تفكك الأسرة في لبنان أشكاله وأسبابه

calendar icon 04 تشرين الثاني 1997 الكاتب:هاشم الحسيني

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الجلسة الثانية)

مقدمة:
لو نظرنا إلى ما اصطلح على تسميته في علم الاجتماع بالعائلة النواتية، اي الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والأم والأولاد، واعتبرناها وحدة قياسية للأسرة، لوجدنا ان العائلة اللبنانية لا تزال في منزلة بين منزلتين او أكثر.

فهذه الأسرة ليست مقطوعة الصلة بالعائلة الممتدة، لا بل هي لصيقة بها، والعائلة الممتدة بدورها لا تزال تعيش في مناخ العشيرة، ثم ان كلاً من الأسرة والعالة الممتدة والعشيرة تتربع جميعاً في أحضان الطائفة.

والسؤال هنا هل أنت هذا الاتجاه التناقضي في بنية العائلة قد أتى أكله؟ وهل أن الانتقال من القبيلة إلى العشيرة مروراً بالعائلة الممتدة وصولاً إلى الأسرة النواتية قد بلغ أقصى مداه؟ أم ان الأسرة ماضية في اختزال نفسها لتبلغ ما هو أدنى وأصغر. وتلك هي في الواقع حدود التفكك؟ وثمة من ناحية أخرى تساؤل معاكس:

هل من الممكن ان تتخذ الأسرة مساراً ارتدادياً؛ فتجد مستقراً لها في وحدات قرابية ممتدة، كانت في البداية منبعها الأصلي، إنما هذا محض افتراض نظري يكاد يكون غير وارد في منطق علم اجتماع العائلة؟

يبقى ان نتساءل عن معنى التفكك العائلي وعن مساحته وحدوده ولكن قبل ذلك لا بد من إلقاء نظرة على بنية العائلة في لبنان، انطلاقاً من بعد الدراسات الإحصائية التي أجريت مؤخراً، وأخص بالذكر مسح المعطيات السكانية في لبنان .

بنية الأسرة اللبنانية
تشكل الأسرة النواتية وفقاً لهذه الدراسة 78% تقريباً من مجموع الأسر اللبنانية، فالعائلة اللبنانية لا تشذّ إذن عن النمط السائد في الشرق والغرب على حد سواء. اما الأسرة الممتدة فنزيد قليلاً على 9%، ويصعب التكهن حول احتمالات صعودها او هبوطها، على ان إنما نية الصعود واردة على كل حال بفعل تفاقم الأزمة المعيشية في لبنان، واضطرار المرشحين للزواج إلى تلمس حلول قديمة جديدة، اي الإقامة مع الأهل فيما لو تأمنت ظروف الإقامة!

وجدير بالذكر هنا ان حوالي 4% من الأسر النواتية نفسها مطعمة بأقارب، لا هم من صلبها ولا هم من امتداداتها المباشرة. فهذه مثلاً فتاة تقيم عند خالتها، وذلك فتى يقيم في بيت ابن عمه، انها ظاهرة تشير إلى ان بعض العشيرة لا يزال حياً يرزق في الأسرة النواتية.

اما في ما يخص عدد أفراد العائلة فيمكن القول ان الأسرة النواتية اللبنانية ليست كبيرة العدد بشكل خاص، هذا اذا لم نتوقف عند الاعتبارات المذهبية والمناطقية، فالعائلات المكونة من10أفراد او أكثر، نسبتها دون الـ 4%. والعائلات المكونة من 8 او 9 أفراد لا تزيد على %، بحيث ان العائلات المكونة من 8 أفراد فما فوق تشكل 10% فقط من المجموع. والنسبة الأعلى من الأسر النواتية هي المؤلفة من 4 أفراد إلى 5، إذ تقارب 18%، اما الأسر التي لا تزيد عن فردين اثنين فهي في حدود 12% وهي نسبة ليست قليلة.

ولعل ما يثير الانتباه ايضاً، هو ان سدس 6/1 أرباب الأسر في لبنان هم ربات أسر، وهي نسبة لا يستهان بها في ظل مجتمع يضطلع فيه الرجال بدور المسؤولية الأولى ضمن العائلة، ومرد ذلك على العموم إلى مسألة الهجرة والترمل. فنسبة الأسر التي هاجر بعض أفرادها ذكوراً او إناثاً تبلغ حوالي 12%، اما المترملون من الذكور والإناث فتقارب نسبتهم حوالي 5% (اي بمعدل 1,3% للذكور و8,5 % للإناث).

مفهوم التفكك الأسري وأشكاله
لقد تطرقنا بعجالة لبنية الأسرة اللبنانية من خلال معطيات رقمية متوفرة، ولا بد الآن من انتقال إلى بحث مظاهر التفكك في هذه العائلة.

يتخذ التفكك العائلي إشكالاً مختلفة، وهو على كل حال اما ان يكون انحلالاً في حده الأقصى واما ان يكون تصدعاً في حده الأدنى. والتفكك العائلي يصيب الزواج بالطبع، وهو الدعامة التي تقوم عليها العائلة النواتية، ومعلوم ان الزواج له أجلان: أجل محتوم هو الموت، موت احد الشريكين، واجل محتمل هو الطلاق. وقبل هذا وذاك، هناك مسيرة حياة الأسرة على امتداد عمر أفرادها، وهي مسيرة قد تطول او تقصر وفقاً لعوامل مؤثرة عديدة، بعضها الآخر تفرزه طبيعة الحياة الزوجية.

وثمة عوامل أساسية أخرى شديدة الصلة بعلاقة الأهل والأبناء:
- شكل بارز من أشكال التفكك هو الهجرة، حيث ينقطع الزوج عن معاشرة زوجته دون ان يطلقها، والزوجة بدورها قد تضيق ذرعاً بوضعها وتغادر المنزل الزوجي دون ان تترك عنوانها، وليكن ما يكون بالنسبة للأولاد. كما ان دخول احد الزوجين السجن قد يؤدي إلى تضعضع كيان العائلة بعد فترة من الفراق القسري.

- التهجير أيضاً، وهو ما تعرفه حالات الحرب، يهز كبان الأسرة خصوصاً اذا انفصل أفرادها بعضهم عن بعض اضطراراً، والحرب بشكل عام لها تأثير مدمر على الأسرة، وعندنا عن أثرها المدمر، وفي جميع المجالات، كل الخبر.

- حتى الهجرة، هجرة الزوج او الزوجة بداعي العمل، رغم جوانبها الإيجابية في دعم اقتصاد الأسرة، قد يكون لها أثر سيء على الوضع الزواجي وتربية الأولاد.

وسبب الهجرة في معظم الأحيان طلب العمل، وفي الإحصاءات ان 62% من المهاجرين في السنوات الأربع الأخيرة سافروا بهذا الدافع.

- وثمة من جهة أخرى عوامل طارئة قد تتسبب في تصدع بنيان الأسرة، نذكر منها إصابة أخد أفراد العائلة بمرض عضال كالشلل الدائم او بتر الأعضاء، او السرطان وغير ذلك، وما يعكسه هذا الواقع المستجد من اضطراب في حياة العائلة مما يهدد استقرارها، ناهيك بولادة طفل متخلف عقليا او مشوّه جسدياً وما تلقيه رعاية هذا الطفل من أعباء مادية ومعنوية على كاهل العائلة.
- أضف إلى ذلك حال العائلة التي لم تنجب أولاداً لسبب يتعلق بصحة الزوج او صحة الزوجة بنوع خاص. في مثل هذه الحال سيظل الهم جاثماً على صدر الجميع، الا إذا تم العثور على نطاسي بارع الوضع. وحتى ان إنجاب البنات دون البنين قد يهدد الاستقرار، إذ يمكن لولي العهد ان يتأخر وصوله، لكنه من غير المقبول الا يأتي أبداً!

ثم ان اختلاف الآراء والمعتقدات عند الزوجين أثراً سلبياً على استقرار العائلة، هذه اذا تشنجت المواقف وتصلبت، مثل هذه الخلافات قد ينشأ حول حجاب المرأة في العائلة المسلمة، وكذلك حول مسائل الحلال والحرام في السلوك الإنجابي وتحديد النسل، وكذلك ايضاً حول فكرة زواج جديد تلمع في خاطر الزوج الخ... ناهيك بما يرافق مسألة تزويج الأبناء والبنات من تجاذب وشد حبال.

- وللإنحرافات السلوكية لدى رب العائلة على الخصوص، أثر مدمر لكيانها، ذلك حال المقامر المحترف والسكير المفرط والمدمن على المخدرات.

- ثم إن تفاقم الوضع المعيشي للأسرة قد يؤدي ايضاً إلى تصدعها: رب العائلة صرف من الخدمة لسبب او آخر وأصبح عاطلاً عن العمل، وعاجزا بالتالي عن إعالة زوجة لا تعمل وأولاد صغار. لا بل ان مجرد تراجع مستوى المعيشة بعد إحالة الزوج الموظف إلى التقاعد قد يهدد الزواج. او لعل الزوج قد أقدم على مغامرة مالية ولم ينجح هذه المرة، طبعاً سيسوء الوضع داخل الأسرة ويضيق الأولاد ذرعاً به، ان لم نقل الزوجة.

- التسلق المفاجئ والمثير في السلم الاجتماعي لربّ العائلة، له ايضاًً انعكاساته السلبية على وضع الزواج، فقد بدأت تلوح في الأفق امام الزوج المتسلق فرص جديدة سائحة، وذلك إيذاناً بحياة عاطفية موازية في الظلّ، او حتى في العلن ولم لا؟ واما الزوجة التي أنهكتها السنون فقد بلغت خط الإنحدار في نظر المتسلق وهي لم تعد تليق.

- ونأتي الآن إلى مسألة لعلها جلُّ القضية، انها العائلة الخاوية من داخل. الزوجان مستمران في العيش تحت سقف واحد، لكن الود مفقود بينهما، فالواحد لا يركن للآخر ولا يطمئن إليه ولا يعتمده عاطفياً ونفسياً. اللقاء يولد شعوراً بالغربة، والفراق فرصة سائحة ليخف الكابوس، انه الفراغ الروحي، لكن التعايش له سقف، فلن يبلغ الأمر حدود الطلاق، لأن هناك ظروفاً تحول دونه، لعلها الشماتة والقيل والقال, او لعله استسلام الزوجة لقدرها المحتوم وقبولها بما كتب لها، اما الزوج فهو في موقع أفضل، لديه حرية الحركة دون صعوبات تذكر، فليحتلّ، إذن برحابة الصدر، ولا بأس إن بقيت هي في خدمة الأولاد والبيت. أحياناً الزوجة تنتفض ويمضي كل في طريقه، ودائماً دون تجاوز الخط الأحمر، خط الطلاق.

- ان تدني نسبة الطلاق في لبنان (0,3% و0,8% للنساء، اي 0,6% للجنسين) لا يعبر بالضرورة عن استقرار الوضع الأسري، فثمة لدى الأزواج تشبث بالزواج في شروط الحد الأدنى، ولا سيما عند الزوجات بنوع خاص. ثم ان شروط الطلاق ليست ميسرة من الوجهة الشرعية او القانونية، فهو إما ابغض الحلال كما المسلمين، او أنه عسير المنال كما عند المسيحيين، وهناك دونه ايضاً إرادة الأهل والعشيرة وذوي القربى، وفي رأيهم ان عائلة فارغة من داخل خير من أسرة مطلقة، فالعائلة الفارغة تبقى في منأى عن الألسن والأعين، وتحافظ على وجودها "كصناديق مغلقة".

وإذا كان استقرار الزواج منوطاً بتفاهم الزوجين، فالأسرة لا تقتصر على هذين الزوجين، هناك الأولاد الذين يبدأون صغاراً ويكبرون. ولكل مرحلة من مراحل نموهم تأثيرها على الوضع العائلي، الا ان مرحلة بلوغهم هي مرحلة حاسمة، حيث يضحي الإبن رجلاً في صورته عن ذاته، ويظل يافعا طري العود في مقياس قدراته، فيتأرجح في مواقفه تجاه الأهل بين الرفض والقبول، والمحبة والكراهية والتعلق والرغبة في التحرر، هذا التأرجح يبقى أمراً طبيعياً ما لم يدخل الفتى في دائرة الانحراف. علاقته بالأهل إذن علاقة كرّ وفرّ قد تصطدم بقساوة الأب، لكنها تلقى تفهماً من جانب الأم، وقد يؤدي ذلك إلى خلاف يهدد الانسجام العائلي.

اما البنت فهي أقل تطلباً على العموم، وعندها في صورتها عن ذاتها ما لا يناقض نظرة الأهل لدورها. فهي ما ان تصل سن البلوغ حتى تصبح على قاب قوسين او أدنى من الزواج. وزواج البنت يكاد يفوق في أهميته كل ما بذلته الفتاة من جهة في التحصيل العلمي لإعداد نفسها للحياة كإنسان حر ومنتج. لكن الفتيات لسن بعد الآن كأمهاتهن، فهن غير مستعدات للسير على خطى السلف الصالح، وقد يذهبن بعيداً في هذا الاتجاه مما يؤدي أحياناً لهز كيان العائلة.
ولن يطول الوقت كثيراً، قبل ان يبدأ الأبناء والبنات مشاريعهم الجدية للزواج، وتطرح عندئذ مسالة اختيار القرين، ويبدأ الأخذ والرد والتجاذب، وتثار مسالة المستلزمات المادية وقضايا المسكن والأثاث وعلى عاتق من تقع. وفي ذلك اجتهادات كثيرة تختلف باختلاف انتماء المتزوجين، وهذه على كل حال فترة عاصفة في حياة العائلة.

وإذا ما سارت الأمور على ما يرام، سيكون هناك زواج، وستصبح الأم حماة، والبنت كنّة ويكون ما سيكون...

خلاصة، مجمل القول، ان العائلة خلية اجتماعية تضج بالحياة، ومن الطبيعي أن تكون معرضة لكافة أنواع المخاطر، ذلك في صلب حركتيها الداخلية القائمة على العلاقات الإنسانية المعقدة بين أفرادها، وكذلك نتيجة موضعها في قلب مجتمع متغير.

ان إختلاف القيم والمفاهيم والعادات والتقاليد وأساليب العيش وتطور البنى الاجتماعية، ولا سيما في المجتمعات الانتقالية، كل ذلك لا يساعد على دعم استقرار العائلة. والعائلة عبر تاريخها الطويل عرفت الاهتزاز في دورها من جيل إلى جيل. فقد ضعفت سلطة الأهل على الأبناء. ولم يعد الشباب خاضعين للقيم القديمة، وعلاقات الأزواج والزوجات لم يعد يسودها الوئام الواجب الوجود كما في زمن الأجداد. لكن هذه العائلة التي تعصف فيها الرياح، صامدة لأنها عميقة الجذور، وخير دليل على ذلك انها لا تزال موجودة، موجودة بقوة في جميع المجتمعات.

لقد تناولت في كلامي هذا المساء مسالة الواقع، دون المرتجى، لا بل تطرقت إلى الجانب شبه المعتم من هذا الواقع كما افترضته طبيعة الدور الموكل إليّ. وما هذا سوى جزء من الصورة، وعلى أمل الا يكون الجزء اليسير.

source