قراءة لمفهوم الأسرة من وجهة نظر

calendar icon 05 تشرين الثاني 1997 الكاتب:فاطمة الصدر طباطبائي

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثاني: "الاسرة واقع ومرتجى"
(كلمات الجلسة الخامسة)

يشرفني جداً بن يسمح لي بالتحدث هنا في هذا التجمع الذي يعقد وذكرى ذلك الرجل العظيم، مصلح العصر الحديث، خالي الجليل، ماثلة في الأذهان. وباعتباري بنت ألأخته التي حظيت بنعمة لقائه واستفادت من نصح ذلك المفكر الكبير، رأيت من واجبي ان أكون ساعية على دربه رغم تعثري في المسير. وإنني إذ أعرض مقالتي الموجزة فإنها لثلاثة دواعٍ كانت هي من توصياته:

1- لأن أبحث عن الذات وأن أنشط كعضوٍ في الأسرة وعضوٍ فاعلٍ في المجتمع نظراً لكوني امرأة مسلمة.
2- أن أهتم بالموضوعات والتعليمات الدينية وأتفهم معانيها الرئيسية معبرة عنها بلغة العصر.
3- أن آخذ في الاعتبار إسداء الخدمة لناس والشعور بالمسؤولية الاجتماعية.
وفي هذا المجال، سأحاول عرض ما استوعبته عن الأسرة استناداً إلى الآيات القرآنية. وبما ان الموضوعات المطروحة جاءت مختزلة جداً بحيث نبغي ستقرأ علاقة منطقية منها بغية فهم المقصود للبحث.

كلنا يعرف ان الإنسان موجود اجتماعي يحتاج في البداية إلى الأسرة ومن ثم إلى الارتباط بالآخرين تحقيقاً لنموه وتكامله. ووليد الإنسان بحاجة إلى والده وحمايتهما أكثر من أي موجود حيّ آخر. فالموجودات الأخرى يمكنها بعد الولادة بسرعة تأمين حاجاتها الأولية نسبياً.

اما مولود الإنسان فهو الوحيد الذي لا يمكنه مواصلة الحياة بمفرده. ورغم ان حاجة الوليد الجسمية، ونقصد الغذاء واللباس والمحافظة عليه من الأخطار،تؤخذ بنظر الاعتبار، فان نفسيته وشخصيته كذلك تأخذان في التكون في فترة النمو الأولى هذه بالذات، وتوضع اللبنة الأساس في بناءها.

إن أهمية الأسرة ودورها في المجتمع البشري يتضحان من خلال الإمعان في هذين البُعدين. والأسرة وحدة اجتماعية اعتبر القرآن تشكيلها استهدافاً لتأمين السلامة النفسية لثلاثة أجيال هي الزوجان والآباء والأبناء وأقرباؤهم، واستعداداً للمواجهات الاجتماعية. ففي سورة الفرقان، تشير لآية 74 وهي ﴿والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماماً﴾ إلى أهمية الأسرة كونها القدوة لتكوين المجتمع المثالي للإنسان. كما تعتبر العلاقات العائلية السليمة النيّرة مثالاً للمتقين ومبتغاهم.

وضمن الوحدة الاجتماعية للأسرة يكون الوالدان المثال للأبناء منذ ولادتهم. ويكمن هنا الدور والمعنى الأهم للأسرة في مجال تحسين الوضع البشري.

والأئمة الأطهار يرون ان المعتقدات ونوعية العيش والعادات والرغبات والأهداف والنيّات هي من أهم مؤثرات الوالدين على الأطفال. فنوعية سلوك الوالدين في التوفيق بين رغباتهما وميولهما الذاتية من جهة والرغبة العائلية والاجتماعية العامة من جهة أخرى، وكذلك سعيهما الدؤوب لتأمين رفاهية الأسرة وسلامتها النفيسة، وطريقة تعاملها مع الواجبات الدينية والاجتماعية هي من ضمن العوامل المكونة لنواة التعاون الاجتماعي الأولى لدى الطفل.

وقيمة الأسرة تتوقف قبل أي شيء على المودة والمحبة بين أعضائها حيث يجمعهم طبيعياً تبادل حقوقهم المتقابلة، وإن تواصل هذا المسار بالود والتفاهم وبمعزل عن الأنانيات ينتهي إلى الكمال الإنساني المنشود.

والقرآن يعرف الأسرة أنها مدرسة الحب والمودة. ففي الآية 21 من سورة الروم ﴿ومن آياته أن خلق لكمم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون﴾. وهنا نلاحظ نقاط هامة عن الأسرة وهي:

1- زواج من أنفسكم: فأحد الجوانب الهامة في الأسرة هو العلاقة بين الزوج والزوجة. وكما نوهنا من قبل فإن الإنسان موجود اجتماعي لا ينمو ولا يتفتح ولا يرقى إلى الكمال البشري الا من خلال الارتباط بالآخرين، والمعاناة الناجمة عن هذه العلاقة والمسار نحو الكمال لا يتناهى.

وفي كل مرحلة من مراحل العمر والنمو ثمة حاجات داخلية خاصة تتجلى في حال ارتباط الإنسان بالآخر ويبين أثر انعكاس الحاجة النفسية على وجه المراد والمطلوب، وعندئذ يمكن كذلك معرفة النفس. وما العلاقة بين الزوج والزوجة الا علاقة حميمة لا يشوبها أي غرض. ففي الأسرة تظهر نقاط الضعف والقوة النفسية للإنسان دون أدنى تحفظ وتخوف او أية اعتبارات إجتماعية أخرى، وحيث تتوفر بالطبع إمكانية معالجتها., إذ يمكن بالتحلي بالصبر والتؤدة والوفاء والثقة المتبادلة معرفة السلبيات ودراستها والتخلص منها في سبيل تزكية النفس وتصفيتها.

فالإسلام يرى ان شوائب الداخل هي أسوأ بكثير من قبح الخارج، والبيئة التي تتسم بإمكانية إبراز السلبيات النفيسة دون الرهبة من العقاب تتميز كمذلك بتوفير إمكانية التخلي من تلك المنغّصات. وبقوة المحبة يمكن المبادرة إلى أصعب الأفعال.

2- وجعل بينكم مودة: والنقطة المهمة الثانية في الأسرة هي المودة بين الزوجين. وبالتعامل الودّي بينهما وتعاضدهما في مسار معرفة النفس وبارئها، يظفر الإنسان بالطمأنينة ويصل وادي الأمان الإلهي. ومن هنا وردت عبارة «لتسكنوا إليها» في الآية الشريفة.

3- لتسكنوا: السُّكنى هو التوصل إلى مقام السكينة، يدل بصورة رمزية على أن يحظى المرء بمكانته وموقعه في الوجود. ومن جهة نظر القرآن، فإن من شأن الأسرة التمهيد لذلك سواء بالنسبة للزوجين او بالنسبة للمثال الذي يحتذي حذوه الأبناء.

4- الرحمة: إن تآلف الزوجين وتآزرهما بقوة المحبة والود على طريق الكمال يجلب الرحمة للأسرة وللآخرين. فالعلاقة السليمة هي الكفيلة بتوفير الأرضية المناسبة للارتباط المسؤول والمثابر. وهو ما يقتدي به الناشئة ويتخذونه مثالاً في علاقاتهم بالمجتمع في المستقبل.

وما يترتب على أفعال الأبوين من آثار لهو من حدود الدور المشهود في العلاقات المعينة بين الوالدين وأبنائها. وهذا التعامل يضع حجر الأساس في كيان الشخصية النفسية للأبناء، فان كانت السلامة كانت الرحمة.

إن المقصود من إقرار التنسيق والتوازن بين الزوجين لا يعني الطرفين مع بعضهما البعض بقدر ما يعني بذل المجهود من أجل الاستكمال المتبادل، والقبول في الوقت نفسه بالفوارق الطبيعية والذاتية. فكما هناك فوراق فسيولوجية بين الرجل والمرأة، ثمة اختلافات نفسية كبيرة بينهما. وإليكم هذه الآيات من سورة الليل: ﴿والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتّى﴾.

ولكن فيما يتعلق بالنفسيات والخصائص، فإن اختلاف الأفراد من هذه الناحية غير واضح مثل الاختلافات الفسيولوجية، ولا علاقة له بالأنوثة والرجولة. والبيئة والأسرة والثقافة هي العوامل المؤثرة في شخصية الإنسان. وتظهر هذه الفوارق في سلوك المرأة والرجل وتصرفاتهما. وهنا بالضبط تتحدد رسالة الأسرة الرئيسية، أي التفاهم والود المتبادل بهدف التعامل مع اختلاف الميول على اعتبارها عناصر متنوعة تشكل بمجموعها وحدة واحدة. ويتطلب ذلك الصدق والثقة والتواضع والتقوى والتنزه عن محورية الذات. وهو ما يحدو بالأبناء إلى اتخاذه مثلاً أعلى في علاقاتهم مع الآخرين في المجتمع، بحيث يرون الفوارق الفردية والاجتماعية والثقافية لدى الآخرين عاملاً من عوامل التكامل. وهذا النوع من التعامل يمهد للتفاهم بين الشعوب والتوفيق بين المعتقات المختلفة، ومن شأنه كذلك إحلال السلام.

إن الأب والأم مسؤولان عن تربية أولادهما تربية كهذه. وبناءاً على الحديث النبوي الشريف فان الأبناء أمانة بيد الوالدين يتعين رعايتها أيما رعاية دون الشعور بغريزة التملك. والإبن بحاجة في نموه إلى عطف الأب والأم وحنانهما. ولهذا الحب والارتباط أثران رئيسيان.

أولهما: انه من ضرورات التكامل وزرع الثقة والطمأنينة الأولية في نفس الإنسان. والثاني: انه يمكن النشء من التودد إلى الآخرين في علاقاتهم الاجتماعية.

وعلى الأبناء واجبات تجاه أبويهم فمن وجهة نظر القرآن ينبغي ان يكون تصرف الأبناء إزاء والديهم مقترناً بالاحترام والمحبة، لقوله تعالى ﴿ولا تقل لهما أفٍ﴾. وعليهم حفظهما ورعايتهما في كبرهما حيث ورد في سورة الإسراء أن ﴿وقضى ربك الا تعبدوا الا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما او كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريناً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً﴾.

وبالطبع فان الاحترام هذا لا يعني دعوة الابن إلى تقليد أبويه والمضي في طريقهما دون تفكير وتأمل. إذ أن ذلك برأي القرآن بعيد عن نهج الصواب، بل على الإنسان التميز بفكره وتدبره بين النهج القديم وطريق الضلال. وعلى سبيل المثال نأتي على ذكر الآية 21 من سورة لقمان: ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا او لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير﴾.

من جهة ثانية فان التأكيد المستمر على الدور المبكر للأسرة في تنمية الأبناء وتكوين شخصيتهم يجب الا يفسر بما يوحي للإنسان البالغ انه غير قادر على التحول والتكامل ذاتياً. فالإنسان مسؤول عن أفعاله في أي حال من الأحوال، و«كلا نفس بما كسبت رهينة». فلا جناح على والديه في تقاعسه هو، ولا يصح افرض بأن لا أجر على حسناته أيضاً. وهنا تردنا الآية 21 من سورة الطور: ﴿والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ كل امرئ بما كسب رهين﴾.

ورغم الدلالات الواضحة في القرآن بشأن المساواة بين الرجل والمرأة، إن على مستوى الأسرة او على صعيد المجتمع، فإن السناء في بعض البلدان السلامية ما زلن للأسف عرضة للظلم.

ولا يعني هذا البتة ان حالة المرأة في الدول الأوروبية تتلاءم وموقعها الإنساني، بل أنها تتعرض كذلك للظلم بصورة أخرى. وأحد أسباب ذلك هو البنية والمعتقدات الاجتماعية السائدة. والثاني هو ان المرأة لم تبادر بنفسها إلى مراجعة النصوص وفهمها وتفسيرها وبالتالي تقرير حقها، بل غالباً ما عهدت بذلك إلى الرجل. أضف إلى ذلك وفي سياق البحث عن أسباب تخلف المرأة في المجتمعات الإسلامية الخلط بين البعدين الوجوديين للإنسان في تفهم حقوقها، أي 1-البعد الجنسي: المرأة، الرجل و2- البعد المعنوي والإلهي. فالمرأة والرجل يختلفان فسيولوجيا، لكنهما من الناحية النفسية والمعنوية من أبناء البشر، و«ان أكرمكم عند الله أتقاكم». والرؤية الإسلامية هي ان الإنسان ماضٍ في طريق الكمال ما دام قد تحلل من الرغبات والارتباطات المادية وبلغ النضج المعنوي. ومن المنطلق القرآني فإن إمكانية هذا النضج متاحة لكلا الجنسين. وعليه فإن الارتكاز إلى مبدأ الجنس في حقوق الأسرة، والتي لا تتوقف فيها قيمة الترابط والتوحد عند حدود اللامساواة بين الرجل والمرأة في بعض الأسر الإسلامية. فقد زعم نفر من النقاد في الغرب والشرق مغرضين ان الحقوق الإنسانية للمرأة في الإسلام اقل من حقوق الرجل. ورداً على هؤلاء ينبغي القول ان استقراءنا وتفهمنا للإسلام والقرآن يختف عن ذلك، فنحن ننظر إلى القرآن ككل يرتبط بعضه ببعض بشكل وثيق ومتوائم. وقد ورد في القرآن ذاته ان فيه المحكمات والمتشابهات، ويتعين فهم وتفسير بعض الأجزاء منه بأجزاء أخرى. ولتنظيم حقوق الأسرة بصورة عادلة ونستدل على النحو الأتي:

1- يتساوى الرجل والمرأة في القرآن من حيث الخلق. جاء في الآية الأولى من سورة النساء: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً....﴾.
2- تتكافأ فرص بلوغ الرجل والمرأة مراحل التطور البشري. وفي ذلك تقول الآية 13 من سورة الحجرات: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾.
3- تساوي الأجر والجزاء. الآية 35 من سورة الأحزاب.

ولتحقيق هذه المبادئ الثلاثة بالعدل وهي مما ورد ذكره في القرآن مراراً يجب توافر ظروف الرقي والكمال للمرأة والرجل بصورة متكافئة.

ان القرآن يدعو الناس كثيراً إلى التدبر والتفكر والتأمل في الشؤون الإنسانية والطبيعية، ويحثم على الفهم وسماع آيات الله والاعتبار بها. وقد أردف القرآن الإيمان بالعمل الصالح دائماً. فهل يمكن تجاهل عنصري الزمان والمكان في العمل الصالح المناسب؟

قبل بزوغ فجر الإسلام لم يكن للمرأة يئدون البنات، وكان بمستطاع الرجل الزواج من أي عدد من النساء شاء. وكانت تعاليم الإسلام في سبيل إقرار حقوق المرأة آنذاك حديثة ومتطورة جداً، ذلك ان نهج الدين الإسلامي جاء لتحول الإنسان والرقيّ به. وكان السبيل الأمثل هو التغيير خطوة فخطوة، إذ لم يكن من الأجدر والأجدى التحول بين عشية وضحاها وقلب التقاليد\ والعادات الاجتماعية بالمرة.

اما اليوم وبأخذ موضوعات القرآن بعين الاعتبار، أي التأكيد على مساواة القيمة الوجودية الشاملة للمرأة والرجل، ودعوة الناس إلى التفكر والتأمل في آيات الله البينات واستخلاص العبر والنتائج الحكيمة منها، فيمكن القول ان حقوق المرأة والرجل في الأسرة متساوية، وان المعيار في إدارة أي منهما لشؤون الأسرة هو التقوى والجدارة.

وهنا لا بد من إبداء ملاحظة أخرى وهي ان الرجل والمرأة إذا ما لم يتمكنا من التوصل إلى التفاهم والوحدة المتوخاة وأبعدتهم المشاحنات الناجمة عن نوعية علاقتهم عن يعضهم البعض، فان الإسلام يجيز لهما الطلاق رغم اعتباره أبغض الحلال، ويضع هذا الحل أمامهما.

نتمنى باستلهام الدرس القيمة من آيات القرآن ونصح الأئمة الأطهار ان نخطو على نهج الإسلام الحقيقي ونواصل المسار الذي كان يؤكد عليه دوماً ذلك العظيم المعاصر الإمام موسى الصدر. وشكراً لمتابعتكم.

source