الفتاة العازبة

calendar icon 05 تشرين الثاني 1997 الكاتب:منى فياض

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الجلسة الرابعة)

ألتفت حولي فغي الجامعة فأجد الصبايا أكثر عدداً من الفتيان؛ وأجد ان معظمهن عازبات والمتزوجات النادرات بينهن تزوجن باكراً. تلفتني هذه الظاهرة منذ فترة بحيث يمكنني القول ان صفوفي، حتى العالية منها (دبلوم، ما يعني الأكبر سناً)، مكونة من طالبات عازبات.

ما السبب؟ لا يمكن ان تكون الإجابة على هذا السؤال بسيطة، كأن أقول ان الفتيات اللواتي يكملن تعليمهن فقط هن العازبات، وبسبب من ذلك. خاصة في بلد يعتبر ذا طابع شرقي، أي ان الزواج المبكر وتكوين أسرة تعد من الأولويات الاجتماعية. لا بد من الاعتراف اذاً بأن واقعنا يتغير، أولويات فتياننا وفتياتنا تتغير. ان نظرة سريعة من حولنا سوف ترينا ان سن الزواج يتأخر من ناحية، وان عدد العازبين والعازبات يتزايد من ناحية أخرى. وكأن ما يطلق عليه اسم "عانس" صار أبعد في الزمن وأقل إثارة للخوف!

سألت طالباتي عن السبب الذي يبقيهن عازبات وعن نظرتهن إلى الزواج، وسألت الطالب الوحيد الذي كانت بينهن، وهذه بعض الإجابات والانطباعات التي كونتها:
سألتني ريما: "من تريدين أن أتزوج؟ معظم السباب الذين حولنا لا يناسبوننا، لأنهم اشتركوا في الحرب ولم يكملوا تعليمهم، وليس بإمكاني الزواج من شاب لا يتمتع بمستوى فكري وثقافي لائق. اما الباقون الذين كان يمكن ان أتزوج من أحدهم عمن هي أصغر سناً او يتزوج حيث هو".

عبرت لمياء عن معاناة متقاطعة ومختلفة، قالت: "سبب بقائي عزباء، حتى الآن (أ‘مار الطالبات يتراوح بين 22 عاماً و25 عاماً بشكل عام، لكن هناك البعض من اللواتي يقاربن الثلاثين)، ونحن ست بنات في المنزل، هو ان أمي ترى ان على البنت ان تتسلح بالعلم حتى اذا تزوجت وحصل لها مشاكل زوجية او مادية يكون باستطاعتها إعالة نفسها. أتى العديد من الخطّاب، ولكنها كانت تقول إننا نكمل تعليمنا لأن حالتهم المادية غير جيدة، ولأنهم غير متعلمين. أمي عانت كثيراً، قامت بدور الأب والأم في نفس الوقت، لا تريدنا أن نتعذب في حياتنا.كم ا نعرف بعض الأشخاص الذين سافروا إلى الخارج. كان بيننا الإعجاب والتفاهم، لكنت السفر غير أوضاعهم المنادية، وبحثوا عن بنات من مستواهم الجد\يد. يطلبون الآن شقة ولا يهمهم المعاشرة او الجمال. لكنني لم أتأثر كثيراً، يجب على واحدتنا ان لا ترتبط بأحد، وعلينا ان نكون أكثر واقعية في هذه الحياة. السعادة نحن من نبنيها ولا تهبط من فوق ولا يهم إذا كان البيت صغيراً. النجاح يكمن في العمل على الاستمرارية. ليس الحب هو الأساس بل التفاهم".

قررت ندى أيضاً ان لا حب بعد الآن، ولو حصل الحب تنقص المقومات الأخرى: لبيت والسيارة... خطبت ندى بالوكالة من سلف أختها المهاجر في كندا، سأل عنها ان كانت غير مرتبطة فهي في خاطره. تمت الخطبة لكن سرعان ما تدخل فرع الأهل الذين هنا وخاصة الأخت التي تركت خطيبها وصارت تهيئ نفسها للسفر إلى كندا والسكن مع عريس المستقبل. وصارت تتدخل بحياتها الشخصية: لا تلبسي كذا لا تأكلي من هذا، لا تذهبي إلى البحر.. فرط المشروع. الخلاصة مع ذلك بحسب ندى: "لا يمشي الحال بدون الغرام، لكن الغرام وحده لا يكفي".

علي، الشاب الوحيد في تلك الجلسة، رفض الزواج من ابنة عمه الموجودة في تركيا والذي أراد أبوه تزويجه إياها، رفض لانه لا يعرفها. علي يقول: "لن أتزوج بدون حب أكيد ومتبادل، خطبة 6 أشهر لا تكفي قد تظهر على غير ما هي عليه، أنا متحرر نوعاً ما، اخرج مع الفتيات، لكن لا أقيم علاقات جنسية، يجب ان أتعرف جيداً على من سوف أتزوجها".

تعلق الفتيات إنهن لا يردن الخروج مع الشباب،لأن المسألة تبدأ بالخروج ثم تنتهي بالغرام. ليس الجميع هكذا، لكم غاية الكثير من الشباب هو الجنس.

لينا (22 عاماً) تجد ان الوقت المبكر جداً الآن للزواج، لكنها ان تختار من هو ـكبر منها، او أصغر، بعشر سنوات. أعجبت بكثير من الشبان كما تقول، لكن أكثر شخص تأثرت به منذ سنة ونصف بسبب شخصيته القوية، يقولون لها انه لا يناسبها، لأنه يقوم بعمل يدوي. اختارت لينا فترة طويلة لكنها خطبت إلى ذلك الشاب بعد تردد، وقررت ان تغلب الحب.

تتساءل ناديا ان كان على الفتاة الزواج، تقول ان الأمر ليس إلزاميا، لكن من الأفضل لو يحصل ذلك. رفضت بعض الأشخاص لانعدام التفاهم.

سناء متزوجة (34 عاماً)، تزوجت منذ 15 عاماً، بعد قصة حب وغرام، رفض الأهل في البداية لأنها صغيرة، لكنهم عادوا وقبلوا. تقول كان الوقت مختلفاً، لم يكن غنياً بل موظفاً. تقول سناء الآن يفكرون بعقلهم أكثر، بينما بنات جيلها لم يكن يقبلن الزواج دون الغرام وعلاقة الحب. لكنها تفكر انها لو خيرت فلن تعيد الكرة، لانها تتعذب الآن وتقضي وقتها في الركض، لأنها أم لثلاثة أولاد وموظفة، وتتابع تعليمها في نفس الوقت. الآن تفضل ان تختار زوجاً مرتاحاً وليس الغرام.

نفس الخلاصة توصلت إليها بعض الطالبات في كلية بيروت الجامعية، ناقشني البعض منهن واستشرنني: هل يتزوجن عن حب ام عن عقل؟ نقلت لي إحداهن حيرتها وآراء زميلات لها توصلن إلى ان الغرام، الذي سوف يخف مع الزمن، لن يكون كافياً لاستمرارية الحياة الزوجية؛ لذا من الأفضل اختيار شريك يؤمن الراحة والاستقرار الماديين.

سألت بعض الطالبات في صفوف أخرى، هل تشعر واحدتهن بأنها تأخرت حقاً عن الزواج وهل تخاف بأن توصف بالعانس وهل تقوم بتضحيات معينة كي لا تبقى عزباء؟

اتصلت بي حديثاً صحافية من اجل حديث. وحصل حوار بيننا سألتها خلاله ان كانت متزوجة، نفت الأمر وعندما اعتقدت انها لا زالت صغيرة علقت انها تبلغ الرابعة والثلاثين من العمر، وأنها لا تفكر بالزواج بل تسعى إلى تحقيق ذاتها والتفرغ إلى الكتابات الفلسفية. لهذه الصحافية أختان واحدة فقط منهما متزوجة.

يتبين لي ان الفتيات لم يعدن يخفن كثيراً من فكرة البقاء دون وزواج ولسن على استعداد لتقديم كل التنازلات الممكنة لحصول بأي ثمن على مرتبة زوجة. لكن من الواضح ان العقلانية (بمعنى آخر البراغماتية) هي الغالبة، وشعار الحب مع الخبز والزيتون لم يعد هو السائد. لكن هناك أيضاً متطلبات متعارضة، الحيرة بين الاستقرار والحب، بين الراحة المادية والغرام؛وعندما يكون القرار بيد الشخص،كما هو حال عليّ، فإنه يقرر الزواج عن جب، ربما لأنه أكثر رومنطقية أيضاً؟

اعتقدت ان آثار الحرب التي ترمي بثقلها على شكل أزمة مادية خانقة هي أحد مسببات الأزمة وليست سببها المطلق، هناك تغير في العقلية ايضاً وفي الأولويات؛ يبدو مما سبق ان الزواج – الواجب لم يعد موجوداً، وان البحث عن الانسجام، على الأقل الثقافي، والاكتفاء المادي أحد المطالب الأساسية. وصحيح ان الأوضاع المادية المتردية تقف حائلاًُ أمام الزواج، لكن لم يكن هذا يشكل عائقاً في مجتمعاتنا السابقة التي كان يسودها اقتصاد الكفاف، وكانت الأسرة الجديدة تعيش مع الأهل دون ان يشكل عدم استقلالها بسكن منفرد اي عائق. ولقد ساد في العقد السابق محاولات للسكن مع الأهل من قبل الإسلاميين الملتزمين، وأعرف شخصياً عدداً من طالباتي اللواتي تزوجن على هذا الأساس، لكن باءت هذه المحاولات بالفشل وانتهت إلى الطلاق بسبب العقلية الجديدة السائدة التي تتخذ سمات أكثر فردانية وأكثر استقلالية عن قبل.

لم يعد ممكناً على الأجيال الجديدة تقبل تدخل البالغين المستمر او احتمال وجودهم الدائم. لم يعد مكناً ايضاً تحمل فكرة إمكانية مشاركة منزل الزوجية مع أحد ولو لفترة محددة: نموذج ندى وطلاقها قبل ان تتزوج، بسبب موقف الأخت والأسرة.

وبينما كان تكوين الأسرة هو أحد أهم أسباب الزواج، يتم البحث الآن عن تحقيق الذات وعن الاستقلالية وإمكانية الاستمرار اعتماداً على النفس، بدليل موقف سناء التي لا تكتفي بكمونها أماًَ وزوجة وموظفة، بل تريد شيئاً آخر ايضاً، وهو البحث عن ذاتها.

كذلك موقف أم لمياء من اعتبار ان الأولوية هي لتعليم بناتها بضمان مستقبلهن، إذ لم يعد المستقبل مرتبطاً فقط بحسن اختيار الزوج، بل بالمهنة وبإمكانية الاستقلالية.

لا أدري ما دور الحرب في التعجيل في بروز هذه السمات الجديدة، لكن الحرب والأزمة الاقتصادية تجعلان المعا\لات مختلفة وتغير مفهوم الزواج وتجعل من المرأة كائناً أقوى م,أشد عوداً، ربما لاضطرارها الاعتماد على نفسها.

من الملاحظ ايضاً ضياع الأوهام حول الزواج: "الحب الذي لا يدوم"، او تطلب الواقعية، وان السعادة تبنى ولا تهبط علينا من فوق، السعادة التي تصبح أحد أهم أولويات الأفراد.

لم يعد الزواج بأي ثمن أولوية مطلقة، فتياتنا يعطين لأنفسهن الوقت الكافي للتفكير، ويتطلبن شريكاً كفؤاً على الأقل إذ لم يكن مكتفياً مادياً.

يبرز هنا مفهومي العلم والعمل وضرورتهما المطلقة، لم يعد الزواج هو صمام الأمان، لا العلم والعمل. لذا لم تعد فككرة إيجاد زوج بأي ثمن سائدة او مثار نقاش، تفضل الفتيات الآن الاعتماد على أنفسهن. يراودهن طبعاً حلم الحب والزواج عن حب، لكن ذلك لن يعني الجنون او التضحية بكل شيء من أحله، العقل يبدو في أحسن خالاته الآن!

تعبير "عانس" لم يعد فزاعة لأحد، ولم يعد يطل برأسه مبكراً جداً على كل حال. يتم توطيد النفس على العزوبية ولو لفترة، ولم تعد الفتاة على ما يبدو زائراً آنياً سرعان ما يترك الأسرة!

السؤال: ما هو الأثر الذي سوف يتركه هذا الوضع على العلاقات داخل الأسرة وبين الجنسين؟ كيف ستتحول بنية الأسرة؟ هل سوف تنعكس انحساراً ديموغرافياً؟ ام علاقات خارج الأطر التقليدية؟ ام توترات نفسية؟ ام إنتاجية أعلى؟ ام ماذا؟ ذلك كله خاضع للنقاش.

source