الأسرة والتلفزيون

calendar icon 04 تشرين الثاني 1997 الكاتب:جان كرم

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الجلسة الاولى)

سئل برنار شينبرغ (Scheinberg)، الأب الأكثر إنجاباً من زوجة واحدة في العصر الحديث: "أنت أب لـ 69 ولد من زوجتك الأولى، و18 ولداً من زوجتك الثانية ....متى تلتقون؟". أحاب: مساء امام شاشة التلفزيون ... عفواً شاشات التلفزيون الموزعة في البيت". ولم يضحك.

إنه مشهد عائلي نموذجي يضعنا مباشرة امام الموضوع الأكثر رواجاً في هذا العصر: إلى أين مع التلفزيون؟ إلى فصول أخرى من المتعة والتسلية. إلى مساحات غير محدودة من المعلومات والأخبار والأحداث؟ ام – بعيداً عن كل هذا المكشوف – إلى مزيد من التبعية والرضوخ لسلطة خفية لا توفر واحدا من أفراج العائلة من تأثيرها ابتداءً بالأب والأم وانتهاءً بالأبناء والبنات على تنوع أعمارهم؟

نحن نقول: حتى السؤال في هذا الموضوع لم يعد وارداً. الجواب جاهز: التلفزيون في البيت وفي الأسرة لم يعد قط في منزلة الجهاز الذي نشتريه ليكون في خدمتنا. لم يعد أساساً يأتمر برغباتنا ليصير حامياً ومسرحيات وحلبات ترفيه. لقد لعب لعبة الأعاجيب في زمن اللاأعجوبة، فصار سيد الدار إلى أن صار "سيد الدار من دون منازع" عندما ضم إلى خدماته السابقة الخدمة الجديدة، وهي نزول الإنترنت على شاشته.


الكلام كبير. أعرف. لذلك سأحاول أن أنازله بعرض أسباب هذه السيادة المفزعة، وبالمواقف التي أتمنى ان يلتزم بها لإعادة السيادة إلى أصحابها.

في الأسباب:
أولا: من كل وسائل الإعلام الجماهيرية، وحده التلفزيون عند القدرة على طمس المسافة بين الرائي وما يراه، وصولاً إلى الوحدة المطلقة بين الإثنين. في زمن المشاهدة التلفزيونية تصبح الصورة التلفزيونية والمشاهد واحداً بلا إنفصال. كيف؟

إن السينما كما الكتاب والصحيفة، تقدم للمشاهد الحدث او الخبر او الرواية وقد "دُمِغَ" كل منها بالزمن السابق، على رغم كل مفاعيل العرض السينمائي في الصالة المظلمة. فالمشاهد يذهب إلى صالة السينمات، وهو عارف معرفة مطلقة بأن الفيلم أنتج في زمن سابق للعرض، قبل أشهر، قبل سنة، فبل سنوات. وهو مدرك تماماً أن المكان الذي جرى فيه التصوير مرتبط إلى حد بعيد بزمن التصوير.

فالمسافة بين الفيلم وبينه بعيدة. صحيح أن الصالة المظلمة، والشاشة الكبيرة تجعلانه يعيش – في أثناء عرض الفيلم – في وهم التوحد زمانناً ومكاناً بالأحداث الدائرة فيه وبالقصة والشخصيات، ولكنه عندما يترك الصالة ويعود إلى نفسه يرجع الانفصال والبعد إلى الحضور.

اما التلفزيون فيسقط أي شعور بالبعد الزمني والمكاني – ويتلاقى الإثنان – التلفزيون والمشاهد – في عالم واحد موحد. ولا يطرأ اي تعديل على ذلك بعد انتهاء العرض. وفي وصوله إلى هذا الوضع لا يخضع المشاهد إلى أي نوع من أنواع المؤثرات الخارجية، بل يتابع حياته العادية، وهو ينظر إلى الشاشة.

من هنا، ان طاقات التلفزيون على إحاطة الفرد – وبالتالي الجمهور – بكل مستلزمات التفاعل والإقناع والتخاطب النفسي، والإستعداد للقبول بالوسائل الإعلامية قبولاً إيجابياُ، هي أقوى من طاقات السينما، وأقوى، ربما، من طاقات الكتاب والصحيفة. حتى قال شارل فورد في مقدمة كتابه "Camera et Mass Media": "إن التلفزيون عندما لا يلعب دور جهاز بث على مسافات بعيدة لمنتجات السينما يملك القدرة على النفاذ والإقناع، وتسللاً مخاتلاً إلى لا وعي الإنسان الذي يجعل تأثيره مباشراً وخبيثاً في آن واحد".

في الأسرة يعني كل هذا:
إن الحضور الطبيعي التقليدي الشرقي والإنساني للأب والأم في حياة الأولاد وصار مهمشاً. وبتعبير أدق أصبح خاضعاً لمنافسة غير متكافئة من التلفزيون، لأن إمكانات هذا الأخير متفوقة.

فالولد يمضي أمام التلفزيون، وسيطاً، ثلاث ساعات. وهذه الساعات مكثفة بالضخ الإعلامي السلوكي والأخلاقي والحياتي والمعلومات. بينما قد لا يتجاوز الحضور "الفعلي" الدينامي للأب بين أولاده الثلاثين دقيقة، وإن ارتفعت نسبة حضور الأم في حياة أولادها أحياناً.

ثانياً، التلفزيون يؤكد للمشاهد ارتباطه العضوي الكامل بالعالم، من دون عقد. يجعله شريكاً للإنسان الآخر أينما كان. خصوصاً بعد شيوع النقل المباشر وغير المباشر عبر الأقمار الاصطناعية، وعبر الإنترنت الداخل سعيداتً إلى الشاشة الصغيرة.

وهل ننسى أن في العالم ما يناهز 425 مليون جهاز تلفزيون، وأكثر من مليارين من المشاهدين المداومين على التسمر أمامه على مدار السنة؟

وهل نتذكر ان الحفلة الأخيرة لـ "تيلي فود" حضرها أكثر من 33 مليون مشاهد في العالم في وقت واحد. هذه حفلة واحدة.

في الأسرة، يعني هذا انفتاحاً واسعاً على العالم بكل تفاصيله في عصر العولمة. يصير هناك تناقض آني، ثم راسخ مع الوقت، بين مفهوم الأسرة الشرقي المغلق الاسراري البيتوتي، وبين مفهوم الأسرة الكونية المنفتحة المعلنة المحررة.

هذه الحال التناقضية اليومية مرشحة للتكرار والترسخ؛ ما يضع الأسرة كاملة، من الأب إلى الأم إلى الأولاد أمام تعييرات جذرية وخيارات عديدة، تراوح بين العودة الصارمة إلى مزيد من الانكماش على الذات "البلدية" التقليدية، وبين مزيد من الانفلاش والأخذ بالمعطيات العالمية للحضارة، وما يستتبع ذلك من تصادم مع المعطيات المحلية والإقليمية والدينية لحضارة الشرق.
ثالثاً: يسعى التلفزيون باستمراره إلى تمتين إغراء الفكر والعين والحواس، وصولاً إلى الإستيلاء على مجمل الشخصية التي تنشئها وتربيها الأسرة والمدرسة.

أ‌- استطاع التلفزيون، في فترة زمنية قصيرة نسبياً، ان يخترق المقولة التي شاعت في مطلع سنوات انتشاره ومفادها "ان التلفزيون إذاعة مرئية او سينما في البيت"، فإذا بأهله يخترعون له ""لغة" خاصة او بالأحرى" كتابة بالصوت والصورة" خاصة: النشرة الإخبارية الإذاعية التي استقلت إلى حد ما عن "أخبار" الصحيفة؛ لم تعد نشرة إخبارية إذاعية ملحقة بالصورة الناطقة والمتحركة، ومقدمة على الشاشة الصغيرة.

الفيلم التلفزيوني لم يعد تماماً الفيلم السينمائي. أصبح مستنداً إلى قواعد وأصول متجددة، تأخذ بعين الإعتبار واقع الشاشة "الصغيرة" ووجودها في إطار عائلي ضيّق، لا في صالة واسعة مظلمة.

ب‌- الصورة التلفزيونية صارت من الدهاء المفرط، بحيث تخطت مفاعيل الصورة الفوتوغرافية والصورة السينمائية في آن. إذ إن قدرتها على الانطباع في الذهن، وعلى ثباتها فيه، وتأثيرها الآني والمستمر في الكائن البشري تفوق قدرة الصورة الفوتوغرافية والصورة السينمائية.
فالمعروف ان الصورة الفوتوغرافية توجد عند ناظرها درجة عليا من التركيز على الموضوع او المشهد او التفصيل، ترافقها درجة عليا من الاستغراق في ذلك، والرجوع إليه في الذاكرة كلما شاءت الظروف او شاء الناظر. وهذه صفة لم تكن للكلمة التي تصف (في التاريخ والأدب) ولا للصوت وللحركة اللذين يجسدان الأحداث او المواضيع او الانفعالات او الأفكار (في رواية الأحداث والمسرح).

الصورة الفيلمية المتحركة والناطقة في السينما رفعت هذه الدرجة من التركيز والاستغراق والتذكر إلى ما هو أعلى أيضاً. فالتفاصيل التي تخطئها الحاسة البصرية العامة في الصورة الفوتوغرافية، تأتي الحركة فتبرزها وتتوسع فيها، ويتدخل الصوت فيؤكد بعض الجزئيات التي لم يكن لها مدلول بحد ذاتها، ويجسدها. وهكذا تتجمع أمام حاستي النظر والسمع كل مكونات التأثير الحيّ: الحركة والصوت والصورة، متداخلة في تفاصيل الموضوع المشاهد، موحدة ومتشابكة. وهكذا ايضاً يكون التثبيت في الذاكرة العامة أشمل وأكمل.

التلفزيون استوعب هذه الإنعامات، وتخطاها إلى ما هو أشد تأثيراً وفعلاً وذلك بتعميم البث المباشر، هذا البث ألغى عمل الذاكرة في الصورة، وألغى عمل التحليل والمراجعة، وصارت مع حركتها وصوتها تتثبت مباشرة وللحال في الذهن.

ثم في الأسرة المشاهدة يعني كل هذا أن أشياء كثيرة في حياتنا الكلاسيكية صارت في خطر.
- المطالعة وقراءة الكتب صارتا خطر.

لأن التلفزيون يكون في شخصيات أفراد الأسرة حس السهولة. الأولاد تصل إليهم المعلومات والموضوعات والثقافة بسهولة ويسر وقلة عناء. في ربع ساعة يختصر لهم التلفزيون ما كان عليهم ان يقرأوه في كتاب كامل او كتابين. فلم إجهاد النفس للوصول إلى المتعب والبحث عما بين السطور وتشغيل المخيلة واستمرار البحوث؟...

والآباء يتعودون، من مبدأ السهولة هذا الذي يتسلل إلى أعماق أعماقهم، الا يبذلوا الكثير من الجهد في الاتصال بالآخرين وبخاصة بأولادهم. وهذا يعني تراخياً في التربية والاستقالة المتمادية من مهمة الأهل في التوجيه والإرشاد والرعاية.

- المدرسة الكلاسيكية صارت ايضاً في خطر.
- العلاقات الإنسانية اليومية: العلاقة الحوارية بين أفراد العائلة، العلاقة الاجتماعية مع الأهل والجوار، العلاقات الإنسانية والواجبات مع الآخرين...
- النماذج السلوكية الإيجابية العائلية صارت في خطر، وصار العنف هو السيد.

في المواقف:
ان الكلام على مفاعيل التلفزيون في الأسرة يوازيه قيمة الكلام على التعامل مع هذه المفاعيل. وفي هذا التعامل أقول:

أولاً: سيبقى التلفزيون، على رغم وجود الكمبيوتر والحالات الانترنيتية الخارقة، سيد الموقف في وسائل الاتصال الحديث. ولا عجب ان يحاول جماعة المعلوماتية والانترنيت ان يجعلوا شاشة التلفزيون بديلاً من شاشة الكومبيوتر في وضع الانترنيت الحالي والمستقبلي.

من هنا لا يجوز النظر إليه ضمن حدين متطرفين: الهلع او الاستلشاق؛ الهلع يؤدي إلى تصرفات متطرفة مثل إلغاء وجود جهاز التلفزيون في البيت إلغاءً تاماً. ومثل إصدار "بلاغات" حازمة عن السلطة العائلية بتحديد المشاهدة وظروفها وأصولها وأنواعها. ولكل من هذه القرارات مردودات سلبية صعبة جداً. اما الاستلشاق فهو يعني ترك الأمور على ما هي عليه من دون أي تدخل. وهذا أيضاً له مردودات سلبية.

لنقل بوضوح:
1- فلتقلع الأسرة عن إدمان مشاهدة التلفزيون صبحاً وظهراً ومساءً، فالاستسلام لإغراءاته يصبح مرضاً مزمناً. الدراسات الحديثة التي أجريها باستمرار على علاقة الإنسان بالتلفزيون تؤكد ان 64% من النساء في منازلهن يقمن بالواجبات المنزلية (ترتيب، تنظيف، تحضير المأكل والمشرب....) وهنّ ينظرن إلى الشاشة الصغيرة وان 72% من نساء نسبة الـ 64% يتابعن البرامج مساءً وليلاً. وهذا يعني إدماناً. والإدمان في اي ظرف وفي اي موضوع كان آفة.

2- فليقلع الأهل عن اعتبار "مشاهدة التلفزيون" عند أولادهم "قضية" أخلاقية وسلوكية. ليعتبروها أمراً يومياً خاضعاً للجدل والحوار. ومن ضمن مسائل العائلة العادية والطبيعية جداً. التلفزيون أصبح جزءا من العائلة، ومواضيعه جزءاً من مواضيع العائلة.

3- فليقلع الأهل عن مراقبة أبنائهم في أثناء مشاهدة التلفزيون. المراقبة تعني الوصاية البشعة والقمع. الأفضل ان يتفضل الأهل بمتابعة جداول البرامج المعروضة على شاشات التلفزيون وان يعملوا على "تعطيل" الانتقال إلى برامج غير مستحبة او غير مرغوب فيها للأبناء.

هذا تطلب جدهاً خاصاً يؤكد عدم استقالة الأهل من دورهم الأساسي وهذا يتطلب تثقيفاً تلفزيونياً للأهل.

4- ليكن للأطفال "كوتا" محددة من المشاهدة توقيتاً ونوعية؛ غذ لا يجوز أن تكون مشاهدة المعروض على الشاشة الصغيرة مباحة في اي وقت كان، وفي اي برنامج او فيلم او نقل مباشر.
لماذا؟

لأن التلفزيون، حتى ولو قدم معرفة، فهو يقدمها بالجملة، في حين ان المعرفة الواصلة إلى الطفل عن طريق الأهل والمدرسة هي، في معظمها، مدروسة ومدوزنة في نوعها وفي صوتها وشكلها وزاوية عرضها مع طبيعة الطفل، فتؤذيه جداً.

5- ليكن هناك قبول صريح من الآباء بمشاهدة برامج "جريئة" على الشاشة الصغيرة مع أولادهم، على أن يلي ذلك حوار واقعي حول المضمون والشكل. واذا وجد الأهل أنهم ليسوا على "مستوى الحوار" فليتفضلوا ب، "تحضير" أنفسهم – مطالعة واستشارة لاختصاصيين – ليكونوا على مستوى الحوار.

لقد دلّ استطلاع حديث لآراء الشباب إلى ان 72 في المئة من الشباب الذين يشاهدون حلقات برامج جريئة على الشاشة الصغيرة إنما يشاهدونها في غياب الأب والأم إما مصادفة (لانشغال الأهل بأمور أخرى) او إرادياً (لرغبة الشباب في عدم الدخول في نقاش "عقيم" مع الأهل).

source