معايير اختيار الشريك

calendar icon 05 تشرين الثاني 1997 الكاتب:الهام كلاب

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الجلسة الرابعة)

أود أن أشكر مؤسسات الإمام الصدر على تنظيمها هذا المؤتمر المحوري المؤثر في دينامية تطور مجتمعنا اليوم، كما أود ان احيي السيدة رباب الصدر التي حملت رسالة هذه المؤسسات وشهدت لها قولاًُ وفعلاً، بإيمان وعمق ورحابة نفس، وبتواضع الصادقين.

قد يكون موضوع "معايير اختيار الشريك" موضوعاً تفصيلياً وجزئياً بالنسبة لمواضيع أخرى في هذا المؤتمر، كمشاكل العائلة،/ او أسباب تفككها او واقعها وقوانينها وتحديات العصر لها.

ولكن اذا ما قربنا المكبر أكثر فأكثر، لوجدنا بأن هذا الموضوع "الصغير" هو برنامج حياة، وموقع انطلاق لتكوين عائلة قد تحمل بدايتها حتى النهاية. أطمئنكم سأعتبره صغراً بالنسبة للحيز الزمني المتاح لي وسأحاول ان لأطرح اشكالياته من خلال التساؤل التالي:
ما هو أفق او مساحة اختيار المرأة اللبنانية لشريكها اليوم؟

يحلو لي أحياناً أن أبعثر في أمثالنا الشعبية اليومية التي تعبر عن نفسية الشعب والتي تحفل بالأقوال عن أهمية هذا الحدث المصيري، الزواج، وعن ما تحمله الحكمة الشعبية من معايير لهذا الاختيار. ففي الكلام اليومي حيز واسع له انطلاق وانتهاء بكلمة "فرحتك" التي ترافق كل دعاء وكل شكر، كتذكير يومي يكاد يكون إلحاحاً تضيق به أحياناً الشابات، وكأن هذه الفرحة هي اختصار كل الأفراح. ويمتد الحس الشعبي إلى انتقاد معايير وتأكيد أخرى، فيعبر أحياناً عن الاستهجان: "عين الحب عمياً" "شو لقى فيا؟".

إلى النصح: خذ "الأصيلة ولو عالحصيرة"، "إلى العصبية": "اللي بياخد من غير ملتو بيوقع بعلتو"، إلى القدرية: "هجم نصيبها"، إلى السخرية: "وافق شن طبقه" – "طنجرة ولقت غطاها" إلى السخرية المؤذية: "عالفولة المسوسة بدها هالكيال الأعمى"؟. نسيج كامل من معايير الاختيار يعبر عنها الحس العفوي الشعبي منذ أيام آبائنا أمهاتنا، ولا يزال يتلى بداهة على شاباتنا من قبل أهلهم.

كما يغذيهم اليوم مئات المقالات في المجالات النسائية عن مواصفات "فتى الأحلام" (هو فتي وينتمي إلى الأحلام)، والوصفات الصغيرة الإمتحانية، وامتهان لعلم النفس بأبخس الأسعار، وأسئلة لتغذية الحلم فوق واقع محيط.

ولذا أود أن أضع كلمات العنوان الثلاث في غربال التفحص الذي يبلور الإجابة ن تساؤلي الأول:
1- ما هي حدود الاختيار، إذا ما توفر اختيار، ومن يختار؟
2- من هو الشريك؟
3- هل المعايير هي التي تصنع الزواج الناجح؟

1- حدود الاختيار او مساحة الاختيار:
في المجتمع اللبناني اليوم، تضاءلت جداً فرص الاختيار، والمفارقة ان هذا التضاؤل ترافق مع الحرية الاجتماعية للفتيات (التي لم تكن متوفرة لجيلنا، عندما كانت مروحة الخيارات أوسع) وترافق ايضاً نع التطلب – غالباً الإيجابي – لمن سيكون الشريك".

- من الناحية الديمغرافية، يبدو بأن الشباب الذي هاجر والذي حارب والذي غاب، أفضى بنا ديموغرافياً إلى نقص في عدد الشباب بالنسبة لعدد الشابات، يضاف إلى ذلك، ان مرحلة الحرب الطويلة التي قادت اللبناني إلى تأجيل أشياء عديدة، ومنها خاصة، الزواج المرادف للثبات والاستقرار، أدى إلى وجود شريحة كاملة من الشابات التي لم تتزوج في العمر المفترض الزواج خلاله في مجتمعاتنا الشرقية، وجعلتها خارج الاختيار / قسراً / او طوعاً / في مجتمع تحدد بنيته الاجتماعية والاقتصادية سقف الأعمار المقبولة في كل زواج، وكلما كانت فيه الفتاة شابة جداً كلما كانت حظوظها أكبر.

- إذا أضفنا إلى ذلك تدهور الوضع الاقتصادي وغياب الطبقة الوسطى فأعراس الأغنياء ستجري دوماً، وأعراس الفقراء تغذيها العفوية والقناعة والبساطة، "خلي اتكالك عالفتاح" "والولد بيجي ورزقتو معو" اما الزواج في الطبقات الوسطى، فهو محك الاختيار وعقلنته، ومحك صياغة مجتمع مقبل بما يحمله من قيم، ومن قبول لآخر مختلف، ومن توق عاقل ومنظم للترقي الاجتماعي، هو أولا خسارة في المجال الاجتماعي يتردد صداها في مجال اختيار الشريك ومعاييره.

وإذا عدنا إلى أقوالنا الشعبية: "إذا دخل الفقر من الباب هرب الحب من الشباك"، لوجدنها بأن الشبابيك مشرعة الآن أكثر من الأبواب!

- يمكننا ان نضيف ايضاً ان المرأة العصرية، لم تعد كجيل أمهاتنا، جيل القبول والصمت والتحمل الساكن. أصبحت المرأة تطلب شريكاً يحترم قدراتها، يفسح لها مجال النمو الشخصي، يساعدها على تحقيق نفسها، يعاملها بالندية الإنسانية، أي أصبحت تطلب زواجاً من نوع آخر وحباً من نوع آخر.

وأصبحت المرأة الشابة الآن، تلتقي أحياناً رجلاً لم يستوعب بعد التطور الذي حصل في شخصية المرأة الحديثة والذي يتطلب حيزاً وجودياً أوسع في طريقة التعامل المتساوي في تقاسم المسؤوليات (أحياناً يربكه إسهام المرأة في الإعالة) فمع رجل يشد نظره إلى مثال أبيه، نلتقي امرأة تشد نظرها إلى كمثال ابنتها، ومع رجل يحاول التمسك بالماضي لأنه ضمان امتيازاته، قد تلتقي امرأة تستنجد بالمستقبل لفرض إنسانيتها، وهذه مقاييس تماهٍ شئنا أم أبينا تضعها الشابات اليوم في منظار اختيارها.

- المرأة اللبنانية الشابة اليوم، لا تستبدل نسق حياة تعرفه وتدرك فرحه وكدره بارتباط تجهل نتائجه. إن جيل بناتنا عملي، براغماتي، كسرت أحلامه باكراً في محنة الحرب الوقحة، فلم تعد له مواجهتنا الحالمة المؤمنة بالمستقبل.

وتعتري الشابة اليوم الرهبة امام هذه الخطوة، سواء كانت تخضع لقانون أحوال شخصية يجعل من "نصيبها" قدرها إلى الأبد او كانت تخضع لقانون يتيح لها الطلاق، فهي لا تقدم على ارتباط لأنها تستطيع الفكاك منه، او لأن الحياة الزوجية ليست عند الشابة اليوم مجال اختبار التجربة والخطأ.

هذه العوامل العديدة تؤدي إلى تأخير في عمر الزواج او إلى صرف النظر عنه، واليوم يزداد في المجتمع اللبناني عدد الشابات العازبات لدرجة تكاد تصبح ظاهرة اجتماعية ستبدل في مفاهيم المجتمع / في طرق العيش / وفي معدلات الخصوبة وتجديد وتذهلنا الإحصاءات الحديثة التي تعلمنا بان الشابات اللبنانيات في شريحة العمر من 30 إلى 40 سنة يصل معدل العزوبة إلى 36% وهو رقم يحتاج إلى رؤية علماء الاجتماع واهتمام مخططي السياسة السكانية والاجتماعية.

كان موضوع ي اختيار المرأة لشريكها وليس العكس ولكني أعتقد – ولكم ان تخالفوني الرأي – ان الاختيار الإرادي او الداخلي او غير المعلن هو اختيار المرأة.تقد بأنها في عمقها الداخلي هي المساهمة الكبرى في اختيار الشريك، حتى في اختيار إدامة الزواج والمحافظة عليه. وأعتقد بأن في الليونة التي تواجه بها المرأة اللبنانية مشاكل الحياة المشتركة، ذكاء حدسها بمسؤوليتها الأساسية في المحافظة على العائلة.

2- من هو الشريك؟
قد نعتبر غالباً ان الشريك هو من سيصبح أب الأولاد ونغفل عن أن الشريك هو الزوج أولا. إننا نفتقد في مجتمعاتنا مفهوم الزوجية الذي يطغى عليه مفهوم العائلية. مفهوم الزوج أي الإنسان الذي أستطيع ان أتابع حواراً معه، دون ان يكون كلامي بالضرورة عن مشاكل الأولاد ومسؤوليات البيت المباشرة. الزوج أي الاعتراف بالهوية وليس فقط بالدور الذي ينسج الهوية (أي عندما نحول المرأة إلى أم حنون بامتياز والرجل إلى أب حازم معيل للبيت فقط).
هذا الشريك قد يكون شريكاً واقعياً حقيقياً وقد يكون متوهماً. خيال نركض صوبه دون إمكانية التقاطه او ندم ونقمة مكبوتة على مثال تحول إلى خذلان. وهذه الشكوى النسائية نلتقيها غالباً في بوح النساء اللبنانيات لبعضهن او في رسائل قارئات المجلات النسائية

3- هل المعايير هي التي تصنع الزواج الناجح؟
من الأكيد ان هناك حدوداً وسيعة لكل اختيار. فالزواج في مجتمعاتنا، ليس شراكة بين شخصين متفردين. أنه نسج لعلاقات أسرية ومجتمعية، تجعل منه أحياناً حدثاً اجتماعياً قبل ان يكون تحولاً شخصياً في الصميم، كما تذكر الآية الكريمة: ﴿أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا﴾ وكما يرد في رسائل بولس الرسول: وتصبحان جسداً واحداً.

لذا، فهناك معايير ثابتة لتأمين الاطمئنان الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، الضروري لبناء علاقة زوجية وعائلية. ولكنها واو توفرت في كمالها بدون ما أسميه "لسعة الحب الخفية" فإنها ستجول الزواج إلى تنظيم عاقل ورصين لحياة مستقرة. ولا أعني بلسعة الحب، العشق الكبير. عشق انفجار عاطفي لا يتعايش مع هدوء الحياة اليومية، وقد يكون بداية تسفر عن حب عميق متواصل. إن من صفات العشق ومن ميزاته عدم الاستمرارية، بينما لا يتبلور الحب إلا بالاستمرار والمتابعة.

وتتبدل المعايير انطلاقاً من مرجعيتها / وتاريخها / وزمنها / وظروفها المادية والنفسية / ومن توق كل من الشريكين في الوعي وفي اللاوعي.

في دور الوعي:
لا نعرف حتى الآن دراسة شاملة عن كل الشباب اللبناني حالياً في خياراته ومواقفه ولا نسمح لأنفسنا بأن نمعن في التكهن، ولكن العديد من الإحصاءات التفصيلية والقطاعية التي تجريها الصحف غالباً، (وآخرها استفتاء لجريدة النهار عن الشباب الجامعي) نستشف مواقف أخلاقية وقيمية متناقضة ومتنافرة بين المحافظة والتحرر، على صورة المجتمع اللبناني الحالي في مرحلة ما بعد الحرب.

ولكن من خلال الاستقصاءات العفوية حولنا، تتصدر الأخلاق الموقع الأول في معايير الاختيار، تتصدرها اختيارً وتوقاً، أي ان الجواب ـحياناً يكون تعبيراً عن الغربة لا عن الواقع الفعلي.

ففي الواقع نجد ان الوضع المادي يحتل مركزاً مرموقاً في عملية الاختيار التي تأخذ بعين الاعتبار، المحيط العائلي ودرجة القرابة، والشكل والجمال الخارجي، والموقع الاجتماعي، والعمر، والوضع العلمي، والانتماء الديني وحس المسؤولية.

يتبدل سلم هذه المعايير منطبقة إلى أخرى، كما ان انفصال الطوائف عب بعضها خلال الحرب، وتناحر المذاهب فيما بينها، أفرز مواقف اجتماعية تبدلت فيها الأولويات بين طائفة وأخرى وبين منطقة وأخرى. وهذا المجال وسيع لعلماء الاجتماع في مجال الإحصاء والتحليل لرسم وجه المجتمع المقبل.

في دور اللاوعي
والكلمة هنا لا تعني عدم الوعي، بل الوعي النفسي غبر المعبر عنه والمدفون في داخل أنفسنا؛ أن اللاوعي يلعب دوراً أساسياً في توجيه الاختيار، لأنه ينقل صورتنا الحقيقية المموهة بالصورة الاجتماعية. وتكبر او تصغر إمكانية التعبير بالنسبة لحيز الحرية المتاح في طبقة او منطقة او طائفة عن أخرى.

يلعب دوراً أهمية التكوين النفسي منذ الطفولة الأولى في صياغة الشخصية السوية او في تكوين العقد المكبوتة، كما ان تطوير عدوانية الشخصية بين العداء تجاه الآخرين (سادية) او العداء للنفس (ماز وشبة) يبلور شخصية المرأة في تكوين شخصية مقدامة دون وقاحة، ومعطاءة دون انسحاق وهو ميزان لم يجد توازنه بع\ في مجتمع ما بعد الحرب.

- كما يلعب تأثير العلاقة بين الأب والأم معاً وبينهما الأولاد من خلال السلطوية الاتكال دوراً في صياغة المثال الأول امام الشابة لمعنى الزوجية والعائلة (وهنا أركز على أهمية المثال الذي لا يجب ان يستخف به الأهل اما أولادهم)، وأمام الشاب في استيعابه لاحترام الآخر، وخاصة المرأة.

وهناك ألتوق الباطني غير المباح به فقد نتربى مثلاً على أفلام يحمل الممثل فيها صورة وجه او ملامح او لهجة نفتش عنها في خياراتنا الحميمة.

وهناك الجاذبية، أي الذرات الجاذبة او المنفردة في الشخصية "الاجر ما بتدب إلا مطرح ما بتحب" من جاذبية الحديث والحضور إلى الجاذبية الجنسية، وهناك الارتياح والاطمئنان اللتين توحي بهما بعض الشخصيات.

وهناك التشارك في مفهوم الحب: هل هو تلقٍ، هل هو عطاء، هل هو مشاركة، هل هو تضحية او كرم او أنانية مقنعة؟
قد يبدو ما ذكرت، وكأن موقع السري في الاختيار ولكنه المؤثر غالباً في تخطي العديد من الشروط العقلانية والموضوعية التي تحفز على التساؤل الشعبي المعروف: شو لقي منا؟"

لكل انسان فرادته
التفاعل قبل المعايير او التفاعل لقياس المعايير لا يحدد الإنسان من خلال معايير ومواصفات ثابتة ساكنة (ستاتيك) كما تعبأ استمارة هوية او وظيفة او كما تصنف طلبات الزواج في الإعلانات المبوبة في الصحف، ونعرف بأن أي انسان يحس بنوع من الهوان إذا ما كوزن موضع مراقبة ووضع نقاط متعلقة بتجليات شخصيته الإرادية والعفوية.

ان الإنسان لا يحدد إلا من خلال الأنا العميقة في تفاعلها الصادق مع الآخر.
ولذا فلا معرفة لأي شخص إلا من خلال دينامية المواقف / والانفعالات / والخيارات اليومية / في مواجهة الحياة والآخرة، ولا معرفة لأي شخص إلا من خلال تواضع النفس اذا اتسعت / وأصغت / وأحبت.

أخيراً ليس هناك من صفات او كمثال في المطلق، فالشراكة تفترض قطبين، متوازيين، متكاملين، متعاقدين، متعاونين، متكافئين أولا، في سبيل هدف مشترك هو هنا الزوجية، والوالدية، إنجاح زواج وباء عائلة.

وصياغة الشخصية تبدو وتشق بكل معطياتها من خلال التبادل العلائقي، ولذا فإن العلاقة بين شخصين هي التي تبلور الصفات وتظهرها وتطهرها، وليست الصفات الساكنة بالمطلق هي التي تصنع العلاقة.

ان نوعية العلاقة / ورقيها الإنساني بالحب / وجدليتها بالعقل والإحساس / ومستوى مسؤوليتها / هي التي تظهر حقيقة الشخصية. فكم من صفات إيجابية تحولت في مختبر العلاقة اليومية إلى صفات سلبية، وكم من صفات كامنة ظهرتها علاقة سوية كريمة.

ان الحب، وهو اتساع القلب الناضج والمصغي للآخر، هو المحلول الكيميائي الذي يمر مثل يدً حانيةٍ على كل نقص وسلبية، فيستجلب كرم الآخر وقدرته على تجاوز نفسه، او يمنحه صفات نفسه.

منذ 24 سنة خلت، عندما تزوجت، لم أعد أتذكر ما هي الموازنة التي أطاحت بتوازن الميزان ولكني تعلمت بان كل اختيار او شراكة او علاقة، هي نتيجة جهد شخصي وجدلية داخلية ومسؤولية إنسانية، ينسج فيها الطرفان نفسهما من جديد لو يتحولان سوية من جديد، من خلال صياغة مشتركة لنسق حياة متناغم، يتوقان فيه إلى حي وسعادة وتوافق، وتنتفي فيه إشكالية امتحان اختيار الآخر وغربال هذا الاختيار.

اننا رجالاً ونساءً في انجدال صفاتنا ونقائصنا، توافقنا وتضادنا، نستطيع ان نحقق سوية مشروعاً او نثمّر علاقة ما، تخرج كلانا من إطار أنانيته ومعادلاته وتربطنا بمسار الإنسانية والكون في رحابة التلاقي وفرح العطاء وتجاوز النفس.

source