيه الإنسان، وأصبح وحش المادة أوحش من كل وحوش الغابة، وفغر فاه مستشعراً لفراغ مدته وتمام نظرته مع إبليس والشيطان.

وتلوث الجو الكوني بسموم المادة القاتلة لإنسان هذا العصر الذي أصبح في خُسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصلوا بالحق وتواصوا بالصبر. فأين نحن اليوم في لبنان، وأين هو العالم وإنسان هذا العصر والعائلة والأسرة البشرية، التي تعيش في ظل الشجرة الكونية المضطربة أمام هبوب رياح التغيير وعواصف الحروب وإهراق الدماء والتخريب والتدمير؟ وكيف يواجه الإنسان جنون حضارته المادية، وخطرها المدق بمستقبله الذي صنعه وارتضاه لنفسه؟ عندما غرق في مستنقع شهواته الغريزية، ونسي قيمة الروحية، وأغفل الأوامر والنواهي الآلهية فتاه عن الحق والحقيقة التي تربَّى عليها، وسمعها في الكلمة السواء التي نطقت بها كل الرسالات السماوية والأديان والرسل والأنبياء، الذين تعاقبوا عبر الدهور والعصور ورددوها على مسامع العائلة الآدمية وكأنها خرجت من فم واحد لغرضٍ واحد، وهي الدعوة للإله الواحد الأحد الفرد الصمد خالق الخلق ومعلي كلمة الحق، صاحب التكوين والعزة واليقين إله الأولين والآخرين، له الملك وله الأمر من قبل ومن بعد، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وأنتم تسألون.

أيها الأخوة الأحباء في الأسرة اللبنانية النموذج المعبر بكثير من الصدق والتطابق عن الأسرة البشرية الكونية بما فيها من الأديان والطوائف والمذاهب المتعددة بمظاهرها ذات الحقيقة الواحدة في جوهرها. لأن الإنسان المخلق على صورة خالقه المتميز بالعقل والفهم هو غرض الخالق من كل مخلوقاته أوجده الوجود ليوجد وهداه إلى طاعته معرفته ليعُرف به ويُوحَّد ويُعْبد. فبقدر ما يتحلى هذا الإنسان بالقيم والمثل والفضائل والصفات الحميدة والمناقب السامية المتسمة بالشرف والعفاف والخلق السمح والصدق والمحبة الحاصلة والقرب لأخيه الإنسان بقدر ما يكون محققاً للذات الإلهية في ذاته وفي صفاء مرآة نفسه الشريفة التي تستمد صفاءها ونقاءها من الذات اللطيفة المنزهة عن الذوات. فأينما توجهت فثم وجه الله – وما جمال العوالم غير مرايا جمال المبدع. وما العائلة البشرية الآدمية والأسرة الكونية إلا عائلة واحدة وأسرة واحدة. منسوبة لآدم أبو البشر ومربيهم ومعلمهم الديني الواحد مبشرهم بأبوة خالقه وهاديهم إلى معرفته كما بشر كتاب النور والإشراق في قوله: "وما خلْقكم وما بعْثكم إلا كنفس واحدة. وما خلقنا الجن والإنس إلا ليعبدون". أي ليعرفون. في قوله مخاطباً الرسل الذين تعاقبوا على تربية العائلة الآدمية تربية دينية "يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم (وإن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاتقون، فتقطعوا أمرهم بينهم زُبُراً كل حزب بما لديهم فرحون) فذرهم في غمرتهم حتى حين" ]المؤمنون 51، 54[. إلى أن يقول "لقد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت أبائهم الأولين" (98) دلالة على وحدة الكلمة على ألسن جميع الرسل من قبلهم ثم يقول "أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون" (69) أم يقولون به جنَّةٌ بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70) (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهم بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون (71) ولا تختلف آيات "سورة المؤمنين". وكل آيات كتاب صاحب إشراق الشمس المحمدية في جوهرها عن آيات من جاء قبله من الرسل والرسالات وقد تبين ذلك الكتاب في قوله لا نفرقُ بين احدٍ من رسله فالأسرة البشرية واحدة وواحد إلهها ومرجعها وخالقها مبدئها ومعيلها في كون واحد رغم تعدد شعوبها ودياناتها وحضاراتها ولغاتها وهوياتها وانتماءاتها. ولا بد من انقسام في النهاية إلى أسرتين لا ثالث لهما أسرة الخير وأسرة الشر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. يوم تُجازى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون وكما قال صاحب الإشراق العيسوي – "أعرفوا الحق والحق يحرركم"، "وجاء النور إلى العالم فأحب الناس الظلمة أكثر من محبتهم للنور" وغير ذلك من الآيات البينات والعلوم الفائضة في الكتب والرسالات السماوية التي أنزلت من الينابيع السبحانية وأشرقت من أنوار الشموس الأحدية ناطقة بالكلمة الأزلية – منذ بدء التكوين وعلى مر الدهور والعصور خلقاً بعد خلق لتكون بين أيدي جميع الخلق حجة لها ام عليهم. يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر. ويوم تجازى كل نفس بما كسبت من خير وشر ويوم لا تزر وازرة وزر أخرى. ويوم لا ينفع نفساً إيمانها إن لم تكن قد آمنت من مضمون الكل في كونه وإذا صح الجزء صح الكل والمجتمعات والأمم والشعوب والدول كلها تتكون من الأفراد وبالتالي الأسرة الكونية بأسرها والعائلة البشرية الكبيرة بمجملها تتكون من الأسر والعائلات الصغيرة كالحلقات المترابطة المنتظمة التي تٌكون السلسلة البشرية للعائلة الآدمية التي تعيش كما سبق القول في هذه القرية الكونية في زمن تقلص المسافات وتقارب الأبعاد وتشابه الصراعات والهموم والمشكلات والأزمات والكوارث المتنقلة من حي إلى حي ومن زاوية إلى زاوية ولكل دوره وحصته في الحصول على ما يستحقه من جنى المحصول الذي زرعه خيراً أم شراً في كل أجياله وتقلباته وتغيير أقمصته، فإنسان اليوم هو نفسه إنسان الأمس وإنسان الغد، وصعوبة الزمن من سوء العمل. فموجه الفساد والجور والظلم والانحراف التي يعيشها العالم اليوم لا بد أن تنتهي ولا بد مهما علا الباطل أن يأتي عليه الحق فيخمده، ولا بد من بزوغ فجر المؤمنين الموحدين المستبصرين الصابرين مهما اشتدت عتمة آخر الليل – فآخر الصبر أول الفرج. وما يعيشه إنسان هذا العصر من ويلات ومآسي وما يحدق به من خطر ورعب ويعانيه من شدة وضيق وتفكك وتراجع وضياع القيم والفضائل والمثل إلا نتيجة نسيان الحق وجهله ومعاداته لأن الإنسان عدو ما يجهل ومن نسي الحق كان الحق له ناسياً ماحقاً – كما قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هو الفاسقون (الحشر 19) وقال ايضاً محذراً من الغرق في ظلمة الشهوات والملذات والخبائث ومن الاشتغال بالنعم ونسيان المنعم فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (الإنعام 44) إلى قوله لا تعتذروا لقد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين. المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (التوبة 66 – 67). فالنسيان تكون الغفلة وبالغفلة تكون الفتنة وبالفتنة تكون الهلكة. وليس أصلح للناس من أولي الأمر إذا صلحوا وليس أفسد منهم إذا فسدوا. ولا تصلح الأمة إلا بصلاح الأئمة ولا تصلح الأسرة إلا بصلاح أفرادها ولا يعم الصلاح إلا بجهود المصلحين. ولا يمكن للمفسد أن يُصلح لأن فاقد الشيء لا يعطيه ومن يخلو قلبه من مخافة خالقه لا يزال من أكثر خلائقه مرعوباً. فالواجب علينا يقضي أن نتمسك بكلمة الحق مهما غلت التضحيات دون خوف ولا هم. وفي القول المأثور إن أفضل عمل يقدمه المؤمن الصادق الواثق قوله كلمة حقٍ في وجه متكبر جائر فالذي تخشاه دائماً هو الذي يتسلط عليك بالعادة ومن ترك الحق لزمه الباطل ومن ترك الصدق لزمه الكذب ومن ترك الصواب لزمه الخطأ. بهذه الذهنية وبهذا المنطق نستطيع الانتصار على أنفسنا وعلى الآخرين ونخرج من ضيق الدهاليز الطائفية والمذهبية والدينية المتزمتة لنكون طائفة واحدة وأسرة واحدة وصفا واحداً متجذراً من كل صفوف الطوائف والأديان والأسر هنا وهناك وفي كل مكان.

نطلق هذه الدعوة بكل ثقة وصدق وإيمان ونتوجه بالشكر للأخوة المنظمين والمشاركين في مناقشات موضوع مؤتمر "الأسرة واقع ومرتجى" ونتمنى لهم جميعاً التوفيق والنجاح في مداخلاتهم وتوصياتهم واهتماماتهم التي نتمنى أن يصعدوها ويوسعوها من الأسرة الصغيرة إلى المتوسطة فالكبيرة ومن الفرد إلى المجتمع إلى الأمة وصولاً إلى الأسرة الدولية التي يحف بها خطر الاحتواء والافتراس من الوحش الصهيوني المتربص ليس بالعالم العربي فحسب بل بالعالم كله بكل قيمه وحضارته وأديانه وأسره الصغيرة والكبيرة يحاول نفث سمومه الشيطانية ويحيك مؤامراته وخدعه الإبليسية بما يملك من قوة ونفوذ وسيطرة سياسية وإعلامية ومادية يقلب الحقائق ويزور الواقع ويدفع العالم إلى هاوية الانحراف والفساد والغرق في مستنقع الانحلال الأخلاقي والإغراء المادي الغرائزي لإحكام السيطرة عليه وتنفيذ المخطط التلمودي القديم الحديث. فإن لم تنتبه الأسرة الدولية بما فيه الكفاية لما يحدق بها من الخطر فعلى الأسرة العربية والإسلامية ان تكون في تمام الوعي والصحوة والاستنفار بكل الطاقات والقدرات والإمكانات للتصدي الفعال والوقوف صفاً واحداً في وجه الوحش الصهيوني الزاحف لافتراس الأمة العربية وابتلاع أرضها ومقدساتها وثرواتها وجعلها سوقاً استهلاكية بموجب اتفاقات الاستسلام ومؤتمرات التخريب والتفتيت والشرذمة المقنعة بشعارات الازدهار والتنمية وغير ذلك من المتهافتين على الاستسلام والارتماء في أحضان العدو وسماسرته وعملائه الكبار والصغار من مختلف القياسات والأحجام. فالطريق أصبحت واضحة وكأنها مرسومة بخط القدر الغير قابل للتبديل والتغيير ولواء النصر معقود وبإذنه تعالى لجبهة الصمود والثبات التي تتمحور حول سوريا الأسد ولبنان البطولة والمقاومة وكل المخلصين في الأمة العربية والإسلامية الواقفين مع الحق العربي بثبات وصمود وصبر حتى تحقيق النصر ولعل ساعة التجربة التي تتسابق مع الزمن المتبقي لبلوغ الألفين ستدق وتحدث المفاجآت وتنكشف المعجزات وينتصر الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، وقبل الإنتهاء من حديث الأسرة لا بد أن نتوجه بكلمة إلى أسرة الحكم التي أولاها الشعب السلطة لترعى شؤونه وتحمي مصالحه وتحفظ كرامته وتتسلط على المفسدين والمنحرفين والسالبين للقمة عيشه لا عليه. فأسرة الحكم كالرأس للجسد فيجب ان يكون الرأي معافى مستقيماً ليستقيم الجسد، ويتعافى والاهتزاز والرجفة والخلل الذي يصيب الرأي ينعكس ضرره وخطره على الجسد والأسرة اللبنانية لم تعد تتحمل مزيداً من الإصابات والمصائب والكوارث والأزمات السياسية والاجتماعية والمعيشية والأخلاقية وغير ذلك مما جعل البلاد على حافة الخطر المحدق والكارثة المحتمة. ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

فإذا عادوا إلى ضمائرهم وأصلحوا أنفسهم واقلعوا عن سياسة المصالح الضيقة وتقاسم الحصص والمناصب والمكاسب وإغراق البلد في لجج الفساد والفوضى والديون والهدر وموجة الفلتان الأخلاقي التي تجتاح المجتمع وتسمم أسرته بخبائث نفثاتها التي يسمونها وسائل إعلامية وإعلانية احتكروها تحت ستار – نظموها – على طريقتهم المعهودة ونهجهم المعروف – وبذلك دعوا إلى المنكر ونهوا عن المعروف، فتوصيتنا للمؤتمر أن يولي مزيداً من الاهتمام لإصلاح أسرة الحكم وتوصيتهم بأن يستقيموا ويعدلوا، والعودة إلى الحق خير من التمادي على الباطل فان فعلوا وأحسنوا فلأنفيهم ولشعبهم ووطنهم بكل أفراده وأسره التي هي في الواقع أسرتهم الواحدة وإن تولوا وأدبروا وأصروا على غيهم فإن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده يستبدل قوماً غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم – والسلام عليكم والتوفيق حليفكم بإذنه تعالى ما دامت النوايا خالصة في توجهها للإصلاح والمعالجة بالعقل والحكمة لإنقاذ الأسرة من التفكك والضياع والتخلف والحرمان والانحلال وغير ذلك من الأمراض العصرية والملوثات الحضارية ونقص المناعة الخلقية التي أحدثت ضرراً بالغاً بالأفراد والمجتمعات والأسر ولا يجوز السكوت عنها ولا نستغرب أن تنطلق شرارة الإصلاح الذاتي من الفرد لتعم الأسرة اللبنانية ثم من لبنان لتشمل الكونية، عشتم وعاش لبنان.

source