إعادة ترتيب أولوياتنا التربوية

calendar icon 04 تشرين الثاني 1997 الكاتب:عبد الرحيم مراد

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الجلسة الأولى)

بسم الله الرحمن الرحيم
ايها الحضور الكريم،

يسرني ويشرفني، أن أكون مشاركاً في هذا المؤتمر الوطني والاجتماعي، الذي تنظمه مؤسسات الإمام الصدر، شاكراً لها ألطفها بدعوتي، آملاً ان يكون هذا النشاط، وكل نشاط مماثل، لبنة في بناء مجتمعنا، على أسس وطنية وتربوية، وأخلاقية واجتماعية صحيحة.

- إن أخشى ما نخشاه، ان يكون العصر، قد اقتحمنا بثورة الاتصالات، وإننا لم نعد قادرين، على تدارك عواقب هذه الثورة السلبية، على أبنائنا، جيل الغد، وبناة المستقبل، لكثرة المؤشرات غير الصحية، التي تلتقطها عيونهم، وآذانهم، وعقولهم، الأمر الذي يستوجب دق ناقوس الخطر، وإعادة ترتيب أولوياتنا التربوية، وبرامجنا المرئية، وحاجاتنا الاجتماعية، دون انغلاق او تزمت، ولكن في إطار من الخطط التوجيهية، التي تجعل كل شيء باعتدال، ولا يكون هذا، الا بأن نعيد النظر في الموقف من الأسرة، إعادة قراءة واقعها، قراءة علمية، موضوعية، باعتبارها صاحبة الدور الأوفى في التنشئة والتربية والتوجيه، أسمح لنفسي بإبداء بعض الملاحظات، حول واقع الأسرة الحالي في مجتمعنا:

1- الفجوة الكبيرة أسرياً، بين الريف والمدينة من جهة، وداخل كل من الريف والمدينة من جهة أخرى، حيث نرى الطفرة الكبيرة أحياناً، في القدرة على امتلاك كل وسائل العصر، دون ان يواكب ذلك، حسن التصرف في هذه الوسائل، وحسن استخدام لها، ويقابل هذه الصورة نقيضها، حيث نرى أحياناً العجز المطلق، والفقر المدقع، الذي لا يمكّن أصحابه، من شراء كتاب مدرسي، بكل العوامل المتفاعلة سلباً، في قلب من هاتين الصورتين المتناقضتين.

2- البديل المصطنع لأم ودورها، داخل الأسرة الواحدة، خاصة في المجتمع المديني، إذ كثيراً ما تتداور أكثر من مربية، على الطفل في سنواته الأولى، إما بحكم عمل الأم كموظفة، وإما بحكم دورها كسيدة مجتمع، ومما يزيد الوضع الأسري اختلالاً، ان هؤلاء المربيات، غريبات عن المجتمع وقيمه، لغة وثقافة، وعادات، وتقاليد، ولا يرتبطن بع، الا بعامل المكسب المالي.

3- الغربة الداخلية أحياناً عن المجتمع، في حياة الأسرة اليومية، حيث نرى الخطاب السائد، داخل البيت الواحد، باللغة الأجنبية، ظناً بأن ذلك من علامات الرقي، والصورة المقابلة لهذا المظهر، استقلالية مصطنعة أحيانا، حيث نرى ان انهماك كل فرد باهتمامه الخاص، متخذاً من غرفته، ركناً مستقلاً في كل شيء.

4- ظاهرة الهروب من الواقع الأسري أحياناً، بدلاً من مواجهته، فيكون المقهى على اختلاف مستوياته، الملاذ والمهرب، وتكحون وسائل تزجية الوقت، على اختلاف أنواعها، هي السمير والصاحب.

5- ظاهرة الترفع أحياناً عن العمل، كقيمة اجتماعية وسلوكية، بذريعة نوعه، او صعوبته، او أكثر الوقت المستلزمة له، وكلها مبررات للبطالة، والتماس نافذة للهرب من الواقع نحو المجهول.
- وإذا كانت هذه هي بعض الملاحظات عن واقع الأسرة، فإني أسمح لنفسي بإبداء بعض الاقتراحات كمرتجى لأسرة سليمة:

1- التحصين الذاتي داخل الأسرة الواحدة، بالعمل على أن يعود الأب والأم، كل لدوره في بث الدفء والحنان، بين جنبات المنزل، وهذا لا يتعارض أبداً، مع دور كل منهما في المجتمع، سواء في الحقل الوظيفي او في العمل العام.

2- يجب ان تكون الأولوية في توجيهنا التربوي، للانتماء الصحيح والسليم، وهذا يستوجب الانسجام التام، بين البرامج التعليمية المدرسية كوسيلة للمعرفة، وبين برامج الحياة اليومية الأخرى، مرئية ومسموعة ومقروءة، كوسائل للثقافة العامة، كما يستوجب الانسجام التام، بين الخطاب التربوي الرسمي، كتوجيه للسلوك، وبين وسائل الخطاب الأخرى، من منابر ثقافية وإعلامية.

3- الموضوعية في التعامل بين الأصالة والمعاصرة، فحضارتنا تختزن من القيم التربوية، والثقافية، والاجتماعية، والعلمية، ما هو جدير بأن يكون موصولاً بالعصر ومتصلاً به، وهذا ما يجعل أمتنا تمتلك قوة دفع كبيرة من الأصالة، اما واقعنا، ففيه الكثير من الظروف الموضوعية، التي يجب ان نجيد قراءتها، حتى لا نقع في خطأ الاستنتاج، والقيمة الأكثر إلحاحاً بعد ثورة الاتصالات، وهي جانب تقني محض، يجب ان نحرص على ان لا تفوقنا منافعه، هي قضية الصهيونية على أرض فلسطين، حيث نرى ترويجاً مشبوهاً للتطبيع، أحياناً في وسائل الإعلام، وأحياناً في مؤتمرات اقتصادية، في نوع من التناغم بين هذه جميعها، إدعاء بواقعية زائفة، وتجاهلاً لماضٍ، القريب منه أكثر من البعيد، دلالة على ان الصراع، بين العروبة والصهيونية، طويل ومرير، وأن هذا الصراع إذا كان قد استنفذت وسائله العسكرية، فعلا صوت السلام على صوت الحرب، فإن هذا السلام المزعوم، يريد ان يطل علينا من نافذة الثقافة، تشكيكاً بما بملك من وسائل التفوق على العدو فيها.

- ايها الحضور الكريم:
إننا نطل على القرن الحادي والعشرين، لكننا في واقع حافل بالأحداث، ومجتمعنا زاخر بالفاضل من القيم، والأسرة هي الأحق بالاهتمام، لأن من بين جنباتها، تتسرب أجيال المستقبل إلى الحياة، فإما ان تتفوق عليها، وحينئذٍ يكون المستقبل أمامها، وإما ان تطفو على سطحها، فتكون أسرى واقعها، دون أن ننسى ان جيل المقاومة الباسلة، الذي نشاهد بطولاته في الأرض المحتلة، في فلسطين وفي لبنان، هو ايضاً جيل بعرف كيف يبني الحياة، فهو الذي خوض معركة التحرير، ومعركة تغيير المفاهيم المغلفة بالواقعية، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

source